المعرفة أساس إيمان المستقبل١
«إن ما لا نعرف من الغيب أبعد في حياتنا النفسية مدى مما نعرف من العلم.»
١
يضطرب العالم اليوم بشعور عام يبدو أثره في ظاهرات من الفوضى تارة، ومن الإباحية تارة أخرى، ويتمخض ثالثة عن ثورات اجتماعية أو اقتصادية غير معينة المطالب والنتائج. ويعزو الأكثرون هذا الشعور الذي ترتب على ما أحدثت الحرب الكبرى من انقلاب إلى اضطراب الدعائم الاقتصادية العالمية، سواء في البلاد التي اشتركت في الحرب اشتراكًا فعليًّا أو في البلاد التي بقيت على الحياد في أثنائها. وكل الظواهر تعاون على الاقتناع بصحة هذا القول. فاضطراب العملة في البلاد المختلفة؛ وكساد كثير من الصناعات، وما نشأ عنه من مشكلة العطلة في كثير من الأمم، واختلاف وسائل النقل عما كانت قبل الحرب — كل هذه عوامل اقتصادية هي مصدر القلق العالمي الحاضر. والثورة البلشفية في روسيا ومساعيها المتصلة لتقلب العالم شيوعيًّا كله ليست إلا هدمًا للنظم الاقتصادية القائمة. وعلى هذا الأساس تعقد الدول المؤتمرات، وتسعى بمختلف الوسائل لتثبت نظم التبادل وإعادة الثبات الاقتصادي الذي ظل العالم مطمئنًّا إليه عصورًا طويلة قبل الحرب. وهؤلاء الأكثرون يذهبون إلى أن العالم متى عاد إلى مثل حالته الاقتصادية السابقة على الحرب زال قلقه، وزالت منه الفوضى واطمأن إلى ما كان مطمئنًّا إليه من قواعد.
ولا ريب في أن الانقلاب الاقتصادي كان له أثر كبير في هذا الشعور العام. لكنا نعتقد أنه ليس العامل الأساسي الذي يتوقف كل شيء على تطوره، وإن هناك عاملًا نفسيًّا ترتب هو الآخر على الانقلاب الذي أحدثته الحرب، ولا مفر من علاجه إذا أريد بالعالم أن تعاوده الطمأنينة. هذا العامل النفسي يرجع إلى عقائد الجماعات، وتقديرها قواعد الخلق، وبحثها عن مثل أعلى يكون مطمح الإنسانية الذي تشعر به وتجد لتحقيقه، فإذا اطمأن الناس إلى عقيدة اجتماعية عامة، وإذا تواضعوا على قواعد للخلق تتفق مع مظاهر حياة العالم في العصر الحاضر، وإذا عرفوا لأنفسهم مثلًا أعلى، راجعت الإنسانية سكينتها وعادت للعمل في جد وسلام تضيء لها عقيدتها وأخلاقها المتعارفة، ومثلها الأسمى سبيلًا مفيدًا بعيدًا عن الاضطرابات.
ربما كان السعي الجد لإعادة الطمأنينة الاقتصادية إلى العالم بعض وسائل الهدوء النفسي الذي تتلمسه الإنسانية اليوم فلا تجده. فقديمًا كان الاضطراب الاقتصادي سبب الحروب والثورات، وسبب المذاهب والعقائد الجديدة. لكن الطمأنينة الاقتصادية لم تكن يومًا غاية اجتماعية لذاتها. إنما هي أبدًا وسيلة لرخاء العالم رخاءً يمكن له من المتاع بكل ما في الوجود من أسباب النعمة والسعادة. والنعمة والسعادة اللتان يدأب الإنسان في طلبهما غير يائس من الوصول إلى حظ قل أو كثر منهما، إنما يتعلقان بالنفس الإنسانية عند الفرد وعند الجماعة على السواء. والنفس الإنسانية ليست بحاجة إلى أن تترع بنعيم المادة لتنال حظها من السعادة. وإنما هي بحاجة إلى أن تكون فوق مستوى العوز المادي الذي يضطرها لإنفاق كل وقتها في السعي للعيش. وكل ساعة فراغ من هذا السعي تنالها هي سعادة مكسوبة إلى الحياة الإنسانية المتطلعة لمعاني الوجود العليا بمقدار ما تطبق النفس تصور هذه المعاني. والجماعة في ذلك كالفرد سواء بسواء.
