أوجست كومت وفلسفته١
«لقد أخلصت حياتي لأستنبط من العلم الثابت الأسس اللازمة للفلسفة الصحيحة التي تسمح لي أن أقيم الديانة الحقة على موجبها.»
(١) أسس فلسفة كومت
كل مذهب جديد في الفلسفة يمت؛ وإن ظهر فذًّا غريبًا؛ بلحمة نسب ضيقة للمذاهب التي سبقته، كما يرتبط بما حوله من الأصوات العامة ارتباطًا يعدل تلك اللحمة متانة واتصالًا، وإن كان أقل منها ظهورًا ووضوحًا. فهو متضامن مع الشئون الاجتماعية كافة تضامنًا يجعل تأثره بما في البيئة المحيطة به من المظاهر الدينية والفلسفية والاقتصادية والعقلية لا يقل عن أثره فيها؛ لذلك ليس يكفي درس المذهب الجديد على أنه وحدة قائمة بذاتها مستقلة عما سواها. بل يجب النظر إليه ضمن المجموع العام الذي لا تتضح أهم أركانه إلا به.
وهذه القاعدة — وهي إحدى قواعد الطريقة التاريخية التي أكثر كومت من ترديدها — تنطبق تمام الانطباق على مذهبه. فمراجعة نصوصه وحدها لا تكفي لفهم نظريته فهمًا تامًّا، ولا لتقدير فكرته العامة على وجه الضبط، ولا تكفي لمعرفة الأسباب التي أدت بالمؤلف ليجعل لبعض نظرياته خطرًا خاصًّا. وللوصول إلى ذلك كله يجب أن نقف مع مراجعة النصوص على الظروف التاريخية التي ظهر المبدأ في أيامها، وعلى حركة الأفكار العامة التي عاصرته، وعلى المؤثرات التي أثرت في نفس الفيلسوف أيًّا كان نوعها.
فالعصر الذي ظهرت فيه الفلسفة الواقعية (الوضعية) كان متأثرًا بالثورة الفرنسية أكثر مما كان متأثرًا بأي حدث آخر. وذلك ما قرره كومت صراحة. فلولا الثورة ما ظهر مبدأ التقدم ولا كان العلم الاجتماعي الذي بني عليه، ولا الفلسفة الواقعية التي جاءت على أثرهما. لكن هذه الهزة الاجتماعية غير العادية أحدثت حركة كبيرة في دائرة المضاربات الفلسفية والسياسية، وقد اختلفت نتائج هذه الحركة باختلاف قوة الأذهان التي صادفتها وعبقريتها، وإن كانت بعض الظواهر الخاصة قد لفتت كبار المفكرين وضعافهم على السواء. من ذلك مثلًا أن كان كل مفكر من الذين ظهروا في بدء القرن التاسع عشر يسائل نفسه: أي نظام يجب أن يقوم على أثر الثورة؟ ولم يكن الشكل الذي يريدونه للحكومة كل همهم من سؤالهم، بل كانوا يريدون أيضًا الاهتداء إلى المبادئ الأساسية لنظام الاجتماع، وكانت هذه المسألة لا تحتمل في نظرهم إمهالًا من الوجهة العلمية كما كانوا يحسبونها أم المسائل من الجهة النظرية. وهذه المسألة في صورها المختلفة هي التي شغلت «شاتوبريان» كما شغلت «فورييه» «وسان سيمون»، وتعلق بها «يوسف دمتر» كما عقلها «كوزن كومت».
لذلك انصرفت المضاربات الفلسفية في مبدأ القرن التاسع عشر إلى المسائل الدينية والاجتماعية. صحيح أن تقدم العلوم الواقعية تقدمًا واضحًا مطردًا كان أمرًا لا ريبة فيه، ولا يجوز إنكاره في بحث غايته استظهار فلسفة أوجست كومت. لكن عناية كومت بالمسائل العلمية كل تلك العناية إنما كان يقصد بها إلى حل المسألة الاجتماعية، وكانت كل غايته من الفلسفة أن يضع الأسس العقلية لبناء الجمعية، وأن يضع كذلك قواعد دين يحل محل الكثلكة التي كانت قد أتمت في نظره مهمتها.
قال رانك: «القرن التاسع عشر قرن إصلاح»، وتلك عبارة دقيقة تصور أحد مظاهر هذا القرن الخطيرة من جهته التاريخية. ولقد أراد به أهله أن يكون عصر إصلاح حقًّا. فكان الإصلاح وجهة معظم المبادئ الفلسفية التي صورت كنه طبيعة ذلك العصر، على أن هذا الإصلاح كان يثبت غير قليل من النتائج التي اكتسبت في أثناء الأزمة ويعضدها، كما أن نظريات جديدة استدعاها تقدم الصناعة الكبرى، جعلت بعيدي النظر من المفكرين يحسون تمام الإحساس بأن العصر الذي رغب الناس أشد الرغبة في انتهائه لم يكن في الحقيقة إلا عند أوله ومبتدئه.
واعتقد أوجست كومت كما اعتقد كثير من معاصريه أنه مبعوث لوضع «النظام الاجتماعي الجديد». لكنه كان يخالف من سواه في النظر. فكل من أولئك المصلحين كان يبدأ ما يرتئيه من مشروعات النظم صالحًا لحل المسألة الاجتماعية، ويصرف كل مجهوداته بعد ذلك لتبرير رأيه. ولما كانت هذه المسألة في نظرهم لا تحتمل إمهالًا، فقد قصروا أفكارهم عليها، أما كومت فكان يرى هذه الطريقة عقيمة محققة الخذلان. ذلك بأن المسألة الاجتماعية لا يمكن حلها مباشرة، بل يجب قبل التعرض لها حل مسائل أخرى نظرية صرفة، وهي هاته المسائل التي يجب البدء بها إذا كان للإنسان هم غير الاستكثار من الأحلام السياسية والأوهام الاجتماعية.
فالنظم عند كومت تابعة للأخلاق، والأخلاق تابعة للعقائد. ومن العبث وضع مشروعات نظم جديدة ما لم تكن الأخلاق قد رتبت، ونظمت وما لم يكن أساس هذا النظام مذهبًا فكريًّا قد تم وضعه وقبلته النفوس كلها على أنه الحق، وآمنت به ما آمنت أوروبا بآي الكثلكة في القرون الوسطى. والمسألة الاجتماعية تبقى لا حل لها ما لم توضع فلسفة جديدة تكون أساسًا لحلها.
طرافة كومت أنه جعل يبحث في العلم والفلسفة عن المبادئ التي يبنى عليها النظام الاجتماعي الذي كان غاية كل مجهوداته؛ وبذلك خالف معاصريه من المصلحين في الوسيلة، وإن اتفق معهم في الغرض. فهو مثلهم يريد وضع سياسة معينة. لكنه يريدها سياسة وضعية أساسها نظام أخلاقي ومذهب فلسفي وضعيان كذلك. ولئن كانت هذه السياسة هي علة وجود المذهب، ومن أجلها وضعه كومت فإنها إذا فقدت مبرر وجودها ومصدر سلطانها، وأصبحت من شوارد الخواطر. فالفلسفة لازمة لتكون أساسًا للسياسة، كما أن السياسة لازمة لتكوين الفلسفة وبعث روح التناسق والوحدة فيها.
والآن فأي سبب دعا كومت ليتعرض لتلك المسألة الكبيرة التي شغلت أذهان كل معاصرية على نحو اختص به هو من دونهم؟ ليس في مقدورنا بسط ترجمته هنا بسطًا مستفيضًا يفيض على هذه المسألة نورًا يجلوها، ولكنا نكتفي فنذكر أنه كان من أسرة كاثوليكية ملكية. وعلى الرغم مما ذكره من تركه عقائد عشيرته السياسية والدينية لأول ما بلغ الثالثة عشرة من عمره، فإن العقائد الدينية لم تمح من نفسه بمقدار ما كان يظن. فقد بقي كل حياته شديد الإعجاب بالكاثوليكية، وهو لا ينكر ذلك ولكنه يعزوه إلى ما تأثر به من كتابات جوزف دمتر. غير أنه مهما يكن قد تذوق كتاب (البابا) فإن هذا الميل الخاص يرجع بعضه إلى ما تركته الطفولة من آثار بقيت مستكنة في نفس حساسة سريعة التأثر.
وإذن فلقد كان كومت، من قبل أن يعرف سان سيمون، ملمًّا بقسم عظيم من المادة التي كانت قوام مبدئه في المستقبل. وذلك ما تشهد به رسائله إلى صديقه فالا. ولكن مؤلفاته لم تخرج إلى ذلك الحين عن موضعين مختلفين. فكان بعضها خاصًّا بالمسائل العلمية (الرياضيات والطبيعة والكيمياء والعلوم الطبيعية) والبعض الآخر أميل للمسائل السياسية (كالتاريخ والسياسة والمسائل الاجتماعية).
