العلاقات الدولية
من المستحسن في كتاب عن عقيدة الجماعة الإسلامية أن نلم بأصول الأدب التي يتعلمها
المسلمون من كتابهم في معاملاتهم مع الأمم الأخرى.
ولُبَاب ما يقال في هذا الصدد أن المعاملات الدولية كلها تقوم على العهود والوفاء
بها
وخلوص النية في التزامها.
وقد أوجب القرآن الكريم على المسلمين الوفاء بعهودهم في كثير من الآيات فقال:
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا،
١ وذكر صفات المؤمنين ثم قال:
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ
إِذَا عَاهَدُوا،
٢ وجعل الخروج من فضيلة الوفاء كالخروج من فضيلة الإنسانية كلها حيث قال جل شأنه:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ
لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ.
٣
وقد غدر المشركون غير مرة بعهودهم كما جاء في الآية، فلم يكن ذلك موجبًا لسقوط العهد
مع
من استقام منهم على عهده، كما بينت هذه الآيات:
كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ
عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ
لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ
وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ.
٤
على أن القرآن الكريم يأمر المؤمنين به أن يعاملوا الخائن بمثل عمله، ولا يتعدوه إلى
الجور والتنكيل، ويزين لهم الصبر إذا آثروه على العقاب:
وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ
خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ.
٥
وقد غدر بعض المشركين بصلح الحديبية — وهو المقصود بالعهد «عند المسجد الحرام» — فلم
يبطل
النبي عليه السلام عهد سائرهم، ولم يقبل عنده قرشيًّا مشركًا يجيئه في أثناء قيام العهد؛
عملًا بما اتفق عليه المسلمون والمشركون، قال أبو رافع مولى رسول الله: بعثتني قريش إلى
النبي فلما رأيت النبي وقع في قلبي الإسلام، قلت: يا رسول الله، لا أرجع إليهم، قال:
«إني
لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرود، ولكن ارجع إليهم، إن كان في قلبك الذي فيه الآن
فارجع.»
بل روي في الوفاء بالعهد ما هو أكثر من ذلك؛ لأنه عهد بين آحاد في مثل حالة الإكراه،
كما
جاء في حديث حذيفة بن اليمان؛ حيث قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أنني خرجت أنا وأبي
الحسيل فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، وما نريد إلا
المدينة! فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول
الله
فأخبرناه الخبر فقال: «انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم.»
وقد أوجب القرآن الكريم إتمام العهود إلى مدتها، إن كانت موقوتة بأجل متفق عليه، وأوجب
إعلان بطلانها متى صحت النية على إبطالها،
وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ
الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن
تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ.
٦
ولا نعرف إشاعة أكذب من قول القائلين — جهلًا منهم أو تجاهلًا بالقرآن الكريم: إن
الإسلام
دين سيف، وإن العلاقة بينه وبين الأمم علاقة حرب وقتال!
فإن شريعة القرآن لم تضع السيف قط في غير موضعه، ولم تستخدمه قط حيث يستغنى عنه
بغيره.
وقد نشأت الدعوة الإسلامية بين أقوام يحاربونها، ويكيدون لها، ويصدون الناس عنها، وأمر
المسلمون بقتال من يقاتلونهم في غير عدوان، ولا شطط:
وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ.
٧
وكانت جزيرة العرب جزيرة بالمعنى السياسي — لا بالمعنى الجغرافي وحده — إذا نظرنا إلى
الدول التي أحدقت بها في عهد الدعوة الإسلامية وتربصت بها الدوائر للإيقاع بالدعوة ودعاتها
في إبان نشأتها، وكان على رأس تلك الدول أصحاب السلطان الذين يصدون عن سبيل الله؛ ذيادًا
عن
عروشهم، واستئثارًا بمنافعهم، وإطالة في أمد سلطانهم، ولا يرجعون في ذلك إلى الحجة والبيان؛
بل إلى السيوف والرماح، فإذا حورب هؤلاء فإنما يحاربون بسلاحهم؛ ولا يحاربون بالجدل والبينة
الحسنة، السيف للسيف، فإذا انكسر سيف السلطان بقي رعايا الدول أحرارًا فيما يختارون لأنفسهم
من دين آبائهم، أو من الدين الجديد:
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد
تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ.
