تجربة جامعة كاينبلاتس الكبرى
مِن بين كل العلوم التي حيَّرت بني آدم، كان علم النفس والعلاقات غير واضحة المعالم التي تربط بين العقل والجسد هي أكثر ما جذب البروفيسور العلَّامة فون بومجارتن. ونظرًا لكونه عالِم تشريحٍ شهيرًا، وكيميائيًّا مُتبحِّرًا، ومن أوائل علماء الفسيولوجيا في أوروبا، فقد أراحه أن ينصرف عن هذه العلوم، وأن يستخدم هذه المعرفة المتنوِّعة في تحقيق أثر في دراسة الرُّوح والعلاقات الغامضة بين الأرواح. في بادئ الأمر، عندما بدأ وهو شاب يخوض في أسرار التنويم المغناطيسي، بدا كأن عقلَه يَهيم في أرض غريبة ليس بها سوى الفوضى والظلام، خلا أنه من آنٍ لآخر كانت تتلألأ أمامه حقيقة مستقلَّة لا يُمكن تفسيرها. إلا أنه مع مرور السنوات وازدياد مخزون المعرفة القيِّم لدى البروفيسور، بدأ كثير من الأمور التي بدت غريبة وغير ممكنة التفسير تتضح معالمه أمام ناظرَيه؛ فالمعرفة تولِّد المعرفة مثلما يولِّد المالُ المالَ. وأصبحت تيارات الفكر الجديدة مألوفة بالنسبة له، وأدرك صلاتٍ تربط بين أمور كانت غير مفهومة ومثيرةً للدهشة. ومن خلال تجارب امتدت لمدة تزيد على عشرين عامًا أصبحت لديه قاعدة من الحقائق، طمح إلى أن يؤسِّس عليها علمًا دقيقًا جديدًا يجمع بين التنويم المغناطيسي والروحانية وكل الموضوعات المشابهة. بالإضافة إلى ذلك، فإن معرفتَه التفصيلية بالأجزاء الشديدة التعقيد في علم فسيولوجيا الحيوان، الذي يتناول التيارات العصبية وعمل الدماغ، قد ساعدته كثيرًا؛ حيث كان أليكسيس فون بومجارتن أستاذًا جامعيًّا يَشغل أحد الكراسي الملَكية في جامعة كاينبلاتس في مادة الفسيولوجيا، وفي متناوله كل موارد المُختبَر اللازمة لمساعدته في إجراء أبحاثه العميقة.
كان البروفيسور فون بومجارتن طويلًا ونحيلًا، ذا وجه نحيف وعيون رمادية قاتمة، لامعة وثاقبة على نحوٍ مميَّز. ومن كثرة التفكير كان يُقطِّب جبينه ويضمُّ حاجبَيه الكثيفَي الشعر، فكان يبدو عابس الوجه دائمًا؛ مما جعل الناس يَنخدعون كثيرًا في شخصيته؛ إذ كان رقيق القلب على الرغم من مظهره الصارم. وكانت له شعبية بين طلابه الذين كانوا يتجمَّعون حوله بعد المحاضرات ويَستمعون بحماس إلى نظرياته الغريبة. وكان في كثير من الأحيان يطلب متطوِّعين من بين الطلاب ليُجري عليهم بعض التجارب، وفي نهاية الأمر لم يبقَ طالبٌ في الصف لم يدخل في يوم من الأيام في غشية تنويم مغناطيسي على يد البروفيسور.
لم يكن من بين متطوعي العلم الشباب من يُضاهي حماسة فريتس فون هارتمان. ولطالَما وجد زملاؤه الطلاب أنه من الغريب أن يُكرِّس فريتس، ذلك الشاب الجامح والمتهوِّر والجريء المولود في راينلاند، هذا الوقت والجهد لقراءة أعمال معقَّدة ولمساعدة البروفيسور في تجاربه الغريبة. إلا أن فريتس كان في حقيقة الأمر ماكرًا وداهية؛ فقبل أشهُر وقع في حب ابنة المحاضر؛ إليزا، الشابة ذات العينَين الزرقاوَين والشعر الأصفر. وعلى الرغم من أنه نجح في أن يَجعلها تعترف بأنها مهتمَّة بتودُّده لها، فإنه لم يجرؤ مُطلقًا على التقدم لعائلتها كعريسٍ رسمي؛ ومن ثم كان سيجد صعوبة في رؤية الفتاة لو أنه لم يتَّخذ مساعدته للبروفيسور ذريعةً لذلك. وبهذه الطريقة كان يُدعَى بشكل مُتكرِّر إلى منزل العجوز؛ حيث وافقَ بمحض إرادته على أن يُجري عليه البروفيسور أي تجربة بأيِّ طريقة ما دام سيحظى بنظرة مبهجة من عيون إليزا أو بلمسة من يدها الصغيرة.
كان الشاب فريتس فون هارتمان على قدرٍ كافٍ من الوسامة، وكان أيضًا سيرث ثروةً كبيرة بعد وفاة والده. وعلى الرغم من أن كثيرًا من الناس سيجدونه عريسًا مناسبًا؛ فقد كانت السيدة زوجة البروفيسور تَنزعج من وجوده في المنزل، وتوبِّخ زوجها في بعض الأحيان لأنه سمح لهذا الذئب بأن يَحوم حول حَمَلهم. في حقيقة الأمر، كانت سُمعة فريتس سيئة في جامعة كاينبلاتس؛ فلا يوجد شغب أو مشاجرة، أو أي مصيبة يجري تخطيطها إلا وكان الشاب الراينلاندي قائدًا لها. لم يكن أحد يفوق هذا المتطوِّع الوحيد لهذه التجارب في استخدام الألفاظ النابية، ومعاقرة الخمر، والمداومة على لعب القمار، وإضاعة الوقت. ولا عجب إذًا في أن زوجة البروفيسور الصالحة وضعت الفتاة تحت جناحها، وتوجَّست من نوايا متطوع التجارب البغيض. أما بالنسبة للمُحاضر البارز، فقد كان منشغلًا بدراساته الغريبة على نحوٍ منعَه من تكوين أي رأيٍ بخصوص هذا الشاب الخاضع للتجارب.
