الإله
في هذه الآيات القرآنية مجمل العقيدة الإلهية في الإسلام.
وهي أكمل عقيدة في العقل.
وهي أكمل عقيدة في الدين.
خالق واحد، لا أول له ولا آخر، قدير على كل شيء، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، وليس كمثله شيء.
وعالم مخلوق، خلقه الله، ويرجع إلى الله، ويفنى كما يوجد، بمشيئة الله.
وإذا عبرنا عن هذه العقيدة بلغة الفلسفة قلنا: إنهما وجودان، وجود الأبد ووجود الزمان.
ومن الوهم أن يقع في الأخلاد أن الزمان قد يكون جزءًا من الأبد، نمده أو نمطه من أوله فإذا هو أزل، ونمده أو نمطه من آخره، فإذا هو سرمد لا ينقضي على الدوام.
فالحقيقة أن الزمان غير الأبد، ننقصه كله فلا ينقص من الأبد شيء، ونزيده كله فلا يزيد على الأبد شيء؛ لأنهما وجودان مختلفان في الكنه والجوهر، مختلفان في التصور والإدراك.
فالأبد وجود لا نتصور فيه الحركة.
والزمان وجود لا نتصوره بغير حركة.
وإذا ثبت أحد الوجودين ثبوتًا لا شك فيه فالوجود الأبدي هو الثابت عقلًا وهو وحده الذي يقبل التصور بغير إحالة في الذهن والخيال؛ لأننا نذهب لنفرض أولًا للوجود فنقع في الإحالة، وكذلك نقع في الإحالة حين نذهب لنفرض له آخرًا أو عمقًا أو امتدادًا على نحو من الأنحاء، ولكننا لا نقع في إحالة ما إذا تصورنا الأبد بغير ابتداء ولا انتهاء ولا كيف ولا قياس على شيء من الأشياء.
وهكذا يؤمن المسلم بوجود الإله.
ولا يسع العقل أن يبلغ من الإيمان به فوق مبلغ الإسلام.
•••
وليس بنا أن نطيل القول في قدم العالم وحدوثه، فلا حاجة بنا إلى ذلك فيما نحن فيه، وكل ما قيل عن قدم العالم خلط ليس له طائل، ولا يبطل عقيدة واحدة من عقائد الإسلام.
إن قيل: إن الزمان أبدي فهذا خلط في التفكير وخلط في الكلام.
وإن قيل: إن الزمان هو مقياس القدم فنحن حين نقول: إن الزمان قديم فكأنما نقول: إن الزمان هو الزمان، أو إن الزمان وجد حين وجد، ولم يوجد زمانان مفترقان.
وإن سأل سائل: لِمَ وجد الزمان حين وجد، ولم يوجد في حين قبله؟ فكأنما يفرض زمانًا موجودًا قبل وجود الزمان.
ويكفي المسلم أن يعلم أن الزمان لم يوجد أبديًّا، وأن وجود الأبد أكمل من الوجود الموقوت، وهذا هو غاية التنزيه الذي يفرضه الإسلام على معتقديه، وهذا — أيضًا — هو غاية ما ينتهي إليه تمييز العقول.
ولا إعضال في فهم الصلة بين الوجودين: الوجود الأبدي، والوجود في الزمان.
فالوجود الأبدي كامل مطلق الكمال، ولا يكون الكمال المطلق بغير قدرة وإنعام، ولا تكون القدرة والإنعام بغير خلق وإبداع.
ومن العبث أن يقال: إن الخلق إذن اضطرار.
لأننا لا نقول: إن الله جل وعلا مضطر حين نقول: إنه كامل مطلق الكمال، وإنه لا يقبل النقص والعيب، وإن الخلق من كمال جوده وقدرته وإحسانه؛ إذ ليس بالمعقول أننا ننفي الاضطرار عن الله حين نجعله ناقصًا في قدرة الخلق والإبداع، بل نحن في هذه الحالة ننفي عنه مقتضيات الكمال.
ويستطرد بنا هذا إلى الكلام على صفات الله تعالى في القرآن الكريم؛ فإن هذه الصفات هي الصفات التي تنبغي لكل كمال مطلق منزه عن الحدود.
