الْقُرآنُ وَالْعِلْمُ
تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة التقدم، فلا تزال بين ناقص يتم، وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إلى اليقين، ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ، أو تتزعزع بعد ثبوت، ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون.
فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر، ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم، كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة؛ لأن هذه التفصيلات تتوقف على محاولات الإنسان وجهوده، كما تتوقف على حاجاته، وأحوال زمانه.
وقد أخطأ أناس في العصور الأخيرة؛ لأنهم أنكروا القول بدوران الأرض واستدارتها؛ اعتمادًا على ما فهموه من ألفاظ بعض الآيات.
وجاء أناس بعدهم فأخطئوا مثل خطئهم حين فسروا السماوات السبع بالسيارات السبع في المنظومة الشمسية، ثم ظهر أنها عشر لا سبع، وأن «الأرضين السبع» — إذا صح تفسيرهم — لا تزال في حاجة إلى التفسير.
لأن الآيتين تؤيدان تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، ولكن مذهب التطور والارتقاء لا يزال بعد ذلك عرضة لكثير من الشكوك والتصحيحات، بل عرضة لسنة التطور والارتقاء التي تنتقل به من تفسير إلى تفسير.
فهل الإسلام إذن لازم أو غير لازم؟ وهل يضير الأوروبيين أن يجهلوه أو ليس بضارهم أن يخترعوا ما اخترعوه ولم يتبعوه؟
وخليق بأمثال هؤلاء المتعسفين أن يُحسبوا من الصديق الجاهل؛ لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الإحسان، ويحملون على عقيدة إسلامية وزر أنفسهم، وهم لا يشعرون.
كلا، لا حاجة بالقرآن إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يتضمن حكمًا من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم، ما استطاع حيثما استطاع.
وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه، كما لم يُكفل قط في كتاب من كتب الأديان.
وهو يحث المسلم على أن يفكر في عالم النفس كما يفكر في عالم الطبيعة.
فالقرآن الكريم يطابق العلم، أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة، ولا تتعرض للنقائض والأظانين، كلما تبدلت القواعد العلمية، أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم، أو يقين يبطل التخمين.
وفضيلة الإسلام الكبرى أنه يفتح للمسلمين أبواب المعرفة، ويحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وقبول كل مستحدث من العلوم على تقدم الزمن، وتجدد أدوات الكشف ووسائل التعليم، وليست فضيلته الكبرى أنه يقعدهم عن الطلب، وينهاهم عن التوسع في البحث والنظر؛ لأنهم يعتقدون أنهم حاصلون على جميع العلوم.