وقد التقى كومت بسان سيمون سنة ١٨١٨ فسحر به وتهالك عليه، وجعل يشتغل معه أربع سنوات كان في خلالها يحبه ويحترمه احترام التلميذ أستاذه، ويغذو نفسه من أفكاره ويشترك وإياه في مؤلفاته ومشروعاته، ويدعو نفسه (تلميذ المسيو سان سيمون)، لكنه انفصل عن هذا الأستاذ المحترم المحبوب في سنة ١٨٢٢. فماذا ترى كان قد حصل؟
إن الأسباب التي تقدم بها كومت لم تكن إلا ذات أهمية ثانوية. ولكن الأستاذ وتلميذه كانا لا بد مفترقين عاجلًا أو آجلًا لما بينهما من التباين المطلق. فلقد كان سان سيمون لنبوغه وحدّةَّ خاطره يلقن بالكثير من الأفكار والآراء الجديدة التي ينتج في المستقبل أكثرها ويفرخ. ولكنه كان سريع الإثبات، قليل التدليل، ليس عنده من الصبر ما يسمح له بالوقوف طويلًا عند موضوع معين؛ ليتعمق في النظر فيه نظرًا مرتبًا. أما كومت فكان على العكس من صاحبه يرى رأي ديكارت أن الفهم واجب كل الوجوب في المسائل العلمية، وأن (التماسك المنطقي) آكد دليل للحقيقة؛ لهذا لم يكن له أن يكتفي بمقالات سان سيمون المتقطعة زمنًا طويلًا، ولكنه أخذ ما صح من تلك الإلهامات المتواترة غير المرتبة، وإن حسب أن مذهبه إنما هو الذي أثبت لها قيمتها العلمية؛ لأن مذهبه هو وحده الذي استطاع أن يرتبها ويردها إلى أصولها.
من ذلك يظهر أن أثر سان سيمون في كومت كان عظيمًا، وأن عبقرية كومت الفلسفية مؤكدة لا يأتيها الشك. وأكثر ما كان من أثر سان سيمون أنه أوحى إلى كومت بمجموع من الأفكار العامة والآراء الخاصة التي أخذ بها فيما قرر من فلسفة التاريخ، كما أنه عرف كيف يجمع بين الفرعين اللذين ألف فيهما من قبل مفردًا كلًّا عن الآخر، وذلك باستنباط علم يكون اجتماعيًّا وسياسة تكون علمية. ولولا سان سيمون لما جال بخاطر كومت أن يوفق بين هذين الفرعين من فروع العلم بعد أن كان يعمل في كل منهما مستقلًّا، أو لجاءه هذا التوفيق متأخرًا. لهذا ليس لنا أن نغمط سان سيمون ما يعترف له به كومت نفسه من أنه وجه تلميذه في أكثر السبل موافقة لذهنه ولنبوغه.
ولقد طعن على تناسق هذا المبدأ ووحدته، وإن كومت نفسه ليميز في حياته بين حالين متعاقبتين. كان هو في أولاهما — على حد قوله من غير تواضع باطل — أرسطو؛ ثم صار في الثانية القديس بولس. وإنما هيَّأ مؤسس الفلسفة الأسباب لوضع الديانة «فقد أخلصت حياتي لأستخلص من العلم الثابت الأسس اللازمة للفلسفة الصحيحة التي تسمح لي أن أقيم الديانة الحقة على موجبها».
على أن جماعة من أكبر أصحاب كومت، وأكثرهم مناصرة له في مبدئه أمثال لتريه، قد وقفوا عن اتِّباعه في حالته الثانية ولم يقنعهم ما عندهم من الإعجاب بالفيلسوف لينضموا إلى القديس.
ولقد دفع كومت عن نفسه هذه التهم التي حَزَّتْ في كبده، وبلغت من نفسه لصدورها من أولئك الذين عدهم أشد أصحابه إخلاصًا وأكثر أصدقائه وفاء. وإن ما سنجيء به في هذا الكتاب قمين أن يظهر خطأهم ويبين أن طريقتي كومت ليستا متنافيتين، بل تكمل إحداهما الأخرى كما تكمل حاله الثانية حاله الأولى.
صحيح أن أفكار كومت وكتاباته أخذت صبغة صوفية في السنين العشر الأخيرة من حياته، وأن صلته القصيرة بمدام دفو، ثم موت هذه الصديقة «القديسة» هزا مشاعره هزة شديدة، وأن هذه المشاعر والعواطف تحولت في نفسه إلى أفكار دخلت خلال طريقته ومذهبه في وقت كان يعمل فيه لتأسيس ديانة للإنسانية، زعم أنه سيكون لها على النفوس سلطان يعدل ما كان للمسيحية عليها، وأن اهتياج عواطفه واهتمامه بالديانة الجديدة التي يقيمها وشعوره بالرسالة القدسية الملقاة عليه شعورًا متحكمًا كان من شأنها أن تؤثر في المبدأ الذي قرره في المدة السالفة؛ لهذا لم تظهر فلسفة العلوم والتاريخ في (السياسة الوضعية) على الطريقة التي ظهرت بها في (الفلسفة الوضعية). ولكن ذلك كان مقصودًا. وإن كومت ليفسر اختلاف العبارة وطريقة الشرح والعرض في هذين الكتابين باختلاف الغاية التي رمى إليها كل منهما. أما المبدأ الفلسفي فقد بقي فيهما واحدًا لم يتغير، وكل ما يمكن موافقة لتريه عليه أن عرض المبدأ من الجهة الدينية في (السياسة الوضعية) أفسد ظاهره فلا يستطيع من قصر قراءته على هذا الكتاب أن يصل إلى فكرة المبدأ الدقيقة التي وضعت في (دروس الفلسفة الوضعية)؛ ولهذا السبب عينه أشار كومت على كل من قرأ كتاب السياسة أن يرجع إلى كتابه «الرئيسي الأكبر».
على أن المدقق الذي يطلع على (الدروس) يجد فيها إشارات وعلامات تنبئ عن كتابه السياسة وتبشر به. ولو أن كومت اكتفى بالإشارة إلى ما جاء من ذلك في «الدروس» لكفى ذلك ردًّا على أصحابه الخارجين عليه. لكنه عمل خيرًا من هذا. فلقد طبع في آخر الجزء الرابع من كتاب السياسة الوضعية ست رسائل مما كتب في أيام صباه ما بين ١٨١٨ و١٨٢٦ حوت، خلا النقط الجوهرية لفلسفته، فكرته في أن الفلسفة ليست إلا مقدمة بسيطة، وأن العمل الأهم والغاية العليا إنما هما الديانة الوضعية التي أعدت الفلسفة لتكون أساسًا لها ترتفع فوقه. بل لقد كانت هذه روح كل تلك الرسائل. ومن ثم صحت حجة كومت وقوي مركزه فيما يتعلق بوحدة مبدئه وكسب الخصومة من منازعه لتريه.
وإذن فهذا القسم الأخير عمل قائم بذاته، ولقد ظن كومت أن شخصًا سواه كان يستطيع أن يقوم به فتنتهي مهمته هو عند تأسيس الفلسفة التي تضع حدًّا (للفوضى العقلية)، ثم يكون بناء الأخلاق والديانة على أساس من هذه الفلسفة، ووضع حد للفوضى الخلقية والسياسية من عمل صاحب يخلفه. على أن إدمان العمل والحظ الحسن قد سمحا له هو بإتمام هذا العمل. وقد رأى منذ سنة ١٨٤٥ (تحت تأثير مدام دفو الصالح) مجموع حاليه والفرق بينهما، وقدر في الثانية وجوب جعل الفلسفة ديانه كما جعل من العلم فلسفة في الحال الأولى.
وغرضنا من هذا الكتاب درس فلسفة كومت من غير تعرض إلى التحول الذي طرأ على هذه الفلسفة فجعلها ديانة، وليس اختيارنا هذا الغرض اختيارًا تحكميًّا. فلدينا — تبريرًا له — ما رأينا من تقرير كومت نفسه أن فلسفته وديانته قد يقوم بوضع كل منهما شخص مستقل عن الآخر.
قد يتساءل بعضهم عن الفرق بين المركز الذي اخترناه لأنفسنا، ومركز لتريه (والوضعيين غير الناضجين). وجوابنا أن الفرق بيننا وبينهم هو الفرق بين نظر المؤرخ والمقرر. فإن لتريه وأصحابه قد نظروا من هذه الجهة الأخيرة، ورفضوا لذلك فكرة (تنظيم العواطف) والطريقة الذاتية وديانة الإنسانية، وأخذوا كوضعيين، القسم الأول من المبدأ ولم يأخذوا القسم الثاني. أما نحن فقد وضعنا أنفسنا موضع المؤرخ، وللمؤرخ الحق في تحديد موضوعه من غير أن يترك دقيقة، ولا جليلة من المبدأ الذي يعرضه. ونحن أبعد من أن ندعي مع لتريه أن الشطر الثاني من مذهب كومت يضعف الشطر الأول ويناقضه، بل لقد قررنا أن مجموع القسمين يكون كلًّا واحدًا وضع كومت فكرته في كتاباته الأولى، وأنه كان على حق حين وضع في صدر كتابه (اسياسة الوضعية) تلك الكلمة الجميلة التي قالها الشاعر الفيلسوف: إنما الحياة العظيمة فكرة يصورها الشباب وتنفذها الرجولة.
