مقدمة
الدين لازمة من لوازم الجماعات البشرية.
ولم يكن الدين لازمة من لوازم الجماعات البشرية لأنه مصلحة وطنية، أو حاجة نوعية.
لأن الدين قد وجد قبل وجود الأوطان.
ولأن الحاجة النوعية «بيولوجية» تتحقق أغراضها في كل زمن، وتتوافر أسبابها في كل حالة، ولا يزال الإنسان بعد تحقق أغراضها، وتوافر وسائلها في حاجة إلى الدين.
وغرائز الإنسان النوعية واحدة في كل فرد من أفراد النوع، وكل سلالة من سلالاته، ولكنه في الدين يختلف أكبر اختلاف؛ لأنه يتجه من الدين إلى غاية لا تنحصر في النوع ولا تتوقف على غرائزه دون غيرها، وليس الغرض منها حفظ النوع وكفى، بل تقرير مكانه في هذا الكون، أو في هذه الحياة.
فالإنسان يتعلق من النوع بالحياة.
ولكنه يتعلق من الدين بمعنى الحياة.
ولن يوجد إنسان ليس له نوع، أو غريزة نوع، أو آداب نوع؛ لأن وشيجة النوع ليست مما ينفصل عنه باختياره، ولكن قد يوجد إنسان يفوته معنى الحياة، وقد يوجد إنسان يفهم معنى الحياة على أنه إعراض عن الحياة الفردية، وعن الحياة النوعية، وتَوَجُّهٌ إلى ضَرْبٍ آخرَ مِنَ الحياةِ.
وقد يتحول الإنسان من عقيدة إلى عقيدة، فلا يقال إذن: إنه تحول من غريزة نوعية إلى غريزة نوعية؛ لأن هذه الغريزة لا تقبل التحول ولا التحويل، بل يقال إذن: إنه آمن بعلاقة جديدة بين الخلائق جميعًا، وبين الحياة أو مصدر الحياة.
والإنسان إذا طلب من الدين الحياة الأبدية فهو لا يطلب ذلك لأنه فرد من أفراد نوع؛ فإن النوع قد يبقى ألوف السنين، وقد يقدر الإنسان أنه مكفول البقاء بغير انتهاء، ثم لا يغنيه كل ذلك عن طلب الأبدية؛ لأنه يريد لحياته معنى لا يزول، ويريد أن يتصل بحياة الكون كله في أوسع مداه.
•••
وليست العقيدة لازمة من لوازم الجماعات البشرية؛ لأنهم يريدون منها دروسًا علمية أو حيلًا صناعية.
فإن قوة الصناعة والعلم كامنة في الإنسان، لا تلجئه إلى قوة خارج الإنسان.
وإن ألف إنسان قد يعلمون علمًا واحدًا، ولا يعتقدون عقيدة واحدة، بل ينكر أحدهم عقيدة الآخر أشدَّ الإنكار.
كما أن العلاقة بين العالم والمعلوم قد تكون علاقة غريب بغريب، وقد يعلم الإنسان أسرارًا من الكون، وهو يشعر بأنه غريب عنه أو عارض فيه، فإذا اعتقد فإنما يعتقد لأنه يريد أن يشعر بأنه ليس في الكون بالغريب، ويؤمن بأنه موصول الحياة بحياته، وليس بالعارض فيه.
وليس مقياسُ العقيدة الصالحة مقياسَ الدروس العلمية والحيل الصناعية، وإنما حسب العقيدة الصالحة من صلاح أنها تنهض بالعقل والقريحة، ولا تصدهما عن سبيل العلم والصناعة، ولا تحول بين معتقديها وبين التقدم في الحضارة، وأطوار الاجتماع.
•••
وينبغى أن يلاحظ في هذا الصلاح أن الجماعات البشرية لا تعيش عمر إنسان واحد، ولا تنحصر في طبقة واحدة.
فالعقيدة التي تصلح لعشرة أجيال يشترك فيها عشرة أجيال يختلفون في كثير من الأحوال والعادات.
والعقيدة التي يدين بها الملايين يشترك فيها الخاصة والعامة والأعلياء والأدنياء، ولا تصاغ منها نسخة مستقلة لكل طبقة أو لكل فريق.
فالذي يُطْلَبُ من العقيدة الصالحة أن تصلح لكل هؤلاء مجتمعين، وأن تصلح لأعمار بعد أعمار؛ لأنها ليس مما يخلع تارة بعد تارة، ولا مما يستبدل ببرامج السنوات ونصوص الدساتير.