والكمال المطلق واحد لا يتجزأ، ولا يكون كمالًا مطلقًا إلا إذا كان غاية في القدرة والعلم والرحمة والعدل والإحسان والتصريف.
وعلة الزلل كله أن نحصر هذه الصفات وهي لا تقبل الحصر، أو نقيسها على شيء وهي أعلى وأكمل من كل شيء، فأصدق الإيمان — وأصدق التفكير معًا قي هذا الصدد — أن الله ليس كمثله شيء، وأنه يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.
وخير لنا من الخوض في تقسيمات الصفات النفسية أو الصفات الثبوتية أو الصفات السلبية، أن نضرب مثلًا واحدًا لخطأ العقول في استلزام بعض الصفات وبطلان بعض الصفات، فيما هو محسوس قابل للامتحان والاختبار: علاقة الجوهر البسيط بصفة البقاء، أو صفة التنزه عن الانحلال.
فالأقدمون — أو أكثر الأقدمين — متفقون على أن الكائنات العلوية، كالشموس والأفلاك، خالدة لا تقبل الفناء؛ لأنها من نور، والنور جوهر بسيط، والجوهر البسيط لا يقبل التركيب وهو من ثم لا يقبل الانحلال.
وها نحن قد رأينا في عصرنا هذا أن الأجسام كلها ذرات، وأن الذرات كلها تنفلق أو تنحل فتصير إلى شعاع أو تصير إلى نور.
ومع هذا تألفت من هذا النور عناصر، وتألفت من هذه العناصر أجسام، وتألفت في هذه الأجسام ألوان وأشكال وأطوار وأحوال، هي هذه المادة أو هذه الهيولى التي قيل في المذاهب القديمة: إنها معدن الفساد المنحل، ونقيض الجوهر البسيط.
فإذا كان هذا حكمنا على بساطة المادة فمن أين لنا أن نحكم على بساطة الجوهر الإلهي حكمًا نجريه مجرى اللزوم لما ينبغي أن يكون عليه؟ ومن أين لنا أن نقول: إن الوجود الأبدي يفعل هذا ولا يفعل هذا، ويكون من المناقض له أن تنسب إليه هذه الصفة أو يحدث منه الخلق على هذا المثال؟
غاية الغايات أن نقول: إن الوجود الأبدي أكمل وجود، وإن أكمل وجود يخلق وجودًا آخر دونه في الكمال، وإن الوجودين لا ينعزلان.
فإذا كانت كيفية ذلك تعزب عن أذهاننا فقد عزبت عن أذهاننا كيفيات ما نراه ونحده بالأبصار، فلا جرم تعزب عنا الكيفيات فيما يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.
وهل من الكيفيات المفهومة أن نقول مثلًا: إن الوجود الكامل لا يقدر على الإيجاد أو على منح الوجود؟ أو هل من الكيفيات المفهومة أن نقول: إن الوجود كله طبقة واحدة بين ما كان أزليًّا أبديًّا وبين ما كان ذا زمان؟
أو هل من الكيفيات المفهومة أن نقول: إن الوجودين منعزلان لا علاقة بينهما بحال من الأحوال؟
أو هل من الكيفيات المفهومة أن نقول: إن هذه العلاقة تقف عند حد لا تتعداه كما قال أرسطو حين زعم أن الله حرك العالم ووقفت علاقته به بعد ذلك؟!
كل أولئك غير مفهوم في العقل ولا مفهوم في الإيمان.
ولكننا نفهم ولا نشك — دينًا وعقلًا — أن الوجود الكامل المطلق يصنع شيئًا يقتضيه كماله، وأن الصانع من المصنوع، وأن المصنوع لا ينعزل عن الصانع، وإن أعيانا أن نحصر الصلة بينهما حَصْرَ الإحاطةِ والاستيعاب.
والأديان جميعًا تؤمن بهذه العلاقة بين الخالق والمخلوق، ولكنها تفرق بين علاقة الخالق بالمخلوقات، وبين علاقة السبب المادي بالمسببات المادية، أو علاقة الحتم «الآلي» بين المقدمات والنتائج في القياس.