وقد غيرت الحرب من تصور الناس لمعاني الوجود تغييرًا كبيرًا هو الانقلاب بعينه. وإذا عمت الحرب العالم كله، فتناولت آسيا وأمريكا وأستراليا وأفريقيا كما تناولت أوروبا نفسها؛ فالانقلاب الذي حدث في هذا الشأن عالمي عام. وأنت تقدر مدى الانقلاب، إذ ترى هذا الإخاء بين أهل الأديان المختلفة في بلاد كالهند كان يظن هذا الإخاء فيها محالًا، وإذ ترى الأمم الأوروبية التي كانت تفاخر؛ إلى ما قبل الحرب: بأنها اهتدت إلى سبيل الحق من طريق العلم تشعر الآن بتداعي كثير مما آمنت به وتلتمس في ماضي الشرق الروحي وسيلة للإيمان على أنه سبيل السعادة. وهذا الإخاء الديني الذي ظل زمنًا في الهند، وهذا الوهن في العقيدة بالعلم مما لا يزال في أوروبا ليسا إلا مظهرين لظمأ النفس إلى أخلاق جديدة، وإلى مثل عليا غير تلك التي كانت تؤمن بها. وهذا الظمأ بالغ اليوم غاية الشدة، وهو السبب في الفوضى وفي الإباحية وفي الاضطراب، وفي كل ما يشكو الناس منه وما يرونه شرًّا، ثم ما يعجزون عن وصف الدواء له؛ ذلك بأنهم يشعرون أن التماس الدواء في الماضي لا فائدة منه بعد هذه الخطى الواسعة التي خطاها العالم منذ الحرب إلى عصرنا، فباعد ما بينه وبين الماضي بما لا يبقي بينهما صلة نافعة؛ ولأنهم لما يتبينوا الخلق والإيمان الجديدين اللذين يملآن الفراغ الحاضر، ويكونان دعامة الحياة الاجتماعية في المستقبل.
ولعلك إذا أردت أن تعرف السبب الصحيح لانقطاع الصلة، ولو انقطاعًا مؤقتًا بين الحاضر والماضي موفق إلى ذلك فيما كان من اختلاط أمم العالم وأجناسه في أثناء الحرب اختلاطًا أظهرها إلى عقائد وأخلاق وعادات ومعارف جديدة، ودلها على سوء تقديرها الماضي لما كانت تسمع عنه من ذلك عند الأمم والأجناس الأخرى. فهذه الألوف من جنود الهند السذج الجهلاء الذين كانوا معتقلين في سياج حصين من عقائد بلادهم وأخلاقها، قد رأوا في مصر وفي أوروبا، وفي مختلف الجهات التي مروا بها شيئًا غير الذي ألفوه وألفه آباؤهم وأجدادهم. ومثلهم جنود السنغال وجنود الروس. وقد وقف الأوروبيون من هؤلاء على تصور جديد لمعاني الوجود لم يكونوا يألفونه بل كانوا يحسبون أن جماعة من الجماعات الإنسانية لا يمكن أن تقوم به. وهذه الألوف من الجنود السذج الجهلاء من أهل الأمم المختلفة هي التي يتكون منها السواد، والجماهير أكثر ثقة بها وبما ترويه منها بمنطق الفلاسفة وبحوث العلماء وتجاربهم؛ لذلك ليس عجبًا بعد ما عاد هؤلاء وقصوا ما رأوا وما سمعوا أن تبهم عليهم، وعلى من يستمعون لهم صور الحياة التي ألفوا، وأن يلتمسوا جديدًا يحسبونه أدنى إلى حظ من النعمة والسعادة أوفى مما كانت الصور القديمة تتيحه لهم. وإذا كانت الشهوات الدنيا هي أقرب ما يتصوره الإنسان العادي من سعادة الحياة، فقد كانت الإباحية في العالم وكان ما ترتب عليها من الفوضى ومن الاضطراب.
