الأخلاق
قيل في تعليل نشأة الأخلاق: إنها مصلحة اجتماعية تتمثل في عادات الأفراد؛ لتيسير العلاقات بينهم، وهم متعاونون في جماعة واحدة.
فلو انطلق كل فرد في إرضاء نزعاته، وتحقيق منافعه دون غيره، لتعذر قيام الجماعة، وانتهى الأمر بفوات المصلحة الفردية نفسها؛ لتعرض كل فرد لعدوان الآخرين، وعجزه عن تدبير منافعه كلها، وهي تتوقف على أعمال كثيرة موزعة بين الأفراد الكثيرين على اختلاف الصناعات.
ومن هنا وجب على كل فرد أن ينزل عن بعض نفعه ويعدل عن بعض هواه؛ لكي يضمن بهذا النزولِ المختارِ أكبرَ قسطٍ مستطاعٍ من الحرية والأمان.
وليس من اللازم أن يتم هذا النزولُ المختار بالتفاهم والتشاور، أو عن علم سابق بالنتيجة التي يصل إليها المجتمع بعد هذا النزول الإجماعي، الذي يشترك فيه جميع الأفراد.
ولكنه يتم اضطرارًا بعد المحاولة والتجربة وتصحيح الأخطاء بالعبرة والعقاب.
وأيًّا كان مذهب القائلين في تعليل الأخلاق فمما لا مشاحة عليه أن الأخلاق مصلحة اجتماعية، وأن الجماعات تختلف بينها في العادات، وأصول العرف، على حسب اختلافها في أحوال الاجتماع.
لكنك خليق أن تسأل: إذا تعادل خلقان في النفع الاجتماعي ألا يوجد هنالك مقياس نرجع إليه في تفضيل أحدهما على الآخر؟ أليس لحاسة الجمال أو لنزوع الإنسان إلى الكمال شأن في تفضيل بعض الأخلاق على بعض، أو في تمييز بعضها بالاستحسان والإيثار، وبعضها بالمقت والاستنكار؟
إن الوجوه كلها نافعة، بما فيها من الحواس التي تؤدي وظائف الحياة، ولكننا نرى وجهًا واحدًا من بينها يعلو بروعه الحسن على ألوف الوجوه، ويفدى بألوف الوجوه، ولعله من جانب المنفعة التي تستفيدها وظائف الجسم أقل من تلك الوجوه في بعض المزايا، وأحوج منها إلى العلاج والتصحيح.
فهل يدخل اعتبار الجمال إلى جانب المنفعة في وصف الجسد الإنساني، ولا يحسب له اعتبار في خصائص النفس، أو خصائص المزاج؟
وهل نعتبر كل إعجاب بخلق من الأخلاق ميزانًا حسابيًّا للمنفعة والخسارة، وتقديرًا تجاريًّا لصفقة من الصفقات؟
وهل يروعنا كل خلق بمقدار ما ينفعنا، سواء نظرنا إلى المنفعة المعلومة المحسوبة، أو نظرنا إلى المنفعة التي تتحقق على طول الزمن في أطوار الاجتماع؟
لا بد أن يخطر على البال أن «لحاسة الجمال» شأنًا هنا كشأنها في الإعجاب بمحاسنِ الأجسام، بل كشأنها في الإعجاب بمحاسن الجماد، أيًّا كان القول في أصل الشعور بالجمال.
•••
وقيل في تعليل نشأة الأخلاق: إنها ترجع إلى مصدرين في كل جماعة بشرية لا إلى مصدر واحد، وإنها ترجع إلى مصلحتين لا إلى مصلحة واحدة، وقد تكون إحداهما على نقيض الأخرى فيما تمليه وفيما تستمليه.
قيل: إنها ترجع في ناحية منها إلى مصلحة السادة، وترجع في ناحية أخرى إلى مصلحة العبيد، وقد يقولون: أخلاق الأقوياء والضعفاء، بدلًا من أخلاق السادة والعبيد.