فالأسباب المادية — بالغة ما بلغت من العظمة — لا تنشئ دينًا ولا تقر طمأنينة الإيمان في قلب إنسان.
والكون عظيم واسع لا شك في عظمته واتساعه، ولكن الإنسان لا يقنع بعظمته واتساعه ليؤمن به ويطمئن إليه، وإنما يركن إلى الإيمان حين يبحث عن إرادة حية وراء الكون كله ووراء الأسباب فيه والمسببات.
فعلاقة الدين علاقة حية بين خالق واعٍ ومخلوقات واعية، تدعوه فيستجيب وتصلي إليه وتؤمن بجدوى الصلاة.
والقرآن صريح كذلك في حث الناس على الاستعانة بأنفسهم والاعتماد على قوتهم مع اعتمادهم على القوة الإلهية في مقام الدعاء والصلاة، ولا يحرمه مع ذلك رجاءه في معونة القدرة الإلهية حين لا يستطيع، وذلك قصارى ما يعطيه الدين من قوة الصبر وقوة الرجاء.
فهو يلهم الناس أن الله لا يخذلهم إن نصروا أنفسهم، ولا يحرمهم الطاقة التي تفوق الطاقة حين يتجهون إلى الله.
وكل دين لا يكفل لأصحابه هذا الرجاء فهو دين لا معنى له ولا حاجة إليه، وإن وجوده وعدمه سواء.
وليس المراد من ذلك أن الإيمان بالله قائم على الحاجة إليه، وإنما المراد به أن الإيمان بالله قائم على الإيمان بقدرته وكماله وعدله وسلطانه في الوجود واتصاله بهذا الوجود، فإن لم يكن المعبود كذلك فما هو بأهل للإيمان به، على الاستغناء عنه أو على الحاجة إليه.
وأكثر ما يعترض به المعترضون على حكمة الصلاة أنها لا توافق الإيمان بنظام الكون واطراد حركاته وسكناته على سنة واحدة أو قانون واحد مقدور الأعمال والآثار من أزل الآزال.
وهو اعتراض يقبل على فرض واحد، وذاك أن الصلاة عمل خارج من الكون غير داخل فيه، فهي لا تنبعث من نظامه ولا تؤثر في نظامه، ولا يكون لها شأن حقيق بها غير الشذوذ والإهمال.
فأما إذا كانت الصلاة داخلة في حساب الكون — كما هي في الواقع — فشأنها في الآثار والمؤثرات كشأن جميع الأعمال والحركات، فلا يقال لهم: كفوا عن التعرض لقوانين الطبيعة بالاختراع والصناعة؛ لأنها قوانين مقدورة الأعمال والآثار من أزل الآزال.
ولا مانع مطلقًا من تأثير العوامل الروحية في أحداث الكون ولو قصرنا التأثير على النحو الذي نعانيه كل يوم في هذه المحسوسات فضلًا عن الغيوب والمعقولات.
قال الإمام الغزالي في تهافت الفلاسفة: «لو لم يَرَ إنسان المغناطيس وجذبه للحديد، وحكي له ذلك، لاستنكره وقال: لا يتصور جذب الحديد إلا بخيط يشد عليه ويجذب به؛ فإنه المشاهد في الجذب، حتى إذا شاهده تعجب منه، وعلم أن علمه قاصر عن عجائب القدرة».
وذلك بعد أن قال عن المؤثرات الروحية: «ذلك يكون بأسباب، ولكن ليس من شرط أن يكون السبب هو هذا المعهود، بل في خزانة المقدورات عجائب وغرائب لم يطلع عليها، ينكرها من يظن أن لا وجود إلا لما شاهده.»
وما يقال عن جذب المغناطيس يقال عن جذب الأجسام ولا سيما جذب الكواكب أو تجاذبها على هذه الأبعاد الشاسعة من السماء؛ فإن انتقال التأثير من الجاذب إلى المجذوب حقيقة لا ريب فيها، ولكنها لا تفسر إلا بالفروض والتخمينات وتقدير الوسائط التي لا يثبتها العيان ولا يقطع بها البرهان.