إلى جانب ما أحدثت الحرب من الاختلاط بين أمم العالم وأجناسه قربت الاختراعات بين أجزاء العالم تقريبًا، لم يكن يدور بخلد أحد إلى ما قبل الحرب بزمن قليل، حتى لقد أصبح العالم ضيقًا، وأصبح صغيرًا تستطيع ان تقف على مختلف ما يدور فيه بأوفى وأسرع مما كنت تستطيع في الماضي القريب أن تقف على أخبار أمة من أممه، بل مقاطعة من مقاطعات تلك الأمة. وقد تناول هذا التقريب بين أجزاء العالم كل ما يمكن تصوره من أسباب. فأنت مستطيع أن تنتقل بين جوانبه المختلفة في وقت قصير، وأنت قدير على معرفة أخباره جميعًا بالدقة والتفصيل في الساعة التي تقع فيها، أو بعد ذلك ببضع ساعات قليلة. ولم يصبح أمر إمداد الناس بالأخبار مقصورًا على الصحافة، بل تعددت الأسباب وصرت ترى على شريط السينما أو تسمع من طريق الراديو ما يحدث في أكثر بلاد العالم بعدًا عنك كما لو كان إلى جانبك. هذا بعد أن كانت تلك البلاد خيالات وأحلامًا، فإذا سمعنا عنها سمعنا مثل أقاصيص ألف ليلة وليلة، وانتهينا إلى أن ما نسمع ليس إلا خيالًا يقصد به إلى التسلية لا أكثر ولا أقل، فلم يزعزع ذلك من تصورنا للوجود ولا من إدراكنا لمعانيه.
ولم يقف الأمر عند اختلاط الأجناس وتقارب الممالك. بل لقد تقاربت أفلاك الوجود كلها بما كشف، وما لا يزال يكشف العلم عنه من كنه هذه الأجرام وصلاتها بالأرض. ولم تبق معرفة مقصورة على طائفة محصورة، بل أصبح كل يستطيع الوقوف على كثير منه بما تنشره الكتب والمجلات والصحف والمحاضرات التي أصبح سماعها ممكنًا في أنحاء العالم المختلفة عن طريق الراديو. ولئن لم يقف سواد الجماهير بعد على تفاصيل هذا وعلى دخائله، فإنه يتصور وجوده على نحو أزال من نفسه الصورة القديمة التي كان يؤمن بها على أنها حقيقة هذه الأفلاك. ومجرد زوال هذه الصورة القديمة كاف ليزعزع من قواعد الاعتقاد والخلق شيئًا كثيرًا.
هذا الاختلاط بين الأمم وهذا التقارب بين البلاد وبين الأفلاك نفسها لم يكن ذائعًا قبل الحرب ذيوعه اليوم، ولم تكن جماهير الأمم المختلفة قد اقتنعت به اقتناعها اليوم. وقد زلزل هذا الاقتناع كثيرًا من قواعد إيمانها القديم، وإن لم يضع مكانها قواعد أخرى: وإذ كانت الجماهير لا تطيق العيش من غير قواعد ومثل عليا، فقد تدافعت إلى ما تدفعها سلائقها إليه من الاستمتاع بالحياة، وبكل ما فيها في أبسط صور الاستمتاع وأقربها لإشباع الشهوات. ولما كان هذا خروجًا على متعارف الناس إلى العصر الأخير، فقد ذاعت دعوة الفوضى والإباحية.
طبيعي أن ما أحدثت الحرب من انقلاب لم يحدث فجأة، وأنه يستمد أصوله من تطورات العالم في الأجيال الأخيرة. بل إن كثيرًا مما يقع اليوم ليتصل اتصالًا مباشرًا بما خلفت الثورة الفرنسية الكبرى وثورة سنة ١٨٤٨ من آثار. لكن هذه الأصول لم يظهر أثرها قبل الحرب إلا في بيئات خاصة هي البيئات المستنيرة. فلما كانت الحرب انتشرت تلك الآثار بين سواد الجماهير، وزادها انتشارًا تزايد المكتشفات والمخترعات، وتقريبها مبادئ العلم وقواعده من أفهام السواد؛ لذلك تقبل الكل الانقلاب من غير أن تقف في سبيله فطرة المحافظة التي تهاب كل جديد وتقف في وجهه وتحاربه. وهذا هو السر في أن الانقلابات العظيمة التي حدثت في روسيا وفي إيطاليا وفي تركيا لم تلق من جماهير العالم حربًا لها إلا ما اتصل منها بمصالح أصحاب الأموال مما هددته البلشفية. فأما الانقلابات الاجتماعية فقد تمت في كل هذه الأمم على صورة لم تكن تخطر بحلم الحالمين، وتمت مع ذلك من غير أن تثير من عداوة الدول المختلفة ما أثارت مبادئ الثورة الفرنسية، مما أدى إلى تألب ممالك أوروبا عليها والعمل لمقاومتها والاضطرار آخر الأمر للأخذ بها؛ لأنها كانت المبادئ التي تتفق والتطور النفساني الكمين في أرواح الشعوب.
