القدرُ
يظهر أن الإيمان بالقدر ملازم للإيمان بالمعبود منذ أقدم العصور.
فقبل الأديان الكتابية، وقبل الأديان الكبرى التي آمنت بها أمم الحضارة في العصور القديمة، كان الإنسان في جهالته الأولى يؤمن بالأرباب والأرواح ويعبدها؛ لأنها تتصرف في شئونه وتمنحه بعض ما يحب وتبتليه ببعض ما يكره، وتتدخل بإرادتها فيما يريد وما لا يريد.
فلم يكن في وسعه أن يجهل منذ أقدم القدم أنه محدود الحرية، مغلوب الإرادة، محتاج إلى رياضة القوى التي تحيط به وتملك إعطاءه ومنعه تارة بالقرابين والصلوات، وتارة بالرقى والتعاويذ.
ينتظر المطر فلا يسقط المطر، ويخرج إلى الصيد فيجده تارة على وفرة وتارة على نزارة، ولا يجده حيث ابتغاه تارات، فيعلم أنه خاضع لإرادة تقدر له نصيبه من النجاح والخيبة، ويعلم أن إرادته وحده ليست هي الشيء الوحيد فيما يشتهيه أو فيما يخشاه.
ذلك هو القدر في معناه الساذج القديم.
ولكنه قدر لا يستلزم في خلد الهمجي الأول نظامًا مرسومًا لتدبير الأكوان ولا خطة مقررة لتوجيه الإنسان، ذلك فهم للقدر لا يتأتى قبل فهم الكون أو فهم الظواهر الطبيعية وما يربط بعضها ببعض من القوانين أو العلاقات.
وكل ما كان يستلزمه فهم القدر على النحو الذي تخيله الهمجي الأول أنه سيطرة مرهوبة تملك الإنعام والحرمان، وتتحكم في الإنسان تَحَكُّمَ القوي الذي يمضي على هواه، ولا يعرف قانونًا يتبعه فيما ينكره أو فيما يرضاه.
وربما خطر للهمجي أن الأرباب أو الأرواح التي يعبدها تلتذ تسخيره وتخويفه ويحلو لها أن تذله وتعتز بقوتها عليه، فهو لا يعرف ما تريد ولا ما ينبغي أن تريد، ولكنه يعرف أنها في حاجة إلى التمليق والمداهنة والاسترضاء؛ لتعطيه ما يريد.
•••
ولما أدرك الإنسان شيئًا من نظام الأكوان ترقى بالقدر من معنى الهوى الجامح إلى معنى التنظيم والتدبير، وأدخل في سلطان القدر كل موجود في الأرض والسماء، ومنها الإنسان، بل منها الآلهة والأرباب قبل الإنسان.
فالهنود الأقدمون كانوا يؤمنون بسيطرة «الكارما» أو القدر على الزمان والمكان وعلى الخالق والمخلوق، وأنه يعيد الكون مرة بعد مرة على نظام واحد يتكرر فيه كل موجود من أكبر الكواكب إلى أصغر دقائق الأجسام، ولا حيلة للقدر نفسه في تغيير شيء من هذه الأشياء؛ لأنه لا يعي ما يفعل، بل يقع منه الفعل كما ينبغي أن يقع ولا بد له من الوقوع، وكلما تمت دورة من دورات الوجود كان تمامها نهاية الوجود وبداية الفناء، ويبقى القدر مع هذا ليعيد الفناء وجودًا متكررًا متجددًا على النحو الذي ابتدأ منه وانتهى إليه.
•••
والبابليون كانوا كما نعلم أصحاب نجوم وأرصاد، فعرفوا الإيمان بالقدر على ما يظهر من طريق الإيمان بالتنجيم.
لأنهم آمنوا بسيطرة الكواكب على مقادير الأحياء، وغير الأحياء، فكل مولود يولد فإنما تكون ولادته تحت طالع من الطوالع التي تتعلق بكوكب من كواكب السماء، والأرض نفسها وجدت تحت طالع من هذه الطوالع زعموا أنه طالع الشمس في برج الحمل، ثم تقاسمت الكواكب خلائق الأرض وأيامها ومواقيت الزرع والعمل فيها، فلا يجري في الأرض حدث من الأحداث إلا بحساب مرقوم في سجل الأفلاك والبروج.
وكانوا يعتقدون بالسعود والنحوس، فمن النجوم ما يسعد ويعطي، ومنها ما يشقي ويحرم، ولا مهرب للإنسان من طالعه الذي يلاحقه بالسعد أو بالنحس مدى حياته، ولكن المنجمين قد يعلمون مجرى هذه الطوالع فيعالجونها بالحساب كما نعالج قوانين الطبيعة اليوم بما نعلم من أحوالها وما نملك من توجيه تلك الأحوال إلى جانب النفع دون جانب الإضرار.
•••
ومن الراجح جدًّا أن القول بالثنوية — أو نسبة أقدار الوجود إلى مشيئة رَبَّيْنِ اثنين — إنما كان حلًّا لمشكلة القدر عند حكماء المجوس الأقدمين، بعد أن بلغوا بصفات الإله الأكبر مبلغًا لا يوافق إرادة النقص ولا إرادة الشقاء.
فجعلوا تقدير الخير لإله، وتقدير الشر لإله، وقسموا العالم شطرين بين النور والظلام، وبين الإيجاد والإفناء، وحدوا قدرة الخير؛ ليتجنبوا القول بأن إله الخير يريد الشر ويجريه في قضائه على العباد.
•••
أما المصريون الأقدمون فكانوا وسطًا بين الإيمان بحرية الإنسان والإيمان بسيطرة الأرباب؛ لأنهم آمنوا بالثواب والعقاب في العالم الآخر، فكان إيمانهم هذا كالإيمان بأن الإنسان يعمل، وأن الأرباب تتولى جزاءه على عمله بعد ذلك، فهي قادرة لا شك في قدرتها، ولكن الإنسان قادر على أن يعمل ما يرضيها ويستحق ثوابها، أو ما يغضبها ويستحق عقابها، وقد جاء في صلواتهم ما يدل على تصريف الآلهة أحوال العالم وأسباب الحياة ولكن الكلام في التقدير عندهم أقل ما عرف في أديان الزمن القديم.
•••
واقتبس اليونان شيئًا من البابليين وشيئًا من المصريين: اقتبسوا التنجيم وطوالع الكواكب من بابل، واقتبسوا عقيدة الثواب والعقاب من مصر، ولكنهم لم يحفلوا — أو يستطيعوا أن يحفلوا — كما فعل المصريون بإعداد الأجساد للحياة الأخرى، وتزويدها بما تحتاج إليه في تلك الحياة من مقومات البقاء.
وقد كان القدر عندهم غالبًا على الآلهة والبشر على السواء، وكانوا كثيرًا ما يصورونه في أساطيرهم ورواياتهم غاشمًا ظالمًا يتجنى الذنوب على الناس، ويستدرجهم إلى الزلل والغلط؛ ليوقع بهم ما يحلو له من العقاب، وكانت عندهم للنقمة ربة يسمونها «نمسيس» تأخذ الجار بذنب الجار، وتقتص من الأبناء والأحفاد لجرائر الآباء والأجداد، وتلاحقهم بالغضب ملاحقة اللدد والإصرار من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل.
وكانتْ صورةُ «زيوس» رب الأرباب في شعر هوميروس أقربَ إلى الجماح والكيد وإلى سوء النية الذي يغريه بإذلال البشر وترويعهم وأن ينفس عليهم حظوظهم ويردهم إلى القناعة والصغار، ثم ترقى به الشاعر هزيود إلى نمط من العدل في محاسبة الناس بميزان يزن الحساب في ميزان الحسنات والسيئات، فيعطف على من أحسن ويسخط على من أساء.
•••
ولكن المساهمة في مسألة القضاء والقدر تحسب لليونان في ميدان الفلسفة والتفكير ولا تحسب في ميدان الدين والعقيدة؛ لأنهم طرقوا باب البحث في هذه المسألة فجاءوا بخلاصة الأقوال التي تلاحقت في مباحث الفلاسفة بعدهم إلى العصر الأخير، ولا نعني باليونان هنا يونان السلالة والوطن، وإنما نعني بهم كل من تشملهم الثقافة اليونانية في وطنهم وفي غيره من الأوطان.
