التَّصوف
واختلفوا في أصل التسمية فاستبعد بعضهم اقتباسها من اليونانية، وردوها تارة إلى أهل الصُّفَّةِ، وتارة إلى لبس الصوف، وتارة إلى الصفاء.
ومنهم من قسم التصوف قسمين: قسم يقوم على طلب المعرفة؛ وهو في رأيهم من بقايا مدارس الفلسفة اليونانية، ولا سيما مدرسة الإسكندرية، وقسم يقوم على تصفية النفس بالعبادة والانقطاع عن الدنيا و«الفناء» في الله، ومرجعه إلى أهل الهند الذين يؤمنون «بالنرفانا» ويعتبرونها غاية الغايات في الاتصال بالذات الإلهية.
ومما لا شك فيه أن بعض التصوف دخيل في الإسلام؛ وهو التصوف الذي يقول بالحلول ووحدة الوجود، ويغلب على النساك والمتفلسفة الذين جاوروا الهند، وأطراف البلاد الفارسية.
ومما لا شك فيه كذلك أن تخوم الهند وأطراف البلاد الفارسية كانت أصلح لانتشار بعض الطرق «السرية» التي لا ترضى عنها الدولة ولا سيما في عهد بني أمية؛ فإن الطرق السرية كانت تعلم الناس الإيمان بالإمام المستور، وإنكار السلطان الظاهر، وكان الغضب من السلطان الظاهر على أشده بين «الشعوبيين» أو بين غير العرب من المسلمين؛ لأن العرب استأثروا بدولة بني أمية، وصبغوها بالصبغة القومية، فكان هناك أكثر من عامل واحد لرواج التصوف بين الفرس وأبناء الأمم الإسلامية غير العربية، ومن ثم شاع القول بأن التصوف دخيل على الإسلام من أساسه، وأنه بقية من بقايا الفلسفة الهندية أو اليونانية ولا سيما «الأفلوطونية» وهي مزيج من عبادات مصر وعقائد الهند وفلسفة اليونان.
فالمسلم الذي يقرأ هذه الآيات — وهو مطبوع على التصوف والبحث عن خفايا الآثار ودقائق الحكمة — يجد فيها غناء من الأصول الصوفية، ولا يفوته إذا اكتفى بها أن ينشئ منها مدرسة صوفية إسلامية تلتقي بالمدارس الأخرى في كثير، وتنفصل عنها في كثير، ولكنها لا تنعزل عن لباب التصوف «بالطبع والفطرة» كما يرى بعض المعقبين على الصوفية الإسلامية التي يستمدها المسلم من الدين.
ولكن القرآن حين يفتح للمسلم أبواب الحياة الروحية يحرم عليه أن يوصد بيديه أبواب الحياة الجسدية، وينهاه أن يترك العمل لينقطع عن الدنيا وينسى نصيبه منها.
فالحياة الروحية في الإسلام تجري على سنن القصد الصالح للحياة البشرية، لا استغراق في الجسد، ولا انقطاع عنه في سبيل الآخرة، قوام بين هذا وذاك.
وإذا كان الإسلام قد عرف أناسًا من «النساك» الذين تفرغوا للمطالب الروحية فإنما كان ذلك على سنة التخصص في كل مطلب من مطالب الحياة الإنسانية، ولم يكن من قبيل الإلغاء أو التعطيل لمطلب من هذه المطالب الضرورية.
فليس في تخصيص إنسان لعلم الطب مثلًا إلغاء أو تعطيل لغيره من العلوم الشريفة التي يتم بها قوام المعارف الإنسانية، وليس في التخصص إيجاب واستنكار وإنما هو سبيل التعميم والاستفادة من كل ملكة في الذهن والذوق والروح، ولا يوجب الإسلام التنسك على جميع المسلمين؛ لأن أناسًا منهم تخصصوا له وفضلوه على مطالب الروح أو مطالب الجسد الأخرى، ولكنه يجيزه بالقدر الذي بيناه، وهو القدر الذي لا غنى عنه في تدبير حياة الإنسان.
فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد، ولكنها ينبغي أن تنال، فكيف يمكن أن تنال؟
إنها لا تنال إلا بالتخصص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعًا في التحصيل وألزمنا كل أحد أن تكون له أقساط منها جميعًا على حد سواء.
ولا نقصر القول هنا على الملكات العقلية أو الروحية التي لا يسهل إحصاؤها ولا تحصيلها، ولكنا نعم به هذه الملكات ومعها ملكات الحس والجسد، وهي محدودة متقاربة في جميع الناس.
فهذه الملكات الجسدية — فضلًا عن الملكات العقلية والروحية — قابلة للنمو والمضاعفة إلى الحد الذي لا يخطر لنا على بال ولا نصدقه إلا إذا شهدناه.