ولم ندرس إلا الشطر الأول من حاليه؟ لم لا نحترم مجموع ذلك الكل، ونحن نرى أن لتريه قد أخطأ في إنكار تناسقه؟ أجل إنا لنحترمه فلا نجتزئ من المبدأ استبدادًا شيئًا مما جعله كومت قسمًا منه، ولئن جعلنا الفلسفة الغرض الفرد من ذلك الكتاب فإنا سنجعل حاضرًا أمام الذهن دائمًا ذلك المجموع الأعم الذي وضعه كومت فيه، فذلك شرط لازم لا يكون بدونه هذا البحث دقيقًا وافيًا. ولكنا متى التزمنا بهذا الشرط فنحن في دائرة حقنا، إذا نحن وجهنا إلى الفلسفة وحدها كل مجهوداتنا.
لتصوير تاريخ مبدأ من المبادئ طريقتان: فإما أن يقف المؤرخ نفسه في الموقف الفكري للفيلسوف الذي يدرسه مستعيدًا أفكار ذلك الفيلسوف الرئيسية على الوجه الذي كان قد رآها به، ثم يقدر على طريقته أيضًا أهمية المسائل المختلفة من غير أن يخرج عليه في التمييز ما بين المهم والثانوي منها، ويكون التأريخ في هذه الحالة أشبه شيء بترجمة عقلية للمؤلف. وإما أن يعمل المؤرخ لاستجلاء دخيلة المذهب قصد الوقوف على ما بنى من مبادئ وأفكار، ثم يضع نفسه بعيدًا عنه وفوقه ويجتهد ليمركزه في محله من التطور الفلسفي العام، وبهذه الطريقة يتيسر فهم المذهب في مجموعه فهمًا دقيقًا حيث يراه الإنسان، ويرى مبلغ اتصاله بما سبقه وما عاصره، وما جاء بعده من المبادئ. ثم إن الإنسان ليستطيع في هذه الحالة الأخيرة أن يفرق ما بين الأفكار الثانوية الأهمية القليلة البقاء مهما يكن من رأي صاحبها فيها. وإنا لنأخذ عن كومت في هذا المقام تفرقة كان يكثر من تقريرها، فكان يعطي أولى هاتين الطريقتين الأفضلية لمن أراد البحث والتنقيب، ويعطي هذه الأفضلية ثانيتهما فيما يتعلق بالتأريخ.
وتطبيق الطريقة الأولى في النظر إلى مذهبه يسوق المؤرخ؛ ليكون معه في اعتبار الفلسفة الوضعبة تمهيدًا، وتحضيرًا لديانة الإنسانية التي كانت الغرض والغاية من مجهودات تلك الفلسفة. ومهما وجب على المؤرخ في مثل هذه الحالة أن يوسع بهذه المقدمة اللازمة المؤلف الأساسي الذي وضع فيه كومت الأساس الفكري لمبادئه السياسية والدينية، فهو مكلف أن يجعلها تابعة لهذه المبادئ وأن يضع في المكان الأول فكرة (إعادة نظام الجمعية) وآي ديانة الإنسانية وبناء سلطان روحي، وسائر ذلك القسم من عمل كومت الذي أراد أن يقوم مقام (برنامج الكاثوليكية في العصور الوسطى)، وكله الثقة أنه سيؤدي غرضها خيرًا مما قامت هي بأدائه.
ولكن عبقرية كومت لم تظهر على أكملها في هذا القسم من عمله. كلا! ولا كان هذا القسم أخصب مواضع فكرته. فإن مسألة إعادة نظام الجمعية لم تكن من وضعه هو بل كانت منتشرة في البيئة التي ظهر فيها أول شبابه، إذ كانت كل آمال الجيل الذي نشأ معه متجهة إلى إعادة النظام ووضع شروط التقدم وتحديد الصلات بين مقتضيات الخلق، وضرورات السياسة وإقامة ديانة تملأ ذلك الفراغ الذي خيل للناس أن الكثلكة تركته وراءها، وكل ما جاء في (السياسة الوضعية) لا يزيد على مشروعات المدرسة السان سيمونية التي ظهرت في سنة ١٨٣٠، وإن اختلف الأساس الذي قامت عليه كل من الفكرتين. فكل ما عملته هذه السياسة أنها تأخرت ثلاثين سنة عن المشروعات المماثلة لها لا لشيء إلا أن كومت أراد إقامة نظامه على أساس من الفلسفة ومن الأخلاق، فصرف في هذا المجهود النظري زهرة شبابه وعنفوانه، ولكن الفكرة ذاتها ترجع في نفسه إلى الثلث الأول من ذلك القرن كما تدل عليه النشرات التي أعاد كومت طبعها. فلما ظهرت فيما بين سنة ١٨٥٠ وسنة ١٨٥٧ لم تكن من الجيل الجديد الذي نشأ في ظروف سياسية واجتماعية مخالفة لظروف جيل كومت، فلم تجد إلا نفوسًا غير مكترثة لها لاشتغالها بمسائل أخرى ظهرت، فاستلفتت الأذهان واستشعر الناس الحاجة إلى حلها على عجل. وبذلك لم يبق لفلسفة التاريخ أن تستفز من النفوس ما كانت تستفزه من قبل، وضعف ما كان في النفوس من شوق لظهور ديانة جديدة، وبرهنت الكثلكة أن قوة الحياة فيها لا تزال موفورة لم تصب بسوء.
لهذا فإن عبقرية كومت والاحتياطات التي ظن أنه اتخذها لإقامة نظامه الاجتماعي على أساس معقول، كل ذلك لم يمنع فكرته أن يصيبها ما أصاب غيرها من الأفكار المشابهة لها مع بعض اختلاف في الزمن الذي لزم لذلك. حقًّا أن (السياسة الوضعية) وغيرها من الكتب التي كتبها كومت في حاله الثانية تكثر فيها الآراء الثاقبة الدقيقة. ومن المفيد أن يبحث الإنسان عما يصل إليه تفكير العقل الكبير في أي موضوع من الموضوعات، ولكن هذا الجزء من عمله، وإن حسبه هو صاحب المركز الأول أبعد من أن يحتفظ بهذا المركز في نظر المؤرخ.
وسبب ذلك أن كومت لا يمثل فيه إلا جيله، أما في فلسفته فهو ممثل عصره والقرن بأجمعه. ولسنا بحاجة إلى إقامة الدليل على ذلك؛ فإن تاريخ الحياة الفكرية لذلك القرن تشهد به كل خطوة من خطاها؛ إذ كان هذا المذهب من بين المذاهب التي ظهرت في فرنسا في القرن التاسع عشر الوحيد الذي تخطى حدود هذا الوطن ورسم بطابعه المفكرين الأجانب. فقد لقيت فلسفة كومت أول ظهورها في إنجلترا وهولندا عطفًا لم تلقه في فرنسا نفسها، واستمد منها ستوارت مل وهربرت سبنسر وجورج لويس وجورج اليت وعدد غيرهم من فلاسفة الإنجليز وكتابهم، ثم هي لا تزال إلى اليوم تجد من بين رجال إنجلترا النوابغ من يدافع عنها. وإذا لم يكن من فلاسفة الألمان من اتصل بكومت صلة جان ستوارت مل به، فإن الروح الوضعية تمتد في الكليات الألمانية وتنتشر من نحو ثلاثين سنة. ويكفي مقنعًا بذلك ملاحظة ما هناك من اطراح الأفكار المتافيزيقية (ما بعد الطبيعة) والمذهب الذي يقام على أساس العلوم الخلقية والاجتماعية، أما في الممالك اللاتينية في العالمين، فأثر كومت ظاهر على أشده، سواء في ذلك إسبانيا والبرتغال وأمريكا الجنوبية. ولم تخل أمريكا الشمالية من الجمعيات الوضعية. بل لقد لقي كومت فيها أيام حياته أصحابًا أكثر ما يكونون لمذهبه إخلاصًا.
أما السبب الأهم في إذاعة الفلسفة الوضعية في فرنسا، فكانت كتابات ذينك المؤلفين المحبوبين إلى الرأي العام تين ورينان. فلقد عملا من غير أن يكونا وضعيين لنشر مذهب كومت أكثر مما عمل لتريه وكل الوضعيين معًا.
حقًّا لقد أفاد تين كثيرًا من سبينوزا ومن هيجل. أجل أفاد من كندياك أكثر مما أفاد منهما. وهو يتصل من المعاصرين بستوارت مل وسبنسر. ولكنه إنما كان يصدر عن كومت متخذًا إياهم بعد ذلك سبيله ووسيلته. ففكرته في تاريخ الأدب وفي النقد وفي فلسفة الفنون والمجهودات التي صرفها لينقل إلى العلوم الخلقية طريقة العلوم الطبيعية كل ذلك يرجع إلى أوجست كومت بنوع خاص. وكتابه في تاريخ أدب الإنجليز هو تطبيق للنظرية الوضعية التي تجعل تطور الفنون والآداب خاضعًا لأحكام معينة وقوانين محتومة تجعلها متضامنة مع تطور الأخلاق والأنظمة والعقائد. أما نظرية الزمن والوسط، وهي إحدى نظريات تين الرئيسية، فلم تكن مجهولة في القرن الثامن عشر، ولكن فضل تعميمها يرجع إلى كومت في مقاربته ما بين لاماركه ومونتسكيو. وكومت هو الذي أفاد تين التعريف العام لفكرة الوسط تعريفًا جامعًا بين أن يكون بيولوجيًّا واجتماعيًّا.