وموضوع هذا الكتاب هو صلاح العقيدة الإسلامية — أو الفلسفة القرآنية — لحياة الجماعات البشرية، وأن الجماعات التي تدين بها تستمد منها حاجتها من الدين الذي لا غنى عنه، ثم لا تفوتها منها حاجتها إلى العلم والحضارة، ولا استعدادها لمجاراة الزمن حيثما اتجه بها مجراه.
•••
كنا نتحدث مع بعض الفضلاء من أعضاء لجنة «البيان العربي» في موضوع الدين والفلسفة، فقلنا: إن العقيدة الدينية هي فلسفة الحياة بالنسبة إلى الأم التي تدين بها، وأنها لا تعارض الفلسفة في جوهرها، وأن الفلسفة تصلح للاعتقاد كما تصلح العقيدة للفلسفة! واستشهدنا على ذلك بآيات كثيرة من القرآن يستخرج منها المسلم فلسفة قرآنية لا تحول بينه وبين البحث في غرض من أغراض الفكر والضمير.
وأيًّا كانت العلاقة بين موضوع الفلسفة، وموضوع الدين، فليس في وسع فيلسوف صادق النظر أن ينسى أن الأديان قد وجدت بين جميع البشر، وأنها — من ثم — حقيقة كونية لا يستخف بها عقل يفقه معنى ما يراه من ظواهر هذه الحياة.
فاقترح عليَّ بعضهم أن يكون هذا البحث موضوع كتاب، فألفت هذا الكتاب في هذا الموضوع، وسميته باسم الفلسفة القرآنية؛ لأنه أقرب الأسماء إلى بيان غرضه، وكان اسم «فلسفة القرآن» من الأسماء التي اقترحت في سياق ذلك الحديث، فخطر لي أن هذا الاسم قد يوحي إلى الذهن أننا نتخذ القرآن موضوعًا لدراسة فلسفية كدراسة فلسفة النحو، أو البيان، أو التاريخ، وليس هذا هو المقصود مما كنا نتحدث عنه، وإنما المقصود منه أن القرآن الكريم يشتمل على مباحثَ فلسفيةٍ في جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن، وأن هذه الفلسفة القرآنية تغني الجماعة الإسلامية في باب الاعتقاد ولا تصدها عن سبيل المعرفة والتقدم، وهي لذلك تحقق ضرورة الاعتقاد، وتمنع الضرر الذي يبتلى به من تصدهم عقائدهم عن حرية الفكر، وحرية الضمير.
وليس للعلماء ولا للفلاسفة أن يطلبوا من الدين غير هذا.
فمهما يكن من رأيهم في الإيمان بالله؛ فهم لا يجهلون — ولا يستطيعون أن يجهلوا — أن الإيمان — كما قدمنا — ضرورة كونية، لا تخلقها مشيئة أحد من الآحاد، ولو كان في قدرة الرسل والأنبياء.
فإذا أجمع الناس على الاعتقاد كيفما كان اختلافهم في الجنس، والزمن، والموطن، والمصلحة — فليس هذا عمل فرد، ولا هو مما يقع بين الحين والحين عرضًا واتفاقًا من فعل الحيلة والتدبير، ولكنه باعث من صميم قوى الكون، لا يفلح الرسل والأنبياء في نشر دعوته ما لم يكن في تلك الدعوة مطابقة لحكمة الخلق، وسر التكوين.
وكل اعتراض يعترض به المنكرون على حقائق الأديان لا يقام له وزن في مواجهة هذه الظاهرة الواقعة التي لا شك فيها.
بل هو لا ينفي الوحي الإلهي كما تخيلوه، أو كما يمكن أن يتخيلوه، ولا يبطل ضرورة الاعتقاد بين الجماعات البشرية بحال من الأحوال.
إنهم يتخذون من عقائدِ بعضِ العامةِ، أو عقائد بعض الخاصة دليلًا على أنها أمور لا تصدر من عند الله، الذي يصفه أصحاب الأديان بالعلم، والحكمة، والقدرة على هداية العقول إلى الصواب في الكبير والصغير.
فإذا كان هذا هو المبطل للوحي الإلهي؛ فكيف يثبت الوحي الإلهي في قياس أولئك الفلاسفة أو العلماء؟
أيثبت بعقيدة يدين بها العامة كما يدين بها الخاصة، وتطابق الدروس العلمية اليوم كما تطابقها عندما تنقض نفسها بكشف جديد؟!
أيثبت بعقيدة تدخل المعمل الصناعي — أو العلمي — كل سنة أو كل بضع سنوات للفحص والامتحان؟!
أيثبت بعقيدة ليست بعقيدة ولكنها مجموعة من الأزياء الموسمية التي يغيرها الإنسان تارة بعد تارة، ولا يمزجها ببواطن الضمير؟!