على مدار سنين كثيرة ظلَّ سؤالٌ واحد يفرض نفسه باستمرار على أفكار البروفيسور. كانت كل تجاربه ونظرياته تدور حول فكرة واحدة، وكان البروفيسور يتساءل مائة مرة في اليوم عمَّا إذا كان من الممكن أن تبقى الرُّوح البشرية خارج الجسم لفترة ثم تعود إليه مرةً أخرى. وعندما خطرت هذه الاحتمالية على باله لأول مرة رفضها عقلُه العلمي؛ فهي تتعارض بشدة مع الأفكار والآراء التي اكتسبها من تعليمه السابق. إلا أنه عندما توغَّل في طريق البحث الأصلي تَحرَّر عقله تدريجيًّا من أغلاله القديمة، وأصبح مستعدًّا لمواجهة أي استنتاج قد يوفِّق بين الحقائق. وقد كانت هناك أمورٌ كثيرة جعلته يعتقد في إمكانية انفصال العقل عن الجسم المادي. وفي النهاية ظنَّ أنه من خلال تجربة جريئة ومُبتكَرة يُمكن أن تُحسَم هذه المسألة على نحوٍ قاطع.
في مقالته الشهيرة، التي فاجأت المجتمع العلمي كله، عن الكيانات غير المرئية، ونشرتها في ذلك الوقت الدورية الطبية الأسبوعية الصادرة عن جامعة كاينبلاتس ذكر ما يلي: «من الواضح أنه — في ظل ظروف معينة — يمكن أن تنفصل الروح أو العقل عن الجسد، وفي حالة الشخص المنوَّم مغناطيسيًّا يرقد الجسم في حالة جمود، في حين تغادره الروح. قد تَردُّ بأن الروح موجودة لكنها في حالة نوم. وسأُجيبك بأن الأمر ليس كذلك، وإلا فكيف يمكن تفسير ظاهرة الجلاء البصري التي أصبحت سيئة السُّمعة بسبب خداع بعض المُحتالين؟ لكن يمكن بسهولة إيضاح أنها حقيقة لا شك فيها. ومن خلال إجراء تجربة على شخص يتسم بالدقة تمكنتُ بنفسي من الحصول على وصفٍ دقيق لما كان يحدث في غرفةٍ أخرى أو في منزلٍ آخر. فكيف يمكن تفسير هذه المعلومات دون فرضية مغادرة رُوح الشخص الخاضع للتجربة لجسده، وتجوُّلها عبر الفضاء؟ وتُستدعَى الروح للحظةٍ من قِبَل مُجري التجربة؛ لتصف ما رأته ثم تطير مرة أخرى عبر الهواء. ونظرًا لأن الروح بطبيعتها غير مرئية، فلا يمكننا رؤية قدومها وذهابها، لكننا نرى تأثيرها في جسد الخاضع للتجربة، فهو تارةً متصلِّب وغير قادر على الحركة، وتارةً أخرى يكافح من أجل وصف صورةٍ منطبعة في ذهنه لم تكن لتأتي له بطرق طبيعية. ولا يسعني سوى أن أرى طريقة واحدة يمكن من خلالها إثبات هذه الحقيقة؛ فعلى الرغم من أننا في أجسادنا عاجزون عن رؤية هذه الأرواح، فإن أرواحنا في حالة انفصالها عن الجسد ستكون مُدركةً لوجود الأرواح الأخرى. ولذلك، وباختصار فأنا أنوي تنويم أحد الطلبة مغناطيسيًّا. وبعد ذلك سأُنوِّم نفسي مغناطيسيًّا بطريقة أصبحَت سهلة بالنسبة لي. وعندها إذا ثبتَت صحة نظريتي فلن تجد رُوحي صعوبةً في لقاء روح الطالب والتواصل معه؛ لأن كلتَيهما انفصلتا عن جسديهما. وآمل أن أتمكَّن من الإعلان عن نتيجة هذه التجربة المثيرة في وقتٍ قريب في دورية كاينبلاتس الطبية الأسبوعية.»
عندما وفَّى البروفيسور البارع بوعده أخيرًا، ونشر سردًا لما حدث، كان السرد غاية في الغرابة لدرجةٍ تسبَّبت في حالة عامة من عدم التصديق. وكانت تعليقات بعض الصحف على الموضوع مسيئة للغاية لدرجة جعلت العالِم الغاضب يُعلن أنه لن يفتح فمه ثانيةً، أو يشير إلى الموضوع بأيِّ طريقة، وقد التزم بهذا الوعد بمنتهى الوفاء. ورغم ذلك، فإن أحداث هذه القصة قد جُمعت من مصادر موثوقة تمامًا، ويمكن الاعتماد على الوقائع المذكورة باعتبارها صحيحة في جوهرها.
بعد فترة قصيرة من تصوُّر البروفيسور فون بومجارتن لفكرة التجربة السالفة الذكر، كان يسير ذات مرة غارقًا في تأمُّلاته في طريق العودة إلى المنزل بعد قضاء يوم طويل في المختبر، فقابل مجموعة من الطلبة الصاخِبين الذين خرجوا للتوِّ من إحدى الحانات. وكان في مقدمتهم الشاب فريتس فون هارتمان شبه سكران وفي حالة صخب شديدة. كاد البروفيسور يَتجاوَزهم لولا أن جرى إليه ذلك الطالب واعترض سبيله قائلًا:
«مهلًا أيها المعلم العظيم.» وأمسك الرجلَ العجوز من كُمِّه وسار به عدة خطوات على الطريق واستطرد قائلًا: «ثمة شيء أريد أن أقوله لك، ومن الأسهل بالنسبة لي أن أقوله الآن والجِعَّة الفاخرة تطنُّ في رأسي مقارنةً بأي وقت آخر.»