وأما ما قاله رينان عن كومت فكان غاية في القسوة، ويمازجه شيء من التحقير والازدراء. وعلى الرغم من ذلك فقد اعترف أن كومت سيكون بلا شك من أعلام ذلك العصر كما أنه لم يسلم من التأثر به أعظم الأثر. ولئن كان واجبًا ألا ننسى المصادر الأخرى الفرنسية والأجنبية التي أوردها ذلك العقل الكبير، فإن اعتباره التاريخ (علم الإنسانية الأقدس) وانتظاره منه أن يحل الإيمان بفكرة التقدم الوضعية محل آي الكثلكة القديمة عن القدرة العليا، وإدراكه أن الحقيقة والخير ليسا حقائق خالدة جامعة، بل هما يتحققان رويدًا بمجهودات الأجيال المتعاقبة، كل ذلك يرجع الفضل فيه إلى كومت بمبلغ ما يرجع إلى هيجل.
ونحسب هذين المثلين يكفيان لإظهار ما وصلت إليه الروح الوضعية من سعة الانتشار.
وقد بلغ من اختلاط هذه الروح بالفكرة العامة في عصرنا الحاضر حتى أصبح الإنسان لا يكاد يلاحظها، مثلما أنه لا يهتم للهواء الذي يستنشقه. فتأثر بها التاريخ والقصص والشعر ثم عادت هذه الفروع كلها، فزادت في تلك الروح انتشارًا. وكذلك عن كومت صدر علم الاجتماع الحاضر؛ وعنه إلى حد ما صدر علم النفس بطريقته العلمية؛ ولهذا كله فلا يكون مجازفًا من يعتبر الفلسفة الوضعية مظهر الميول والأفكار المميزة لعصرنا الحاضر.
وإذن فوقوفنا من عمل كومت عند الفلسفة التي تكون أكثر أقسامه عبقرية وحياة وخصبًا، ليس هو إلا الأخذ بالحقيقة التي يرى بها التاريخ. ولا يهمنا إن لم يعتبر كومت هذا القسم إلا مقدمة بسيطة. فكم كان المجهود النظري يقوم به أحد المفكرين لينشئ فوقه عملية أكثر فائدة وأخلد أثرًا من تلك النتائج نفسها.
(٢) المسألة الفلسفيّة
يرى كومت أن القصد من الفلسفة أن تقوم أساسًا للخلق وللسياسة وللدين. فهي ليست غاية لذاتها ولكنها وسيلة لغاية لا يمكن الوصول إليها بدونها. ولو اعتقد كومت يومًا أن في الإمكان إعادة نظام الجمعية من غير البدء بنظام الأخلاق أو إقامة الأخلاق من غير أن يسبقه تنظيم العقائد، إذن لما ألَّف — على الأغلب — ستة أجزاء في دروس الفلسفة الوضعية التي شغلته ما بين سنة ١٨٣٠ وسنة ١٨٤٢، بل لتخطاها إلى ما كان أسمى منها فائدة وأكثر جدوى.
ولكنه اقتنع من أول أمره أن أقصر الطرق أسوؤها، ورأى أن كل مجهود يصرف لإقامة النظام الديني أو السياسي أو الخلقي يذهب عبثًا إذا لم يسبقه إعادة النظام العقلي؛ لهذا جعل أول همه إقامة فلسفة جديدة لا غنى عنها للوصول إلى الغاية الاجتماعية التي كان يرمي إليها. وبذلك أصبحت هذه الفلسفة غرضًا في ذاتها ولو مؤقتًا.
إذن فسينظم كومت العقائد. ومعنى ذلك أنه سيحل إيمانًا مبنيًّا على الحجة والدليل محل الإيمان الموحى به والذي خبا ضوءه. ولن يكون ذلك الإيمان المتعقل مشابهًا في شيء للديانة الطبيعية التي قامت في القرن الثامن عشر، فإن تلك الديانة لم تكن إلا نوعًا مختلًّا ضعيفًا من أنواع الإيمان بما فوق الطبيعة تظهر الفكرة الدينية من خلال منطقه الميتافيزيقي عن الألوهية. أما الإيمان المتعقل فيستمد أصوله ومسوغات وجوده من العلم الوضعي، (الواقعي). ويومئذ لا يكون التنافر الذي يرى بين كلمتي (الإيمان) و(الدليل) إلا تنافرًا ظاهريًّا وإن كان ما سيوضع من القواعد يراد به أن يكون موضع (إيمان)، نظرًا لما يجب للأغلبية العظمى من الناس من الأخذ بالنتائج التي قررتها الفلسفة الوضعية. وسيبقون دائمًا قلائل أولئك الرجال الذين يجدون من الوقت ويصلون من كمال العلم إلى ما يمكنهم من فهم هذه النتائج واستقصاء أدلتها. أما من سوى هؤلاء فلن يكون منهم لها سوى الخضوع والاحترام. ولكن الفارق بين هذا الإيمان المتعقل وبين ما عرفته الإنسانية إلى يومئذ من آي الدين أن الأول لا يحوي شيئًا لم يثبت بعد تمحيصه بالطريقة العلمية ولا شيء فيه يخرج عن دائرة المعلومات النسبية، وأن كل ما فيه يمكن في لحظة إثباته أمام كل ذي بصيرة يستطيع تتبع ما يدلي به من الحجة والدليل.
فيجب إذن ألا تكون كلمات (العقيدة) و(الإيمان) مثارًا هنا لشبهة. فإن ما اشتغل به كومت من (تنظيم العقائد) لم يشمل منها إلا ما كان ممكن التوضيح والاستظهار. وهو هنا متفق مع فكرة سان سيمون الذي كان يعتبر الديانة كأساس من أسس النظام السياسي، ثم إن كومت — في أول حاليه على الأقل — لم يدخل في الإيمان شيئًا من المسائل الغيبية أو العواطفية أو غير العقلية التي تنطوي عليها هذه الكلمة عادة، وتجعلها لذلك معارضة في أغلب الأحيان للتعقل، بل قصد بالإيمان كل ما يعتقده الإنسان خاصًّا بأي مسائل يمكن أن يصل إليها علمه. وانما حدا به إلى ذلك ما ظهر من عدم اكتفاء العقل الإنساني بتلك التفاسير المثلية أو الميتافيزيقية التي كان يعلّمها الفلاسفة والقساوسة الناس عن العالم وعن الإنسان، والتي كانت موضوع العقائد إلى حينئذ. فاتخذت الفلسفة الوضعية طريقًا غير ذلك الطريق، وجعلت تحل العرفان بقوانين الحوادث محل هذه التفاسير. ومن ثم أصبحت المسألة عند كومت … الوصول من طريق العقل لإقامة مجموعة حقائق خاصة بالإنسان والجمعية، والعالم يسلم بها الناس جميعًا.
وقد وقر في نفس كومت على أثر ذلك فكرتان: أولاهما: أن الأفكار والعقائد والتصورات الخاصة بهذه الأمور كانت في ذلك اليوم فوضى، والثانية: أن حالتها الطبيعية المعقولة أن تكون منظمة.
أما النقطة الأولى فغنية عن كل دليل. ويكفي أن يلقي الإنسان نظرة على الجمعية الخاصة ليعلم أن الاضطرابات التي تهز جوفها وتهددها بالخراب، إذا هي لم تهتد إلى أساس ثابت يقوم بناؤها عليه ليس مرجعها أسبابًا سياسية فحسب، بل هو نتيجة اضطراب خلقي يرجع هو الآخر إلى اضطراب فكري منشؤه عدم وجود قواعد مشتركة بين كل العقول وعدم قيام مبادئ وعقائد يسلم بها الناس جميعًا. وليس يكفي لوجود جمعية إنسانية وبقائها وجود شيء من الشبه بين العواطف، كلا ولا قيام المصلحة المشتركة بين أفرادها، بل يجب مع هذا وقبل كل شيء وجود اتفاق فكري تحققه مجموعة عقائد مشتركة.