والعجيب أن أدعياء العلم والعقل يشاهدون هذا وأمثاله ويسمعون تعليله الذي يختلف فرضًا بعد فرض، وتخمينًا بعد تخمين، فيسكتون ويسلمون أنه معقول ومفهوم، ولكنهم يستكثرون تأثير الروح في الأرواح، وتأثير العقل في العقول؛ لأنهم يريدون أن يلمسوا بأيديهم كيف تؤثر وكيف تتأثر، ولا يقبلون هنا ما يقبلونه في عالم الحس والعيان.
كذلك لا مانع مطلقًا من تفاوت الأرواح والعقول في قدرة التأثير بالصلاة وبالدعاء والإيحاء.
لأن الوجود كما أسلفنا طبقات وليس بطبقة واحدة، منها ما هو أقرب إلى الخصائص الإلهية ومنها ما هو أقرب إلى الخصائص الطبيعية، وليست كلها في التأثير سواء.
فالوجود الكامل يوجد غيره، وهو جميع هذه الكائنات.
ولكن هذه الكائنات درجات: فما يعي منها وجوده ويشعر بأنه موجود، أرفع من الكائن الذي لا يعي وجوده ولا يشعر بأنه موجود.
والكائن الواعي الذي يشعر بموجده أو يشعر بالوجود المطلق الكمال أرفع من الكائن الواعي الذي لا يعي غير ذاته أو ما حوى من المحسوسات.
فإذا كانت قدرة الإيجاد تختلف باختلاف طبقات الوجود فأقرب الكائنات إلى الله هو الكائن الذي يعي ذاته ويعي موجده، ويستمد منه قبسًا من القدرة الإلهية يقصر عنه مَنْ دونه من هذه الكائنات.
ووعي الموجود لموجده كذلك درجات؛ فمن كان أكمل وعيًا كان أكمل اقتباسًا من قدرة الله، وأقرب لياذًا به وبحكمته وتدبيره وعمله، ولا يعقل أن تخلو الكائنات الروحية من هذه الفوارق، ولا يعقل أن تكون بينها هذه الفوارق عبثًا كأن وجودها وعدمها سواء، ولا يعقل أن يكون منها ما هو أقرب إلى الله ولا يقدر على شيء يختص به في أحداث هذا الكون على نحو يناسب القرب من قدرة الله، وهو تأثير العقل أو تأثير الروح.
فجدوى الصلاة لا تنفي نظام الكون؛ لأن المصلحين جزء من الكون وجزء من نظامه، بل بطلان جدوى الصلاة ينفي وجود الإله الذي يخلق النظام خلقًا ولا يقوم بين منظماته مقام الآلة التي لا فرق فيها بين أن تدار وأن تدير.
•••
أما فلسفة القرآن في إثبات وجود الله فهي جماع الفلسفات التي تمخضت عنها أقوال الحكماء في هذا الباب.
وفحوى برهان الخلق أو البرهان الكوني أن المتحركات لا بد لها من محرك لا تجوز عليه الحركة، وأن الممكنات لا بد لها من موجد واجب الوجود، وإلا لزم التسلسل إلى غير انتهاء، وهذا الموجد الواجب الوجود هو الله.
وفحوى برهان القصد أن نظام العالم يدل على إرادة محيطة بما فيه من الأسباب والغايات.
وفحوى برهان المثل الأعلى أن العقل إذا تصور شيئًا عظيمًا تصور ما هو أعظم منه، وإلا تطلب موجبًا للوقوف عند حد من العظمة لا تتعداه، وكلما عظم شيء فهناك ما هو أعظم منه وأعظم حتى تنتهي بالتصور إلى العظمة التي لا مزيد عليها، والعظمة التي لا مزيد عليها لا تكون مجرد تصور يقع في الوهم ولا يوجد في الواقع؛ لأن العظمة الموجودة فوق العظمة الموهومة أو المتصورة، فالله إذن موجود؛ لأنه أعظم الموجودات.
والقرآن الكريم يكرر هذه البراهين في غير موضع، ويقيم الحجة بوجود المخلوقات على وجود الخالق، وبنظام الكون على وجود المدبر المريد، وبإثبات المثل الأعلى لله فوق كل مثل معروف أو معقول.
