الدين والعلم١
«… أما الدين والعلم فلم تكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة.»
١
… فأما الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم فخصومة قديمة؛ لأنها خصومة على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم، وأما الدين والعلم فلم تكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة؛ لأن الدين يقرر المثل الأعلى لقواعد الإيمان التي يجب أن يأخذ الناس بها في حياتهم، والعلم يقرر الواقع في حياة الوجود ويترسم تطور الحياة في سبيل سيرها نحو ما يظنه الكمال، والواجب شيء والواقع شيء آخر، والكمال الذي يدعو الدين إليه كمال مقرر القواعد والأركان لا يمكن أن يتغير أو أن يتبدل، والكمال الذي يظن العلم أن الإنسانية تسير نحوه كمال ظني لا يستطيع العلم رسم قواعده؛ لأن العلم يعترف بأن الإنسانية، وهي بعض قليل من الوجود، خاضعة في تطورها ومورها لعوامل معروفة وأخرى ثابتة ولكنها ما تزال غير معروفة. وإلى أن يكشف العلم — إن أتيح له أن يكشف يومًا ما — عن هذه العوامل غير المعروفة، فالكمال العلمي لا يزال ظنيًّا وما يزال مبهم الحدود غير مقرر القواعد والأركان.
فإذا سمعت يومًا أن بين الدين والعلم خلافًا أو خصومة فاقطع بادئ الرأي بأن الخلاف والخصومة ليستا بين الدين والعلم، ولكنهما بين رجال الدين ورجال العلم، وأن أساسهما ليس في شيء من الدين لذاته ولا من العلم لذاته، ولكنه في سعي كل من هاتين الطائفتين سعيًا أنانيًّا صرفًا ليكون بيدها الحكم والسلطان دون الأخرى.
وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن بين رجال الدين علماء في العلم آخذون بأساليبه من غير أن يطعن ذلك في دينهم أو يغير من عقيدتهم، ومن بين رجال العلم من عمرت بالإيمان نفوسهم، وأخذوا في حياتهم بما يدعو الدين إليه من قواعد الكمال. وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن رجال الدين من إذا خلوت إليه أو خلا إلى نفسه رأيت الشك يملأ جوانب فؤاده فيعذبه أو يدفعه إلى السخر والاستهزاء من غير أن يخرجه ذلك من زمرة رجال الدين، ومن رجال العلم من يشك في طرائق العلم وأساليبه أكبر الشك، ويدعو لذلك إلى الأخذ بأساليب أخرى قد تكون إلى أساليب الدين أقرب.
ألم يكن رينان الكاتب الفرنسي الكبير من رجال الدين، ثم بلغ من خروجه على متعارف قواعد الدين أن رُمي بالإلحاد وأن أضافه أهل طائفته إلى رجال العلم ليحاربوه بالوسائل التي يحاربون بها رجال العلم، وبرجسون الفيلسوف الفرنسي الكبير يدعو إلى عدم التقيد بأساليب العلم الواقعي المقررة أن كان يراها أضيق من أن تتسع لكل الحقائق، وإلى الأخذ بوحي الإلهام فيما لم يصل العلم إلى الكشف عن حقيقته. ووحي الإلهام أقرب إلى الأساليب الدينية، بل هو قاعدة المذاهب الميتافيزيقية التي أنكرها العلم أشد الإنكار. وكثيرًا ما حارب الدينيون رجلًا منهم بتهمة خروجه على الدين فلما أتى عليه الموت وتقضت شهوات الحياة وفي مقدمتها شهوة الحكم والسلطان، ودخل هذا الرجل حوزة التاريخ عاد جيل جديد من الدينيين فجعله من المقدسين والأولياء المقربين. بل إنك لترى رجال الدين يشتدون في خصومتهم لأشد رجال العلم إيمانًا لا لشيء إلا أن هؤلاء المؤمنين العلماء عرضوا لميدان الدين بالبحث. وهذا ديكارت العالم الفيلسوف الفرنسي الكبير كتب في العلم خير كتبه وعلا بين الناس مقامه وفضله، ولم يعرض له رجال الدين إلا حين بحث على طريقته العلمية — التي تبدأ بإنكار كل شيء — في وجود الله وخلود الروح. ومع أنه انتهى إلى إثبات وجود الله وخلود الروح بأدلته العلمية، فقد حظر رجال الكنيسة على الناس قراءة هذا الكتاب، بل قراءة كتب الفيلسوف كلها، وكانت مباحة من قبل. كذلك كان الأمر مع روسو؛ فقد أثبت وجود الله وأظهر من قوة الإيمان وفضله وجماله ما ندر أن استطاع واحد من رجال الدين أنفسهم الوصول إليه؛ ولهذا قامت عليه قيامة رجال الدين فنُفي من فرنسا ونُفي من سويسرا والتجأ إلى إنجلترا ثم تركها وظل هائمًا على وجهه طريدًا من الكنيسة بقية حياته. هذا، وربما جاز لنا أن نقرن إلى هذين الاسمين اسم عالم من علماء الإسلام هو الأستاذ الشيخ محمد عبده؛ فلقد لقي في حياته من رجال الدين عنتًا ورُمي بالكفر والإلحاد، وهو صاحب رسالة التوحيد والقوة التي لم تعدلها في عصرها قوة للذود عن حياض الإسلام والمسلمين ضد من طعنوا عليه من أهل الأديان الأخرى.
ويزيدك دلالة على ما تقدم وعلى أن الخلاف ليس بين الدين والعلم، بل هو بين رجال الدين ورجال العلم وأنه خلاف على السلطة ونظام الحكم قبل أن يكون خلافًا على شيء آخر، ما كان من الخلاف بين طوائف رجال الدين أنفسهم حين انقسامهم إلى مذاهب مختلفة. فقد بدأ الخلاف بين أهل هذه المذاهب على أنه خلاف في المبادئ لذاتها، ثم سرعان ما انقلب خلافًا غايته السلطة والحكم، وكلمة هنري الرابع: «باريس تساوي قداسًا» — يقصد أن امتلاك باريس يستحق انتقاله من البروتستاتنية إلى الكثلكة — تدل على معنى كبير. وكل الفرق بين هنري الرابع وغيره أن هنري الرابع كان صريحًا وأن كثيرين يذهبون مذهبه لو أنهم وجدوا ما يساوي ذهابهم هذا المذهب. فإذا لم يجدوه ورأوا في التعصب لرأيهم ما يساوي باريس تعصبوا لهذا الرأي أيما تعصب.
الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم إذن هي خصومة أساسها بعيد عن الدين والعلم جميعًا، وقاعدتها حرص كل طائفة على الاستئثار بالسلطة ونظام الحكم. وكلما تغلبت طائفة من الطائفتين على الأخرى قام منها رجال السياسة وأولياء الأمر في الدولة. ألم يكن ريشليو كبير وزراء فرنسا كاردينالا من أكابر الكرادلة. لكن مجده على التاريخ ليس مجدًا دينيًّا بل هو مجد سياسي؛ لأن رجال الدين كانت لهم الغلبة على رجال العلم في عصره، فآلت إليهم شئون الدولة وقام أذكياؤهم وذوو الدراية والدربة في الشئون العامة منهم بالتقدم إلى مصاف الحكم. لكن هؤلاء كانوا يتبادلون المعاونة مع أهل طائفتهم من رجال الدين. فكانوا يعينونهم على الحياة ومرافقها وييسرون لهم أسباب العيش فيها بما في يدهم من سلطان يسمح لهم بالتحكم في خزانة الدولة. وكانوا يستعينون بما لأهل طائفتهم من رجال الدين من سلطان على المجموع وحكم على عقائده وعلى أعماله.