فإذا رأيت جمعية من الجمعيات يعمل فيها فساد مزمن لا تظن أن طرق العلاج السياسية تنتج في شفائه، فاعلم أن السبب الأصيل لذلك الفساد إنما هو اختلال النظام العقلي، وأن المفاسد الأخرى ليست إلا مظاهر لهذا الاختلال. وتلك في رأي كومت هي حال جمعيتنا الحاضرة؛ فلم تبق تحكمها سلطة عقلية ولا روحية، وبلغت من ذلك حتى فقدت مجرد الشعور بانحلال تلك السلطة. فلم يبق بين العقول نظام مشترك تقره ولم يبق النقد السلبي الهادم مبدأ، إلا أتى عليه وأقام الفرد نفسه الحكم الأوحد في كل مسائل الفلسفة والخلق والسياسة والدين يأخذ منها ما يشاء، ولو لم يكن عنده من العلم ما يؤهله لهذا الاختيار، ويحسب أن ما أخذ به ليس أقل مما أخذ به سواه، وأنه لا يصدر إلا عن نفسه. وهذا التشتت بين العقول (أو ما يقول عنه كومت أخيرًا هذه الثورة فيها) هو ما نسميه حالة الفوضى.
ولكن مثل هذه الحال هي الحال العادية الصرفة للجمعيات الإنسانية. وإن الحال النظامية لا تظهر إلا نادرًا وبصفة استثنائية. وهذا زعم فاسد الأساس، ولو أنه صح يومًا لما بقيت الجمعيات ثم لما تقدمت، وإنما الصحيح أن أزمنة الفوضى العقلية هي أزمنة استثنائية، وأن الناس في كل جمعية عادية يربطهم معًا خضوع عام لمجموع معين من المبادئ والعقائد. والتاريخ شاهد يؤيد هذا الرأي. فإن جمود مدنيات الشرق الأقصى مرجعه الأول ما يمتازون هم به عنا من الثبات العقلي. وقد اطمأنت الجمعيات القديمة (اليونانية والرومانية) إلى فكرة معينة عن الإنسان وعن المدنية وعن العالم لم يطرأ عليها طول مدة بقاء هذه الجمعيات إلا قليل من التغيير. ثم كان للمسيحية في أوروبا سلطة عجيبة في مدى القرون المتوسطة، فأقام النظام الكاثوليكي (الذي يعتبر منتهى ما تصل إليه الحكمة السياسية) بناء من العقائد اطمأنت له كل النفوس، وأسلمت قيادها له وانحلال هذا البناء أقوى من معظم الشرور التي نتخبط في حمأتها. من ذلك يتبين أن الفوضى العقلية حال غير عادية، ومرض سماه كومت (لمرض الغربي) ولو طال أمد هذا المرض لأصبح قاتلًا فإما أن تستسلم الجمعية له فتهلك، وإما أن تعاود العقول توازنها بالخضوع لمبادئ مشتركة والتسليم بها.
من ذلك يظهر أن مسألة إعادة نظام العقائد تزدوج، فيصبح ثمة من جهة مسألة فلسفية صرفة ترمي إلى إقامة مجموعة مبادئ عقائد صالحة ليسلم بها الناس جميعًا، ومن جهة أخرى مسألة اجتماعية تبحث في الوسيلة لجمع العقول والأذهان إلى هذا الإيمان الجديد، على أن هذه الفكرة ليست إلا ظاهرية. فإن حل المسألة الأولي يجر حتمًا إلى حل المسألة الثانية؛ ذلك لأن صفة النظام عند المجموع أساسها الأول ما في نفس كل فرد من الاضطراب، وانقسام العقول فيما بينها أصله انقسام كل عقل على نفسه. فلو أن عقلًا واحدًا أمكنه أن يقيم التوازن في نفسه لانتقل هذا التوازن بفضل المنطق وحده إلى ما حوله ومن جاوره. وإذن متى أنشئت الفلسفة أصبح أمر تحقيق الباقي موكولًا ليد الزمن. وحسبنا بحث الأفكار والعقائد القائمة في إحدى النفوس، والنظر فيما يلزم لإحلال التوازن محل الفوضى فيها بمعنى أن يحل فيها «توازنًا منطقيًّا كاملًا».
لما أراد ديكارت أن يبلو معلوماته بمبدأ الشك لم يحتج إلى أكثر من تعرف المصادر التي جاءت هذه المعلومات عنها. وكذلك فعل كومت. فإنه لما أراد تحقيق التوافق المنطقي لآرائه اكتفى بالنظر في الطرائق التي أوصلتها إياه، حتى إذا اكتشف أن أيًّا من بينها لا تتفق مع سواها كان قد وجد سبب الاضطراب العقلي، ومنشأ المفاسد التي تثقل كاهل الجمعية الحاضرة، وكان كذلك قد وجد الدواء. والدواء هو السعي لاستبعاد هذا التناقض؛ فإن الوحدة والتوافق هما أول ما يتطلبه الفكر الإنساني بطبيعته، والفهم متناسق بفطرته فلا يكتفي بآراء محشودة في الذهن ولا تتفق مع المنطق، ومهما يكن التناقض مجهولًا من صاحبه فإن ذلك لا يمنعه من أن يحس به، وكل فكرة عندنا تستدعي وجود مجموع أفكار مرتبطة بها وصلت إلينا من نفس الطريق الذي وصلت منه تلك الفكرة، وهذا المجموع جزء من كل أعظم منه يتم في أنفسنا، وتجمعه فكرة عامة عن العالم.
وقد وجد كومت في نفسه وفي نفوس معاصريه طريقتين عامتين من طرائق التفكير لا يتفق وجودهما معًا من غير تعارض ولا تناقض. ولم تستطع إحداهما إلى يومنا هذا التغلب على الأخرى تغلبًا حاسمًا. فهو يفكر عند النظر في عدة مجموعات من الحوادث تفكير عالم نشأ في مدرسة هيز وجاليليه وديكارت وتابعيهم، فلا يفكر في تفسير هذه الحوادث بأسبابها، ويقنع أن أوصلته الملاحظة أو أوصله الاستقراء لمعرفة قوانينها لما تسمح له به معرفة تلك القوانين من المداخلة أحيانًا في شأن الحوادث؛ ليحل محل النظام الطبيعي نظامًا صناعيًّا أكثر اتفاقًا مع حاجاته، وهذا هو ما صير المظاهر الميكانيكية والفلكية والطبيعية والكيماوية، بل البيولوجية في نظره، موضوعات للعلم النسبي والوضعي (الواقعي).
ولكن متى كانت المسائل المراد النظر فيها راجعة أصولها إلى دخيلة ضمير الإنسان، أو متعلقة بالحياة التاريخية والاجتماعية، فهنالك تغلب على النفس وجهته مناقضة لتلك الوجهة الأولى. فلا يقتصر الذهن عندئذ على البحث وراء قوانين الظواهر، بل يزعم لنفسه القدرة على تفسيرها، ويندفع يريد الوصول لماهيتها وسببها. فهو يبحث في أمر الروح الإنسانية وفي علاقتها بحقائق العالم الأخرى، وفي الغاية التي يجب على الجمعية أن ترمي إليها وفي أحسن الحكومات الممكنة، وفي العقد الاجتماعي وفي غير ذلك من المسائل التي يرجع في كلها إلى طريق التفكير (الميتافيزيقي). وهذا الطريق لا يتفق مع الأول بحال من الأحوال. ومع ذلك نراهما قائمين اليوم معًا في كل النفوس.
وإن سير الجماعات ليظهر لنا كيف حدث ذلك. ولكن أيًّا كانت أسبابه التاريخية فإن حقيقته ثابتة للعيان. فلا يستطيع الذهن الإنساني اليوم أن يتقبل كلا، ولا أن يرفض بتاتًا أيًّا من هاتين الطريقتين من طرائق التفكير. فهو يشعر تمام الشعور أن ما قررته العلوم الوضعية لا يمكن رفضه أو التخلص منه. وأن لا سبيل للرجوع إلى تفاسير ميتافيزيقية أو دينية للظواهر الفلكية أو الطبيعية. ولكن يرى أيضًا أن الصور الميتافيزيقية والدينية لازمة عنده ولا غناء له عنها. وذلك طبيعي ما دام العقل الإنساني يريد لسد حاجته إلى الوحدة والتناسق اللذين هما مطلبه الأعلى فكرة عامة تحيط بكل أنواع الظواهر. وهذه الفكرة هي ما سماه كومت جماع التجارب، أو هي في كلمة واحدة (الفلسفة).
ولم تثبت طريقة التفكير الوضعية إلى اليوم قدرتها على سد هذه الحاجة، إذ إنها لم تنتج إلا بعض علوم معينة، ولما كان العلم الوضعي خاصًّا وجزئيًّا فقد قصر بحثه على مجموعة محدودة من الظواهر وقف عليها كل أعماله التحليلية والتنسيقية بدقة محمودة كانت أساس قوته، ولم يقدم يومًا ما على تنسيق كل الحقائق التي وصل إليها علمنا. بل اختص الديانات والميتافيزيقيات بهذا العمل الذي لا يزال إلى يومنا هذا سبب وجودها الأهم، ذلك بأنه عمل يجب القيام به لما يطمح إليه العقل الإنساني بالضرورة، وبطبعه من الوحدة وما يرجوه من تحصيل فكرة عن العالم. فخير له إذن أن يبقى متعلقًا بهذه الحلول التي تقدمها له الديانات والميتافيزيقيات، مهما تكن حلولًا خيالية من أن يترك المسائل الفلسفية معلقة أمامه ولا جواب عليها. ومما تقدم يظهر أن الروح الوضعية في زمننا الحاضر (حقيقة)، ولكنها (خاصة) والروح الدينية الميتافيزيقية (عامة) ولكنها (خيالية). وليس في إمكاننا أن نضحي (حقيقة) العلم ولا (عمومية) الفلسفة. فكيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق.