سأله الفسيولوجي وهو ينظر إليه بدهشة: «وما هو يا فريتس؟»
«سمعتُ أيها السيد أنك على وشك إجراء تجربة رائعة تأمُل فيها أن تُخرج رُوح إنسان من جسده ثم تعيدها إليه مرةً أخرى. أليس كذلك؟»
«هذا حقيقي يا فريتس.»
«وهل فكَّرتَ سيدي العزيز في أنك قد تجد صعوبة في العثور على شخصٍ تنفذ عليه هذه التجربة؟ يا إلهي! لنفترض أن الرُّوح خرجتْ ولم تَعُد. ستكون هذه مصيبة. من يمكن أن يُقدِم على هذه المخاطرة؟»
قال البروفيسور في انزعاجٍ كبير من نظرته للموضوع: «لكنني يا فريتس اعتمدتُ على مساعدتك لي في التجربة. أنت لن تتخلى عني بالتأكيد. فكِّر في الشرف والمجد.»
فصاح الطالب في غضب: «لن أُفكِّر في هذا الهُراء! هل سيكون هذا ما أجنيه دومًا؟ ألم أقف لساعتَين على عازل زجاجي وأنت تُوصِّل قدرًا كبيرًا من الكهرباء إلى جسمي؟ ألم تحفز أعصابي الهائجة، ألم تدمر عملية الهضم عندي بتوصيل تيار مباشر حول معدتي؟ لقد نوَّمتني مغناطيسيًّا أربعًا وثلاثين مرة، وعلى ماذا حصلتُ مقابل كل ذلك؟ لا شيء. والآن تريد أن تأخذ روحي مثلما تخرج التروس من الساعة. هذا أكبر مما يستطيع تحمُّله مخلوق من لحمٍ ودم.»
ردَّ البروفيسور في ضيق كبير: «يا عزيزي، يا عزيزي، هذا حقيقي جدًّا يا فريتس. أنا لم أفكِّر فيه من قبل. أخبرني فقط كيف يُمكنني أن أعوضك وستجدني جاهزًا ومستعدًّا.»
قال فريتس في جدية: «استمع إذًا، إذا تعهدتَ أنَّني بعد هذه التجربة يُمكنني الزواج من ابنتك فسأكون مستعدًّا لمساعدتك، لكن إن لم تفعل، فلن يكون لي علاقة بالأمر. هذا هو شرطي الوحيد.»
تساءل البرفيسور بعد لحظة دهشة: «وماذا ستقول ابنتي عن ذلك؟»
فأجاب الشاب: «سترحِّب إليزا بذلك؛ إننا مُتحابَّان منذ وقت طويل.»
أجاب الفسيولوجي بحزم: «إذًا ستكون لك؛ لأنكَ شاب طيب القلب، ومن أفضل الخاضعين للتجارب العصبية الذين عرفتهم، ولكن عندما لا تكون تحت تأثير الكحول. سأُنفِّذ تجربتي في الرابع من الشهر القادم. ستأتي إلى المختبر الفسيولوجي في الساعة الثانية عشرة. وسيكون حدثًا جللًا يا فريتس؛ إذ سيأتي فون جروبن من ينا، وسيأتي هينترشتاين من بازل، أبرز العلماء في كل جنوب ألمانيا سيكونون هناك.»
ردَّ الطالب باقتضاب: «سأَصل في الموعد المحدد.» ومن ثمَّ افترقا. سار البروفيسور نحو بيته بخطوات مُتثاقلة يفكر في الحدث القادم العظيم، بينما أخذ الشاب يترنَّح على طول الطريق خلف رفاقه الصاخبين، ولا يَشغل باله سوى إليزا ذات العينين الزرقاوين، والصفقة التي أبرمها مع والدها.
لم يُبالغ البروفيسور عندما تحدَّث عن الضجة التي أثارتها التجربة السيكولوجية الجديدة؛ فقبل حلول الساعة المحددة كانت الغرفة تعجُّ بكوكبة من المواهب؛ فبالإضافة إلى الشخصين الشهيرين اللذين ذكرهما، جاء من لندن البروفيسور لاتشر الذي اكتسب شهرته من أطروحته المميزة عن المراكز الدماغية. وجاء العديد من الشخصيات البارزة في المجتمع الرُّوحاني من مسافات بعيدة؛ لحضور هذا الحدث، كما جاء أيضًا كاهن من أتباع سفيدنبوري اعتقد أن هذه الوقائع قد تُلقي الضوء على مُعتقَدات جماعة الصليب الوردي.
صاحَب ظهورَ البروفيسور فون بومجارتن والشخص الخاضع للتجربة على المسرح تصفيقٌ كبير من الحشد البارز. ومن خلال كلمات مُنتقاة بعناية أعرب المُحاضر عن أفكاره والطريقة المقترَحة لاختبارها؛ فقال: «أعتقد أن الشخص عندما يكون تحت تأثير التنويم المغناطيسي تُغادر روحُه جسدَه في ذلك الوقت، وأتحدى أن يُقدِّم أيُّ شخصٍ فرضيةً أخرى تفسر حقيقة الجلاء البصري؛ ولذلك بعد أن أنوِّم صديقي الشاب مغناطيسيًّا، ثم أُدخِل نفسي في غشية، أتمنى أن تتمكَّن رُوح كلٍّ منا من التواصل رغم بقاء جسدَينا في ثبات وبلا حراك، وبعد فترة سوف تَستأنف الطبيعة سيطرتها، وستعود كل روح لجسدها، وستكون كل الأمور كما كانت في السابق. وبعد إذنكم الكريم سوف نبدأ إجراء التجربة الآن.»