٨
فمن اختار الدين الجديد فهو مسلم كالمسلمين فيما له وفيما عليه، ومن بقي على دين آبائه
فليس عليه غير ضريبة المحكوم للحاكم، ويمنعه الحاكم بعد ذلك مما يمنع منه المسلمين، ويحميه
كما يحميهم ويعوله كما يعولهم، ثم لا يُطلب منه جهاد ولا ذِياد كما يُطلب من
المسلمين.
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ.
٩
ولم يقل الكتاب: قاتلوهم حتى يسلموا كرهًا إن كانوا لا يسلمون اقتناعًا! وكل ما هنالك
من
حكم السيف أنه قد أبطل حكم السيف الذي لا يدين بالحجة ولا بالرأي، وترك الناس لضمائرهم
يدينون بما اختاروه من دين.
ولو أننا رجعنا إلى حروب العقائد من الوجهة العلمية لوجدنا أن أصحاب الأديان الأخرى
قد
شنوا على غيرهم من الحروب «المقدسة» أضعاف ما أثر عن تاريخ الإسلام، وقد رأينا في عصرنا
هذا
من دعاة الإصلاح من يؤلب الأمم على حرب كل حكومة تدين بمبادئ الطغيان في الحكم ولا تؤمن
بمبادئ الحرية والشورى، ومن لم يسمع هذه الدعوة باختياره سمعها على قسر واضطرار، كما
حدث في
الحروب بين بلاد الفاشية والنازية وبين المنكرين لقواعد الحكم في تلك البلاد.
وعلاقات الحرب والسلم بين المسلمين وجيرانهم أو معاهديهم هي أرفع معاملة عرفت في عصور
الحضارة الإنسانية: أمن الطريق، وأمان الوادعين المسالمين، وفتح المسالك للأرزاق والذهاب
والمآب، وتنظيم ذلك كله بالعهود والمواثيق، مع حث المسلمين على رعايتها، ومسامحة الغادرين
في غدرهم إذا أمنوا العاقبة ولم تلجئهم الضرورة إلى مقابلة الغدر بمثله؛ دفعًا للهلاك،
وصونًا للحدود والحرمات.
وقد سبق الإسلام أمم الحضارة الحديثة إلى كل خير في معاملة الأسرى والرسل
والجواسيس.
فالأسير يفتدي، والرسول لا يخشى على نفسه وماله، والجاسوس يعاقب بعقابه المصطلح عليه
في
كل زمان، ويعفى عنه إذا حسنت نيته واعتذر من عمله بعذر مقبول.
جاء ابن النوَّاحة وابن آثال رسولا مسيلمة إلى النبي فقال لهما: «أتشهدان أني رسول
الله؟»
قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله: «آمنت بالله ورسوله، لو كنت قاتلًا
رسولًا
لقتلتكما»، فمضت السنة بتأمين الرسل والبرود.
وروى علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد بن الأسود، قال:
«انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها»، فانطلقنا تتهادى
بنا
خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي
من
كتاب! فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب! فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله
فإذا
فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله،
فقال
رسول الله: «يا حاطب، ما هذا؟» قال يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرءًا ملصقًا
في
قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم
وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما
فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله: «لقد صدقكم»،
فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال: «إنه شهد بدرًا، وما يدريك
لعل
الله يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم …»
فقوام المعاملات كلها في هذه العلاقات على الرفق ما أمكن الرفق، ثم على القوة المنصفة؛
لاتقاء ما لا يتقى بغيرها.
وعلى مثل هذه المعاملة تصلح العلاقات بين الأمم والحكومات، وفيها كل ما يهيئ الأسباب
للوحدة العالمية بين الناس كافة، وهم الذين يعمهم القرآن الكريم بالخطاب ولا يخص المسلمين
وحدهم حين يقول:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
١٠
وليس من مانع يعوق الوحدة العالمية عند أصحاب دين يصدقون الرسل جميعًا، ويعتبرون الناس
كلهم أمة واحدة كما جاء في القرآن الكريم:
شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ
مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ،
١١ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ
هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.
١٢