كلا؛ فإن الوحي الإلهي — متى ثبت — لا يثبت على النحو الذي تخيلوه، بل على النحو الذي عهدنا عليه الأديان، مع اختلاف العقول واختلاف الأجيال واختلاف المعلومات.
عقيدة هي عقيدة، وإيمان هو إيمان، وبعد ذلك موافقة لدواعي الحياة ومطالب الفكر، وخلجات الشعور، وهكذا تصح العقيدة، إن صحت على الإطلاق، وهكذا يكون الإيمان، إن كان إيمان.
وقد رأيت أناسًا يبطلون الأديان في العصر الحديث باسم الفلسفة المادية، فإذا بهم يستعيرون من الدين كل خاصة من خواصه، وكل لازمة من لوازمه، ولا يستغنون عما فيه من عنصر الإيمان والاعتقاد، التي لا سند لها غير مجرد التصديق والشعور، ثم يجردونه من قوته التي يبثها في أعماق النفس؛ لأنهم اصطنعوه اصطناعًا، ولم يرجعوا به إلى مصدره الأصيل.
فالمؤمنون بهذه الفلسفة المادية يطلبون من شيعتهم أن يكفروا بكل شيء غير المادة، وأن يعتقدوا أن الأكوان تنشأ من هذه المادة، في دورات متسلسلة، تنحل كل دورة منها في نهايتها؛ لتعود إلى التركيب في دورة جديدة، وهكذا دواليك، ثم دواليك إلى غير انتهاء.
ويطلبون منهم أن ينتظروا النعيم المقيم، على هذه الأرض، متى صحت نبوءتهم عن زوال الطبقات الاجتماعية؛ فإن زالت الطبقات الاجتماعية في هذه السنة أو بعدها ببضع سنوات فتلك بداية الفردوس الأبدي، الذي يدوم ما دامت الأرض والسماوات، وتنتهي إليه أطوار التاريخ كما تنتهي بيوم القيامة في عقيدة المؤمنين بالأديان.
ولا يكلف دين من الأديان أتباعه تصديقًا أغرب من هذا التصديق، ولا تسليمًا أتم من هذا التسليم.
ولا يخلو دين الفلسفة المادية من شيطانه؛ وهو «الرأسمالية» الخبيثة العسراء.
فكل ما في الدنيا من عمل سوء، أو فكرة سوء، فهو كيد من هذا الشيطان الماكر المَرِيدِ.
وكل ما فيها من عمل سوء أو فكرة سوء يزول ويحول، وتحل في مكانه بركات الفلسفة المادية ورضوانها، متى صار الأمر إلى ملائكة الرحمة، وذهب ذلك الشيطان إلى قرارة الجحيم.
ولما طبقت هذه العقيدة في البلاد الروسية — على أيدي أصحاب الفلسفة المادية — خُيِّلَ إليهم أنهم ظفروا بحقيقة الحقائق واستغنوا بها عن كل ما اعتقده الإنسان في جميع الأزمان، ولا سيما عقائد الأديان والأوطان.
وادخروها للزمن كله، بل للأبد كله … ولكنهم لم يصطدموا صدمتهم الأولى في الحرب العالمية الأخيرة حتى أفلست «عقيدة الأبد» كل الإفلاس، ولجئوا إلى الوطن يستعيدون مُثُلَهُ، وإلى الديانة يستجدونها ويتمسحون بها، فنادوا «بالجهاد القومي» ورحبوا بالصلوات في المعابد، وشجعوا المصلين على ارتيادها، واجتمع رؤساء القساوسة في حضرة زعماء المذهب الشيوعي؛ ليعلنوا العودة بمجلس الكنيسة إلى نظامه القديم.
وفحوى هذه العبرة البالغة أن أسرار العقيدة أعمق وأصدق مما يدور بأوهام منكريها، وأنها ذخيرة من القوة وحوافز الحياة تمد الجماعات البشرية بزاد صالح لا تستمدها من غيرها، وأن هذه الذخيرة «الضرورية» خلقت لتعمل عملها، ولم تخلق ليعبث بها العابثون، كلما طاف بأحدهم طائف من الوهم، أو طارت برأسه نزعة عارضة، لا تثبت على امتحان.
•••
وفي هذا العصر الذي تتصارع فيه معاني الحياة بين الإيمان والتعطيل، وبين الروح والمادة، وبين الأمل والقنوط، تلوذ الجماعات الإسلامية بعقيدتها المثلى ولا تخطئ الملاذ؛ لأنها عقيدة تعطيها كل ما يعطيه الدين من خير، ولا تحرمها شيئًا من خيرات العلم والحضارة.
وهذا الذي نرجو أن نبينه في هذا الكتاب.
القاهرة في أكتوبر سنة ١٩٤٧/ذي القعدة سنة ١٣٦٦.