- (١)
فإما أن نصل إلى توفيق يمكن معه وجود طريقتي التفكير من غير تضارب.
- (٢)
وإما أن نقيم الوحدة بتعميم الطريقة الدينية الميتافيزيقية.
- (٣)
وإما أن نقيم الوحدة بتعميم الطريقة الوضعية.
•••
يظهر الحل الأول لأول وهلة مقبولًا أكثر من الأخيرين. إذ لم لا يتفق بحيث الأنواع المختلفة من المظاهر الطبيعية على طريقة وضعية مع فكرة ميتافيزيقية أو دينية عن الوجود. وأي مانع يمنع تصور المظاهر بسنن لا تبديل لها، وأن نبحث في الوقت نفسه من طريق آخر السبب الذي يجعلنا نفهم العالم والطبيعة على عمومها. ومتى كان ذلك وتحرر العلم الوضعي من حكم الدين والميتافيزيقية، ضمن ذلك العلم لهما مثل ما وصل إليه من الاستقلال، وتحددت بذلك على طريقة تزداد كل يوم دقة، النطاق الصحيح للعلم الوضعي من جهة ونطاق التطورات التي تتعدى التجارب من الجهة الأخرى.
وإن كومت ليخبرنا أن هذا التوفيق ظهر معقولًا زمنًا طويلًا، وأن الأفكار الدينية والميتافيزيقية لا تزال إلى يومنا هذا هي الصور الجامعة التي قامت في النفس الإنسانية عن الوجود. ولقد أدت هذه الأفكار بذلك وظيفة ضرورية لولاها لما وجد العلم الوضعي ولما تقدم. ولكن لما كان هذا العلم هو وارثها فهو كذلك عدوها، وتقدمه يجر حتمًا تدركها. وما في التاريخ من تراجح آي الدين والميتافيزيقية من جهة والمعلومات الوضعية من الجهة الأخرى يدل على أن التوفيق بينهما لا يمكن أن يدوم.
ولا يكون انقضاء التناقض بين طريقتي التفكير نتيجة معركة منطقية فاصلة تنهزم فيها الديانات والفلسفات؛ فليس على هذا الشكل تنتهي الآيات والفكر ولكنها تختفي بإهمالها، كما يقول كومت، اختفاء الطرق غير المستعملة. وهل هي كانت إلا كطرائق للذهن الإنساني الذي أراد أن يحيط مجموع الأشياء بنظره من قبل أن يتم درسها. ولم يكن للعقل أن يتقدم للإنسان بهذه المعلومات الحقة إلا متأخرًا، وبرغم الجهود الطويلة التي قام بها العلم، ولقد كانت المعلومات التي تقدم بها متواضعة كل التواضع ونسبية كلها؛ لهذا لجأ الإنسان إلى الخيال طالبًا هذه المعلومات دفعة واحدة ومطلقة كلها. ولكنه ترك هذه التفسيرات الدينية والمنطقية رويدًا رويدًا على نسبة تقدمه في بحث المظاهر بحثًا وضعيًّا، وعوَّد نفسه أن يردها إلى مناطق تزداد بالزمن بعدًا من غير أن يهمل قطعًا التنقيب عن أسباب الأشياء. ولكنه أصبح لا يهتم بتقدير الأسباب للظواهر التي وصل فيها إلى فكرة وضعية بحتة، وصار يكتفي بما يعلم من خضوع هذه الظواهر لقوانين معينة. ومتى اعتادت الأذهان تصور كل الظواهر من كل الأنواع على هذا النحو، وأصبحت فكرة قوانين هذه الظواهر أيًّا تكون متعارفة كذلك لا يبقى لطريقة التفكير الميتافيزيقية وجود، وبالاختصار فمتى أصبح العلم كله وضعيًّا أصبحت الفلسفة وضعية كذلك.
فإنا لا نملك النظر للأشياء إلا من جهة واحدة، وكل ما كان من معلوماتنا «حقيقيًّا» ينصبُّ على الظواهر وقوانينها. فإذا أصبح نظرنا لكل أنواع الظاهرات مأخوذة واحدة بعد الأخرى مكيفًا على الطريقة الوضعية لم يبق لنا، إذا أخذناها معًا ونظرنا إلى مجموعها، أن نفكر فيها بطريقة مختلفة عن الطريقة الوضعية بل معارضة لها.
والواقع أن وجود هاتين الطريقتين من طرق التفكير معًا سيبقى ما دامت الروح الوضعية لم تصل إلى تمام انتشارها، وما بقي جزء قل أو كثر من الظاهرات الطبيعية يفسر بماهيته وسببه وغايته. ولكن هذه الحال لن تدوم إلى الأبد. بل كلما تقدمت الروح الوضعية اضمحل مركز الصورة الدينية الميتافيزيقية من العالم وتلاشى. فعلينا إذن أن نختار بين الطريقتين إذ لا سبيل إلى وحدة التفكير، ولا إلى التماسك المنطقي التام إلا هذا الاختيار.
وهذا الحل يكفي أمام الخيال لمواجهة فروض المسألة. ولكنه غير ممكن الحصول في الواقع؛ لأن التاريخ لا يرجع إلى منبعه. ويجب لإخضاع الأذهان من جديد إلى السلطان الروحي الذي كانت تقبله طوعًا في العصور المتوسطة أن نعيد حولها مجموع الظروف التي كانت تحيط بها في ذلك الحين. لكن كيف لنا أن نمحو من التاريخ اكتشاف أمريكا، واختراع الطباعة وغير ذلك من الأمور الاجتماعية الكبرى. ثم ما هو السبيل لنتجاهل وجود كوبرنك وكبلر وجاليليه وديكارت ونيوتن وسائر مؤسسي العلوم الوضعية. ولئن أمكن المستحيل واستطعنا أن نستعيد الوحدة العقلية والخلقية التي كانت قائمة في الجمعية المسيحية أيام العصور الوسطى، فكيف لنا أن نمنع القوانين الطبيعية التي وصلت إلى حل هذه الوحدة مرة أن تعود إلى مثل ذلك مرة أخرى.
وما دام ذلك غير ممكن فقد أصبح الإنسان مسوقًا حتمًا لقبول الحل الثالث والأخير. ما دام التوفيق بين طريق التفكير الوضعية والطريق الأخرى غير ممكن. وما دام السلطان المطلق لا يمكن أن يكون لطريق التفكير الدينية الميتافيزيقية. وما دام واجبًا للعقل الإنساني الأخذ بفلسفة، فلم يبق إلا أن تنشأ هذه الفلسفة من طريق التفكير الوضعي وحده. ولا شيء فيما نرى يمنع تحقيق ذلك. بل إن آخر قضايا الروح الدينية الفلسفية ليست من المتانة فلا تمحى. وهذه الروح (الخيالية) بماهيتها لا يمكن أن تصبح حقيقة يومًا من الأيام. أما الروح الوضعية فليست (خاصة) إلا عرضًا، ومن الممكن جدَّا أن تصل إلى العمومية التي تفتقدها. وإذ ذاك يمكن إقامة فلسفة جديدة تحل معها مسألة (التماسك المنطقي التام) المنشود.
فالصعوبة كلها إذن هي في تعميم طريقة التفكير الوضعية. ويجب للوصول إلى ذلك أن تمتد هذه الطريقة إلى الظواهر التي لا يزال الناس يتصورونها عادة على طريقة التفكير الدينية الميتافيزيقية. هذه هي الظراهر الخلقية والاجتماعية، وسيكون هذا العمل هو الاكتشاف الرئيسي لكومت. فإنه سينشئ (طبيعة اجتماعية)، ويكون بها قد نفى ما بقي للدين وللفلسفة من سبب في الوجود، وأقام على أساس من العلم الوضعي فلسفة وضعية كذلك، وعندئذ تتحقق (وحدة الفكر) ويكون من أثر هذا التوازن العقلي قيام التوازن الخلقي والتوازن الديني للإنسانية.
(٣) قانون الحالات الثلاث
قد يعتبر إنشاء علم الاجتماع في مذهب كومت بدء وغاية في وقت معًا. فإنك لترى الطريقة الوضعية تصل معه من جهة إلى حكم أرقى الظاهرات وأشرفها وأكثرها تركيبًا. وهنا يكون علم الاجتماع أرفع مراتب الروح الوضعية، وبذا يصل إلى أرقى درجات العلوم، ومن ثم يحكمها جميعًا. ثم إنك من الجهة الأخرى ترى الفلسفة الوضعية، وقد أصبحت ممكنة الوجود تنشأ من عنده لتقيم مبادئ الخلق والسياسة.