والمُرجَّح أن التفرقة بين أخلاق الكرام الأحرار، وبين أخلاق اللئام الهجناء، ملحوظ فيها هذا المعنى في اللغة العربية بين العرب الأقدمين، فكانوا يفهمون من وصف الأخلاق بالكريمة أنها أخلاق السادة الأحرار، ومن وصفها باللئيمة أنها أخلاق قوم ليست لهم أعراق، وليس لهم خلاق.
وأحدث القائلين بهذه التفرقة بين المفكرين من الأوروبيين فردريك نيتشه المعروف بمذهبه المشهور عن «إرادة القوة» التي يعارض بها الاكتفاء بمجرد إرادة الحياة، وهي قوام أخلاق الضعفاء ممن لا مطمع لهم فيما وراء عيش الكفاف أو عيش الأمان.
ولكن ما هي الأخلاق القوية؟ هل هي أن يفعل القوي ما يشاء؛ لأنه قادر على أن يفعله، ولأن الضعفاء عاجزون عن صده والوقوف في سبيله؟
وهل كل ما يفعله الأقوياء خلق حميد محبوب؟
وإذا قلنا: إن أخلاق القوة هي أخلاق القوي أمام الضعفاء، فما هي أخلاق القوي أمام القوي مثله؟ وما هو الضابط الذي يجعل للقوي عملًا يليق به وعملًا آخر لا يليق؟
قديمًا فسر هوبس الفيلسوف الإنجليزي كلَّ خلق حميد بأنه قوة أو دليل على قوة.
فالصبر قوة؛ لأن الضعيف يجزع، ولا يقوى على الصبر والاحتمال.
والكرم قوة؛ لأن الكريم يثق من قدرته على البذل، ويعطي من هو محتاج إلى عطائه وهو ضعيف.
والشجاعة قوة؛ لأنها ترفض الجبن والاستخذاء.
والعدل قوة؛ لأنه غلبة الإنسان العادل على نوازع طمعه ودوافع هواه.
والعفة قوة؛ لأنها تقاوم الشهوة والإغراء.
والحلم قوة؛ لأنه مزيج من الصبر والثقة، وقد ينطوي على شيء من الترفع والاستخفاف بالمسيء.
والرحمة قوة؛ لأنها إنقاذ لمن يستحق الرحمة من المرضى أو العجزة أو الصغار الموكولين إلى رعاية الكبار.
وقس على ذلك كل خلق حميد نفسره على هذا النحو من التفسير.
وفحواه أن القوي تحمد منه أعمال ولا تحمد منه أعمال، وأيًّا كان الظن بصواب هذه الفحوى أو هذا التفسير فليس في وسع أحد أن يقول: إن القوي يفعل ما يشاء ويندفع مع قوته كما يشاء، وإن كل ما يفعله وكل ما يندفع إليه حميد جميل.
فما هو الضابط إذن للأخلاق القوية؟ أهو الاستطاعة؟ أكل ما يستطيعه القوي حميد، وكل ما لا يستطيعه ذميم؟ إن معنى هذا إبطال مذهب القوة من أساسه، والرجوع به إلى العجز وقلة الاستطاعة في خاتمة المطاف.
ولماذا يشاء القوي أمرًا، ولا يشاء أمرًا آخر؟ لأنه يشاء ما يليق، أو يشاء ما يقدر عليه، أو يشاء بلا ضابط من القدرة واللياقة؟
كل ذلك لا تفسره كلمة «القوة» وحدها، ولا تغني فيه عن تفسير يقترن بالقوة، ويميز لنا ما هو جميل من أعمالها، وما هو شائن قبيح.
