العقوبات
من المبادئ المتفق عليها في عصرنا أن الجريمة فساد في نفس المجرم، وأن العقوبة إصلاح له أو وقاية للمجتمع من فساده، وأن مصلحة المجتمع مقدمة على مصلحة الفرد، ولكن لا تغفل مصلحة الفرد في سبيل مصلحة المجتمع إلا إذا كانت إحدى المصلحتين معارضة للأخرى، وأن القصاص مصلحة اجتماعية، وأن تأويل الشبهة إنما يكون لمصلحة المتهم، فلا يُدان المتهم إذا وقع الشك في أدلة الإدانة.
وهذه المبادئ كلها مسلمة في شريعة القرآن، فلا وزر على القاصر ولا على المكره ولا على المجنون، ولا وزر على من تاب وصلح على التوبة.
وفي كل ذلك تدرأ الحدود بالشبهات.
•••
والعقوبات في الإسلام قسمان: قسم التعزير، وقسم الحدود؛ فالتعزير يتناول الزجر والغرامة والحبس والجلد دون مقدار الحدود، قال الإمام ابن تيمية في رسالته عن الحسبة: «منها عقوبات غير مقدرة وقد تسمى التعزير، وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها، وبحسب حال المذنب وبحسب حال الذنب في قلته وكثرته، والتعزير أجناس؛ فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب … والتعزير بالعقوبات المالية مشروع أيضًا في مواضعَ مخصوصةٍ في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضعَ بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك كما دلت سنة رسول الله ﷺ في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده … ومثل تضعيفه ﷺ الغرم على من سرق مالًا من غير حرز … ومثل أخذ شطر مانع الزكاة … ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد؛ فقد غلط على مذهبهما، ومن قال مطلقًا عن أي مذهب كان؛ فقد قال قولًا بلا دليل.»
أما الحدود فهي في عقوبات العيث بالفساد والقتل، وإتلاف الجوارح والأعضاء، والسرقة والزنا وشرب الخمر.
فالقاتل يقتل، وشريعة القرآن الكريم في ذلك قائمة على أمتن الأصول؛ وهو صيانة البشر جميعًا؛ لأن القاتل يعتدي على الحياة الإنسانية كلها ولا يقع عدوانه على نفس المقتول وحده.
وقال الحسن البصري وسعيد بن المسيب ومجاهد، وقال ابن عباس في رواية: إن «أو» هنا للتخيير؛ أي أن الإمام إن شاء قتل، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإن شاء نفى.
والنفي عند أبي حنيفة وكثير من المفسرين والفقهاء هو العزل أو الحبس، ولا يلزم منه الإقصاء إلى بلد آخر؛ لأن هذا البلد الآخر إن كان دار إسلام فحكمه وحكم كل بلد إسلامي سواء، وإن كان دار كفر فالنفي إليه حمل على الارتداد.
ومعنى التصدق به العفو من ولي الدم، وهو كفارة عن إقامة الحد، ولكنه لا يمنع ولي أمر المسلمين عن تعزير الجاني ومعاقبته بما يرى فيه صلاحًا له وصلاحًا للأمة، ويشتمل هذا التعزير — كما تقدم — حكم السجن وحكم الجلد وحكم الغرامة.
- أولًا: ما هي السرقة؟ وما هو المسروق؟ وهل حكم المسروق المحروز كحكم المسروق غير المحروز؟ المتفق عليه أن السرقة لا تسمى بذلك إلا أن تكون فيها مسارقة لعين المالك على شيء هو محل الشح والضنة.
- وثانيًا: من هو السارق؟ هل هو من يسرق مرة واحدة، أو من تعود السرقة؟ فإن كلمة
الكاتب مثلًا لا تطلق على كل من يكتب ويقرأ، وإنما تطلق على من تعود
الكتابة وأكثر منها، والإشارة إلى النكال وإلى عزة الله في الآية الكريمة
قد تفيد معنى الاستشراء والاستفحال الذي يقضي بالنكال.
وأيًّا كان القول في المقصود بالسارق في الآية الكريمة فالتوبة والاستصلاح تعفيان من إقامة الحد ويوكل الأمر فيهما إلى الإمام في رأي جملة الفقهاء.
- ثالثًا: ما هو المسروق وما مقداره؟
وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا قطع إلا في ثمن المجن»، وأنه: «لا قطع إلا في ربع دينار»، وربع الدينار وثمن المجن محل اختلاف بين العلماء في التقدير على حسب البلدان والأوقات.
وأيًّا كان المقدار المسروق فالأئمة: أبو حنيفة، والثوري، وإسحاق يقولون بأن من يسرق شيئًا يلزم غرمه، ولا يجمع بين القطع والغرم؛ فإن غرم فلا قطع، وإن قطع فلا غرم.
وقد اعتبر عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — أن الاضطرار من الإكراه الذي يعفي من الحد، وإن كان لا يعفي من التعزير، فلم يُقِمِ الحدَّ على غلمان حاطب بن أبي بلتعة؛ لأنهم سرقوا في عام المجاعة.
- رابعًا: ما هي اليد التي تقطع؟ هل هي الكف، أو الأصابع، أو اليد اليمنى، أو اليد
اليسرى؟
والاختلاف على هذا المعنى قليل بين الفقهاء.