تجدَّد التصفيق عند هذا الكلام، ثم سكن الجمهور في صمت يشوبه الترقُّب. وبحركاتٍ سريعة قليلة من يد البروفيسور خضع الشاب للتنويم المغناطيسي، وغاصَ بظهره في الكرسي شاحبًا ومتصلِّبًا. ثم أخرج البروفيسور كُرةً زجاجية برَّاقة من جيبه، وركز نظره عليها، وبذل جهدًا ذهنيًّا قويًّا، ونجح في إدخال نفسه في الحالة نفسها. وكان من الغريب والمؤثر رؤية العجوز والشاب جالسَين جنبًا إلى جنب في حالة التصلُّب نفسها. وكان السؤال الذي طرَح نفسه على كل المشاهدين هو: هل غادرتِ الرُّوحان جسديهما؟
مرَّت خمسُ دقائق، ثم عشرُ دقائق، ثم خمس عشرة دقيقة، ثم خمس عشرة دقيقة أخرى، وما زال البروفيسور وطالبه يجلسان في تخشُّب وتصلُّب على المنصة. وخلال هذا الوقت لم يُسمَع أي صوت من العلماء المجتمعين، بل كانت أعينُهم مركَّزة على هذَين الوجهين الشاحبَين بحثًا عن أُولى علامات العودة إلى الوعي. ولم يحصل المشاهدون الصابرون على مرادهم إلا بعد أن مرَّ ما يقرب من ساعة؛ فقد ظهر احمرارٌ خفيف على وجنتَي البروفيسور فون بومجارتن؛ إذ كانت الرُّوح في طريق العودة إلى مسكنها الأرضي. وفجأةً مدَّ ذراعيه الطويلتين الرفيعتَين كما لو كان يُفيق من النوم، وأخذ يحكُّ عينيه، ونهض من الكرسي ونظر حوله كما لو كان لا يُدرك أين هو. وتفوَّه بأبشع الشتائم في جنوب ألمانيا على نحوٍ أصاب الجمهور ببالغ الدهشة وأثار اشمئزاز الكاهن. قال البروفيسور: «اللعنة! أين أنا بحقِّ الجحيم، وما الذي حدث؟ آه … حسنًا، تذكرت الآن. إنها إحدى تجارب التنويم المغناطيسي العبَثية. لا فائدة منها في هذه المرة؛ لأنني لا أتذكر شيئًا على الإطلاق منذ أن فقدتُ الوعي؛ لقد قطعتم كل هذه الرحلة الطويلة سُدًى أيها الأصدقاء الجهابذة، الأمر كله مجرد مُزحة! ومزحة جيدةً حقًّا.» وهنا انفجر أستاذ الفسيولوجيا في نوبة من الضحك، وأخذ يَضرب فخذه بطريقة غاية في الفجاجة. استشاط الجمهور غضبًا من هذا السلوك الوَقِح من جانب مُضيفهم، وكادت تحدُث بلبلة كبيرة لولا التدخل الحكيم من الشاب فريتس فون هارتمان الذي أفاق من سباته لتوِّه. وتقدَّم الشاب متصدِّرًا المنصة واعتذر عن سلوك زميله قائلًا: «يؤسفني أن أقول إنه شخصٌ طائش على الرغم من أنه بدا غاية في الجدية في بدء هذه التجربة. إنه ما زال يُعاني من أثر التنويم المغناطيسي، ولا يكاد يكون مسئولًا عن كلماته. أما بالنسبة للتجربة نفسها فأنا لا أَعتبرها فاشلة. من الممكن جدًّا أن تكون رُوحانا قد تواصلتا مكانيًّا خلال هذه الساعة، لكن للأسف الذاكرة الجسدية الجمعية مُنفصلة عن الروح، ولا يمكننا تذكُّر ما حدث. سأُكرِّس جهودي الآن للتوصل إلى طرُق قد تتمكَّن من خلالها الأرواح من تذكُّر ما حدث لها في حالة التحرُّر، وأنا واثق من أنني عندما أُحقِّق ذلك سأحظى بشرف لقائكم هنا مرة أخرى في هذه القاعة وأعرض عليكم النتيجة.» وسبَّب هذا الحديث الصادر عن الطالب الشاب قدرًا كبيرًا من الدهشة بين الجمهور، واستاء بعضهم ظنًّا أنه يدَّعي الكثير من الأهمية. أما الغالبية فقد رأوا أنه شاب واعد، وعقدوا وهم يغادرون القاعة مقارناتٍ كثيرة بين سلوكه المحترم وطيش أستاذه الذي وقف في أحد الأركان يضحك من قلبه وهو يستمع إلى الملاحظات السالفة الذكر، دون أن يشعر بأدنى خجل من فشل تجربته.
وعلى الرغم من أن كل هؤلاء العلماء خرجوا من قاعة المحاضرات مُعتقدين أنهم لم يروا شيئًا مهمًّا، فقد حدث في الحقيقة أمرٌ من أروع الأمور في تاريخ العالم أمام عيونهم. لقد كان البروفيسور فون بومجارتن محقًّا للغاية في نظرية غياب روحه وروح تلميذه عن جسديهما لبعض الوقت. ورغم ذلك، فقد حدث تعقيد غريب وغير متوقَّع. فعند عودة الروحين دخلت روح فريتس فون هارتمان في جسد أليكسيس فون بومجارتن، واستقرَّت روح أليكسيس فون بومجارتن في جسد فريتس فون هارتمان؛ ولذلك خرجت العبارات الدارجة والبذيئة من فم البروفيسور الجادِّ، وخرجت الكلمات الجادَّة والعبارات الرزينة من الطالب المهمِل. لقد كان حادثًا غير مسبوق لم يعرف به أحد لا سيما كل المعنيِّين به.