وأول ما يتجه الذهن من الفلسفة اليونانية إلى رأي الحكيمين الكبيرين اللذين يحيطان بأطراف الموضوعات في أكثرِ مسائلِ التفكيرِ؛ وهما: أفلاطون الملقب بالإلهي، وأرسطو الملقب بالمعلم الأول!
فأفلاطون يتابع أستاذه سقراط بعضَ المتابعةِ في نسبة الشر إلى الجهل وقلة المعرفة، ويرى أن الإنسان لا يختار الشر وهو يعرفه، بل يساق إليه بجهله أو بعوارض المرض والفساد فيه، ولكنه لا يساق إليه بتقدير الآلهة؛ لأن الآلهة خير لا يصدر عنها إلا الخير، وإنما يساق إليه باعتراض الكثافة المادية — أو الهيولى — في سبيل مطالبه الروحية، وأن هذه الكثافة المادية لازمة — مع هذا — لتمحيص الخير وتحقيق معناه؛ فإن الحياة الإنسانية التي تكون خيرة؛ لأنها كذلك ولا يمكن أن تكون غير ذلك ليست بخير يغبط عليه الإنسان، ولكنها تكون خيرة لها فضل في خيرها إذا اعترضها الشر فجاهدته وانتصرت عليه في هذه المجاهدة، فلا خير في الدنيا إذا زال منها الشر بالنظر إلى الإنسان.
وكل شيء من أشياء هذا العالم له — في رأي أفلاطون — صورة مثالية أو صورة كاملة في عقل الإله، فهذه الأشياء الموجودة في الحس هي محاولة لمحاكاة صورها الخالدة التي لا نقص فيها؛ وإنما يشوبها النقص في عالم الحس لاعتراض المادة دون تحقيق الصورة المثلى، وقد تجري محاولة الخلق على أيدي أرواح دون الله في القدرة والخير فيظهر النقص في عملها؛ لأنها لم تبلغ مع الإله كماله المطلق المنزه عن الشرور.
فالشر موجود في هذا العالم، ولكنه ليس من تقدير الإله، ووجوده لازم مع وجود الخير؛ لأن الخير الاضطراري لا قيمة له، ولا دلالة فيه على فضيلة فاعلة، وحرية الإنسان في طلب الكمال لا يحدها قدر مقدور من الإله الأعظم، بل تحدها عوائق الكثافة المادية أو الهيولى، وهي كذلك عائق في سبيل تحقيق الكمال الذي يريده الله.
•••
ومذهب أرسطو في القدر يلائم مذهبه في صفة الإله؛ فإن إله أرسطو بمعزل عن الكون وعن كل ما فيه من حي وجماد، فلا يقدر له أمرًا ولا التقدير من شأنه الذي يوافق صفة الكمال المطلق في رأي المعلم الأول؛ لأن الكامل المطلق الكمال لا يحتاج إلى شيء غير ذاته، فلا يريد شيئًا ولا يفكر في شيء غير تلك الذات، وما كانت علاقة الإله بالكون إلا علاقة المحرك الأول الذي لا يتحرك؛ لأنه لو تحرك للزم أن نبحث عن مبدأ حركته وسببها وغايته منها، وكل أولئك لا يتفق عند أرسطو مع صفات الكائن الكامل الذي لا بداية له ولا نهاية، ولا غاية له من وراء عمل يعمله، بل لا عمل له غير أن يعقل ذاته في نعيم سرمدي لا يعرفه العاملون؛ لأن العمل حركة واختلاف من حال إلى حال، ولا اختلاف في طبيعة الكائن الذي بلغ التمام في أحسن الأحوال، وليس المراد بأنه هو المحرك الأول أنه عمل شيئًا لتحريك جميع هذه المتحركات، وإنما المراد به أنه مصدر العقل وأن العقل يوحي إلى الأشياء أن تتسامى إلى مصدرها فتتحرك من صورة إلى صورة في طلب الكمال؛ لأنها هي المحتاجة إلى الحركة واستكمال الصور في ارتقائها، دون صاحب الصورة المثلى أو الصورة المحض التي لا تمتزج بالهيولى أيَّ امتزاجٍ.
ومذهب أرسطو في القدر يلائم هذا المذهب في صورة الإله، فلا قدر هناك ولا تقدير، وكل إنسان حر فيما يختاره لنفسه، فإن لم يستطع أن يفعل فهو على الأقل مستطيع أن يمتنع، وغاية الإنسان وغير الإنسان من هذه الكائنات أن تحقق ما ينبغي لوجودها على الوجه الذي يناسب ذلك الوجود.
•••
ولفلاسفة اليونان — غير أفلاطون وأرسطو — مذاهب في القدر تتراوح بين مذهب الجبر ومذهب الحرية، وتتوسط بينهما أحيانًا في القول بالاضطرار أو القول بالاختيار.
فعند ديمقريطس أن الموجودات كلها تتألف من الذرات، وأن الإنسان مثلها ذرات؛ تتألف فيحيا، وتندثر فيموت.
وعند هيرقليطس أن النظام قوام الأشياء، وأن الاختلاف ضرورة من ضرورات النظام، وأن العدل في طبيعة الوجود يعود بالأشياء إلى قوامها كلما طغى مزاج منها على مزاج، وأن الشر من صفات الأجزاء وليس من صفات الكل المحيط بجميع هذه الأجزاء، فيخضع الإنسان له؛ لأنه جزء ناقص لا فكاك له من ضرورة النقص المحيق به وبغيره، ولا حيلة له في ذلك ولا للإله أو «الكلمة» التي ترادف عندهم معنى الإله، ولكنها تطرد مع قضاء النظام الشامل وتجري معه مجراه، إلى أن يدركها الاختلال فيردها سواء العدل إلى الاعتدال.
وعند فيثاغوراس كل شيء محسوب؛ لأن العدد هو قوام الوجود، فما من صفة نصف بها الموجودات إلا نراها مفارقةً لها في طور من أطوارها، ما عدا العدد؛ فهو الصفة التي لا تفارق موجودًا من الموجودات في طور من الأطوار، ولا يتضح رأي فيثاغوراس فيمن يحسب الحساب لتركيب هذه الأعداد، لكنه مقارب لمذهب أهل الهند في تعليق كل شيء بالحساب السرمدي أو القانون الأبدي المسمى عندهم «بالكارما» كما تقدم، ومرجعه إليه في مسألة القدر كمرجعه إليهم في مذهبه كله على التعميم.
وعند زينون وأتباعه الرواقيين أن الناموس يقضي قضاءه في جميع المخلوقات، فقولهم بالجبر أرجح جدًّا من قولهم بالاختيار.
وعند أبيقور أن الذرات هي قوام الموجودات، وأن الذرات إذا تركبت في روح الإنسان ملك بعض الحرية التي لا يملكها الجماد؛ لأن ذرات الروح ألطف من ذرات الجسم الجامد وأقدر منها على التصرف والاختيار، ولكن الآلهة لا تقدر للناس عند الأبيقوريين؛ لأنها سعيدة في سماواتها، ولا حاجة بالسعيد إلى التفكير في نفسه ولا في غيره! أما القدر الأعمى كما تمثله أساطير اليونان فهو عند أبيقور خرافة أصعب على التصديق من خرافات الأمساخ والغيلان، فهناك قدر في النظام لا يأتي من الأرباب ولا من ربة القضاء الأعمى، ولكنه يأتي من طبيعة الأشياء بمقدار ما فيها من تناسق الأجزاء.
•••
وأهم الفلاسفة بعد أفلاطون وأرسطو رأيًا في موضوع القضاء والقدر هو بلا ريب أفلوطين، إمام الأفلاطونية الحديثة الذي ولد بإقليم أسيوط واستفاد معظم دراساته من مدرسة الإسكندرية، وإنما يهم رأي أفلوطين في هذا الموضوع؛ لأنه على اتصال شديد بالمذاهب الدينية ومذاهب التصوف على الخصوص بين أصحاب الأديان.