ولم تنج دولة من الدول ولم ينج عصر من العصور من هذا الصراع الطائفي. وهو طائفي محتوم؛ لأن رجل الدين ليس في الواقع رجل دين باختياره، ورجل العلم ليس في الواقع رجل علم باختياره، بل كل واحد منهم له هذه الصفة بالنشأة التي نشأها والبيئة التي تربى فيها وبالطائفة التي يسرته الحياة ليكون أحد أفرادها؛ فهو في خصومته غير مختار بأكثر مما يختار الجندي المدافع عن وطنه، هذا الجندي يستحمس ويستميت لا لأن له في ذلك مصلحة ذاتية، ولكنه يعلم أو يشعر شعورًا لا سبيل فيه لريب أو شك أن هزيمة بلاده تخضعه لألوان من الذل يقاسيها بالاشتراك مع أهل بلاده جميعًا، كذلك رجل الطائفة يسير وطائفته جنبًا لجنب لمثل هذا السبب. والذي يخرج على طائفته متأثرًا بعقيدة خاصة أو رأي شخصي مثله مثل الذين لا ينخرطون في سلك الجندية، ولو اعتبروا فارين وأعدموا لاعتقادهم بأن الحرب إثم وحشي لا يجوز لإنسان أن يقدم على اقترافه ولو تحمل في سبيل ذلك ما تحمل من النتائج.
ولم يكن فوز طائفة رجال الدين بالحكم، ولا كان فوز طائفة رجال العلم راجعًا إلى الدين لذاته أو إلى العلم لذاته، بل كان راجعًا أبدًا إلى اعتقاد المجموع بصلاح واحدة من الطائفتين دون الأخرى لولاية شئون الدولة. واعتقاد المجموع بالصلاح لولاية شئون الدولة يرجع إلى اعتبارات عملية لا دخل للدين ولا للعلم فيها، وإنما الدخل لقوام الخلق وحسن البصر بالأمور وبعد النظر ودقة معرفة حاجات الدولة في الفترة التي يحكم المجموع فيها، سواء ما تعلق من هذه الحاجات بحكم الدولة في شئونها الداخلية وما تعلق بصلاتها بسواها من الدول.
ولقد قضت العصور الحديثة منذ قرون ثلاثة في أوروبا أن يتغلب رجال العلم على رجال الدين شيئًا فشيئًا، حتى كان ما كان من فصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا في العهد الأخير الذي سبق الحرب الكبرى. وإنما تغلبت طائفة رجال العلم أن نشأ المخترعون والاقتصاديون. وهؤلاء وأولئك جعلوا الناس أكثر حرصًا على حياة أكثر رفهًا ونعمة. وقد تقدمت الاختراعات على يد رجال العلم إلى حد أيقن الناس معه أن رجال الدين — على حاجة الناس إليهم لهدايتهم في سبيل الله — أقل صلاحًا للحكم وتنظيم شئون الدنيا من رجال العلم. وامتد هذا الاعتقاد وساد أوروبا كلها وانتقل مع الغزاة والمستعمرين الأوروبيين إلى أمم الشرق، وهو اليوم قد تغلغل في هذه الأمم حتى أصبح من البدهيات المسلم بها عند الناس جميعًا، أن خير ما يجب أن يتحلى به رجل الدين الورع والزهد في الدنيا وزخرفها، والتقرب إلى الله للعبادة والانقطاع له بدرس الدين من غير تعرض لشئون الدولة ولا لنظام الحكم فيها.
وهذه تركيا مثل قوي من أمثلة انقضاء سلطة رجال الدين في أمور الحكم وذهابها إلى غير عودة. ومصر من زمن بعيد تقف سلطة رجال الدين فيما يختص بالحكم ونظامه في حدود ضيقة، وإن بقي لهم مقامهم واحترامهم الديني. وكلما ازداد الغرب والشرق اشتباكًا، شعر الناس بأن العلم وما يكشف عنه من مخترعات جديدة وما يضعه من نظم اقتصادية وقواعد للعيش، وهو القدير على أن يهبهم من نعم الحياة جديدًا وأن يرفع عنهم من بؤسها ما رزحوا تحت أعبائه سنين طويلة، إذن فسيبقى السلطان ونظام الحكم في يد رجال العلم. وستبقى الخصومة بينهم وبين رجال الدين قائمة. ولكن من شأن هذه الخصومة أن تكمن إذا قويت إحدى الطائفتين قوة تضطر الثانية للإذعان والخضوع، وأن تظهر إذا بدت للطائفة الضعيفة بارقة أمل من قوة.
وليس محققًا أن تبقى السلطة أبدًا لرجال العلم. فقد يأتي زمن يكون العلم فيه قد أنتج كل ما يستطيع إنتاجه، فأصبح العلماء مجرد حفاظ للميراث الذي خلفه أسلافهم وعقموا عن أن يبدعوا جديدًا. صحيح أن رجال العلم لا يقرون اليوم بهذا، إذ يذهبون إلى أن العلم يمتد سلطانه إلى كل ناحية من نواحي الحياة، وقد تكون دعواهم هذه صحيحة، لكنها قد تكون مبالغًا فيها كذلك، فمن قبلهم قال الميتافيزيقيون: إن الميتافيزيقا تحل كل ما في الحياة من رموز وتصل إلى ما فيها من حقيقة. ومن قبل هؤلاء قال المتكلمون (التيولوجيون) مثل قولهم. واليوم يقوم جماعة الروحانيين وأضرابهم يقولون: بتفسير ما في الحياة على طريقة غير الطرائق العلمية المقررة. ولئن كان هؤلاء الروحانيون يتمسحون بالعلم وبطرائقه اليوم فقد تمسح العلماء من قبل بالميتافيزيقا وبالدين. فلما اطمأن العلماء إلى شيء من القوة نادوا باستقلالهم التام وأعلنوا طرائقهم الخاصة.
فإذا شعر الروحانيون وأضرابهم يومًا بعقم العلم وبجمود العلماء واقتصارهم على المحافظة على القديم وعدم اجتهادهم لإحداث جديد، وإذا شعروا يومًا بأن الناس قد أترعوا بآثار العلم فتاقت نفوسهم إلى جدة روحية أو نفسانية لا يستطيع العلماء في جمودهم تقديمها لهم — إذا شعر هؤلاء يومًا ما بهذا — وقد يأتي هذا اليوم أو لا يأتي — فقد يعلن هؤلاء الروحانيون وأضرابهم استقلالهم عن العلم وطرائقه، وقد يتقدمون للناس يطلبون الثقة بهم وإيلاءهم الحكم ليتمكنوا من تقديم الغذاء الروحي الطامحة نفوسهم له. ويومئذ تقوم خصومة جديدة بين طائفة العلماء وطائفة الروحانيين وأضرابهم على السلطة والاستئثار بنظام الحكم، كالخصومة التي كانت وما تزال قائمة بين رجال العلم ورجال الدين.
على أن هذا اليوم الذي يجمد فيه العلم ما يزال في رأي الأكثرين بعيدًا. ولئن كانت بعض النزعات تقوم في الغرب لمحاربة القواعد الواقعية، فإن هذه القواعد ما تزال خصيبة في الإنتاج، وما تزال طوائف العلماء المختلفة تتجاذب كل منها الحكم إليها كما كان يتجاذبها أصحاب المذاهب المختلفة في الدين. وهذه المذاهب الاشتراكية والشيوعية التي تحارب المذهب الفردي في الاقتصاد ما تزال بعيدة عن أن تحقق أيًّا من الأسس التي قامت لتحقيقها. وما تزال غزوات العلم في الشرق في أول عهدها. وما يزال الأمل واسعًا في أن يحقق العلم في الشرق من الرفاهية والنعمة والسعادة ما يمكِّن لحكمه زمنًا طويلًا.