كذلك لا يجعل كومت للميتافيزيقي ذلك المعنى الواسع الذي يعطى له عادة، ولا يتعرض إلا عرضًا لعلم الموجود في اعتباره موجودًا ولا للمادة ولا للعناصر الأولى، وإنما ينظر إليها كوسيلة لتفسير الظواهر التي تنتجها التجارب — فافتراض أثير لتفسير ظواهر الضوء والكهرباء في الطبيعة هو من أمثلة الميتافيزيقية. ومثله افتراض العنصر الحيوي في الفسيولوجيا، وافتراض الروح في البسيكلوجيا (علم النفس). فالميتافيزيقا ترادف الغرض المطلق كما يقول كومت، وهي ليست في حقيقتها إلا طريقة التفسير الأولى قد ذهب لونها، واعتراها الذبول والذهول وهي تزداد تدرجًا في ذلك كلما أنتجت زيادة الدقة في ملاحظة الظواهر الطبيعية التباعد عن إسناد هذه الظواهر إلى إرادات خاصة، وإخضاعها لقوانين معينة.
لنحذر إذن من أن نعطي كلمتي (الميتافيزيقا) و(الدين) كامل معنيهما. إذن فلو استنتج مستنتج من قانون الحالات الثلاث أن تدرج الإنسانية يزيدها كل يوم بعدًا عن التدين؛ لتنتهي عند حالة أخيرة لا يكون فيها للدين محل مثلًا لكان ذلك أغرب الخلط في فهم مذهب كومت. فإن تقدم الإنسانية سيسوقها إلى حال ستكون دينية قبل كل شيء، وترتب فيها الديانه حياة الإنسان كلها، ولا نحسب كومت يأبى أن يعرّف الإنسان بما عرّفه كثيرون غيره من أنه حيوان متدين، وقد يمكن تطوير تاريخ الإنسانية من بعض وجوهه تطورًا يسيرًا من الديانة الأولى (ديانة عبادة الأصنام)؛ ليقف عند (الديانة النهائية). لكن الغرض من قانون الحالات الثلاث ليس هو تصوير تطور الإنسانية الديني، وإنما هو خاص بسير العقل الإنساني؛ فهو يذكر الفلسفات المتعاقبة التي أخذ ذلك العقل بها في تفسير الظواهر الطبيعية، وهو بالاختصار قانون تطور «الفكرة».
ولا شك في أن الذين أخطأوا الفهم لم ينظروا إلى ذلك القانون إلا في الدرس الأول من «الدروس»، حيث ذكر منعزلًا عن تطبيقاته. ولكن هذا الخطأ لا يبقى له محل إذا رجع الإنسان إلى الجزء الرابع من «الدروس»، حيث وضع ذلك القانون في المكان الواجب له عند الكلام عن الحركة الاجتماعية، فإذا رجع الدرس الثامن والخمسين من الجزء السادس ارتفع كل إبهام.
على أن تقرير كومت لهذا القانون في الصحائف الأولى من (دروس الفلسفة الوضعية) لم يكن عن غير حكمة. فإن قانون التطور العقلي للإنسانية، أعني قانون الحالات الثلاث هو بالنسبة لعلم الاجتماع كما يتصوره كومت القانون الأهم للحركة الاجتماعية، وبالتالي للعلم الاجتماعي كله. فإن العامل العقلي هو أهم كل العوامل الاجتماعية التي ينشأ تقدم الإنسانية عن تطورها المصطحب المتضامن. فهو بذلك حاكمها جميعًا بمعنى أنها كلها تتعلق به أكثر بكثير مما يتعلق هو بها. وعليه فتاريخ الفنون والأنظمة والأخلاق والحقوق والمدنية على العموم لا يمكن فهمها من غير الرجوع إلى تاريخ التطور العقلي، أي: تاريخ العلم والفلسفة، في حين أن هذين يمكن مع شيء من التدقيق فهمهما من غير الرجوع لما سواهما.
فهذا التطور هو إذن العماد الأهم الذي تترتب حوله باقي أنواع المظاهر الاجتماعية. والقانون الذي يعبر عنه هو كذلك القانون (الأساسي) الأول و(الأعم) بالمعنى الذي قصده كومت من هذه الكلمة الأخيرة. فالإشارة إلى هذا القانون وذكره، فيه التقدُّم بتبرير العلم الاجتماعي كله، وتدليل واقعي على أن العلم الاجتماعي ليس ممكنًا فحسب، بل إنه موجود بالفعل، ومن هنا تلك المكانة العليا التي يضع كومت فيها قانون الحالات الثلاث.
•••
يقدم كومت إثبات هذا القانون في شكلين متغايرين؛ فهو يستند لذلك على التاريخ أولًا. والتاريخ يشهد حقيقة أن كل فرع من فروع معلوماتنا مَرَّ بهذه الحالات الثلاث من غير أن يرجع القهقرى أبدًا، ولئن كان صحيحًا أن الأكثر منها لم يَصِلْ بعد إلى الحالة الوضعية، فإنه قد لوحظ أن هذه قد سارت حتى الآن في الطريق الذي سار فيه غيرها ممَّا وصل إلى تلك الحالة.
فلم يكن الذهن الإنساني قادرًا أن يبدأ بتفهم الطبيعة إلا على الشكل الديني من أشكال الفلسفة؛ ذلك لأن هذا النوع هو الوحيد الذي يظهر فجأة ولا يحتاج أن يسبقه غيره. وعليه ترى الإنسان أول ما يتصور القوى يتصورها على مثال نفسه، ويتفهم الظواهر بجعلها شبيهة أعماله حيث يحسب نفسه عليمًا كيف تنتج هذه الأعمال، نظرًا لما عنده من إحساس بمجهوده وشعور بإرادته. وهذا التفسير التصويري ملازم لطبيعتنا حتى لنرانا في كل لحظة على أهبة الاستسلام له. ولو أنا اليوم نسينا النظام الوضعي لحظة وتقنا للبحث عن طريقة حدوث بعض الظواهر، فسرعان ما يجيئنا خيال مبهم من قوة تشابه قوتنا إلى حد ما. وإن أولئك الميتافيزيقيين الذين يجعلون من الله شخصًا لهُم عند كومت أشد من كل أمثالهم، الذين يدعون معرفة صورة الله، تمشيًا مع أنفسهم.
وما أكثر ما عادت به الفجأة التي يمتاز بها طريق التفكير الديني من الفائدة. ولا يرى الإنسان كيف كان ممكنًا تقدم العقل الإنساني بدونها. فإن الذهن محتاج إذا أراد تكوين نظرية علمية عن الظواهر الطبيعية إلى ملاحظات يكون قد حصلها من قبل مهما كان من تواضع النظرية المذكورة، وجزئيتها. لكن الملاحظة العلمية لا تكون ممكنة هي الأخرى إذا لم تكن نظرية أو افتراضًا على الأقل. والتحكم المطلق هو عند كومت عقيم، بل لا يمكن لدى التدقيق تصوره. وليس لمجرد مجموعات الوقائع مهما قدر لها من كثرة العدد، أي مدلول علمي بذاتها. مثال ذلك التقريرات المثيورولوجية التي تملأ أعمدة القوائم وصحائف المجلدات، والتي لن تكون ملاحظات إلا إذا عمل الذهن حين جمعهما على تفسيرها مسوقًا بفكرة تحقيق فرض من الفروض، سواء أكان ذلك الفرض مبهمًا أم معينًا وحقيقيًّا أم خياليًّا.
فإذا أحرج الذهن بين هاتين الضرورتين المتساويتين في تحكمهما مع ضرورة البدء بالملاحظة للوصول إلى (صورة معقولة)، والبدء بتصور نظرية أيًّا ما تكون للوصول إلى استنباط ملاحظات متتابعة لجأ إلى طريق التفكير الديني حيث لا يحتاج تخيل قوى مشابهة لقوته منتشرة في أرجاء الطبيعة لأي ملاحظة تسبق هذا الخيال، ولكن متى تمخض الخيال عن هذا الفرض تبعته الملاحظة لتأييده أولًا ثم لمحاربته بعد ذلك، ومن ثم يفسح الطريق ويبدأ تطور العلوم والفلسفة سيره خلال المبادئ تتعاقب بعد ذلك على نظام محتوم.
وذلك هو الحال أيضًا من الجهة الخلقية. فلقد كانت الفلسفة الدينية هي الوحيدة التي استطاعت أول الخلق أن توحي إلى الإنسانية الضعيفة الجاهلة من الإقدام والثقة بالذات ما كفى لإنهاضها من غفلتها الأولى. ولو أن الإنسان علم في تلك العصور ما يعرفه إنسان اليوم من خضوع ظواهر الطبيعة لقوانين لا تبديل لها، لما دار في خلده أن معرفة هذه القوانين تجعل له على الطبيعة سلطانًا، بل لكان جهله قوة العلم داعية احتلال اليأس نفسه وعجزه دون القيام بأي مجهود. لكن طريقة التفكير الثيولوجية كانت أكثر تشجيعًا. فقد تخيلت الظواهر ممكنًا تحويرها وقدرت كل شيء ممكن الحدوث، وقررت أن لا مستحيل وأن لا محتوم وأن حدوث شيء أو عدم حدوثه هو رهن بإرادة الآلهة. وإذا كان الإنسان لا يقدر بنفسه من أمر الطبيعة على شيء، فإنه يقدر على كل شيء إذا هو نال رضا الآلهة أولي الشهوة الحاكمة؛ وكذلك كان الإنسان أشد ما يكون ثقة بسلطانه وقوته يوم كان ضعفه وعجزه على أشدهما.