ويؤخذ من أقوال أفلوطين المتعددة أن الإنسان في حياته الأرضية خاضع لقضاء سابق من أزل الآزال، وأنه يعاد إلى الحياة مرات كثيرة ويجزى في كل مرة على أعماله في حياته السابقة جزاء العين بالعين والسن بالسن والمثل بالمثل قيد الشعرة في كل جليل ودقيق، فمن فقأ عين إنسان فقئت عينه في دور من أدوار الحياة المتلاحقة في عالم الجسد، ومن ضرب أمه عاد إلى الحياة في جسد امرأة، وولد له البنون، واقتص منه أحدهم بضربه كتلك الضربة، يكفر بها عما جناه.
ولكن من الذي يقدر هذا القدر ويكتبه في سجله للحساب والقصاص؟
ليس هو الإله الأحد؛ لأن مذهب أفلوطين في الإله على غرار مذهب أرسطو في التنزيه والتجريد، ويتجاوزه كثيرًا في عزل الوجود الإلهي عن هذا الوجود المحسوس.
فعند أفلوطين أن «الأحد» أرفع من الوجود، وأرفع من الوعي، وأرفع من التقدير، وأنه لا يحس ذاته؛ لأنه واحد لا يتجزأ، فلا يكون فيه بعض يتأمل بعضًا، كما يحدث في حالة الإحساس.
وعنده أن المادة أو الهيولى لا تعقل ولا تقدر، ولا تقيم ميزان الحساب.
فإذا أردنا أن نسمي القدر في مذهب أفلوطين باسم مطابق لمراده فهو على الأصح قدر الضرورة التي لا محيص عنها في عالم الأرواح، أو في عالم الأجساد.
فالخلق يصدر من الله ضرورة؛ لأن الخالق يفيض بالإنعام، ضرورة من ضرورات الخير التي لا تنفصل عن آثارها، ولا بد لها من أثر.
والأرواح تصدر من الخالق ضرورة، على طبقات تتعالى وتتدانى، على حسب اقترابها من مصدرها الأصيل.
وكل روح يتصل بالمادة حتمًا؛ لأنه يقتبس طبيعة الخلق من مصدره الأول فيمتزج بالمادة؛ ليحكي فيها قدرة الخالق على الإعطاء والإنعام والتكوين.
ومتى اتصل بالمادة فهو يغالبها وتغالبه، وينتصر عليها أو تنتصر عليه.
فإذا غلبها ارتفع حتمًا في معارج الروح، وإذا غلبته بقي حتمًا في إرهاق الهيولى وحدث له حتمًا ما يحدث لكل روح وهيولى في مثل ذلك المزيج، كما يحدث التحول حتمًا في مزيج العناصر المادية، كلما امتزجت على نحو مقدور.
•••
ومن المناسب أن نستطرد في تلخيص آراء الفلاسفة في القدر من ذلك العصر إلى العصر الحديث، قبل أن ننتقل إلى مذاهب الأديان ومذاهب العلماء الذين عرضوا للمسألة من جانب العلوم الطبيعية كما عرفت في القرن العشرين.
ونتخطى هنا الفلاسفة الدينيين؛ لنعود إليهم بعد الكلام على مذاهب الأديان، ونبدأ بالفلاسفة الذين عرضوا للمسألة من جانب البحث الفلسفي بمعزل عن المذاهب الدينية.
فالفيلسوف الإنجليزي «توماس هوب» يرى أن الإنسان يعمل ما يريد، ولكنه لا يريد ما يريد، بل يريد ما فرضته عليه الوراثة، وطبيعة البيئة، وعادات المكان والزمان، فهو بين الرغبة والامتناع يقدم أو يحجم، وكل إقدام أو إحجام فله باعث مفروض عليه، وما الإرادة إلا الرغبة الأخيرة من هذه الرغبات تأتي في النهاية مسبوقة بأسباب بعد أسباب.
والفيلسوف الفرنسي «ديكارت» يقول: إن الجسد محكوم بقوانين الطبيعة كسائر الأجسام المادية، ولكن الروح طليقة من سلطان هذه القوانين وعليها أن تجاهد الجسد، وتلتمس العون من الله بالمعرفة والقداسة في هذا الجهاد.
ومن تلاميذه من يقول: إن الإنسان حرف في كل فعل من أفعاله، ولكن الله يعلم منذ الأزل ما سيفعله كل إنسان؛ لأنه عليم خبير.
ويرى سبِنوزا أن كل شيء يقع في الدنيا فلا بد أن يقع كما وقع، ولا يتخيل العقل وقوعه على نحو آخر؛ لأن كل شيء يصدر من طبيعة «الجوهر السرمدي»؛ وهو الله.
وما في الدنيا من خير وشر على السواء هو من إرادة الله، ولكنه يبدو لنا شرًّا؛ لأننا محدودون، ننقص من ناحية، ونتلقى الشر من حيث ننقض، أما الجوهر السرمدي فلا يعرض له النقص ولا تتصل به الأشياء إلا على وجه الكمال.
ومذهب ليبنتز يطابق مذهبه المعروف عن الوحدات، فكل موجود في الكون «وحدة» مستقلة لا تتأثر بوحدة أخرى، ولكنها قد تتفق في الحركة كما تتفق الساعات في الإشارة إلى الوقت، دون أن تتأثر ساعة منها بغيرها، وكل وحدة من هذه الوحدات، فهي محتوية على ذاتها، محاكية في وجودها للوجود الأعلى؛ وهو الله … ولكنها تتفاوت في الكمال على حسب التفاوت في هذه المحاكاة، فإذا أصابها النقص فهو يصيبها من داخلها ولا يصيبها مما هو خارج عنها، وهي هي مناط قضائها وقدرها بغير سلطان عليها من سائر الموجودات، وكل ما هنالك أن الشر يعرض لها؛ لأنها ناقصة، ويقل فيها كلما زاد نصيبها في محاكاة الله.
والفيلسوف الألماني الكبير «عمانويل كانت» يقرر ضرورة الأسباب في عالم التجارب المحسوسة، ولكنه يرى هنالك عالمًا أعلى من عالم المحسوس؛ هو عالم الحقائق الأدبية، وحرية الإرادة حقيقة من هذه الحقائق عند الفيلسوف … فإن لم نجد لها برهانًا من ترابط الأسباب في التجارب الحسية فيكفي أن نعلم أن الإيمان بحرية الإرادة لازم لتقرير الأخلاق البشرية والتكاليف الأدبية، ولزومه هذا هو أقوى دليل نستمده من الحس على صدق الإيمان بها، ووجوب العمل على مقتضى هذا الإيمان.
ويتلخص مذهب هيجل كله في الفلسفة التاريخية التي تقرر «أن تاريخ العالم بأجمعه إنما هو ترويض الإرادة الطبيعية الجامحة حتى تخضع من ثم لقاعدة كونية عامة تتولد منها الحرية الذاتية».
فالقوى الطبيعية جامحة لا تعرف الحدود، وخضوع هذه القوى لقاعدة عامة هو الذي يكف هذا الجماح، ويخلق الحرية الأدبية، وفحوى ذلك أن الإنسان مسوق إلى الحرية بسلطان ذلك القانون، فهو يتلقى الحرية نفسها من طريق الاضطرار.
ويقوم مذهب شوبنهور على الإرادة والفكرة، ولكن الإرادة عنده هي مصدر الشر كله في الكون وفي الإنسان، والإرادة في الكون توحي إلى إرادة الإنسان أن يستأثر لنفسه بالمتعة ويعاني ما يعانيه من الطلب والكفاح، ولا يزال أسيرًا لهذه الإرادة التي تعزله عن كل ما حوله حتى يخلص إلى عالم الفكرة فينجو من الأثرة الفردية، وينتقل إلى عالم السكينة و«العموم» الذي لا تنازع فيه بين أجزاء وأجزاء، ولا بين إرادة وإرادة.
فكلما كانت هناك إرادة فهناك شر، وكل تقدير في رأيه فهو على هذا تقدير شرور لا يتأتى الفكاك منه بغير الخروج من عالم التقدير.
•••
ولا يزال فلاسفة العصر يخوضون في مباحث هذا الموضوع على تفاوت كبير بين القول بالجبر، والقول بالحرية الإنسانية، ومنهم من يقول بأن الإنسان يشترك في التقدير، ويخضع له؛ لأنه جزء من عناصر الطبيعة التي تفعل فعلها في الأحداث الكونية، ولا يقتصر أمرها كله على الانفصال.