وثم انقلاب في تقدير الأفراد للنظام الاجتماعي يتصل بهذه الانقلابات العامة، بل يتقدمها. فقد كان الناس، إلى زمن قريب، يقدرون لطوائف الجماعة المختلفة حدودًا خلقية يعتبر تخطيها جناية على الشرف وعلى الكرامة، وتحاربه كل طائفة بكل ما أوتيت من وسائل. وها نحن أولاء لا نزال نسمع من بقايا هذا التقدير تقرير الحكومة الرومانية نزول البرنس كارل عن ولاية العهد، وعن عرش أبيه، ورفع ابنه الطفل ميخائيل إلى هذا العرش، لإطاعته عاطفة الحب وعدم إخضاعه إياها لموجبات السياسة. على أن تصرف كارل في اتصاله بامرأة يعتبر المسئولون عن مصير رومانيا الاتصال بها مزريًّا بملك هو لذاته أثر من آثار الانقلاب العالمي؛ فالناس ينظرون اليوم إلى هذا التصرف الذي أتاه الأمير من غير أن تأخذهم دهشة. بل ربما كانت دهشتهم من إنزاله عن عرش لآبائه أكبر من دهشتهم للسبب الذي أدى إلى هذا القرار، ولو أن تصرفًا كهذا تم منذ سنوات لاضطربت له بلاطات الملوك، ولاعتبر حادثًا خارقًا لقوانين الطبيعة. وما أتاه البرنس كارل ليس إلا مثلًا مما يحدث اليوم من غير أن تثور له نفس أو تهتز له عاطفة. ألم تخبرنا الصحف أن ابنة أخت الجنرال هندنبرج رئيس الجمهورية الألمانية تقوم بالتمثيل السينمائي؟ أولم تفعل زوج ابن السلطان عبد الحميد مثل تلك الفعلة؟ وهذان مثلان من كثير يقع في عالم السينما وفي عوالم الفن والعلم المختلفة. ولو أن شيئًا من مثله حدث في الماضي القريب لكان أعجوبة الأعاجيب، ولكان خروجًا على قواعد الدين ومبادئ الخلق، ولاستحق مجترحوه حرمان الكنيسة وزراية الناس.
ومن العبث الآن محاولة العود بالعالم؛ ليخضع إلى ما كان خاضعًا له قبل الحرب من عقائد وأخلاق وعادات. صحيح أن كثيرًا من هذه سيعود قويًّا كما كان. لكنه في عودته سيضطر إلى الاصطباغ بلون حياة العالم العقلية والروحية الجديدة، وهذه الحياة الجديدة هي ما يفكر اليوم فيه العلماء والمفكرون، وإن كانوا لما يهتدوا إلى شيء صالح. ويخيل إلينا أن الإنسانية ما تزال بعيدة عن هذه الهداية، وأنها ستظل سنوات طويلة في اضطرابها الحاضر إلى أن يتاح لها رسول جديد من العلماء والفلاسفة يهديها طريق الحق. وآية هذا البعد عن الهداية ما يبدو على أدب العصر من الانحلال والاضمحلال، وعلى تفكيره من القصور عن تناول المسالة العالمية بصورة جريئة واضحة يصيح بها صاحبنا في الناس بما يؤمن هو به أنه الحق، أي: أنه أقوم طريق يمكن للإنسانية من تحقيق أكبر حظ مستطاع من السعادة في ظروفها الحاضرة.