شعر جسد البروفيسور بجفاف شديد في الحلق فجأةً، فخرج إلى الشارع وهو ما زال يضحك في سره على نتيجة التجربة، فقد تملَّك الاستهتار رُوح فريتس الموجودة داخله أثناء التفكير في العروس التي فاز بها بمنتهى السهولة. وكان أول خاطر راوده هو الذهاب إلى المنزل ورؤيتها، لكن عندما فكَّر مرةً ثانية خلص إلى أنه سيكون من الأفضل الابتعاد إلى أن تعلم السيدة بومجارتن من زوجها بالاتفاق الذي تمَّ بينهما؛ ولذلك ذهب إلى حانة جرونر مان وهي واحدة من أماكن اللقاء المفضلة للطلبة المشاغبين، واندفع صاخبًا وهو يلوِّح بعصاه في الهواء إلى الرَّدهة الصغيرة التي يجلس فيها شبيجل ومولر وستة من الأصدقاء المقربين.
وصاح قائلًا: «ها ها! أيها الفتيان، عرفتُ أنني سأجدكم هنا. اشربوا، اشربوا جميعًا واطلبوا ما يحلو لكم؛ فأنا سأتحمل تكلفة كافة المشروبات اليوم.»
لو كان الرجل الأخضر المرسوم على لافتة الحانة الشهيرة قد دخل على الطلبة الردهة وطلب زجاجة من الخمر، ما كانوا ليَندهشوا مثلما اندهشوا بهذا الدخول المفاجئ لأستاذهم الموقَّر. لقد تملَّكهم الذهول لدرجة أنهم ظلوا نحو دقيقتين يحدِّقون فيه في دهشة تامة عاجزين عن الردِّ على هذه الدعوة الودِّية.
وصاح البروفيسور في غضب: «دونر وبليتسن! ما خطبكما؟ أنتما تجلسان مثل خنزيرَين مطعونين تُحدِّقان فيَّ. ما الأمر؟»
كان شبيجل جالسًا على كرسي فقال مُتلعثمًا: «إنه الشرف غير المتوقَّع.»
قال البروفيسور في ضيق: «شرف، ما هذا الهراء! هل تعتقد أنني لمجرَّد أن كنتُ خاضعًا للتنويم المغناطيسي في أحد عروض هذا العجوز الذي يُشبه الحفريات سيُصيبني الغرور فأمتنع عن معرفة أصدقائي القدامى؟ قمْ من على هذا الكرسي يا صديقي شبيجل لأنني سأجلس عليه الآن. اطلبوا كل ما يحلو لكم من الجعة أو النبيذ أو مشروب شنابس أيها الرفاق، اطلبوا ما يحلو لكم، واعهدوا لي بالحساب.»
لم تشهد حانة جرونر مان مثل ذلك العصر؛ فقد دارت أكواب الجعة الفوارة وزجاجات النبيذ ذات العنق الأخضر في ابتهاج، وتحلَّل الطلاب من خجلهم في وجود البروفيسور بقدرٍ كبير. أما بالنسبة له، فقد أخذ يَصيح ويُغني ويُزمجر ويوازن غليون تبغ طويلًا على أنفه، وعرض أن يتسابق مع أي شخص في هذا الجمع للركض لمائة ياردة. وأخذ النادل والنادلة يتهامسان خارج الباب عن دهشتهما من مثل هذه التصرُّفات الصادرة عن أستاذ جامعي يشغل أحد الكراسي الملَكية في جامعة كاينبلاتس العريقة. وكان لا يزال أمامهما أمور أخرى للتهامس عنها فيما بعد، لأن العالم شجَّ رأس النادل وقبَّل النادلة خلف باب المطبخ.
وقف البروفيسور عند رأس الطاولة مترنِّحًا بعض الشيء، موازنًا كأس الخمر الطويلة القديمة الطراز في يده ذات العظم البارز وقال: «أيها السادة، يجب أن أُفسِّر الآن سبب هذا الاحتفال.»
صاح الطلبة وهم يَقرعون بزجاجات الجعة على الطاولة: «اسمعوا! اسمعوا! إنه خطاب، إنه خطاب! اصمتوا لأجل الخطاب!»
فقال البروفيسور وهو يبتسم من خلف النظارة: «الحقيقة أيها الأصدقاء هي أنني أتمنى أن أتزوَّج في القريب العاجل.»
فصاح طالب كان أكثر شجاعة من أقرانه: «تتزوج! إذًا هل ماتت السيدة؟»
«أي سيدة؟»
«ماذا؟ السيدة فون بومجارتن بالطبع.»
فضحك البروفيسور وقال: «ها، ها! أفهم أنك تعرف كل شيء عن مشاكلي السابقة إذن. لا، هي لم تمت، لكن لديَّ سبب يجعلني أعتقد أنها لن تعارض زواجي.»
فقال واحد من الحشد: «هذا تفهُّم كبير من جانبها.»
استطرد البروفيسور: «في الحقيقة، أعتقد أنها ستتحمَّس الآن لمساعدتي في الحصول على زوجة. إننا لم نكن يومًا على وفاق لكنني اليوم آمل أن ينتهي كل ذلك، وعندما أتزوَّج ستأتي لتعيش معي.»
قال أحدهم متعجبًا: «يا لها من أسرة سعيدة!»
«نعم، هذا حقيقي، وأتمنى أن تأتوا جميعًا إلى حفل زفافي. لن أذكر أسماءَ، لكن هذا نخب عروسي الصغيرة!» ولوَّح البروفيسور بالكأس في الهواء.
هلَّل المشاغبون مُطلِقين صيحات المرح: «نخب عروسِه الصغيرة! في صحتها. تحيا العروس!» وهكذا ازداد المرح على نحو أسرع وأكثر صخبًا، وحذا الشباب حذو البروفيسور وشربوا نخب الفتاة التي اختارها قلبه.