وسواء لدينا أكان الحكم لهؤلاء أم أولئك من أهل الطوائف المختلفة، فنحن لا نملك من أمر ذلك شيئًا. وكما أن الأصلح للبقاء بين الأفراد هو الذي يبقى، كذلك فإن الأصلح من الطوائف للحكم هو الذي يحكم. وكما أن النزاع بين الأفراد كان ولن يزال، كذلك فالنزاع بين الطوائف كان ولن يزال. وما دام العلم في تطور دائم فالنضال سيكون قاعدة هذا التطور. وإن أمكن أن يتطور النضال نفسه فيصبح سلميًّا بعد أن كان دمويًّا. لكن الأمر الذي لا نزاع فيه، والذي عرضنا من أجله لهذا البحث، هو أن الخصومة لم تكن يومًا بين الدين والعلم وإنما كانت وستكون بين رجال الدين ورجال العلم، وسيكون أساسها وقاعدتها الاستئثار بالسلطة ونظام الحكم.
٢
ما الدين وما العلم وما تعريف كل منهما تعريفًا جامعًا مانعًا؟
الإسلام على خلاف سائر الأديان يتناول أمور الدين وأمور الدنيا ويحض على طلب العلم؛ فالعلماء عند المسلمين هم رجال الدين.
أساس العلم التطور والتجديد؛ ولذلك لا يمكن أن يقفل فيه باب الاجتهاد أو أن يجمد رجاله؛ ومن ثم سيسد أبدًا حاجات البشر.
هذه وأمثالها هي المسائل والردود التي أدى إليها مقالنا عن الدين والعلم ورجال الدين ورجال العلم، وقد دلت هذه المسائل والردود على صدق نظريتنا من أن الدين والعلم لا خلاف بينهما؛ لأن لكل منهما ميدانًا غير ميدان الآخر؛ وأن الخلاف منحصر بين رجال الدين ورجال العلم على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. وقد تظهر المسألة الأولى، مسألة تعريف الدين والعلم، بريئة من الدخول في خصومة ما بين رجال الدين ورجال العلم لو أنها طرحت للبحث النظري ليس غير. لكنها وردت على لسان أقوام ظاهر من بقية عبارتهم اشتراكهم في الخصومة. ففقدت بذلك طهرها وبراءتها أن شابها الغرض وأدت إليها الخصومة.
ونحن لم نعرض للمسألة في مقالنا الماضي؛ لنثير الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم، ولكن لننفي الخصومة بين الدين والعلم ولنثبت أن ما يحسبه البعض خصومة بينهما ليس هو في الواقع إلا خصومة بين الرجال الذين ينتسبون لكل منهما، وأنها خصومة غايتها التسلط والحكم قبل أن تكون لها أية غاية أخرى. ونفي الخصومة بين الدين والعلم قد يحتاج إلى بعض إيضاح للمسائل التي ناقش بها بعضهم رأينا. ونعتقد اعتقادًا لا ريب فيه أن الذين باحثونا أو أرادوا مباحثتنا سينتهون إلى الاتفاق معنا اتفاقًا تامًّا وسيسلمون، سواء أكانوا من رجال الدين أم من رجال العلم، بأن الخصومة بينهم خصومة مادية محضة، العلم لذاته منها بريء، والدين لذاته منها بريء.
وأول ما نتقدم به للتدليل على رأينا الجواب عن سؤال السائل: ما العلم؟ وما الدين؟ ولا نريد منذ الآن أن نضع ما يسمونه تعريفًا جامعًا مانعًا لكل منهما؛ لأن التعاريف كثيرًا ما تجني على البحث الذي يؤدي إلى تصوير حقيقة واقعة من الوقائع، والدين والعلم واقعتان تاريخيتان في حياة الإنسانية. كما أن التعاريف كثيرًا ما تؤدي إلى مناقشات جدلية لا طائل تحتها ولا نتيجة لها إلا زيادة التشعيب في المسائل التي يتناولها البحث تشعيبًا لا ضرورة له، وكل أثره أن ييسر السبيل إلى الضلال.
ولا ريب في أن العلم قديم؛ لأن أبسط المعارف هي أولى درجات العلم، فمنذ رأى الإنسان الأول مشرق الشمس ومغربها، ومنذ رأى المغرب والمشرق يتكرران كل يوم فعرف أن هذا بعض نواميس الوجود وإن لم يدرك سره، ومنذ رأى النجوم ولاحظ ثبات بعضها في اتجاه معين فاتخذ منه هاديًا في مسراه — من ذلك الحين كانت هذه المعارف الأولى؛ وما تزال؛ نواة العلم. وعلى توالي الأجيال تكاثرت وتداولت هذه المعارف التي تقع تحت الحس، والتي استنبط الإنسان منها نظام حياته بين الموجودات الكثيرة المختلفة التي تقع تحت حسه وملاحظته. وبتكاثرها وتداولها استطاع الإنسان التقريب بينها ومقارنتها واستنباط قوانين الوجود وسننه منها، واستطاع أن يستفيد بعلمه هذه القوانين والسنن ما يزيده سلطانًا على الوجود وتحكمًا فيه واستمتاعًا به.
والدين قديم أيضًا. فمذ رأى الإنسان الأول مشرق الشمس ومغربها وسبح النجوم في أفلاكها لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ، ومنذ رأى نظام هذا الكون العظيم نظامًا عجيبًا يعجز عقله الضعيف، وعلمه المحدود عن إدراك كنهه أو تفسيره، من ذلك اليوم آمن بأن هذا الكون المملوء بالمخاوف والآمال، والذي ينتهي هو فيه إلى الموت قبل أن يحيط بكثير من أمره خبرًا؛ لا بد لوجوده ولتدبيره من قوة أعظم من الكون ومن كل ما فيه أضعافًا مضاعفة، وبأن هذه القوة الخالقة المدبرة لا تحيط بها الأفهام ولا تدرك كنهها العقول.
العلم والدين — الوقائع التي تقع تحت الحس وتحيط بها الملاحظة، والإيمان الذي ينبعث إلى النفس حين مشاهدتها عظمة الكون ونظامه بأن لا بد لوجود الكون وتدبيره من قوة لا حدود لقوتها — العلم والدين قديمان، إذن متجاوران في النفس الإنسانية منذ الأزل الإنساني. وسيظلان متجاورين فيها ما بقي في الكون غيب لا بد للإنسان معه الالتجاء إلى الإلهام حين تفسير الوجود. والإنسانية حريصة على تفسير الوجود؛ لأنها حريصة على أن تطمئن لمكانها منه ومستقبلها فيه.
ولما كانت المشاهدات الإنسانية، سواء منها ما أحاط به الحس وحدده وما أحاط به وعجز عن تحديده؛ هي مصدر العلم ومبعث الإيمان. ولما كانت هذه المشاهدات في بداية أمرها قليلة محدودة يسهل على عقل الرجل أن يدركها جميعًا — فقد نشأ من تجاور العلم والدين في النفس الإنسانية ما يكاد يكون تضامنًا بل تمازجًا؛ فالمعلومات التي تقع تحت الحس تقاس إليها المعلومات التي لا يحيط بها الحس إحاطة كافية، وينهض الكل دليلًا ملموسًا على ما هدى إليه الإلهام، والإلهام يفسر ما تعجز الحواس عن تحديده تفسيرًا يكفل للإنسان الهوى في حياته. وكذلك تضامن الشعور والإدراك، القلب والعقل، والإيمان والعلم، في وضع سنن الحياة الإنسانية التي تكفل سعادة الإنسان في الحياة وبعد الموت.