في انتظار اليوم الذي تعلو فيه صيحة الهدى والحق يجب تمهيد الإنسانية لسماعها، وهي في اعتقادنا لن تخرج عن دائرة العقل والعلم. قد تظل الشئون الروحية فوق متناول هذه الصيحة. لكن ما كانت هذه الشئون الروحية تعتبره داخلًا في نطاقها من قواعد السلوك ومبادئ الخلق والجزاء عن العمل، وما إلى ذلك مما يتصل بتصرفات الأفراد أو الجماعة الماسة بحياتهم سيصبح غير روحي، وسيخضع لقوانين العلم ومبادئه. بل ربما لا يكون محالًا أن ترتبط هذه الصيحة المنتظرة ارتباطًا وثيقًا أو غير وثيق بصيحات أوجست كومت وفلناي وروسو وغيرهم، ممن أرادوا أن يجعلوا العقل والعلم وحدهما المدبرين لحياة الأفراد والجماعات والمنظمين لكل شيء فيها.
وما دام ذلك هو الشأن فتمهيد الإنسانية للصيحة المرجوة لا يكون إلا بكشف قناع الوهم عن عيون الجماهير، وإظهارها على كل آثار العلم ونتائجه. يجب ألا يعتبر أمر من الأمور سرًّا يتحتم ستره من عيون الأطفال في أثناء تعليمهم، وعن عيون السواد في حياته العامة، بل يجب أن يعرف كل فرد ما يستطيع أن يعرفه، وأن يعرفه على طريقة علمية صحيحة. وأن يبني على هذه المعرفة عقائده وعاداته وأخلاقه. ويجب كذلك أن يعلم أن ليس شيء من هذا الذي يلقي به إليه مقدسًا غير خاضع للتطور أو التغير. وإن عقائدنا الأخلاقية والاجتماعية ليست أمرًا واجب الطاعة لذاته؛ ولكن لأنها هي التي تقربنا من السعادة؛ وعلى الأقل تبعد عنا هموم الحياة وآلامها. وأن الحقيقة الإنسانية هي ما أدى إلى هذه الغاية.
فإذا تقررت هذه القاعدة وأخذ بها المعلمون في مدارسهم والكتاب في كتبهم وصحفهم تفتح عقول جمهور الإنسانية، فأفاد من هذه الثروة العلمية العظيمة التي تكدست على القرون، والتي ظلت مع ذلك ولما تنظم نظامًا يجعلها نافعة، ويقربها من المجاميع إلا قليلًا في العصور الأخيرة. إذا تقررت هذه القاعدة، وعرف كل فرد الأسباب الاجتماعية والعلمية لما تحرمه القوانين، ولما تنصح به التعاليم وأدرك الطفل والساذج أن ليس في الحياة سر من الأسرار، وأن ما وضع وما يوضع من قواعد السلوك ومبادئ الخلق ليس شيئًا خارقًا للطبيعة، ولا أجنبيًّا عن الإنسان، وأن الإنسان هو كل شيء، يسر ذلك لكل فرد أن يشعر شعورًا صحيحًا بأنه ذرة حية من الوجود الإنساني في تعاونها مع سائر أفراد المجتمع ما يكفل فائدتها وفائدة المجتمع. ثم كان أساسًا صالحًا لتفسير كثير من العواطف الإنسانية التي يحسبها الناس غرائز وهبات لا سبيل لتغييرها، بينا هي إن تكن غرائز وهبات، أو تكن شيئًا آخر فهي قائمة بالنفس لفائدة الفرد؛ ولفائدة الجماعة والجنس على السواء.
إذا تقررت هذه القاعدة في حياتنا العملية، وهتكت المعرفة حجاب السر، وأصبحت الجماهير تدرك أن قداسة الأشياء والمبادئ راجعة إلى أنها هي التي جعلتها مقدسة؛ لأنها سبيل سعادتها الممكنة ووقف الأفراد على ما للطبيعة من قوانين، وما للإنسان على الطبيعة من سلطان، وسار العلم في نفس الوقت بالخطى الواسعة التي يسير اليوم بها، إذا حدث ذلك أمكن تمهيد الإنسانية للصيحة المنتظرة، ولقواعد العقيدة والأخلاق الجديدة.