ونعود إلى مذهب المنفعة في الأخلاق، فنسأل: هل نرتضي أخلاق الجزع، أو أخلاق الغدر، أو أخلاق المشاكسة، ولو لم يكن لها علاقة بمصالح الاجتماع؟
أليس في رؤية الرجل الجزوع قبح تنفر منه النفس، ولو كانت فيه سلامة صاحبه، ولم يكن للخلق في ذاته علاقة بالفضائل الاجتماعية؟
أليس لنا مقياس آخر، غير مقياس المنفعة الاجتماعية، أو مقياس التفرقة بين الأقوياء والضعفاء؟
بلى، هناك مقياس لا بد من الرجوع إليه في جميع هذه الأحوال؛ وهو صحة النفس، وصحة الجسد على السواء.
فالنفس الصحيحة تصدر عنها أخلاق صحيحة، والجسد الصحيح يصدر عنه عمل صحيح، أيًّا كان أثر الأخلاق والأعمال في حياة الجماعة، أو حياة الأفراد.
إن القوي الذي يفعل ما يشاء ليس بصحيح؛ لأن النفس الصحيحة لا تنطلق كما تنطلق الآلة التي تملؤها قوة البخار، أو قوة الكهرباء، فتصدم وتهشم، وتخبط خبط عشواء؛ حيث تحملها القوة العمياء.
لا صحة بغير ضابط أيًّا كان حكم الاجتماع ومطلب الاجتماع.
وكل ضابط معناه القدرة على الامتناع، ورد النفس عن بعض ما تشاء، وليس معناه القدرة على العمل فحسب، ولا المضي مع النفس في كل ما تشاء.
وهذا قبل كل شيء هو مصدر الجمال في الأخلاق؛ مصدره أن القوة النفسية أرفع من القوة الآلية. مصدره أن يتصرف الإنسان كما يليق بالكرامة الإنسانية، ولا يتصرف كما تحمله القوة الحيوانية، أو القوة التي يستسلم لها استسلامَ الآلات.
مصدره أن يكون الإنسان سيد نفسه، وأن يعلم أنه يريد فيعمل أو يمتنع عن العمل، وليس قصاراه أنه يساق إلى ما يراد.
إن المجتمع قد يملي على الإنسان ما يليق وما لا يليق، ولكنه لا يغنيه عن هذا الضابط الذي تناط به جميع الأخلاق، كما تناط به حاسة الجمال؛ لأنه دليل على صحة التكوين، وخلو النفس من الخلل والتشويه.
وبهذا الضابط الذي لا غنى عنه في كل خلق من الأخلاق يتحدى الإنسان فرائض المجتمع كله إذا فرضت عليه ما ينفر منه طبعه، أو يجرح فيه حاسة الجمال، وسليقة الشوق إلى الكمال، فيعلو على المجتمع في كثير من الأحيان، ولا يكون قصاراه أن ينقاد لما يمليه عليه، بل يخلق الآداب الاجتماعية الجديدة، ولا يكون في أعماله ومقاييسه مخلوقًا للمجتمع في جميع الأحوال.
مصدر الجمال في الأخلاق هو أن يشعر الإنسان بالتبعة، وأن يدين نفسه بها؛ لأنه يأبى أن يشين نفسه، ويعتبر «الشين» غاية ما يخشاه من عقاب.
مصدر الأخلاق الجميلة هو «عزم الأمور» كما سماه القرآن، وهو مصدر كل خلق جميل حثت عليه شريعة القرآن.
•••
فالشخصية الإنسانية ترتقي في الجمال الأخلاقي، كلما ارتقت في الاستعداد «للتبعة» ومحاسبة النفس على حدود الأخلاق.
وليس للتفاوت في جمال الخلق مقياس أصدق من هذا المقياس، ولا أعمَّ منه في جميع الحالات، وفي جميع المقابلات بين الخصال المحمودة، أو بين أصحاب تلك الخصال.