وكان هذا التعاون والتضامن في أول الأمر تعاونًا وتضامنًا بين قوتين غير متكافئتين. فإن علم الإنسان المحدود ومعارفه القليلة كانا ضئيلي الفائدة جدًّا إلى جانب ما يفيده إيمانه في الحياة من قوة على الحياة، فلم يكونا ليدفعا عنه غائلة المعتدي ولا ثوران الطبيعة، ولا كانا يؤديان إليه من نعمة الحياة المادية أكثر مما تهديه إليه سجيته الفطرية. أما الإيمان فكان يحل له — فيما يظن — كل العقد ويبلغه كل الغايات ويرشده إلى الوسيلة إليها. والجماعات تخضع في نظام حكمها لطريقة التفكير التي تهديها السبيل لتحقيق غاياتها ومآربها؛ لذلك خضعت للإيمان الصادر عن الإلهام وأسلمت رجال الدين ولاية الأمر.
ولما كانت الإنسانية بحاجة مع ذلك إلى الاستفادة من علمها المحدود ومعارفها القليلة، فقد كانت معارف الحس بعض ما انصب عليه الإيمان الملهم وسلكه في نظامه. وبهذا التطابق سارت الإنسانية قرونًا طويلة يحس المجموع فيها السكينة إلى العيش والطمأنينة إلى الحياة وإلى الموت وإلى ما بعدهما.
في هذه القرون الطويلة أسلمت الإنسانية قيادها إلى أولئك الدعاة الصالحين الذين هدوها سبل الخير، وكان العلماء بعض طوائف هذه الإنسانية السعيدة. وقد أسلموا هم الآخرين القياد إلى الهداة؛ لأن علمهم كان أقصر من أن يقدم للإنسانية غذاءً ماديًّا كافيًا أو غذاءً قلبيًّا كافيًا أو غذاء روحيًّا كافيًا، لكنه كان مع ذلك نواة العلم الوضعي أو العلم الواقعي الذي أنتج اليوم من الثمرات أغزرها مادة وأقواها سلطانًا.
•••
وفيما كان رجال العلم — وأقصد العلم الواقعي — قانعين دائمًا بحظهم هذا، راضين بقناعتهم أو كارهين لها، قائمين في خدمة السلطان، دائبين على طرائقهم في البحث في هذا الكون وأسراره وسننه، يؤمن منهم من يهدي الله قلبه إلى الإيمان، ويداخل منهم من يداخله الشك في هذا الهدى إن وجد فيه ما لا يقبله عقله ولا يطمئن إليه تفكيره، ثم يعلن شكه وإن تعرض من أجل ذلك إلى ضروب القسوة وألوان العذاب — في هذه الأثناء، وكانت هذه الأثناء أجيالًا وعصورًا وقرونًا ترجع إلى القدم هي الأخرى، قام جماعة التجريديين (الميتافيزيقيين) وسطًا، أو بالأخرى صلة، بين الطرفين. والذي يستطيع أن يتوسط أو أن يصل بين الإيمان بالوحي وتقرير الواقع هو العقل؛ لذلك كان العقل المحض هو أداة التجريديين للوصول إلى ما سموه الحقيقة المطلقة. فما أقره العقل ولو أعوزه الدليل المحسوس كان حقًّا، وما نفاه العقل ولو أيده الوحي كان مفتقرًا للدليل كي يثبت. وواسطة العقل في التدليل المنطق؛ ولذا كان المنطق من أقدم العلوم الإنسانية، أو الفنون الإنسانية إن شاء العلماء الواقعيون.
وكثيرون من التجريديين كانوا مؤمنين إيمانًا صادقًا، وعليهم وعلى أدواتهم في البحث والتدليل اعتمد رجال الدين أزمانًا طويلة. على أن من هؤلاء التجريديين من كانوا كذلك ملحدين إلحادًا صريحًا، ومنهم من كانوا يؤمنون بأن في العلم مادة حياته ووجوده، كما يؤمن المؤمنون بأن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش. وقد قوي سلطان التجريديين بعد أن تعددت الأديان واتخذ بعضهم من تعددها وسيلة للمقارنة بينها والتشكيك فيها. ومن هؤلاء التجريديين (الميتافيزيقيين) من كان يؤيد دينًا بعينه، ومنهم من كان يؤيد الإيمان بالله وبالروح وخلودها وبالبعث والحساب. وأنت واجد من هؤلاء التجريديين — أو الفلاسفة كما كانوا يدعون — عددًا غير قليل إلى جانب كل دين يؤيده ويعززه. فثم فلاسفة إسلاميون وفلاسفة مسيحيون وفلاسفة إسرائيليون وفلاسفة غير هؤلاء يؤيد كل منهم الدين بحجة العقل المحض. وأنت واجد كذلك من الفلاسفة عددًا غير قليل يؤيد الإيمان لذاته، يثبت الله والروح والبعث، ثم يداخله الشك في الأديان على أنها منزلة من عند الله، وإن كان يعترف لأصحابها بكل عظمة وسمو وتفوق، ويراها ظاهرات اجتماعية آمن الناس بها؛ لأن قلوبهم في حاجة إلى الإيمان؛ ولأن موضع الإيمان من نفوسهم لا يمكن أن يبقى خلاءً لا يملؤه شيء.
وقد ازداد التجريديون — أو الفلاسفة إن شئت — شوكة في أوروبا بعد عهد الإصلاح وتضاعفت قوتهم، وقويت شوكتهم بعد انقسام المسيحيين إلى كثالكة وبروتستانت وأرثوذكس وما جاور هذه من المذاهب الأخرى. ذلك بأن أهل هذه المذاهب بدءوا يتناحرون ويهدم بعضهم بعضًا. وكان مما يطعن به بعضهم على بعض أن مذهبًا من المذاهب لا يسلم به العقل. خذ مثلًا المسألة الجوهرية التي قام عليها النزاع بين لوثر وخصومه والتي أدت إلى الانقسام: مسألة حق الغفران وبيع براءاته. فهل يسلم العقل أو لا يسلم بأن لرجال الدين أن يغفروا ذنوب غيرهم؟ وامتد النزاع إلى غير هذه من المسائل فتقدم التجريديون كلٌّ ينصر جانبًا بحجة العقل المحض ومنطقه. وأدت هذه النهضة في الفلسفة إلى تقدم في التفكير وإلى سعي في استنباط الأدلة من الواقع المحسوس، فإلى تقدم في العلم الوضعي الذي كان إلى ذلك الحين ما يزال في خدمة الدين والفلسفة، وكان أصحابه ما يزالون طائفة ضعيفة الحول والسلطان. وشجعت هذه النهضة قومًا على الإنكار والإلحاد وعلى التبرم بكل هذه المضاربات النظرية التي يصوغها منطق العقل حججًا وبراهين، بل قواعد ومذاهب، والتي لا تستقيم ولا تقوى على الوقوف إلا ريثما يهدمها منطق العقل بحجج وبراهين مثلها. وقام النزاع بين التجريديين (الفلاسفة) حادًّا قويًّا. هذا يثبت وذاك ينفي، هذا يقيم مذهبًا وذاك ينقضه. وبقي رجال الدين بعيدين عن المعركة لا يشتركون فيها اشتراكًا يلفت إليهم النظر أو يستهوي إليهم الأفئدة، ولا يقومون فيها بعمل أكثر من إصدار القرارات والأحكام ضد الفلاسفة الذين يعتقدونهم لهم خصومًا.