•••
وتثبت جريمة الزنا بشهادة أربعة عدول مجتمعين؛ فإن تخلف واحد منهم بطلت شهادة الآخرين، ولا يقام الحَدُّ إلا إذا شهدوا جميعًا بوقوع الفعل لا بمجرد الشروع فيه، ولا حدَّ على من لم يبلغ الحلم ولم يَدِنْ بالإسلام، ولا حد كذلك مع قيام الشبهة، وعلى القاضي لدفع كل شبهة في الإكراه أن يراجع المقر بالزنا أربع مرات، وأن يستثبت من وقوع فعل الزنا فيسأله: لعلك قبلت؟ لعلك عانقت؟ لعلك لمست؟ حتى يصر على الإقرار بعد تكرار المراجعة والسؤال؛ فإن عدل عن إقراره سقط عنه الحد، وجاز أن يعاقب بالتعزير.
•••
والمتفق عليه منذ صدر الإسلام أن عقوبة شرب الخمر ثمانون جلدة، ويقام الحد إذا شهد على الشارب شاهدان عدلان وأُخذ ورائحة الخمر تفوح من فمه، وانتفت كل شبهة في تعاطيها خطأ أو للعلاج.
وفيما أحصيناه هنا أسس العقوبات في الشريعة القرآنية.
ولا يخفى أن الشرائع الدينية تستمد سلطانها من مصدر أكبر من مصدر الأمة أو ولاة الأمر فيها؛ لأنها تستمد من أمر الله.
ولكن مبادئ التشريع التي تقوم على مصلحة الأمة لا تعارض مبادئ الإسلام التي عمل بها المسلمون أو يمكن أن يتفق على العمل بها.
فالإمام هو المسئول عن إقامة الحدود والأخذ فيها بالتشديد أو التخفيف، ولكنه مسئول أمام الجماعة، وإجماع المسلمين مصدر من مصادر التشريع.
والعقوبات القرآنية تكفل للمجتمع حاجته التي تغنيه من العقوبة؛ وهي قيام الوازع ورهبة المحذور.
ولكنها لا تحرم الفرد حقًّا من حقوقه في الضمان الوثيق والفرصة النافعة، وأول ضمان للفرد فيها شدة التحرج في إثبات التهمة، وتأويل الشبهة لمصلحته في جميع الأحوال، وتمكينه من الصلاح والتوبة إذا كان فيه مستصلح ومتاب.
وإذا خيف أن يؤدي التشدد في حماية الفرد إلى إسقاط العقوبات والاجتراء على المحظورات فالإمام موكل بالنظر في منع تلك المحظورات من طريق الزجر والتعزير، وقد تقدم أن التعزير يتناول الحبس والضرب والغرامة المالية، ويعاقب به فيما دون الحدود.
وقد يرى الإمام أن اجتماع الشهود الذين يثبتون التهمة غير ميسور في بعض الأزمنة؛ إما للخوف والتحرج، أو لشيوع الباطل والزور، أو لاختلاط المسلمين بغير المسلمين، أو لاتخاذ الأماكن التي تدارى فيها المحظورات، أو لغير ذلك من الأسباب؛ فإن رأى ذلك ورأى أن الإعفاء من الحد مضرة ومفسدة فله أن يجمع بين ضمان الأمة وحمايتها، وبين إعطاء الفرد حقه من الضمان والحماية، فيعاقب بما يراه صالحًا للأمرين من ضروب التعزير.
وأيًّا كان القول برعاية الحرية الشخصية في فرض العقوبات فليس في وسع غالٍ من غلاتها أن يقطع بأن مسألة الزنا أو مسألة السكر من المسائل الفردية التي يترك فيها الأمر كله لآحاد الناس؛ ففي الزنا والسكر مساس بقوام الأسر وأخلاق الجماعة، وسلامة الذرية لا مراء فيه، ومتى بلغ من الزاني أن يشهده أربعة شهود عدول، وبلغ من السكير أن يصل إلى القاضي بين شاهدين عدلين والخمر تفوح من فمه؛ فليست المسألة هنا مسألة فرد يفعل ما يحلو له بينه وبين نفسه، ولكنها مسألة المجتمع كله في كيانه وأخلاقه وأسباب الأمن والطمأنينة فيه، وقد تبدو من هذا حكمة من حكم الشرائط التي اشترط الشرع الإسلامي توافرها لإقامة الحدود العلنية بين الناس.
ننتهي من ذلك كله إلى نتيجتين يقل فيهما الخلاف حتى بين المسلمين وغير المسلمين؛ وهما: أن قواعد العقوبات الإسلامية قامت عليها شئون جماعات البشر آلاف السنين وهي لا تعاني كل ما تعانيه الجماعات المحدثة من الجرائم والآفات، وأن قواعد العقوبات المحدثة لم تكن تصلح للتطبيق قبل ألف سنة، وكانت تنافر مقتضيات العصر ذلك الحين، ولكن القواعد القرآنية بما فيها من الحيطة والضمان ومباحث التصرف الملائم للزمان والمكان، قد صلحت للتطبيق قبل ألف سنة، وتصلح للتطبيق في هذه الأيام، وبعد هذه الأيام.