وبينما كان هذا الاحتفال يَحدث في حانة جرونر مان، كان مشهد مختلف يحدث في مكان آخر؛ فبعد التجربة تأمَّل الشاب فريتس فون هارتمان بوجه جادٍّ وطريقة متحفِّظة بعض الوسائط الحسابية وعدَّلها، وبعدها تحدَّث مع الحارس بكلمات حاسمة وخرج إلى الشارع وسار بخطوات بطيئة في اتجاه منزل البروفيسور. وأثناء سيره رأى أمامه أستاذ التشريح فون ألتهاوس فأسرع في مشيه حتى أدركه.
وضع يده على ذراعه وقال: «فون ألتهاوس لقد سألتَني بالأمس عن أمر يخصُّ الغلالة المتوسطة للشرايين المخية. ووجدت الآن أن …»
فصاح فون ألتهاوس العجوز الحادُّ الطباع قائلًا: «يا إلهي! ماذا تقصد بسلوكك الوقح هذا؟ سأجعلك تَمثُل أمام مجلس الجامعة بسبب ذلك يا سيد.» ونكَص على عقبَيه بعد هذا التهديد مسرعًا في خطاه. اندهش فون هارتمان كثيرًا من هذا الاستقبال وقال لنفسه: «لا بد أن فشل التجربة هو السبب.» وأكمل طريقه في حزن.
من ناحية أخرى، كان في انتظاره مفاجآت جديدة؛ فقد أدركه طالبان أثناء سيره مسرعًا على الطريق، وبدلًا من رفع القبعة تحيةً له أو إظهار أيِّ علامة احترام، أطلق هذان الشابان صافرة ابتهاجٍ جامحة لحظة رؤيته، واندفعا نحوه وأمسكاه من ذراعَيه وشرَعا في سحبه معهما.
صاح فون هارتمان قائلًا: «يا إلهي! ما معنى هذه الإهانة المُنقطعة النظير؟ إلى أين تصحبانِني؟»
قال الطالبان: «لتفتحَ معنا زجاجة نبيذ. تعالَ! إنها دعوة لم يسبق لك رفضها.»
فصاح فون هارتمان: «أنا لم أسمع مطلقًا مثل هذه الإهانة في حياتي! اتركا ذراعيَّ! سأفصلكما من الجامعة بسبب ذلك بكلِّ تأكيد. قلتُ لكما دعاني وشأني!» وأخذ يُقاوم الشابَّين الممسكَين به في غضب.
قال أحد الطالبَين وهو يُفلته: «حسنًا، إذا كان مزاجك سيئًا فاذهب حيثما شئت. يمكننا الاستغناء عنك.»
فقال فون هارتمان في غضب: «أنا أعرفكما، وستدفعان ثمن فعلتكما.» وأكمل قاصدًا الوجهة التي ظن أنها منزله، وقد استشاط غضبًا من الواقعتين اللتين حدثتا له في الطريق.
في ذلك الوقت كانت السيدة فون بومجارتن تطلُّ من النافذة وتتساءل عن سبب تأخُّر زوجها عن العشاء، وأصابتها دهشة شديدة عندما رأت الطالب الشاب يسير بزهو على الطريق. وكما ذكرنا في السابق، فقد كانت السيدة تمقتُه مقتًا شديدًا، وكانت لا تُطيق وجوده في المنزل الذي كان يَدخله تحت حماية البروفيسور. وما زاد من دهشتها أنها رأته يفتح البوابة الصغيرة ويسير على ممر الحديقة كما لو كان صاحب البيت. لم تُصدِّق عينيها، وأسرعت نحو الباب متسلِّحة بغريزتها كأمٍّ. ومن النوافذ العلوية رأت إليزا الجميلة هذا التصرف الجريء الذي أقدم عليه حبيبُها، وتسارعت خفقات قلبها في فخرٍ مازَجَه الخوف.
وقفت السيدة فون بومجارتن عند الباب المفتوح بهيبة متجهمة وقالت للدخيل: «طاب يومك أيها السيد.»
فأجابها: «يا له من يوم طيب بالفعل يا مارثا. والآن لا تقفي هناك مثل تمثال جونو، وانطلقي وحضِّري العشاء لأنني جائع جدًّا.»
قالت السيدة وهي تتراجع من فرط الدهشة: «مارثا! العشاء!»
فصاح فون هارتمان الذي تملَّكه الضيق: «نعم، العشاء يا مارثا العشاء! هل يوجد شيء غريب في هذا الطلب من رجل قضى يومه خارج البيت؟ سأنتظر في غرفة الطعام. أي طعام سيفي بالغرض. لحم ونقانق وقراصيا؛ أي شيء موجود عندك. أما زلتِ واقفة تحدِّقين فيَّ؟ هل ستذهبين أم لا يا امرأة؟»
هذه الجملة الأخيرة التي قيلت بغضبٍ شديد جعلت السيدة فون بومجارتن الطيبة تُسرع في الممر متوجهةً إلى المطبخ ومنه إلى غرفة غسل الأواني حيث حبَست نفسها ودخلت في حالة هيستيريا عنيفة. وفي هذه الأثناء دخل فون هارتمان إلى الغرفة وجلس على الأريكة في حالةٍ مزاجية بالغة السوء.
صاح قائلًا: «إليزا! اللعنة عليكِ أيتها الفتاة! إليزا!»
بعد هذا الاستدعاء العنيف نزلت الفتاة الشابة على السلم في خوف وتوجَّهت نحو حبيبها وقالت: «حبيبي!» وطوقته بذراعيها واستطردت: «أعلم أنك تفعل كل هذا من أجلي. إنها حيلة لتراني.»
كان سخط فون هارتمان من هذا الهجوم الجديد عظيمًا لدرجة أنه لم ينبس ببنت شفة للحظةٍ من شدة غيظه، ولم يتمكن إلا من التحديق وهز قبضتيه وهو يقاوم عناقها. وعندما استعاد قدرته على النطق أخيرًا أخذ يصيح في غضب لدرجة أن الفتاة الشابة تراجعت وجلست متجمدة من الخوف على كرسيٍّ ذي ذراعين.