ولكن الفلسفة لا تستأثر بمباحث هذا الموضوع في القرون الأخيرة؛ لأن نهضة العلوم الطبيعية قد أدخلت هذه المباحث في نطاقها، ولا سيما علم النفس الذي يعتمد على تجارب تلك العلوم.
وقد كان أول مدخل للعلوم الطبيعية في هذه المباحث الفلسفية من جانب علم الفلك، أو جانب الرياضة على الإجمال، بعد القول بدوران الأرض حول الشمس واعتبارها سيارًا من السيارات الشمسية يجري عليها ما يجري على غيرها من أفلاك السماء ولا تخص بالوقوف في مركز الكون كله سواء في المكان أو في جلالة الشأن وحساب الخلق والتقدير.
فأخذ العلماء منذ القرن السادس عشر يقررون أن «القانون الآلي» هو ملاك النظام في هذا الوجود، وأن هذا القانون عام شامل لا يأذن باختلاف ولا استثناء، فلا محل فيه لتصرف الأقدار بالتبديل والتحويل.
ولكن «القانون الآلي» مع هذا لم يبطل القول بالعناية الإلهية أو بالتقدير الإلهي عند المؤمنين من العلماء الرياضيين أو الطبيعيين الذين يقبلون القول بالنظم الإلهية، والقوانين الشاملة لفلك الأرض وسائر الأفلاك.
فكان ديكارت يفصل بين عالم المادة وعالم الروح، ويرجع بقوانين الكون الحسي إلى المادة والحركة، ولكنه يعزل عالم الروح عن سلطان هذه القوانين.
ولما ظهر علم النفس على النهج الحديث لم يحسم هذا الخلاف بين الجبر والحرية الإنسانية.
فالقائلون بالمادة وحدها قالوا: إن أعمال الإنسان كلها آلية يستطاع تفسيرها بالتفاعل بين وظائف البدن وأخلاطه، ولا فرق في أساس هذا التفسير بين تصرف الإنسان وتصرف الحيوان.
والقائلون بالعقل أنكروا إمكانَ تفسير الظواهر العقلية كلها بالحركات الآلية التي تعمل في الأجسام، وقالوا بحرية العقل أو بحرية الإرادة الإنسانية في كثير من الأعمال.
فالقائلون بالحتمية يقولون بها؛ لأنهم يؤمنون بالنظم الآلية وحدها ولا يؤمنون بإرادة إلهية تتعرض لتلك النظم بالتبديل والتحويل.
ومن ثم أصبح القول بالحتمية مناقضًا للقول بالجبرية في كلام علماء الأديان؛ لأن الجبرية تحصر الإرادة كلها في الإله المعبود، أما الحتمية فهي على الأقل لا تستلزم وجود إله إلى جانب القوانين التي يفسرون بها حركات الوجود.
وتعاقبت الكشوف في ميادين العلوم الطبيعية، وكل منها يرجع إلى قانون يزعم أصحابه أنه صالح لتفسير كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة بغير حاجة على الإطلاق إلى مدد مما وراء الطبيعة، ولا فرق في ذلك بين ظواهر المادة العضوية، وظواهر المادة غير العضوية، أو بين الحي والجماد، فكان كل كشف من هذه الكشوف المتعاقبة يرجح بكفة الحتمية على كفة الاختيار من جانب الله، أو من جانب الإنسان.
ثم تقدمت الكشوف الذرية في أوائل القرن العشرين.
فإذا بكشف منها يضرب الحتمية ضربةً قاصمةً، ويفتح الباب واسعًا للقول بالحرية والاختيار.
فمن المعلوم أن الذرة قد وصفت في أقوال العلماء الطبيعيين بأنها منظومة كالمنظومة الشمسية، تشتمل على نواة كالشمس وكهارب تدور في فلك النواة كما تدور السيارات على وجه التمثيل والتقريب، وأن الإشعاع إنما يحدث من انتقال كهرب من فلك عامل إلى فلك آخر أقل منه عملًا أو أقل منه في الطاقة على حسب تعبير الطبيعيين.
فجاء بوهر وقرر أن الكهرب يتنقل من فلك إلى فلك بغير قانون معلوم، وأن ألوف التنقلات لا يشبه بعضها بعضًا ولا يمكن التنبؤ عن وقوعها ولا عن سبب وقوعها على أي أساس يمكن أن يسمى باسم القانون المطرد المعاد.
وبلغ من وثوق بعض العلماء بصحة هذه التجارب أن عالمًا كبيرًا كالسير آرثر أدنجتون أعلن أن الأمر فيها قلما يحتمل الخلاف، فقال: «لا أعتقد أن هناك انقسامًا ذا بال في رأي القائلين بهبوط مذهب الحتمية؛ فإن كان هناك انقسام في هذا الصدد بين المشتغلين بالعلوم فإنما هو انقسام الراضين والآسفين، فأما الآسفون فهم بطبيعة الحال يرجون أن تعود الحتمية إلى مثل مكانها الذي كانت تشغله في العلوم الطبيعية، ولعلهم لا يرجون المستحيل، ولكني لا أرى سببًا لتوقع رجعتها في أي شكل وعلى أية صورة.»
ويضاف إلى هذا جميعه أن المادة قد انتهت إلى شعاع، وأن الإشعاع أوشك أن يدخل في حساب الحركة المجردة التي يُرصد جانب منها بالحساب ويدق جانبها الأكبر عن الحساب والتخمين.
•••
•••
وإلى هنا ندع العلم والفلسفة في موقفهما الأخير من مسألة القدر، ونعود إلى إجمال هذه المسألة كما عرضت في الأديان الكتابية؛ وهي: الموسوية، والمسيحية، والإسلام.
•••
فالكلام على التقدير الإلهي قديم في الكتب اليهودية، وردت الإشارة إليه من أول الأسفار المعتمدة إلى آخرها، ولكن على درجات في أساليب التقدير باختلاف الصورة التي كانوا يفرضونها للإله، أو باختلاف نصيبه عندهم من عظمة المشيئة، وعظمة القدرة، وعظمة الصفات.
وكانت الصورة الأولى للإله عندهم صورة الملك المطلق الذي يريد أن يستأثر لنفسه بالمعرفة والخلود والسلطان، ويكره من الإنسان أن يتسامى إلى منازعته في هذه الصفات، فيبتليه بالعجز والحرمان ويحد من حظوظه في النعمة والحياة.
فالنوع الإنساني على هذه الصورة رعية متمردون يخضعون للقوة، ويتملصون منها بالحيلة والعصيان كلما وجدوا لهم سبيلًا إلى التملص والاحتيال.
وعلى هذه الصورة وقعت الخطايا الأولى التي جَرَّتْ عليهم غضبَ الله وحرمتهم نعمة الخلود، وهي الأكل من الشجرة، والعيث في الأرض بالفساد.
وقد غضب الله كما جاء في سفر التكوين؛ لأن الإنسان أكل من الشجرة التي نهي عنها، وهي شجرة معرفة الخير والشر، أو شجرة المعرفة الإلهية، فقال الرب الإله: «هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد …»
ومن هنا حاقت اللعنة بالإنسان؛ لأنه أكل من الشجرة، وبالمرأة؛ لأنها استمعت إلى غواية الحية، وبالحية؛ لأنها سولت لهما هذا العصيان، وكان قضاء مبرمًا على نوع الإنسان كله بعد آدم، فقال الرب الإله للحية: «لأنك فعلت هذا؛ ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، وعلى بطنك تَسْعَيْنِ، وترابًا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها: هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه. وقال للمرأة تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلًا: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك … بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب، وإلى تراب تعود.»
ولم يكن الإنسان بالمتمرد الوحيد على إرادة الله؛ فإن أبناء الله سكان السماء — ويراد بهم الملائكة — نظروا إلى بنات الناس فرأوا أنهن حسنات فاتخذوا منهن نساء، وغضب الرب فقال: «لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد؛ لزيغانه، وهو بشر وتكون أيامه مائة وعشرون سنة!»
وبعد ذلك أيضًا: «دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا، وهؤلاء هم الجبابرة المشهورون …!» «فرأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته: الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنت أنني عملته، وأما نوح فوجد نعمة في عين الرب!»