واتجه الناس إلى الفلاسفة؛ لأنهم رأوا طريقة تفكيرهم أقرب إلى هداهم في سبيل الحياة لتحقيق مآربهم منها. ومعنى هذا الاتجاه أنهم أسلموهم قياد الحكم. ورأى رجال الدين ذلك فعز عليهم أن يفلت الحكم من يدهم. لكن استبقاء الحكم لم يكن أمرًا ميسورًا لهم بعد الذي كان من جمودهم وعجزهم عن أن يقدموا للإنسانية غذاءً جديدًا. فقاموا بحركة دوران لا تخلو من مهارة. ذلك أنهم رأوا بين التجريديين مؤمنين بالدين حريصين على تأييده. ورأوا الملوك أكثر إلى هؤلاء الفلاسفة المؤمنين ميلًا فانضموا إليهم وأيدوهم واثقين من أن اشتراكهم وإياهم في الإيمان يستبقي لهم شيئًا من السلطة غير قليل، وما داموا لم يستطيعوا الاستئثار بها جميعًا فبعض الشر أهون من بعض. وفي مقامهم هذا وجهوا كل قوتهم لمحاربة الفلاسفة الذين لا ينصرون الدين المسيحي. وكانت حربهم المؤمنين من هؤلاء الفلاسفة الذين يقفون عند تأييد الإيمان بالله والروح والبعث من غير أن يؤيدوا الدين أشد من حربهم الفلاسفة الملحدين. ذلك بأن هؤلاء الفلاسفة كانوا يحاربون من القواعد التي وضعها رجال الدين وجعلوها من الدين ما لا يثبت أمام العقل، وكانوا في نفس الوقت يؤيدون الإيمان الذي لا غنى للمجموع عنه. وهذه الطريقة أشد خطرًا على سلطة رجال الدين من طريقة الملحدين؛ لأن الملحدين يهدمون الإيمان الثابت ولا يقيمون بناء غيره يحل محله؛ فهم بذلك بعيدون عن أن ينالوا تأييد المجموع، بعيدون عن أن يصلوا لثقة المجموع بهم كي يحكموه، وطبيعي وهذه هي الحال أن يوجه رجال الدين قوتهم لمقاتلة أمثال ديكارت وروسو وغيرهم من المؤمنين الذين ينافسون المتدينين في الوصول إلى تأييد المجموع إياهم وحكمهم إياه. وكيف لا يجزع الدينيون من المؤمنين، وقد حاول غير واحد من هؤلاء المؤمنين أمثال روسو أن يقيم دينًا جديدًا يحله محل الأديان المقررة.
على أن وصول الفلاسفة المتدينين للحكم دفع طبقة الفلاسفة كلها للصف الأول من طوائف الجمعية. ولم يكن من تأييد رجال الدين الفلاسفة المتدينين إلا أن زادت المعركة بين الفلاسفة أوارًا وشدة، وفي سبيل النصر فضح الفلاسفة المؤمنون والفلاسفة الملحدون جميعًا مخازي الكثيرين من رجال الدين، وأظهروا المجموع على شره هؤلاء وشهواتهم وحبهم المال، وتهالكهم على الملاذِّ وحرمانهم المجموع من كثير من أسباب نعمته وسعادته. وفي هذه الأثناء كلها كان العلم يزداد انتشارًا ورجاله قوة، ويفكرون في الوسيلة لإسعاد المجموع من طريقه.
•••
لم تكن المباحث العلمية إلى ذلك الحين بعيدة عن المباحث التجريدية (الفلسفية)، ولم يكن العلم ورجاله طائفة محددة تأبى الخضوع لغيرها والفناء فيه. بل كانت العلوم الوضعية التي استقلت فيما بعد وأصبحت جزءًا من مجموع الفلسفة الوضعية — ولا نقول: الديانة الوضعية أو ديانة الإنسانية كما قال أوجست كومت؛ لأن أحدًا لم يؤمن بهذه الديانة — كانت العلوم الوضعية في خدمة التجريد بعد أن كانت قبل ذلك في خدمة اللاهوت (أو الكلام أو الثيولوجيا). لكن هذه العلوم بدأت منذ القرن السادس عشر تستقل بنفسها استقلالًا صحيحًا. وقد عاونها على هذا الاستقلال أن غزرت مادتها، واتسع مدى بحثها فاستطاعت أن تتوقع إخضاع المعارف كلها لطريقتها: طريقة الملاحظة والمقارنة والاستنتاج لمعرفة سنن الكون الثابتة بالدليل المحسوس، والتي لا سبيل فيها إلى خلاف أو جدل. على أن فروعًا من المعارف كانت إلى ذلك الحين — وما يزال بعضها إلى اليوم — أقرب إلى الفنون منها إلى العلوم، وإن كانت كفنون أقرب إلى العلوم منها إلى التجريد (الميتافيزيقا)؛ لأن موضوعاتها مما يمكن تصور وقوعه تحت الملاحظة.
هذه الفروع من المعارف هي الخاصة بالإنسان وبالجماعة الإنسانية، كالمباحث النفسية وكالاقتصاد السياسي وكالاجتماعيات.
(ولست بحاجة إلى أن أبين هنا الفرق بين الفنون في هذا السبيل من البحث والمعلومات الفنية والفنون الجميلة، فهو فرق يعرفه كل من درس المبادئ الأولية في البحث العلمي).
قضى حسن الطالع أن يقرر الاقتصاد السياسي نظرية تقسيم العمل والتخصص فيه. وإن كانت هذه النظرية مقصورة في أول أمرها على الأعمال المادية عمومًا وعلى العمل الصناعي خصوصًا. فلما انفرج أمام العلم وأمام العقل أفق البحث والنظر تسربت النظرية الاقتصادية إلى ميادين العمل العلمي والعمل العقلي، وترتب عل ذلك أن تخصص كل عالم وكل مفكر لما يسّر له. فترتبت على ذلك نتيجته الطبيعية وازداد إنتاج البحوث العلمية والعقلية ازديادًا عظيمًا، وجاء الوقت الذي قضى بتقسيمها وتقديم الصالح للجماعة ونظامها وحكمها على ما هو أقل منه صلاحًا، وعلى ما لا يحتاج إليه الإنسان إلا لرياضة عقله ورياضة نفسه.
وسنحت فرصة هذا التقسيم على أثر الثورة الفرنسية. فقد جاءت هذه الثورة في وقت بلغ فيه النضال بين التجريديين من متدينين ومؤمنين وملاحدة أشده، ووقف فيه رجال الدين وراء التجريديين المؤمنين ينصرونهم بالطعن على عقيدة خصومهم، ووقف هؤلاء الخصوم يظهرون الناس على ما خفي من فضائح رجال الدين ومخازيهم، ويدلونهم على أن أولئك الذين يتظاهرون بالورع والتقوى وبالزهد في الدنيا، وباطل زخرفها وغرور متاعها أكثر الناس رذائل وخطايا، وأحرصهم على اكتناز الأموال وإن أظهروا التعفف عنها، ويشيرون لهم باليد واللسان إلى انكداس الأموال المرصودة على الكنائس والتي يتخذها رجال الدين وسيلة إلى لذتهم وإلى إفساد الضمائر والذمم، ويطلعونهم من الأمور على ما يؤكدون معه أن القلنسوة والطيلسان لا يستران إلا نفاقًا وكذبًا وإلا ذممًا خربة، ونفوسًا خاوية من كل فضيلة وضمائر معروضة للبيع عرض السلع. وقضى الحظ أن يكون صاحب إنجيل الثورة الفرنسية السياسي جان جاك روسو … وروسو كان مؤمنًا أشد الإيمان، ولكنه كان مع احترامه التام لأصحاب الأديان، يعتبرهم عظماء هدوا العالم في عصورهم على النحو الذي كان يمكن هداية الناس من طريقه، كما كان خصمًا لرجال الدين في عصره لدودًا. وكان له إلى جانب تعاليمه السياسية الحرة التي اهتدى الناس بها إبان الثورة نظرية في الدين جديدة هي نظرية الديانة الطبيعية التي تقف عند الإيمان بالله وبالروح وباليوم الآخر، وتذر لصاحب السيادة في الدولة تدبير طقوس هذه الديانة كما تذر له تدبير شئون الدولة السياسية، وفي طبائع المجاميع إذا وثقوا بزعيم أن يتبعوه في كل أفكاره؛ لذلك كانت سياسة روسو وديانته الطبيعية التي وضعها ونظرياته في التربية وآراؤه في الحرية تطبق إبان الثورة الفرنسية في أوسع دائرة ممكنة. على أن أمد ذلك لم يطل إلا ريثما استغل نابليون هذه الثورة لمجد نفسه، فوجه النفوس غير اتجاهها الأول، وإن جاهر بأنه إنما ينشر بحروبه مبادئ الثورة ويقضي على خصومها. فلما قضى نابليون وانقضى بانقضائه سحره الناس وبهرهم به، عادوا يفكرون في أمر الثورة ويريدون جني نتائجها. وفي سبيل هذه الغاية انصرف كثير من المفكرين يضعون من صور أنظمة الحكم ما يرونه كفيلًا بحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت إلى الثورة. على أن واحدًا من هؤلاء المفكرين ذهب غير مذهبهم، ورأى أن تصور النظم لا يكفي ما دام طريق التفكير لا يتفق وهذه النظم. هذا المفكر العظيم هو أوجست كومت صاحب الفلسفة الوضعية أو الواقعية. وأول من نظم عقد العلوم الوضعية في النظام الذي ساد أوروبا من ذلك الحين، والذي ما يزال صاحب السيادة برغم الحملات العنيفة التي توجه إليه، والتي تكاد ترج أساسه من حين إلى حين.