ولقد كانت الفلسفة الثيولوجية لازمة من الوجهة الاجتماعية أيضًا لبقاء الجمعية الإنسانية وتقدمها. ذلك بأن تبادل اشتراك أفراد الجمعية في العواطف، وتوافقهم في المصلحة لا يكفي لقيامها ولا لتقدمها، بل يجب لذلك اشتراكهم في الإيمان بعقائد معينة. ولا وجود لجمعية إنسانية بغير مذهب مقرر يتضمن أفكارًا مشتركة. ولكن كيف لنا أن نتصور قيام مثل هذا المذهب إذا لم يكن ثمة نظام اجتماعي قائم؟ تلك حلقة مفرغة أخرى لم يكن للخروج منها سبيل إلا الفلسفة الثيولوجية التي وضعت من بادئ الأمر مبادئ مشتركة يدافع عنها أعضاء الجمعية طرًّا، ويزيدهم في دفاعهم هذا تحمسًا أن بها تتعلق آمالهم ومخاوفهم لهذا العالم وللعالم الآخر إن كانوا من قد اعتقدوا به.
ولقد كان من أثر هذه الفلسفة الثيولوجية أيضًا أن كونت في الجمعية طائفة معينة اختصت بالفكر والنظر.
إذن فطبيعة الإنسان تقتضي ظهور الفلسفة الثيولوجية فجأة، وظهورها هذا لا غنى عنه ولا سبيل لاجتنابه. وبعبارة أخرى فهو محتوم، ويجيء على أثره ما قد نسميه منطق التاريخ العقلي للإنسانية، ومن ثم تكون الفلسفة الثيولوجية قد مهدت السبيل لملاحظة الظواهر ملاحظة تدخل إلى العقول رويدًا رويدًا فكرة السنن الثابتة، وتجعل الفلسفة الثيولوجية بذلك محفوفة بالخطر حتى ليجيء عليها وقت تظهر فيه بالية مضرة. هنالك يبدأ الفكر يحل نفسه محل الخيال في توضيح الطبيعة وتفسيرها. وكلما سار هذا التطور إلى الأمام تبين ميل العقل الإنساني إلى طريقة التفكير الوضعية، وتفضيله إياها تفضيلًا يصل في مختلف فروع العلوم إلى الاستئثار والتفرد بها بعد خلاف قد يطول أو لا يطول.
والحقيقة أن الحالة الثيولوجية لمعلوماتنا تحوي حتى في تلك اللحظة التي تكون فيها في ذروة السلطان (وذلك يكون بعد قليل من نشأتها) جراثيم تحللها وفسادها؛ وذلك لأنها لم تكن تامة التناسق في يوم من الأيام، فإن من بين الظواهر ما لم يغلب يومًا على الناس نظامها، ولا هم تصوروها يومًا تحت تصرف إرادات مطلقة التحكم، من ذلك ما ينقله كومت عن آدم سميث حين يلاحظ أن إله الثقل لم يوجد في أي زمن ولا في أي مكان. وكذلك فلقد أحس الإنسان من أول وجود الجمعية بشيء من أثر القوانين البسيكولوجية، وذلك لاضطراره أن يتفق مع أمثاله في طريقة الإحساس والعمل. من ذلك ينتج أن البذرة الأولى للفلسفة الوضعية ترجع في القدم إلى ما ترجع إليه بذرة الفلسفة الثيولوجية، وإن لم يكن نماؤها وتقدمها قد أبطأ أي إبطاء. ولما لم تكن الفلسفة الثيولوجية لذلك عامة لم تكن إلا مؤقتة. وإنما تكون خاتم الفلسفات أو طرائق تفسير الظواهر الطبيعية تلك التي تنطبق عليها جميعًا، وبلا استثناء من أبسطها إلى أكثرها تركيبًا. ذلك بأن هذه الفلسفة هي وحدها التي تحقق الوحدة التي لا غنى للذهن عنها.
فالحال الميتافيزيقية لا يمكن أن تكون إذن إلا صلحًا غير ثابت. وبقاؤها إنما يكون رهنًا باستمرار تغيرها وتبدلها. وإن ما ينشأ عن ذلك من عدم وجود مبدأ يكون قوامها ليجعلها نقدية بحتة. ومن ثم فلا يكون لدينا أصليًّا إلا فلسفتان أو طريقتان من طرائق التفكير وهاتان الفلسفتان الثيولوجية والوضعية هما وحدهما اللتان تسمحان للعقل بإنشاء مذهب من أفكار منطقية متناسقة يصلح أساسًا للخلق وللديانة، فالروح الثيولوجية خيالية في سيرها، مطلقة في تصوراتها، تحكمية في تطبيقها. وأما الروح الوضعية فتحل طريقة الملاحظة مكان الخيال والأفكار النسبية محل الأفكار المطلقة. وهي لا تدعي لنفسها سلطانًا لا حد له على ظواهر الطبيعة، بل تعلم أن قوتها إنما تقاس على مقدار ما تصل إليه من العلم. وتاريخ الإنسانية هو الذي يرينا الخطى التي تدرجت هي بها من طريقة التفكير الأولى إلى الطريقة الثانية.
•••
ولقد أظهر هذا الإيضاح أن تعاقب هذه الأحوال الثلاث في نظام لا يتغير هو السبيل المحتوم لترقي الذهن الإنساني في تعرف الظواهر، وأنه حاصل بطبيعة العقل. ومن رأي كومت أن قانون الحالات الثلاث بسيكولوجي بمقدار ما هو تاريخي.
وليس المراد هنا بالبسيكولوجيا تلك البسيكولوجيا الداخلية التي تستخدم الضمير الفردي وسيلة للبحث. فإن كومت لا يعترف بأية قيمة علمية لهذه الطريقة، كلا بل وهو ينكر إمكان وجودها. على أنه ولو أمكن للشخص أن يلاحظ نفسه لما أفاد ذلك شيئًا فيما نحن بصدده. فإن هذه الملاحظة لن تبين له إلا عن الحال الحاضرة لعقله الفردي لا عن قانون تطور الذهن الإنساني. ولا سبيل لظهور هذا القانون إلا بالنظر إلى الجنس لا إلى الفرد، وذلك بأن يقلع الذهن عن إنفاق مجهودات عقيمة مرماها أن يشاهد بنفسه حركته؛ ليحيط بوجوه التقدم المتعاقبة التي تظهر فيما أنتج. والتاريخ الفلسفي لعقائدنا وتصوراتنا ومذاهبنا هو ذلك الضمير الذي يجب أن يجعله العقل موضع نظره. ففي هذا التاريخ لا في سواه يرى الفيلسوف القوى التي احتوى ذلك العقل جرثومتها تدخل في الحياة العملية واحدة بعد الأخرى، وكلها ترمي إلى «التناسق الدائم». فإذا ما وصلنا في ذلك لاكتشاف قانون الحالات الثلاث أمكن لنا أن نفهم التطور العقلي لكل فرد في طريقه. ومن ثم يزيدنا درس كل فرد زيادة في التحقق من صحة القانون. قال كومت: «مهما أكن قد أخذت من النظر إلى الفرد، فإن الفكرة الرئيسية التي بنيت عليها نظريتي وما تلا ذلك من تكون هذه النظرية وتقدمها إنما يرجع مباشرة لأبحاثي المتعلقة بالمجموع».
فقانون الحالات الثلاث هو إذن الضابط العام لتقدم العقل الإنساني لا منظورًا إليه في شخص فرد معين، ولكن في الشخص العام الذي هو الإنسانية.
وهو ذلك الشخص العام الذي درسه كومت في «نقد العقل المجرد». لكن طريقته كانت طريقة مطلقة وميتافيزيقية صرفة، نظر فيها إلى الشخص العام الذي بحث عن قوانينه على اعتبار أنه العقل الإنساني «لذاته منظورًا إليه من جهة ماهيته». لكن كومت يخالف ذلك كل المخالفة، ويتمثل الشخص العام كأنه وحدة مجسمة تتحقق على الزمن، ويرى أن بحث قوى الإنسان العقلية لا يصير وضعيًّا إلا إذا أخذ فيه من الجهتين التاريخية والاجتماعية؛ ولهذا كان اكتشاف قانون الحالات الثلاث حدثًا عظيم الأهمية جاء مبشرًا بالعلم الوضعي في تطبيقه على الإنسانية بشرى يعد تحققها الشرط الأساسي لقيام الفلسفة الوضعية. وإن هذا الاكتشاف تأكد فيه «كمال التماسك المنطقي» ببحث كل الظواهر على طريقة واحدة. وهذا القانون من قوانين الحركة الاجتماعية هو حجر الزاوية لكل المذهب الوضعي.