ويمكن أن يقال على هذا: إن الخطيئة الكبرى هي طموح الإنسان إلى العلم والخلود اللذين استأثر بهما الله، فالله على هذه الصورة مالك يكره من رعاياه أن ينفسوا عليه أسرار الحكم والبقاء، وهو يملك التقدير والتدبير، ولكن كما يملك الحاكم فرض الشرائع وفرض الجزاء والعقاب، وقد يراجع نفسه فيما قضاه فيبطله ويلغيه ويندم عليه، كما يفعل الملوك في سياسة الرعايا المحكومين.
وقد جاء في الأسفار المتعددة كلام صريح عن تقسيم الحظوظ بين الآحاد وبين الشعوب من قبل الميلاد، فمن ذلك تمييز بني إسرائيل على غيرهم وتمييز يعقوب على عيسى، وذرية يعقوب على ذرية عيسى، وكلاهما جنين في بطن أمه … «وتراحم الولدان في بطنها … فمضت تسأل الرب، فقال لها الرب: في بطنك أُمَّتان، ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبده صغير».
وترقى الوعاظ والأنبياء في فهم عظمة الله، فدعا أشعيا إلى عبادة الله الذي علم الأشياء منذ القدم وهو «المخبر منذ البدء بالأخير».
ولكن «القدر» لم يزل عند بني إسرائيل مشيئة حاكم يأمر وينهى ويرجع عما أمر به وقضاه، ولم يفهموا القدر قط على أنه نظام شامل للوجود محيط بالأكوان، لا يكل عملًا من أعماله إلى الغيب المجهول؛ ليمضي فيه بعد ذلك أو يرجع عنه رجوعَ الندم وخطأ الحساب.
ففي كتاب أشعيا يوصف الله بأنه جابل الإنسان، وينهى الإنسان عن مراجعته في قضائه؛ لأنه «خزف بين أخزاف الأرض، هل يقول الطين لجابله: ماذا تصنع؟ أو يقول: عملك ليس له يدان؟»
ولكن هذا الخزف يجبل ويعاد جبله ولا يستقر رأي الخزاف على حفظه أو تحطيمه، فيحطم بعد حفظ ويحفظ بعد تحطيم، وكذلك قال أرميا: «قم انزل إلى بيت الفخاري وهناك اسمع كلامي، فنزلت إلى بيت الفخاري وإذا هو يصنع عملًا على الدولاب، ففسد الوعاء الذي كان يصنعه من الطين بيد الفخاري، فعاد وعمله وعاء آخر كما حسن في عين الفخاري أن يصنعه، فعاد إلى كلام الرب قائلًا: أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا بيدي يا بيت إسرائيل، يقول الرب: هو ذا كالطين بين الفخار أنتم كهذا بيدي يا بيت إسرائيل، تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها، فأندم على الشر الذي قصدت أن أصنع بها، وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي، فأندم على الخير الذي قلت: إني أحسن إليها به.»
•••
وربما حسن لليهود أن يتشبثوا بفهم القدر الإلهي على هذه الصورة؛ لأنهم علقوا آمالهم كلها في الخلاص على «إله» يتحيز لهم، ويتحول من الغضب إلى الرضا؛ لإنقاذهم من سطوة أعدائهم، فأصروا على تصوير القدر لأنفسهم بهذه الصورة، على الرغم من تقدم العقيدة الإلهية في عهد الفلسفة وعهد الديانات السرية.
وقد أراحهم هذا الفهم من مشكلة القضاء والقدر عند أصحاب الديانات الأخرى؛ لأن المشكلة إنما تأتي من محاولة التوفيق بين إرادة إلهية، محيطة بكل شيء مقدرة لكل حساب، وبين فعل الإنسان للشر؛ طوعًا لتلك الإرادة، فإذا آمن الإنسان بإله يمكن أن يقابله الإنسان بالطاعة والعصيان، ويمكن مع هذا أن يعدل عن العقاب إلى الثواب، وعن الثواب إلى العقاب، فلا مشكلة هناك ولا موجب من ثم لمحاولة التوفيق بين إحاطة القدر بكل كبيرة وصغيرة، وبين حرية الإنسان.
ولهذا سهل على رجل مثل يوسفيوس أن يقول: «إن الأمور كلها تجري بقدر مقدور، ولكنه لا ينتزع من الإنسان حريته في فعل ما يختار؛ لأن الله أيضًا شاء أن يمزج بين القدر ومشيئة الإنسان؛ ليتاح له عمل الخير والشر كما يريد.»
وهذا بطبيعة الحال فحوى العقيدة الإسرائيلية من بدايتها الأولى، وهو غير المعنى الذي تَصَوَّرَهُ فيلون الفيلسوف الإسرائيلي الذي نشأ في الإسكندرية واقتبس عقيدته من الفلسفة وأسرار الديانة المصرية، فإنه يعترف بالشر في الوجود، ولكنه يرجع به إلى امتزاج الروح بالمادة، ومغالبة الحرية بضرورات الهيولى الجسدية، فهو ينقل المسألة من صورة الحاكم والمحكوم إلى صورة المبدأين المختلفين اللذين يقومان على اختلاف العقل والهيولى، ومهما يكن من تشابه بين الرأيين في النتيجة الظاهرة فالمصدر الذي يصدران عنه على أبعد ما يكون المصدران المتعارضان.
•••
ثم بدأت الدعوة المسيحية في عصر فيلون ويوسفيوس، وذكر السيد المسيح الأرواح الشريرة التي تسكن جسد الإنسان، ولكنه لم يذكر قط شيئًا يدل على أصول الشر التي وردت في الكتب الإسرائيلية الأولى.
وإنما فصلت العقائد القانون الإلهي والخطيئة الإنسانية والكفارة عن هذه الخطيئة على لسان «بولس» الرسول في عظاته ومحاوراته، ولا سيما رسالته المفصلة إلى أهل رومية.
ففي تلك الرسالة يقرر «بولس» الرسول أن أصل الشر في الإنسان هو عصيان آدم أمر ربه وأكله من الشجرة المحرمة، وأن الإنسان يعمل الشر؛ لوراثته هذه الخطيئة من أبيه، ولا كفارة لها غير الموت الذي يحل الجسد منها، ولكنه لا يحل الروح إلا بكفارة أخرى؛ هي كفارة السيد المسيح، فالذين يؤمنون بهذه الكفارة يستحقون الحياة الأبدية، ولكنه لا يقصر ذلك على اليهود أو بني إسرائيل، بل يعم أبناء آدم وحواء أجمعين، فكل وارث للخطيئة يشمله الخلاص بالنعمة الإلهية، وقضاء الله وحده هو الذي يفصل بين الأشرار والأخيار، وهو الذي يختار العباد للخلاص الأبدي أو للهلاك الدائم كما يشاء.
وقد عاد بولس في هذه الرسالة إلى مثل الخزف والخزاف؛ لينفي الظلم عن إرادة الله تعالى، فماذا نقول؟ ألعل عند الله ظلمًا؟ حاشا لله؛ لأنه يقول لموسى: أرحم من أرحم وأترأف على من أترأف، فإذن ليس الأمر لمن يشاء أو لمن يسعى، بل الله الذي يرحم … ومن أنت أيها الإنسان حتى تجاوبَ اللهَ؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان؟ فماذا إن كان الله — وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته — احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك، ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد … ليس من اليهود فقط، بل من الأمم أيضًا كما يقول في هوشع أيضًا: «سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والتي ليست محبوبة محبوبة.»
ولكن المسيحية ظهر فيها بعد بولس الرسول طائفتان من المدافعين عن عقائدها وقضاياها، هما طائفة المجادلين، وطائفة المسوغين أو المعتذرين.
فانصرف المجادلون — أو كادوا — إلى مناقشة أبناء الأمم الأخرى، وانصرف المسوغون — أو كادوا — إلى مناقشة اليهود والمعترضين من المسيحيين.
وكانت أكبر حجة للمجادلين أن الله الكامل لا يسأل عن الشر ولا يحبه، وأن الإنسان إذن هو مصدر الخطيئة وعليه وزر جزائها.
وكانت أكبر حجة للمسوغين على مثال ما تقدم في رسالة بولس الرسول وهي الرجوع إلى الأقوال المشابهة لعقائد المسيحيين في كتب أنبياء بني إسرائيل.