صاح فون هارتمان وهو يدب على الأرض: «لم أمرَّ بمثل هذا اليوم في حياتي مطلَقًا. لقد فشلت التجربة. وأهانَني فون ألتهاوس. وجرَّني اثنان من الطلاب على الطريق العام. وكادت زوجتي يُغشى عليها عندما طلبت منها العشاء، وابنتي تندفع نحوي وتُعانقني مثل دبٍّ أشهب.»
قالت الفتاة الشابة: «أنتَ مريض يا عزيزي. لقد شرَد عقلك. أنت حتى لم تُقبِّلني ولو قُبلة.»
قال فون هارتمان بحزم: «لا، ولا أنوي ذلك أيضًا. يجب أن تَخجلي من نفسك. لماذا لا تذهبين وتُحضرين لي خُفِّي، وتُساعدين أمكِ في تجهيز العشاء؟»
صاحت إليزا وهي تَدفن وجهها في المنديل: «هل هذا هو الجزاء؟ هل هذا جزاء أنني أحببتُك بشغف لما يَزيد على عشرة أشهر؟ هل هذا جزاء أنني تحمَّلت غضب أمي؟ آه، لقد فطرتَ قلبي، لقد فطرتَ قلبي حقًّا!» وأخذَت تَنشج بالبكاء على نحوٍ هستيري.
زمجر فون هارتمان في غضب: «لا أستطيع تحمُّل المزيد. ما الذي تقصده تلك الفتاة بحقِّ الشيطان؟ ما الذي فعلتُه منذ عشرة أشهر وبثَّ فيها مثل هذا الشعور تجاهي؟ إذا كنتِ فعلًا شغوفةً لهذا الحدِّ فمن الأفضل أن تُهرَعي وتُحضري اللحم وبعض الخبز بدلًا من التفوُّه بهذا الهُراء.»
قالت الفتاة التعيسة: «آه يا عزيزي!» وألقتْ بنفسها في حضن من ظنَّت أنه حبيبها، واستطردت قائلة: «أنتَ تمزح لتُخيف حبيبتك إليزا.»
وتصادَف في لحظة هذا العناق غير المتوقَّع أن كان فون هارتمان متَّكئًا على طرف الأريكة التي كانت متهالكة نسبيًّا مثل كثير من قطع الأثاث الألمانية. وتصادَف أيضًا وجود حوض مليء بالماء أسفل طرف هذه الأريكة حيث كان البروفيسور يُجري بعض التجارب على بيض السمك، وجعل هذا الحوض في غرفة الجلوس كي تبقى حرارته معتدلة. وتداعت الأريكة المتهالكة عندما أضيف إليها وزن الفتاة مصحوبًا بقوة اندفاعها نحوه، واندفع جسم الطالب التعيس الحظ للوراء ساقطًا في الحوض، وانحشَر فيه رأسه وكتفاه بقوة بينما ظلَّت أطرافه السُّفلية تلوح في الهواء في قلة حيلة. وكانت هذه هي القشة التي قصَمت ظهر البعير. فبعد أن أخرج فون هارتمان نفسه بصعوبة من هذا الموقف العصيب، أطلق صيحة غضب غير مفهومة، وخرَج من الغرفة على الرغم من توسُّلات إليزا، وانتزع قبَّعته وانطلق إلى البلدة وهو يقطر ماءً وثيابه غير مهندمة ناويًا البحث عن فندق يجد فيه ما لم يجده في المنزل من طعام وراحة.
وبينما كانت روح فون بومجارتن الحبيسة في جسد فون هارتمان تجوب الطريق المتعرِّج المؤدي إلى البلدة الصغيرة وهو يفكِّر حزينًا في المشاكل الكثيرة التي حدثت له، أدرك أن ثمة رجلًا عجوزًا يَقترب منه بدا في حالة سُكْرٍ شديد. انتظر فون هارتمان على جانب الطريق وراقب هذا الشخص الذي كان يسير بخطوات مُتعثِّرة، مُترنِّحًا من جانب إلى آخر، ويغنِّي أغنيةً طلابية بصوت مبحوح وثمل. في البداية أثار اهتمامَه رؤيةُ شخصٍ بهذا المنظر المَهيب في هذه الحالة المُخجِلة، لكن مع اقتراب الرجل أصبح مقتنعًا بأنه يعرفه جيدًا لكنه لم يتمكن من تَذكَّر متى أو أين قابله. وازداد هذا الإحساس قوةً لدرجة أنه عندما اقترب منه ذلك الغريب خطا أمامه وتفحَّص ملامحه جيدًا.
قال العجوز متفحصًا فون هارتمان ومترنِّحًا أمامه: «حسنًا أيها الفتى، أين رأيتُك من قبل بحق الشيطان؟ أنا أعرفك كما أعرف نفسي. فمن تكون بحق الشيطان؟»
قال الطالب: «أنا البروفيسور فون بومجارتن. هل يُمكن أن أسألك من تكون؟ إنَّ ملامحك مألوفة بالنسبة لي على نحوٍ غريب.»
قال الآخر: «يجب ألا تكذب أيها الشاب. أنت بالتأكيد لستَ البروفيسور؛ لأن البروفيسور رجل عجوز دميم حادُّ الطباع، وأنت شابٌّ عريض المنكبَين ضخم الجثة. وبالأصالة عن نفسي فإني أنا فريتس فون هارتمان في خدمتك.»
صاح جسم فون هارتمان قائلًا: «بالتأكيد لستَ كذلك. من المحتمل جدًّا أن تكون والده. ولكن ما هذا، هل تُدرك أيها السيد أنك ترتدي ملابسي وسلسلة ساعتي؟»
شهق الآخر وقال: «يا إلهي! إن لم يكن هذا هو السروال الذي سيُقاضيني الخياط لأجله، فلن أتذوق الجعة ثانيةً.»