٢
وعكف الفتى يفكر فيما عسى أن يكون سبب ما أصاب زوجته. ليس شيء مما يعترينا إلا ويكون عن سبب يعرفه العلم، وإن لم يعرفه العلم اليوم فسيعرفه غدًا؛ وهؤلاء هم الأطباء يقررون أنهم لا يجدون لما أصاب زوجته سببًا. وهي مع ذلك ما تفتأ تزداد ضعفًا يومًا بعد يوم برغم ما يوليها من عناية، ويحيطها به من عطف وحب، أفلا يمكن أن تكون هذه المشئمة التي أتيا بها من تونس هي سبب المرض؟ ولكن أي علاقة يمكن أن تكون لسن ملبسة فضة وموضوعة في درج مكتب على صحة إنسان بعيد عنها غير متصل بها؟ على أنه لم يقع جديد منذ تزوجا، ومنذ سافر إلى شمال إفريقية غير هذه السن التي قال عمه عنها: إنها فأل سوء. وإذا كان للعامة وسواد الناس أن يؤمنوا بفأل السوء وبفال الخير وبالتميمة والمشئمة، فليس من حق أهل العلم أن ينزلوا إلى هذا الدرك، أو أن يتوهموا للحادث أسبابًا غير ما في الطبيعة مما يتناوله فهمنا أو يمكن أن يتناوله، ويظل الفتى كذلك في حوار مع نفسه يغالب الإشفاق على زوجه إيقانه بالعلم ويكاد يغلبه، فيرى واجبًا عليه أن يحطم هذا الفال وأن يلقي به بعيدًا، ثم تنتصر كبرياء العلم على عاطفة الإشفاق، إبقاءً على عقله أن تدنسه مثل هذه الترَّهات. ويصل حينًا إلى ذكر قول باسكال: لنتراهن على وجود الله. فأما الذين يتراهنون على أنه موجود فلا يخسرون شيئًا إن لم يكن موجودًا وكان العالم كله هباء، وهم يكسبون كل شيء متى كان موجودًا قادرًا على كل شيء. كذلك فلنحطم هذا الفأل. فإن يك من أثره ما أصاب الزوجة العزيزة، فهي عائدة إلى صحتها وإلى ابتسامتها وإلى نعيم الحياة وطمأنينتها، وإن لم يكن له في المرض أثر فلم نخسر شيئًا. ولكن أين هذه الأوهام من العلم التجريبي الواقعي الذي يؤمن الزوج وتؤمن الزوجة به؟ بل أليست هي تجديفًا في حق العلم وردة عن الإيمان به وتطليقًا لحكم العقل وخضوعًا لخداع الوهم؟ ويظل صاحبنا في هذا الجدل العنيف بينه وبين نفسه حتى يتغلب الإشفاق على العلم والعاطفة على العقل، فيتسلل جوف الليل إلى الغرفة، حيث المكتب الذي حفظت المشئمة فيه، وما يكاد يدخلها حتى يقف ذاهلًا مرتجًّا عليه. ماذا يرى؟ زوجته أمام المكتب؟ هي إذن تفكر هي الأخرى كما يفكر، وتحسب أن قد يكون في هذه السن الملبسة فضة سبب همها وما أصابها. وهي إذن تعتزم هي الأخرى أن تلقي بها بعيدًا حتى تتخلص من أثرها فتعاودها صحتها. وتتقابل نظرات الزوجين في ضوء الغرفة الضئيل، فتسأل الزوجة صاحبها: ماذا جاء به إلى حيث هو؟ أفتراه يذكر لها أن إشفاقه غلب علمه، وأنه جاء يبحث عن فأل السوء؛ لينجو بها من سوء أثره؟ كلا بل تعلو كبرياء العلم في نفسه من جديد ويخبرها بأنه أحس بها تهبط الدرج، فتبعها خيفة أن يصيبها مكروه، وتعلو كبرياء العلم في نفسها هي الأخرى فلا تخبره بشيء، ويظل كل واحد منهما يخترع الأسئلة والأجوبة يرجو أن يضعف صاحبه أولًا، فلا تتحطم كبرياؤه هو. ويعودان أدراجهما مكدودين ولم يرض أيهما أن يظهر بأنه قد تزعزع إيمانه بالعلم لحظة واحدة.