ووجد مع هذا من الآباء المسيحيين من أنكر وراثة الخطيئة، وقرر أن الموت نتيجة طبيعية للحياة، وأن الإنسان يموت ولو لم تقع خطيئة آدم، وأن باب الخلاص مفتوح لكل من تلقى نعمة السماء، وآمن بالسيد المسيح، وأشهر هؤلاء القس البريطاني «بلاجيوس» الذي نشأ في أواخر القرن الرابع، وتنقل بين رومة وإفريقية الشمالية وفلسطين، ونادى بدعوته في كل مكان؛ فأنكرتها مجامع المسيحية كلها في ذلك الحين، ومنها مجمع قرطاجنة ومجمع مليف ومجمع أفسس الثالث الذي ختم القرار في هذه المسائل سنة ٤٣١.
وعلى هذا أصبح من الباطل في عرف أصحاب تلك المجامع أن يؤمن المسيحي بأن (١) آدم كان سيموت ولو لم يخطئ. و(٢) بأن خطيئة آدم أصابته وحده، ولم تورث بعد في سلالته البشرية. و(٣) بأن الأطفال المولودين لهم من البراءة ما كان لآدم قبل اقتراف الخطيئة. و(٤) بأن أبناء آدم جميعًا يستحقون البعث لمجرد بعث المسيح. و(٥) بأن الأطفال يستحقون الحياة الأبدية بغير عماد. و(٦) بأن الإنسان قد يخلو من الخطيئة باتباع الوصايا الصالحة، واجتناب الخطايا الممنوعة.
وقد أصدرت هذه المجامع قرارها في عصر القديس أُغسطين الفيلسوف المسيحي المشهور، ولم يشهد واحدًا منها، ولكنه أقرها جميعًا على ما ذهبت إليه، وألف كتابه عن «عقاب الخطيئة وغفرانها»؛ لتوضيح الفكرة من ناحية الدين، ومن ناحية الفلسفة، وخلاصتها: أن آدم كان حرًّا في مشيئة، فقادته هذه الحرية إلى الخطيئة، وأن أبناءه ورثوا عنه الخطيئة، ولكن العدل الإلهي لم يحرمهم وسيلة الخلاص منها؛ وهي كفارة الصليب!
وليس اعتقاد ذلك بالسهل على الذهن الفلسفي ولو كان له إيمان كإيمان القديس «أغسطين» … فلم يزل يلقى من جراء التفكير في هذا الاعتقاد أو في هذه العقدة عنتًا شديدًا عبر عنه في كتاب الاعترافات؛ حيث قال: «ولكنني إلى ذلك الحين، وإن كنت أؤمن بأنك أنت يا ربنا الإله الحق الذي لم يخلق أرواحنا فحسب، بل خلق أجسادنا، ولم يخلق أرواحنا وأجسادنا فحسب، بل خلق جميع الكائنات وجميع الأشياء منزهًا عن النقص والتبدل، وعن كل اختلاف وتحول، إلا أنني لم أكن أفهم بغير مشقة أو غموض سبب وجود الشر في العالم، وأرهقت نفسي لكي أفقه ما كنت قد سمعته من أن الإرادة الحرة كانت هي سبب العمل السيئ منا، وهي سبب آلامنا وأوجاعنا، فلم أقدر على إدراك ذلك إدراكًا جليًّا لا يشوبه الغموض، وكلما حاولت أن أنشل نفسي وأرتفع برؤياي من تلك الهاوية عدت إليها فغرقت فيها، ثم أكرر المحاولة وأكرر العودة إليها، ولكن هذه الجهود رفعتني قليلًا إلى ضيائك حتى عرفت أنني أريد كما أنني أحيا، وأنني عندما أقبل شيئًا أو أرفضه فإنما أنا نفسي الذي أقبل أو أرفض ولا أحد سواي، وبدا لي حينئذ أن هذا هو سبب الخطيئة، وكل ما صنعته على خلاف مشيئتي أدركت إذن أنني أحتمله أكثر مما أفعله، وأنه ليس في الواقع غلطتي، بل عقابي، وأرى لعدلك معترفًا به أنني لم أعاقب ظلمًا وبغير جريرة، إلا أنني أثوب فأقول: ومن الذي خلقني هكذا؟ أليس هو الله الذي لا يوصف بأنه كريم فحسب، بل هو الكرم المحض والخير كله؟ فمن أين لي إذن أن أريد الشر ولا أريد الخير فأعاقب عدلًا بهذا؟ من أودع ذلك طبيعتي وغرس فيها بذور المرارة وقد خلقت بيد الله الحلو الذي لا مرارة فيه؟ وإن كان الشيطان هو السبب فمن أين أتى الشيطان؟ وإن كان ذلك الشيطان أيضًا قد انحدر بطبيعته السيئة من ملك كريم إلى شيطان رجيم فمن أين جاءته تلك المشيئة التي عكست طبيعته فجعلته شيطانًا؟»
ولكنه اعتقد بعد هذا القلق أنه استراح من وسواسه هذا بالتوفيق بين النقائض على النحو الذي قدمناه، وكان مدار راحته النفسية أن سبق العلم بعمل الأخيار وعمل الأشرار صفة لا تنفصل عن الذات الإلهية، وأن الله علم ما سيكون كما سيكون، ولا بد أن يعلمه العلم الصحيح، ويقدر تقديره على حسب علمه المحيط بجميع الكائنات.
وأكبر الفلاسفة الدينيين في المسيحية بعد القديس أغسطين هو القديس توما الأكويني، وهو يوافق أستاذه القديم، ويروي أن الإنسان يقود نفسه، ولا يقاد كما تقاد الدواب، وأن الإرادة تتبع العقل، والعقل من نعم الله على الإنسان، وغاية التقدير عنده كغاية التقدير عند أستاذه أنه علم سابق من الله، ولكنه كان يخالف أغسطين في نصيب الأطفال من الرحمة ويقول: إن الخطيئة أضعفت جانب الخير في الإنسان ولم تطمسه كلَّ الطمس، وأن هذا الجانب هو الذي يعينه على تقبل الكفارة والخلاص.
ولكن قرار الكنائس في هذا الصدد شيء وبحوث الفقهاء من أتباع الكنائس شيء آخر؛ لأنها آراء يدينون بها ويستندون فيها إلى المنطق العلمي قبل استنادهم إلى نصوص الدين.
ولما ظهرت الدعوة الإسلامية نهض المسلمون بالحصة الكبرى في مباحث القضاء والقدر؛ لأنها طُرحت للبحث من جوانب متفرقة يتلاقى فيها أصحاب الدين والتفسير، وأصحاب السياسة والخلافة، وأصحاب العلم والفلسفة، وأصحاب الجدل والمناظرة مع أبناء الأديان الكتابية وغير الكتابية، وقد اختلط بهم المسلمون في كل بقعة من بقاع الدولة الإسلامية.
ولا نحسب أن قولًا من الأقوال في مسألة القدر لم يرد له ذكر بنصه، أو بعد التعديل والتنقيح فيه، على لسان طائفة من طوائف المسلمين، ولكنا نجمل ذلك كله في المذاهب الثلاثة التي ينقسم إليها المتكلمون في كل مسألة من المسائل الكبرى، وهم جماعة الغلاة في الإثبات، وجماعة الغلاة في الإنكار، وجماعة المعتدلين المجتهدين في التوفيق بين هؤلاء وهؤلاء.
أو هم في مسألة القدر خاصة جماعة الجبريين، وجماعة القدريين الذين سموا بهذا الاسم؛ لأنهم يقولون باختيار الإنسان مع القدر خلافًا لما يسبق إلى الذهن من مدلول هذه التسمية، ثم جماعة المعتدلين من أهل السنة المتوسطين، بين القول بالجبر والقول بالاختيار.
وأول القائلين بالجبر في صدر الدولة الأموية جهم بن صفوان وأتباعه ومريدوه.
كانوا يقولون: إن الله خلق العباد وخلق لهم أفعالهم كما خلق لهم أعضاءهم وألوانهم، وزعموا — كما قال الشريف المرتضى — أن ما يكون في العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله فاعله كما فعل لونه وسمعه وبصره وحياته … وأن لله تعالى أن يعذبه من ذلك على ما يشاء ويثيبه على ما يشاء … وكان جهم يقول على ذلك: إن الله خلق في العبد قوة بها كان فعله، كما خلق له غذاء به قوام بدنه، ولا يجعل العبد فاعلًا لشيء على حقيقة الفعل والإرادة.