ومن شدة تعب فون بومجارتن من كثرة الأمور الغريبة التي حدثت له في ذلك اليوم، مرَّر يده فوق جبهته ونظر للأسفل، وبالصدفة رأى انعكاس وجهه في بركة خلَّفتها الأمطار على الطريق. وأصابته دهشة كبيرة عندما أدرك أن وجهه كان وجهَ شابٍّ، وأن لبسه كان لبس طالبٍ أنيق، وأنه من جميع النواحي يُمثِّل النقيض التام للجسم الأكاديمي الوقور الذي اعتاد عقلُه أن يسكنه. وفي لحظةٍ استرجع عقلُه النَّشِط سلسلة الأحداث التي وقعت له وتوصَّل إلى استنتاج، وأفقدته الصدمةُ توازُنَه.
صاح قائلًا: «يا إلهي! فهمتُ كل شيء. إنَّ أرواحنا دخلت الأجساد الخاطئة. أنا أنت وأنت أنا. لقد ثبتَت صحة نظريتي لكن يا له من ثمن! هل سيتجوَّل أنْبهُ العقول الأكاديمية في أوروبا في هذا الجسد التافه؟ لقد ضاعت الإنجازات التي صنعتُها طوال عمري!» وأخذ يضرب على صدره في يأس.
فقال فون هارتمان الحقيقي من جسد البروفيسور: «مهلًا، أُدرك جيدًا قوة ملاحظاتك لكن لا تضرب على جسدي هكذا. لقد تسلمتَه في حالة مثالية لكنني أرى أنك جعلته مبتلًّا ومصابًا بالكدمات، وسكبت السعوط على صدر قميصي المكشكش.»
رد الآخر بحزن: «لا يهمُّ هذا كثيرًا، فسوف نبقى كما نحن. لقد ثبتَت صحة نظريتي بنجاحٍ ساحق، لكن الثمن كان فظيعًا.»
فقالت رُوح الطالب: «إذا فكرت بهذه الطريقة فسيكون الأمر غايةً في الصعوبة. ماذا يمكنني أن أفعل بهذه الأطراف الهَرِمة المتصلبة، كيف يمكنني مغازلة إليزا وإقناعها بأنني لستُ والدها؟ لا، فحمدًا للرب أنني على الرغم من أن الجعة سببتْ لي تشوشًا على نحو يفوق ما تستطيع فعله في نفسي الحقيقية، فإنني أستطيع أن أرى لنا مخرجًا.»
تساءل البروفيسور بأنفاس لاهثة: «كيف؟»
«بإعادة التجربة. حرِّر الأرواح من جديد ومن المحتمل أن تجد كل رُوح طريقها إلى جسدها الصحيح.»
تمسَّكت روح فون بومجارتن بهذا الاقتراح بحماس يفوق تمسُّك الغريق بالقشة. وفي عجلةٍ محمومة سحب جسده إلى جانب الطريق، وأدخله في غيبة تنويمٍ مغناطيسي؛ ثم أخرج الكُرة البلورية مِن جَيبِه ونجح في إدخال نفسه إلى الحالة نفسها.
وبالصُّدفة مرَّ بهما بعض الطلبة والفلاحين أثناء الساعة التالية، واندهشوا كثيرًا عندما رأوا بروفيسور الفسيولوجيا العظيم وطالبه المفضَّل جالسَين على ضفة موحلة للغاية وفي حالة غيابٍ كامل عن الوعي. وقبل أن تنقضي الساعة تجمَّع حشد كبير من الناس، وكانوا يَتناقشون في جدوى الإرسال في طلب الإسعاف لنقلهما إلى المستشفى عندما فتح العالِم عينَيه وحدَّق حوله بلا تركيز، وبدا للحظة كما لو كان نسيَ كيف جاء إلى هنا، لكن بعد لحظة أدهش الحشد المتجمهر عندما لوح بذراعَيه النحيلتين أمام رأسه وصاح بصوت ملؤه الفرحة: «حمدًا للرب. لقد عدتُ نفسي ثانيةً. أشعر أنني أنا!» ولم يكن الجمهور أقل اندهاشًا عندما وقف الطالب وأطلق الصيحة نفسها، وأخذا يَرقصان في ابتهاج في وسط الطريق.
ظلَّ الناس بعد ذلك لفترة في ريب من السلامة العقلية لبطلَي هذه الواقعة الغريبة. وعندما نشر البروفيسور تجاربه في الدورية الطبية كما وعد، ألمح له زملاؤه أيضًا أنه من الأفضل خضوع عقله للعلاج، وأنه إذا نشر مثل هذه المقالات مرةً أخرى فسوف يكون مصيره مستشفى الأمراض العقلية بالتأكيد. ومن مُنطلَق الخِبرة وجد الطالب أيضًا أنه من الحكمة التزام الصمت حيال الموضوع.
وعندما عاد المُحاضر الجليل إلى منزله في تلك الليلة لم يلقَ الترحابَ الوديَّ الذي ربما كان يتطلَّع إليه بعد هذه المغامرات الغريبة، بل وبَّختْه امرأته وابنته بسبب رائحة الخمر والتبغ التي تنبعث منه، ولأنه كان غير موجود عندما اقتحم البيتَ شابٌّ سافل وأهان سكانه. ومرَّ وقتٌ طويل حتى استعاد الجوُّ الأسريُّ لبَيتِ المحاضر هدوءَه المعتاد، ومر وقت أطول حتى شوهد وجه فون هارتمان الودود تحت سقف هذا المنزل؛ فالمثابرة، رغم كل شيء، تتغلب على كل العقبات. ونجح الطالب في النهاية في تهدئة غضب السيدتَين، وإعادة علاقته معهما كسابق عهدها. والآن لم يعد يوجد أي سبب يجعله يخشى عداء السيدة؛ لأنه أصبح النقيب فون هارتمان بعدما انضمَّ إلى فرسان الإمبراطور، كما أنجبَت له زوجته إليزا فارسَين صغيرين إثباتًا عمليًّا لحُبِّها له.