وقد رأينا ورأى معنا ألوف من الناس رجلًا أكتعَ يستخدم أصابع قدمه في أشياءَ يعجز الكثيرون عن صنعها بأصابع اليدين؛ يكتب بها، ويشعل عيدان الثقاب، ويصنع بها القهوة ويصبها في الأقداح ويشربها ويديرها على الحاضرين، ويسلك الخيط في سم الإبرة ويخيط الثوب الممزق، ويوشك أن يصنع بالقدم كل ما يصنع باليمنى أو باليسرى.
ورأينا ورأى معنا ألوف من الناس لاعبي البليارد في المسابقات العامة يتسلمون العصا ثم لا يتركونها إلا بعد مائة وخمسين إصابة أو تزيد، ولعلهم لا يتركونها إلا من تعب أو مجاملة للاعبين الآخرين، وهم يوجهون بها الأكر إلى حيث يريدون ويرسلونها بين خطوط مرسومة لا تدخل الأكر في بعضها ولا تحسب اللعبة إذا لم تدخل في بعضها الآخر، بحيث لو قال لك قائل: إن هؤلاء اللاعبين يجرون الأكر بسلك خفي لجاز لك أن تصدق ما يقول.
ورأينا من يقذف بالحربة على مسافات فتقع حيث شاء، ورأينا من ينظر في آثار الأقدام فَيُخْرِج منها أثرًا واحدًا بين عشرات، ولو تعدد وضعه بين المئات، ورأينا من يرمي بالأنشوطة في الحبل الطويل فيطوق بها عنق الإنسان أو الحيوان على مسافة أمتار.
هذه هي الملكات الجسدية المحدودة، وهذه هي آماد الكمال الذي تبلغ إليه بالتخصيص والمرانة والتوزيع.
فما القول إذا حكمنا على الناس جميعًا أن يكسبوا أعضاءهم ملكة من هذه الملكات؟ إننا نخطئ بهذا أيما خطأ ونعطلهم به عن العمل المفيد، ولكننا نخطئ كذلك كلَّ الخطأ إذا حجرنا على إنسان؛ لأنه أتقن ملكة من هذه الملكات الجسدية، ولو جار في نفسه على ملكات أخرى يتقنها الآخرون.
فإذا كنا جاوزنا بالقوى الجسدية حدودها المعهودة بالمرانة والتخصيص، فما الظن بالقوى الروحية أو العقلية وهي لا تتقارب في الناس هذا التقاربَ ولا تقف عند هذه الحدودِ؟
وإذا كان طالب القوة الروحية يؤثرها على جسده فلماذا نلومه، وننحي عليه، ونحن لا ننحي على اللاعب إذا آثر المهارة في اللعب على المهارة في فنون العقل أو الكمال في مطالب الروح؟
إذا لمنا من يجور على جسده؛ لأنه يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين فمن واجبنا أن نلوم كل ذي ملكة وكل ذي عمل وكل ذي فن وكل ذي رأي من الآراء، فما من واحد بين هؤلاء إلا وهو يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين!
ومما لا جدال فيه أن نوازع الجسد تحجب الفكر عن بعض الحقائق الاجتماعية فضلًا عن الحقائق الكونية المصفاة.
ومما لا جدال فيه أن شواغلَ العيشِ وهمومَ الأسرةِ عائق عن بعض مطالب الإصلاح في الحياة اليومية، فضلًا عن الحياة الإنسانية الباقية على مر الدهور.
ومما لا جدال فيه أن طالب القوة الروحية كطالب القوة البدنية، له حق كحق المصارع والملاكم وحامل الأثقال في استكمال ما يشاء من ملكات الإنسان، ولسنا على حق إذا أخذنا عليه أنه جار على جسده أو لذات عيشه؛ لأننا لا نلوم المصارع إذا نقصت فيه ملكة الفن أو ملكة العلم أو ملكة الروح.
لو أصبح كل الناس مصارعين لفسد كل الناس، ولكن لا بد من المصارعة مع هذا، ولا بد من المتفرغين لها إذا أردنا البقاء.
ولو أصبح الناس كلهم متصوفين معرضين عن شواغل الدنيا لفسدت الدنيا وبطل معنى الحياة ومعنى الزهد في الحياة، ولكن لا بد من هذه النزعة في بعض النفوس، وإلا قصرنا عن الشأو الأعلى في مطالب الروح وفقدنا ثمرة «التخصص»، أو ثمرة «القصد الحيوي» الذي ينظم لنا ثروة الروح وثروة العقول وثروة الأبدان.
«القصد الحيوي» مكفول بشريعة القرآن في كل مطلب من هذه المطالب الروحية؛ فهي مباحة لمن يطيقها، وهي لا تفرض على جميع المسلمين.
ولا بد من هذه الإباحة، ولا بد من هذا الإعفاء؛ فإنهما يجريان بالقدر الذي يفيد ويمنع الضرر في كلتا الحالتين.