ومذهب أبي الحسن الأشعري قريب من مذهب جهم بن صفوان؛ لأن خلاصة مذهبه أنه لا تأثير لقدرة العبد في مقدوره أصلًا، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى، ويرى الأشعري أن العبد مكتسب لأفعاله بقدرة يملكها ساعة الفعل ولا تسبقه، ولكنه لا يخرج بذلك عن مذهب الجبر؛ لأنه ينفي قدرة التأثير عن العباد، ويرجع بها إلى تفسير واحد؛ هو إرادة الله.
سأل أستاذه أبا علي الجبائي: ما تقول في ثلاثة إخوة: اخترم الله أحدهم قبل البلوغ، وبقي الاثنان، فآمن أحدهما وكفر الآخر، فأين يذهب الصغير؟ فقال الجبائي: إنه يذهب إلى مكان لا سعادة فيه ولا عذاب … فسأله الأشعري: لماذا يذهب إلى ذلك المكان، وهو لم يأت شرًّا ولا خيرًا؟ فأجابه: إنه اختبر، ولأنه علم أنه لو بلغ لكفر! فقال الأشعري: فقد أحيا أحدهم فكفر، فلماذا لم يمته صغيرًا؟ فسكت الجبائي عن الجواب.
ومراد الأشعري بهذه الأسئلة أنه مهما يقل القائلون في تعليل التفرقة بين أهل الطاعة وأهل العصيان فمرجع ذلك، في النهاية، إلى علة واحدة؛ هي إرادة الله.
ويرى بعض الجبريين المعتدلين أن الفعل، من حيث هو، واقع بقدرة الله، وأنه واقع بقدرة العبد من حيث كونه طاعة ومعصية.
وهذا قريب من نفي صفات الخير والشر والحمد والذم عن جميع الأفعال في حال صدورها من الله؛ لأن الخير والشر إنما يصحان في حق من يزيد وينقص، ومن يتغير ويتبدل، ولكنهما لا يصحان في حق الواحد الأبدي الذي تنزه عن جميعِ الْغِيَرِ، وعن جميع أحوال الاختلاف.
ولكل فريق من أصحاب الأقوال في القدر حججٌ وأسانيدُ من آيات القرآن الكريم يعتمد عليها في إثبات دعواه.
أما القدريون فهم من المعتزلة، ويسمون أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد؛ لأنهم يزعمون أنهم ينفون الظلم عن الله ويقولون بأن الإنسان حر فيما يفعل من خير وشر؛ لأن الله لا يجبره على الشر ثم يعاقبه عليه فيظلمه ويجزيه على غير عمله.
وعند القدريين أن سوء الاختيار الذي علم به الله في سابق علمه الأزلي هو الذي أوجب ما قضى به الله عليهم من طاعة أو عصيان، ولو لم يكن الإنسان قادرًا على الفعل والترك لما وجب التكليف، وهم يفرقون بين الأفعال التي يختار فيها الإنسان كالتحرك يمنة ويسرة، والأفعال التي لا اختيار له فيها كالارتفاع بجسمه في الفضاء بغير رافع، ويؤمنون بأن الله لم يكلف أحدًا فعلًا من هذا القبيل، وإنما التكليف كله من قبيل الأفعال التي تفعل أو تترك بالاختيار.
ولا يخفى أن المعتزلة المتأخرين نظروا في آراء فلاسفة اليونان وعرفوا صفات الله عندهم، ولا سيما صفة الله عند أرسطو معلمهم الأول، وهي صفة المحرك الذي لا يتحرك، أو الإله الخارج عن هذا الكون المحسوس، فلم يجدوا صعوبة في القول بحرية الإنسان وعمله بمعزل عن القضاء والقدر، وإن كان التكليف ينقض رأي أرسطو كما ينقضه القول بالثواب والعقاب.
•••
أما المعتدلون من أهل السنة فيقولون بإرادة الله، ويقولون باختيار الإنسان فيما يقع عليه الجزاء، ولكنهم يفرقون بين الإرادة على الحتم والقسر، والإرادة على الأمر والتكليف.
وكلا القولين إرادة من الله، ولكن إرادة الأمر تجاب بالطاعة أو العصيان، وإرادة الحتم والقسر تنفذ كما قضى بغير خلاف.
ويتفق أهل السنة والمعتزلة على التفرقة بين حركات الجبر وحركات الاختيار في الإنسان فيقولون: إن الإنسان ليس بأقلَّ عقلًا، ولا أقل اختيارًا من الدابة التي يركبها، أو كما قال أبو الهذيل العلاف متهكمًا مفندًا: «إن حمار بشر أعقل من بشر؛ لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته فإنه يطفره، ولو أتيت به إلى جدول كبير وضربته فإنه لا يطفره ويروغ عنه؛ لأنه فرق بين ما يقدر على طفره وبين ما لا يقدر عليه، وبشر لا يفرق بين المقدور له وغير المقدور.»
•••
هذه خلاصة وجيزة لأطراف القول في مسألة القضاء والقدر بين الفرق الإسلامية، ومن البين أن القول الفصل في هذه المسألة الجلي ليس لمذهب واحد من بين جميع المذاهب، ولا نحسب أنه تجمع لمذهب واحد على الإطلاق فيما علمناه وفيما هو شبيه بما علمناه؛ لأن المرجع في سر القضاء والقدر إلى حكمة الله، وحكمة الله تتعلق بالأبد لا ابتداء له ولا انتهاء، ولا تتعلق بهذه الحقيقة أو بتلك الحقيقة في الزمن الذي يحيط به المخلوقات.
وليس من دعوانا هنا ولا من عرضنا أن نأتي بالقول الفصل في مسألة من المسائل التي تتسع لاختلاف الآراء ولا تنتهي إلى قرار؛ لأن الغرض الأول من هذا الكتاب هو تقرير مكان الفلسفة القرآنية من الدعوات الدينية التي تنتظم عليها حياة الجماعات البشرية، ومكان الفلسفة الإسلامية بين تلك الدعوات واضح محدود.
أما مسألة التكليف، فالقرآن يجمع فيها بين القول باستطاعة الإنسان أن يتلقى الأمر والنهي وبتقدير كل شيء، ولا تناقض بين القولين في حكم العقل فضلًا عن حكم الدين.
ولبيان ذلك نفرض كل فرض مستطاع في مسألة التكليف؛ لنرى أي الفروض أحق بالاعتقاد وأولى بالقبول في العقل والضمير.
فإما عالم لا تكليف فيه ولا جزاء.
وإما عالم يتساوى فيه التكليف ويتساوى فيه العمل ويتساوى فيه الجزاء.
وإما عالم يقع فيه التكليف والتقدير على اختلاف كما نرى في اختلاف العالم الذي نحن فيه.
فالعالم الذي لا تكليف فيه ولا جزاء لم يتخيله أحد من أصحاب الأديان، ولا من المفكرين المنكرين.
وقد تخيل أرسطو إلهًا لا تصريف له في الكون ولا شأن له بالخلق في كثير ولا قليل.
وهو إله لا يستقيم الإيمان به من الوجهة الدينية، ولا من الوجهة الاجتماعية، ولا يستقيم الإيمان به من الوجهة الفلسفية على حال من الأحوال.
وإنما قصر أرسطو عمل الإله على الحركة الأولى؛ لأنه اعتقد أن واجب الوجود أشرف الموجودات، وأن أشرف الموجودات يعقل أشرف المعقولات؛ وهو ذاته، فكل تفكير فيما دون ذلك فهو تفكير لا يصح عنده في حق الإله.
فكيف اتفقت هذه الحركة الأولى التي وقف عندها عمل الإله؟ هل جاءت من الكون شوقًا إلى الله؟ أو جاءت من الله تشويقًا للكون إليه؟
لا يستقيم القول على كلا الرأيين؛ فإن كان الكون قادرًا على التحرك فقد بطل القول بالمحرك الأول، وإن كانت الحركة من قبل الله فحركة واحدة كألف حركة، بل كجميع الحركات من أكبر الموجودات إلى أصغر الخليات.