وقد نظم كومت العلوم الوضعية فجعل الرياضة مبدأها وعلم الاجتماع غايتها؛ فاشتملت بذلك كل ما يحتاج إليه الفرد وما تحتاج إليه الجماعة لنظامها المادي والعقلي في الحياة ولحسن صلاتها بالكون كله. ولم تدع جانبًا إلا المضاربات النظرية فيما وراء المادة — أو ما وراء الطبيعة — مما لا يخضع للطرائق العلمية. وقد أراد أن يقيم على أساس هذه العلوم (الديانة الإنسانية) لهذه المجاميع؛ لكنه لم ينجح لأن طبيعة العلم دوام التطور، في حين أن طبيعة الدين تقتضي الثبات والاستقرار. ولذلك بقي اسم كومت مقرونًا بالفلسفة الوضعية. ودخلت ديانة الإنسانية ودين الطبيعة الذي وضعه روسو في صف المضاربات النظرية.
استقر هذا النظام الفكري الذي وضعه كومت، وانتشر في العالم المتحضر كله وأخصب في نتائجه وانضوت تحت كنفه كل البحوث الاجتماعية والنفسانية، بل انضوت البحوث الروحية هي الأخرى تحت كنفه، وعلى مقتضاه تكيفت نظم الحكم في العالم، وأصبح رجال السياسة وأرباب الدولة من أنصاره وأعوانه، وتضاءل التجريديون، واكتفى رجال الدين بميدانهم يقومون فيه بالإشراف على حياة الإيمان في النفوس وقوة العقائد في القلوب، وقيام الناس بالفروض والسنن إشراف إرشاد وهداية لا إشراف حكم وسلطان.
أترى رجال الدين راضين بهذا الحظ من الحياة العامة؟ ليس الجواب سهلًا. ولكنهم قانعون به راضون بقناعتهم أو كارهون لها قائمون اليوم في خدمة السلطان وذوي السلطان، قيام رجال العلم يوم كان السلطان لرجال الدين. وستظل الحال كذلك ما دام العلم قادرًا على إرضاء عقول الجماعة، قديرًا في نفس الوقت على سداد حاجاتها المادية. فمن الحق علينا أن نقول: إنه منذ فتحت العلوم للصناعات المختلفة الأبواب واسعة، وأتاحت للإنسان العادي من أسباب النعيم والترف ما لم يكن يطمع فيه رئيس قبيلة أو ملك من ملوك العصور الأولى، آمن الناس بأن العلم هو وحده الذي يقوم بسداد حاجات الفكر وأغراض الحياة المادية معًا، وأن نظام الحكم وتصوير غايات الحياة يجب لذلك أن تتفق معه، وأن رجاله يجب أن يمسكوا بيدهم تصريف مقاليد الدولة وأن يلوا أمورها. وإلى أن يقفل في العلم باب الاجتهاد ويجمد، ويبقى رجاله حفاظًا لتراث الماضي، فستبقى الحال كما هي اليوم.
على أن الحظ الذي قسم لرجال الدين ليس من شأنه أن يجعلهم أبدًا راضين. وهم إذا وجدوا يومًا من الأيام للسلطة منفذًا نفذوا منه. وإذا كانت الحرب بينهم وبين رجال العلم اليوم هادئة، فذلك لما قدمنا في مقالنا السابق من أن الغلب غير مأمول اليوم فيه.
•••
هل الإسلام في هذا الموضوع على خلاف سائر الأديان لتناوله أمور الدين وأمور الدنيا، فرجال الدين فيه هم كذلك العلماء؟ وهل يسد العلم أبدًا حاجات البشر؛ لأن أساس العلم التطور والتجديد فلا يمكن أن يقفل فيه باب الاجتهاد، ولا يمكن أن يجمد رجاله؛ هاتان المسألتان نتناولهما بالبحث فيما تبقى من هذا الفصل.
٣
قبل الحديث عن الإسلام وهل هو على خلاف سائر الأديان إذ يشمل أمور الدين والدنيا، فرجال الدين هم فيه العلماء كذلك. وعن العلم الوضعي، وهل يسد أبدًا حاجات البشر — أريد أن أوضح فكرتي الأساسية من أن الخلاف ليس بين الدين والعلم، ولكنه بين رجال الدين ورجال العلم بعدما رأيت من بعض الكاتبين ما شعرت معه بأن أساء تقدير حدود الفكرة، فظن أنها تعني أن كل رجل من رجال الدين إنما ينصر الدين ويعزّزه ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم، وأن كل عالم من العلماء إنما يعمل لزيادة العلم بسطة وقوة؛ ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم. فتوجيه الفكرة هذه الوجهة والاعتراض عليها بأن الغزالي أو ابن رشد أو «كانت» أو «أوجست كومت» لم يكن ينصر الدين أو العلم ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم بعيد كل البعد عن حسن تفهمها وإدراك حدودها. فخصومة رجال الدين ورجال العلم خصومة طائفة لطائفة، أو عقلية لعقلية — على حد تعبير بعضهم. وابن حنبل وروسو وكومت إنما كان ينصر كل منهم فكرة معينة تلتف حولها طائفة الدينيين أو طائفة التجريديين أو طائفة العلماء. وتغلب طائفة من هذه الطوائف معناه خضوع الجمهرة الكبرى من الناس لتيار تفكيرها. وإذا تغلب تيار فكري وضع أصحابه نظام الحكم وأقاموه وتولى أنصاره تنفيذه.