وقد تكرر في القرآن الكريم برهان خلق الزوجين تكرارًا متجدد الأساليب والمعارض دليلًا على القصد والتدبير في سنن هذا الوجود، وهو لا ريب أقوى البراهين على القصد وابتداع الوسيلة إليه؛ لأن ظهور الحياة في وسط المادة عجيب، وأعجب منه أن تتهيأ الأسباب في جسدين مختلفين لدوامها وانتقال خصائصها وصيانة ولائدها بين عناصر الطبيعة وآفاتها، وقد عرض الآن من أسرار التوليد ما لم يكن معروفًا بين الناس عند نزول القرآن الكريم، فإذا هو أعجب وأعجب من ظهور الحياة ومن اختلاف وظائف الجنسين: عرف الآن أن الناسلات التي يتولد منها الجنس البشري كله يمكن أن تجمع في قمع من أقماع الخياطة أقل من نصف فنجال، ويتسع هذا الحيز الصغير — كما قلنا في كتابنا «الله» — «لكل ما في النفوس من الأحاسيس والحوافز والأسرار، ولكل ما في العقول من الأفكار والفلسفات والمبتكرات ولكل ما في الضمائر من العقائد والأخلاق والأشواق، ولكل ما في الأجسام من الوظائف والمحاسن والأشباه، ولكل ما بين هؤلاء من الأواصر والوشائج والعلاقات».
وخليق بهذا أن يبين لنا — كما قلنا هناك — «أن الحياة قوة من عالم العقل لا من عالم المكان والزمان؛ لأن الحيز الذي يحتوي الناسلة هو الحيز الذي يحتوي على كل ذرة في حجمها من الذرات المادية، ولكنه يتسع لآفاق من القوى لا أثر لها في ذرات الأجساد».
•••
وتوكيد القرآن الكريم لوحدانية الله كتوكيده لوجود الله، بل هو أشد وألزم في عقيدة الإسلام؛ لأن الإيمان بالإله الأحد ألزم من الإيمان بالعقيدة الإلهية على إطلاقها؛ إذ كان الإيمان بأكثرَ من إله واحد مفسدًا لفهم الكون ومفسدًا لفهم الضمير، ومفسدًا لفهم الواجبات الأدبية والفرائض الدينية، ومفسدًا لعلم الإنسان بحقيقة الإنسان.
وحجج القرآن على الوحدانية قاطعة، وإن قال بعض المتكلمين: إنها جرت مجرى الأدلة الخطابية لتوجيه القول فيها إلى الخاصة والعامة، وإلى العلماء والجهلاء.
والذين قالوا بغلبة الدليل الخطابي على الدليل القاطع في هذه الحجة زعموا أن الاختلاف بين الإلهين الاثنين أو بين الآلهة الكثيرة غير لازم عقلًا لجواز الاتفاق.
وهو زعم مردود ظاهر البطلان؛ لأن الكمال المطلق لا يكون كمالين، ولأن الأبد لا يكون أبدين، ولأن الوجودين اللذين يتفقان في البداية والنهاية وفي تقدير كل شيء وتصريف كل عمل، ولا يختلفان في وصف من الأوصاف ولا في لازمة من لوازم هذه الأوصاف، هما وجود واحد لا وجودان، وليس بينهما من فاصل الذات عن الذات ما يجعلهما ذاتين اثنتين.
أما الآلهة المتعددة فهي إن أطاعت الله ولم تخرج عن قضائه وقدره فحكمُها حكمُ المخلوقاتِ، وإن كانت لا تطيعه فهي تنازعه وتبتغي إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فلا يستقيم على ذلك أمر الوجود.
•••
ومتى ثاب المسلم إلى هذه الحكمة القرآنية في أمر الإله فقد تزود من كتاب دينه بعقيدة تصحح أخطاء الديانات كما تصحح أخطاء الفلاسفة؛ إذ كانت الديانات قائمة على الإيمان، ولا أحق بالإيمان من إله أحد صمد سميع مجيب ليس كمثله شيء وهو محيط بكل شيء، وإذ كانت الفلسفة قائمة على القياس، ولا يصح القياس ما لم يثبت في مقياسه كل فارق بين وجود الأبد ووجود الزمان.