وقد ألمعنا إلى ذلك في كتابنا «هتلر في الميزان»؛ حيث قلنا: إن «مقاييس التقدم كثيرة، يقع فيها الاختلاف والاختلال … فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تُتَاحُ السعادةُ للحقير، ويُحْرَمُهَا العظيمُ، وإذا قسناه بالغنى؛ فقد يغنى الجاهل، ويفتقر العالم، وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشائخة، وتجهل الأمم الوثيقة الفتية، إلا مقياسًا واحدًا، لا يقع فيه الاختلاف والاختلال، وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة؛ فإنك لا تضاهي بين رجلين، أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته، والاضطلاع بحقوقه وواجباته، ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر، والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول، وكل فاضل على اختلاف أوجه التفضيل».
وما من خصلة حث عليها القرآن إلا كان تقدير جمالها بمقدار نصيبها من الوازع النفساني، أو بمقدار ما يطلبه الإنسان من نفسه، ولا يضطره أحد إلى طلبه.
فالحق الذي تعطيه، ولا يضطرك أحد إليه هو من أجمل الحقوق، وأكرمها على الله، وأخلقها بالفضيلة الإنسانية.
فلا قدرة للمسكين، ولا لليتيم، ولا للأسير على تقاضي الحق، فضلًا عن تقاضي الحسنة المختارة، ولا يحث القرآن على البر بأحد كما يحث على البر بهؤلاء وأمثال هؤلاء.
ولا تحسب على الأمة لعنة تحيق بها، وتستحق النكال من أجلها كلعنة التهاون في رعاية اليتامى والمساكين.
وأحب البر بالوالدين هو البر بهما حين يضعفان، أو حين يعجزان عن التأديب والجزاء.
ولا يرجع هذا إلى ضعف صاحب الحق في الرحمة والإحسان، بل إلى مرجع الفضل كله من النفس الإنسانية؛ وهو ضبط النفس، وملك زمامها، وعزم الأمور، واتخاذ الوازع منها حين لا وازع من غيرها.
فالعدو القوي المقاتل له في هذه الفضيلة حق كحق الضعيف المستسلم الذليل.
وغني عن التفصيل أن الفضائل المثلى التي يحض عليها القرآن هي الفضائل التي تُرفع إلى هذا المصدر وتجري في نسقه وتجمل بمن يروض نفسه على هذا الوازع ويحاسب نفسه هذا الحساب.
فالصبر، والصدق، والعدل، والإحسان، والمحاسنة، والأمل، والحلم، والعفو هي مثال الكمال الذي يطلبه لنفسه من يزع نفسه، ويختار لها أحسن الخيرة، ويأبى لها أن يهبط بها مكانًا دون مكان الجميل الكامل من الخصال ومن الفعال.
وهذا الأدب بعينه هو الذي يملي على الكبير أن يتواضعَ للصغير، ويملي على الصغير أن يحفظ مكانة الكبير، ويملي على الكبار والصغار أجمعين أن يتجنبوا الإساءة، ويتعمدوا المحاسنة، وأن يأخذ بعضهم بعضًا بالرفق والأدب وطيب العشرة وإحسان المقال.
وجماع هذه الأخلاق كلها هو تلك الصفات التي اتصف بها الخالق نفسه في أسمائه الحسنى، وكلها مما يحمد للإنسان أن يروض نفسه عليه، وأن يطلب منه أوفى نصيب يتاح للمخلوق المحدود، فيما عدا الصفات التي خص بها الخالق دون سواه.
•••
وإن المسلم ليؤمن بمصدر هذه الأخلاق المثلى، ويؤمن بأنها جميعًا مفروضة عليه بأمر من الله.
ولكن المسلم وغير المسلم يستطيعان أن يقولا معًا: إنها صفات لا ترجع إلى مصدر غير المصدر الإلهي، الذي تصدر منه جميع الأشياء؛ لأن مناطها الأعلى لم يتعلق بمنفعة المجتمع، ولا باستطاعة القوة، ولا بالقانون والسلطان، ولكنه تعلق بما في الإنسان من حب للجمال وشوق إلى الكمال، وكلاهما نفحة من الخالق يهتدي بها الأحياء عامة في معارج الرفعة والارتقاء.