فسواء أكان هؤلاء الأفراد في نضالهم لسؤدد فكرتهم مدركين أم غير مدركين في سبيل تنظيم الحكم وولايته، فتلك نتيجة محتومة لنضالهم. وما أكثر ما يعمل الناس لتحقيق غايات محتومة بالطبيعة ثم هم لا يدركون — أو بالأحرى لا يكادون يدركون — أنهم يعملون في سبيل هذه الغاية. أوليس الحب في أدنى درجاته مثله في أسمى درجاته، إنما يرمي لغاية طبيعية محتومة هي تخليد النوع وتحسينه؟
•••
والآن نعود إلى موضوعنا. فهل الإسلام دين كسائر الأديان في أسسه وغاياته، أو هو يختلف عن سائر الأديان أن كان يشمل أمور الدين والدنيا، والعلم بعض أمور الدنيا؛ فرجال الدين الإسلامي هم لذلك العلماء؟
يقص القرآن الكريم نبأ من سبق محمدًا ﷺ من الأنبياء والمرسلين، ويبين في وضوح أنما كان يرسل الله لقوم رسولًا بالهدى والبينات إذا فسق هؤلاء القوم وضلوا السبيل، واتخذوا من دون الله أربابًا. ولقد كان مبعث الرسل — عليهم السلام — ينحصر في قسم ضيق من المعمورة المعروفة في ذلك الحين؛ لأن كثيرًا من سائر الأقسام كان في درك من الهمجية فلا يستطيع أهله الوصول لإدراك ما في الأديان من معاني الإيمان، وكان الرسول يبعث بعد أن يحرف المتكلمون كلام الرسول الذي سبقه عن مواضعه، ويدخلون عليه من الأباطيل والخرافات ما يفسده ويضل تابعيه، وكان كل دين ينقسم إلى عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات. فأما العقائد فظلت واحدة في الأديان كلها: الإيمان بالله وبالروح وبالبعث. وأما العبادات فتحورت بعض الشيء بتسلسل الأديان وإن بقيت قريبة الشبه بعضها من بعض؛ فالصلاة والصيام والزكاة والحج تراها في اليهودية والنصرانية والإسلام مع فرق قليل أو كثير في الطقوس التي يقوم بها أهل كل دين عنها فيما يقوم به أهل الدين الآخر، والعقائد والعبادات فروض واجبة الأداء على كل متدين وإلا كان مقصرًا في دينه وفي حق الله. والعقائد غير قابلة بطبيعتها للتطور؛ لأنها قائمة لما بين الفرد وربه غير متعلقة بالجماعة؛ وهي لذلك واحدة في الأديان جميعًا. أما العبادات فهي وإن قامت بين الفرد وربه إلا أنها تتصل بالجماعة في أن الأفراد من أهل الدين الواحد يؤدونها لله وتيرة واحدة؛ وهي لذلك دليل على أن الفرد على دين الجماعة، ويمكن لها إذن أن تؤمن له.
وقد تناولت الأديان جميعًا الأخلاق على خلاف بينها في الشدة والهوادة في الأمر بها أو النهي عنها، وإن جعلت المثوبة عليها والجزاء عنها في الدار الآخرة لا في هذه الدار الدنيا.
فأما المعاملات فاختلفت الأديان في مبلغ تناولها إياها. فمنها من لم يمسسها إلا مسًّا خفيفًا كالمسيحية فـ «لا تزن ولا تسرق» وما إليها من الأوامر المتصلة بعلاقات الناس بعضهم ببعض هي بعض ما يعتبر من المعاملات. لكن المسيحية لم ترتب على مخالفة هذه الأوامر عقابًا دنيويًا، بل رتبت عليها عقابًا دينيًّا. أما اليهودية والإسلام فتناولا المعاملات أكثر مما تناولتها المسيحية؛ وإن كان تناولهما إياها لم يتعد الحدود والقواعد العامة؛ لأن المعاملات تتطور بتطور الجماعة. فوضع أنظمة محدودة لكل دقيقة وجليلة لا يتفق مع هذا التطور.
وهذه العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات مما اشتملته الأديان، إنما نزل به الوحي على الرسل من عند الله؛ وهي لذلك ثابتة في أصولها لا يصح أن تخضع لحكم التطور.
وكالأديان المنزلة سائر الأديان. فالبوذية والبرهمية وغيرهما تنقسم كل منها إلى عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات. وبعض هذه الأديان تحدث عن المعاملات أكثر مما تحدث عنه أي دين مُنزَّل.
ولقد يكون الإسلام بين الأديان المنزلة أكثرهم تنظيمًا للمعاملات، وإن كان ما ورد في القرآن الكريم عنها لم يتعد القواعد العامة كما قدمنا. وكان تنظيم المعاملات التي تعاقبت بعد انقضاء عهد الخلفاء الراشدين خاضعًا لتطور الجماعات الإسلامية في حدود كتاب الله وسنة رسوله.
هذا وأما العلم الوضعي القائم على أساس الملاحظة والاستنباط، فيتناول ما يتناول من أمور الوجود لمعرفة السنن والقوانين العامة التي تحكم نظام الوجود. وقد اصطلح العلماء على تقسيم العلوم النظرية التي تتناول هذه السنن والقوانين تقسيمًا يتفق مع نظام تدرجها من العموم والبساطة. فما تناول من هذه العلوم كل الوجود كان أعمها وما لم يحتج إلى غيره من العلوم لاستنباط سننه وقوانينه كان أبسطها. وقد اختلفوا بعض الشيء في طريق التقسيم، ولكن خلافهم لا يؤثر في نظام تدرج العلوم وتبويبها بما يجني على هذه العلوم، أو يؤثر في سنن الوجود التي تقررها.
وأعم العلوم وأبسطها في نظر أوجست كومت الرياضيات، فهي في غير حاجة إلى أي علم آخر لاستنباط سننها، وهي تتناول الوجود وما فيه جميعًا. ويلي الرياضيات في العموم والبساطة الفلك، فالطبيعة فالكيمياء فالفسيولوجيا فعلم الاجتماع. ويسير عليك إذا قرنت هذه العلوم التي تقوم عليها الفلسفة الواقعية (أو الوضعية) إلى ما جاءت به الأديان من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات، ثم قرنت أصل الدين وهو الوحي إلى أصل العلم وهو الملاحظة والاستقراء أن ترى اختلاف الميدان الذي يتناوله كل منهما، وأن تحكم بأن هذا الاختلاف لا يدع بينهما مجالًا لخلاف، إلا أن يتحكك رجال العلم في تفاصيل ليست من أصول الدين وقواعده في شيء، أو أن يتحكك رجال الدين في تفاصيل ليست من أصول العلم وقواعده في شيء.
أما الأخلاق والمعاملات فيتناولهما العلم تمام التناول، وينفي فيهما ويثبت ما شاء له النفي والإثبات. ولقد تنتهي مقررات العلم في هذا الباب الذي لم يبلغ بعد حد الكمال العلمي إلى ما يخالف مقررات الدين فيه. مثال ذلك مسألة الربا وتحريم الدين له وتحليل العلم الاقتصادي إياه، ومسألة العقوبات التي وردت في الكتب المنزلة كقطع يد السارق، ورجم الزاني مما ورد في القرآن الكريم، وما قال العلم الجنائي بتحويره. على أن هذا الخلاف ليس خلافًا بين الدين والعلم؛ لأنه لا يتناول أصول الدين ولا ينقض سنن العلم، بل هو خلاف على تفاصيل ليس الخلاف عليها محرمًا في الدين ولا في العلم، وكيف يكون خلافًا في أصول الدين، وقواعد الإسلام خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا؛ وليست المسائل التي قدمنا من هذه القواعد في شيء. وكيف يكون خلافًا في أصول الدين لا يتسامح الناس فيه، وقد قال تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ. فمثل هذا الخلاف مما تقع عليه المغفرة قطعًا، وهذا الخلاف لا يمس كذلك أصول العلم الاجتماعي وما ينضوي تحته مما لا يزال في سبيل التطور، ثم هذه المسائل التي عليها الخلاف لا تمس أصلًا ثابتًا من أسسه ولا قاعدة مقررة من قواعده.
لكن الخلاف كان وما يزال قائمًا بين رجال الدين ورجال العلم. وهو خلاف على السلطة ونظام الحكم — كما بينا من قبل — وقد انتصر رجال العلم، ونظموا الحكم واستأثر أنصارهم به في كل أنحاء العالم المتمدن، وبقي لرجال الدين الإشراف على قيام ما هو جوهر الدين في النفوس إشراف نصيحة وإرشاد لا إشراف حكم وسلطان.
والمسلمون في ذلك كغير المسلمين؛ لأن طبائع الأديان واحدة كما تقدم.