ومع هذا لا تناقض بتة بين تفكيره في الخلق وتفكيره في أشرف الموجودات؛ لأن أشرف وجود هو الوجود الذي يليق بالإله الخالق المنعم القادر على كل شيء، ولن يكون الإله خالقًا بغير خلق، ولا منعمًا بغير إنعام، ولا قادرًا بغير تقدير.
ومهما يقل القائلون باضطرار الإنسان؛ لانطباعه على عمله بحكم الوراثة أو بحكم البيئة أو بحكم المزاج، فهم لا يقولون ببطلان فائدة التكليف على الإطلاق؛ لأن المشاهد أن الإنسان يستسهل الإثم الذي لا عقاب عليه، ويستصعب الإثم الذي يخشى عليه العقاب، وأنه لا يعلم ما ينطوي عليه من القدرة على الإحسان واجتناب الإساءة، فلا يزال بحاجة إلى الحافز والوازع لاستبطان تلك القدرة، واستخراج غاية ما تنطوي عليه.
ونعود بعد هذا وذاك فنقول: إن الإله الذي لا يكلف ولا يصرف، إله ملغي من حساب البشر، فلا يصلح لهم في مجال الإيمان ولا مجال التفكير.
أما العالم الذي يتساوى فيه التكليف، ويتساوى فيه العمل، ويتساوى فيه الجزاء، فليس بعالم موجود.
فالعالم الذي يتساوى فيه كل شيء لا شيء فيه.
لأن «التشيؤ» معناه تمييز شيء عن شيء، ووقوع الاختلاف بين أشياء وأشياء.
ولو تساوت الأشياء لاختلف بها الزمان، ولو تساوى الزمان لما كان هناك معنى لاختلاف شيء منها عن شيء، وهي على تعددها تتشابه في جميع الخصائص وفي جميع الأعمال، وفي جميع الأوقات.
فامتناع الاختلاف بالنسبة للأشياء عدم.
والمساواة بينها على تجدد الاختلاف بينها خلل وظلم ومباينة للمعقول.
فإذا حدث العالم المخلوق فلا بد فيه من اختلاف.
وإذا حدث فيه الاختلاف فلا بد من اختلاف التقدير واختلاف التكليف واختلاف الأعمال.
أما أن نبطل المخلوق، ونبطل ما يلزمه من صفات المخلوق، فمعنى ذلك أن يخلق الله خالقًا مثله في الكمال والدوام بغير ابتداء ولا انتهاء.
وذلك محال.
وأقل ما فيه من فارق أن يكون هناك فضل للإله الخالق على الإله المخلوق.
ثم يلزم من ذلك ما لزم عند أصحاب القول بالعقول العشرة، أو بتوالي الموجودات من واجب الوجود إلى العقل الأول إلى سائر العقول والنفوس التي تتوالى من مصدر إلى مصدر في عالم الإمكان.
فالإله المخلوق سيخلق إلهًا دونه في صفات الكمال، والإله الذي خلقه سيخلق ما دونه حتى ينتهي الأمر إلى مخلوقات كهذه المخلوقات التي نراها على اختلاف كبير في العمل والتقدير.
فالعالم الذي لا اختلاف فيه لا شيء فيه.
والعالم الذي تختلف فيه الأشياء محال أن يتفق فيه التقدير والتكليف.
•••
فلم يبقَ من فروض الإلهية الدينية غير فرض واحد يقبله العقل ويستقيم عليه الاعتقاد؛ وهو فرض الإله الذي يخلق الخلق على اختلاف في التقدير والتكليف.
ولا اعتراض على هذا الفرض الوحيد إلا أن يقال: إن التفرقة بين الناس بقضاء السعادة لقوم وقضاء الشقاوة لآخرين ظلم يناقض صفة العدل التي يتصف بها الإله القدير الرحيم.
ولكنه اعتراض لا يصمد للنظر طويلًا دون أن يتبين له أنه لم يثبت على أساس متين؛ لأن العدل الأعظم هو العدل الذي يناط به قوام الموجودات، ولا قوام للموجودات كما أسلفنا مع المساواة المطلقة في التقدير والتكليف.
ولأن عدل الإله السرمدي إنما يتعلق بالأبد كله، ولا ينحصر في حالة من الحالات التي تتتابع بها الأزمان، وفي مجال الأبد متسع للتصحيح والتعديل، وبقية دائمة للموازنة والمراجعة، وللتسوية بين الأقدار والأطوار، إلى انتهاء مقدور، أو إلى غير انتهاء.
ومن أراد من الأبد أن يحصر حكمته في لحظة واحدة أو في عصر واحد أو كوكب واحد من هذه العوالم — التي لا نعرف عدادها — فقد أخطأ في حكم العقل، ولم يكن قصاراه أنه أخطأ في حكم الدين.
ومع هذا نستطيع أن نلحظ في التقديرات الزمنية بعض الدلائل على الحكمة الأبدية التي تقصر على الإحاطة بها مدارك أبناء الفناء.
فوجود الله لم يحرم الناس حرية كانت تكون لهم بغير وجود الله.
وقد أعطاهم الله حظوظًا من الحرية هي هذه الحظوظ التي يملكونها في هذه الحياة.
ولكن المنكرين قد تعودوا أن يسخروا من هذا القول، وأن يصوغوه في الصيغة التي يحسبونها مواتية للسخرية، التفنيد، فيقولوا: نعم، إن الله قد خلق للناس الحرية … أي أنه اضطرهم أن يكونوا أحرارًا مختارين …
يقولون ذلك ويحسبونه غاية الغايات في السخرية والتفنيد؛ ولو استطاعوا أن يقابلوه بصيغة واحدة تسلم من الإحالة لحق لهم أن يسخروا منه، ولا يطمئنوا إليه.
فإذا كان الله قد اضطر الناس أن يكونوا أحرارًا فقد أصبحوا أحرارًا كما أراد، وهذا هو الذي يعنينا من الحرية كيفما كان السبيل إليها.
ولا مقابل لهذا القول إلا أن يقال: بل ينبغي أن يخلق الناس الحرية لأنفسهم كما يريدون، وأن تطيعهم الأكوان في كل ما أرادوه، وأن تطيع كلًّا منهم على حدة في كل خاطرة تخطر لأحدهم وكل رغبة تهجس في ضمير هذا أو ضمير ذاك.
وليس هذا هو القول الذي ينجو بصاحبه من السخرية والتفنيد؛ لأنه حالة من حالات الوهم، لا تصح في الخيال فضلًا عن صحة التفكير أو صحة الاعتقاد.
ومتى رجعنا إلى الله بخلق الحرية؛ فكيف تكون هذه الحرية التي يخلقها الله؟
أيخلق الله لكل إنسان حرية إله فعال لما يريد؟
ذلك محال.
أم يخلق لهم حرية المساواة في الأقدار والأعمال؟
ذلك أمر لا يقوم به قوام للموجودات في عالم الحدود.
فإذا لم تكن حرية آلهة ولا حرية تنفي الفوارق والأقدار، فهي إذن هذه الحظوظ من الحرية التي رأيناها للخلق في هذه الحياة.
وقد ساء ظنًّا وساء فهمًا من يرى أن الله قد أعطى الخلق قوامه بهذه الحظوظ، وهذه القسم، وهذه الأقدار، ثم يفوته أن قوام الخلق لا ينتهي إلى ظلم واختلال، وهو في ذمة الغيب وذمة الأبد، ولا يمكن أن يكون في الحاضر، ولا في ذمة العلم الذي يحيط به أبناء الفناء.
وعلى هذا يستطيع المسلم أن يؤمن بكل حكم من أحكام القرآن في مسألة القضاء والقدر على تعدد الجوانب التي تناولتها هذه الأحكام؛ لأنه يؤمن عقلًا بأن وجود الله يبطل قيام التكليف، وأن قيام التكليف لا يبطل اختلاف الحظوظ والأقدار، وأن اختلاف الحظوظ والأقدار لا يختم قدرة الله في الأبد الأبيد على تحقيق العدل فيما قضاه.
وهنا محل الإيمان بما يرجع إلى الغيب ولا تحصره الشهادة.
ولكن الإيمان بالغيب إيمانان: إيمان بما لا يعقل، وهو تسليم مزعزع الأساس.
وإيمان بما ينتهي إليه العقل حين يبلغ مداه، وهكذا يكون الإيمان إن كان لا بد من إيمان.
ولا بد من إيمان.