•••
هل يسد العلم أبدًا حاجات البشر فيبقى العلماء وأنصارهم مستأثرين لذلك بالسلطة وبتنظيم الحكم؟
هذه هي المسألة الثالثة التي أثارها بحثنا في الدين والعلم. ورجال الدين الذين يرون أن المادة والقوة ليستا منفصلتين، وأنهما من جوهر واحد، وأن المادة تستحيل إلى قوة كما أن القوة تستحيل إلى مادة، وأن العالم وحدة في الوجود والمكان والزمن، وأن أساس الإيمان هو ضعف الفرد وضعف الجماعات التي لم تقف من أسرار الكون على كثير ينجيها من الخوف من الموت، ومما يجر إليه هذا الخوف من ألوان التسليم والإيمان أما هؤلاء فيرون أن العلم لن يفلس، وأنه سيسد حاجات البشر كلها، وسيصل يومًا في القريب أو في البعيد إلى هتك حجب الغيب أو على الأقل؛ لإثبات أن هذا الغيب ليس حقيقة تخشى، بل هو وهْمٌ يخافه الناس اليوم؛ لأنهم لم يؤمنوا بعد بأنه وهْمٌ. ويقيم هؤلاء دليلًا على صدق نظريتهم أن المشتغلين بعلم الأرواح في هذه الأيام يأخذون أخذ العلماء الواقعيين في طريقة البحث، فإذا وصل هؤلاء إلى إثبات علمهم الروحاني، وإلى استنباط قوانينه وسننه وإلى وضعه الوضع العلمي الذي يبيح لكل إنسان يريد الوقوف على الحقيقة أن يقف عليها من طريق أدواته العلمية — يومئذ توضع مسألة الأرواح من نظام العلوم فوق مسألة علم الاجتماع وعلم النفس، أما إن عجز الروحانيون أخيرًا وتبين أنهم يدورون حول تصورات الطريق إلى إثباتها بوسيلة من الوسائل الكثيرة التي ما يزال العلم يبدعها كل يوم، فيكون ذلك دليلًا على أن ليس لهذا العلم الذي يريدون إثباته قوام، فيزول لذلك خطره وينقشع عن الناس كابوسه، ويقتنعون بأن ليس بعد الحياة شيء، وبأن الحياة غاية الحياة، وأن الحياة تطور أزلي أبدي الإنسان فيه كفرد ذرة تافهة سريعة التطور؛ وكجنس لا يمتاز كثيرًا عن سائر الأجناس إلا من حيث إنه — فيما نظن — أرْقاها في سبيل التطور، وأدناها إلى مرتبة أسمى من مرتبته الحالية، ومن كل ما في الوجود من مراتب.
أما الفلاسفة المؤمنون فيرون العلم في صورته وبطرائقه الوضعية أقصر من أن يحيط بأسرار الكون، وبالغيب العظيم الذي يكتنف الإنسان، ويذكرون أن الإنسانية، وإن بلغت ما بلغت من الرقي، وإن تفتق عقلها عما يتفتق عنه من ذكاء ومهارة، وإن أحاطت بما أحاطت به مما حولها من الكائنات، فستظل أبدًا عاجزة عن كشف سر الوجود. ذلك بأن الإنسانية جزء صغير من الكون. هي جزء صغير في الكم وفي الحيز الذي تشغله وفي الزمان الذي بدأت فيه، والذي تنتهي إليه إذا قدر للكون من صور التطور ما يجعل غيرها من الكائنات أسمى منها مقامًا ومكانة. فمحال عليها وهذه حالها أن تحل لغز الوجود حلًّا وضعيًّا بطرائق العلم الحالية. ثم إن العلم يقرر أنه لا يبحث عن أسباب الأشياء ولماذا كانت فحسب؛ وإنما يبحث عن كيف الأشياء والقوانين والسنن التي تحكم هذا الكيف، وأسباب الأشياء ولماذا كانت تشغل تصور الإنسان وخياله وتطلب إليه دائمًا أن يجد ما يرضي هذا التصور الذي لا يطمئن إلى الظلام، كما لا يطمئن العقل إلى الجهل. وإذا كان الناس قد شغلوا بالعلم الوضعي وبلغ من شغفهم به أنهم زعموه، يومًا، قديرًا على حل كل معضلة؛ فذلك لأنه كشف عنهم ضر الجمود في عصر كان الجمود فيه قتَّالًا، وكان رجال الدين هم مثال الجمود وصورته. أما وقد حطم الجمود وقد بالغت المعاول في تحطيمه حتى بلغت ذلك النور الذي كان يضيء ظلمات الغيب والذي اختفى في هذه الهياكل الخربة التي كانت معدة في الماضي لتكون المنارة التي يشع منها ويضيء من خلالها، فقد صار واجبًا أن تقوم منائر أخرى غير خربة ينبعث الإيمان من خلالها حيًّا قويًّا نزيهًا عن شبهات المادة وظلمها متصلًا بأسمى أسباب الكون، فتسير الإنسانية على هداه، ولا يضل السواد السبيل بارتكاسه في حمأة الحيوانية الدنيا التي ارتكس فيها أولئك الجامدون الذين عبدوا المال أكثر من عبادتهم ربهم.
ومحاولات الفلاسفة والعلماء الوضعيين في هذا الباب دليل قاطع بصدق هذا الرأي في نظر أصحابه. فدين الطبيعة الذي حاول روسو وضعه؛ وديانة الإنسانية التي أراد أوجست كومت أبو العلم الواقعي بعثها. هما بعض هذه المحاولات. ثم إن الذين يشتغلون بالروحيات والروحانيات في الوقت الحاضر، وإن اشتغلوا بها على طرائق العلم فليس لهم من دافع إلى هذا الاشتغال إلا من يحيط بهم من ظمأ النفوس إلى الإيمان ونفورها في نفس الوقت من رجال الدين وإيمانهم. يؤيد ما سبق في نظر أصحابه دائمًا هذا الاتجاه الذي تسير نحوه أوروبا — منشأ العلم ومهبطه — منذ وضعت الحرب أوزارها، والذي تبتغي به أن تجد في الشرق مهبط الوحي ومبعث الديانات هدى دياجير ظلمة القلوب. فلو أن العلم كان يسد أبدًا حاجات البشر لظل إيمان الناس به على ما كان في منتصف القرن التاسع عشر، ولما اضطرب الناس في أوروبا ومن بينهم عدد كبير من العلماء يريدون إيمانًا كإيمان العجائز.
•••
ونحن لا نقطع أي الرأيين حق. فنحن لم نؤت ذكاءً يخترق حجب المستقبل، ويكشف ستاره ولم نؤت جرأة العليم بالإيمان وبالعلم وبالدين، فنقضي قضاء الجريء الذي لا يعرف التردد. لكنا قانعون بموقف الشك بين هذه المضارب الفكرية الظريفة. وكل الذي نقطع به أن الخلاف ليس بين هذه المضاربات لذاتها، ولكنه خلاف كان ولن يزال على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. فالسلطة إنما يليها الذين يستطيعون سداد حاجات الجماعة العقلية والنفسية والمادية. وولاية الحكم غريزة في النفس يسعى إليها الإنسان ما استطاع لذلك سبيلًا. وأنت ترى الرجل الساذج من القرية إذا سمحت له ظروفه يومًا من الأيام أن يكون له على غيره سلطان سعى لذلك سعيه، وعمل للظفر منه بغايته، وكالرجل الساذج غيره من الناس. فتلك فطرة عامة لا تقتصر على الإنسان وحده، وسبيل تحقيقها في الجماعات أن تسد حاجة الجماعات. والعلم ورجاله يسدون اليوم هذه الحاجة؛ ولذلك وُلِّي هؤلاء الرجال وأنصارهم الحكم. فإذا ظلوا في مثل موقفهم ظل الحكم لهم. وإن تغلب غيرهم عليهم انتقل الحكم إلى هذا الغير.
وكذلك كانت الخصومة بين الرجال لا بين العلم ولا بين الأفكار من حيث هي. كانت الخصومة للاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. وكل الذي ترجوه الإنسانية في تطورها أن يسير بها أولو الأمر فيها إلى أسمى ما ترجوه من غايات النظام والتقدم والسلام.