ويزداد الزوج إصرارًا على كبريائه ويرجو أن تضعف زوجه قبله، فيطلع على فتحة الدرج بنقطة من سائل الشمع، ثم يعود بعد ذلك لعله يرى أن الشمع زال والدرج فتح وفأل السوء ذهب، وأن كبرياءه انتصرت فيرتد على عقبه جريحًا أن يرى امرأته العزيزة ما تزال أقوى منه كبرياء، وأشد على كبريائها حرصًا. لكنها هي المريضة وهي التي تتأثر ما لم يسلم الزوج. ولكن من يدري، فلعلها فتحت الدرج وألقت بالمشئمة ثم ألقت نقطة من الشمع أخرى! وإذن فليفتح الزوج ولير! ها هي ذي السن التعسة ما تزال في موضعها. وها هو ذا قد أسلم كبرياءه العلمية، وخضع لحكم الوهم. وها هو ذا يريد أن يزداد خضوعًا فيأخذ السن ليلقي بها في نهر بعيد أو يقذفها إلى أمواج البحر إن أحوج الأمر أن تزول الزوال الأخير. وفيما هو في تفكيره ومحادثته نفسه دخلت خادم! فما كاد يلمح دخولها حتى دفع الدرج بقوة، وخرج وراء الخادم تاركًا فأل السوء حيث كان.
وبعد أيام من هذا جاءت زوجه من سفر كان الأطباء قد نصحوا به ولم يفدها شيئًا. ولكن لم تمض أيام أخرى على حضورها حتى إذا قواها قد بدأت تعاودها، وترد إليها من الحياة ما يزيل هزالها ويعيد تورد وجناتها وابتسام ثغرها! وعادت إلى الدار كل حياتها وكل سعادتها. وبعد ذلك بسنتين فيما كان الزوج يرقب في ليلة عاصفة خطف البرق وقصف الرعد وتهتان المطر حلا له أن يذهب إلى غرفة كانت زوجه بعد عودة صحتها قد نقلت إليها المكتب المشئوم، ففتح الدرج الذي عرف فأل السوء فيه، فلم يجد شيئًا وفتح الدرج الذي تحته، فإذا الفأل ما يزال فيه.عند ذلك ادَّكر حين دفع الدرج عندما فاجأته الخادم، أن قاع الدرج تزحزح من مكانه تاركًا بينه وبين جدار الدرج الأمامي فراغًا سقط الفأل منه. إذن لم يبق شك في أن الزوجة عادت إلى الدرج بعد عودها من سفرها، فلم تجد المشئمة فيه فاطمأنت كبرياؤها العلمية إلى أنها لم تضعف. وإذ كانت هذه المشئمة سبب ما أصابها من اضطراب عصبي كاد يأتي على حياتها، فقد زال الاضطراب بزوالها وعادت إليها القوة والصحة.
وابتسم الشاب في هذه الليلة العاصفة أن أنقذت المصادفة كبرياءه وكبرياء زوجته جميعًا، وإن ردت المصادفة الصحة الغالية إليها، فأعادت السكينة لدار هجرتها السكينة طوال العام الأول من أعوام زواجهما، وآمن أن الحياة ما يزال فيها مغالق تثير الوهم في أقوى النفوس إيمانًا بالعلم، وتجعل العلماء كثيرًا ما يجيبونك على ما تسألهم عنه: «قلَّ ما ندري».
هذا النضال بين كبرياء العلم وضعف الوهم هو إذن مدار قصة دوهامل كلها. وهو ينتهي إلى أن ضعف الوهم أقوى أثرًا من كبرياء العلم، وأن ما لا نعرف من الغيب أبعد في حياتنا النفسية مدى مما نعرف من العلم؛ وأنا يجب لذلك أن نقيم للغيب في حياتنا وزنًا، ونفرد له منها مكانًا، وأن نعترف له أمام عقلنا بحق الوجود أن يصيبنا من إنكارنا إياه ما أصاب هذين الزوجين من بأساء عامًا كاملًا، بأساء لم ينجهما منها إلا مصادفة هي بعض الغيب الذي يحاولان إنكاره، الذي يخضعان مع ذلك له، ويضعفان أمامه ثم يجدان آخر الأمر فيه حصن الطمأنينة وموضع الرضا والنعيم.
ولست أدري ما عسى أن يكون رأي القراء في هذا الضرب من الفلسفة. بل لست أعرف لنفسي رأيًا ثابتًا فيه، وإن كنت لا أسيغه فلسفة للحياة وحكمتها. فأما الذي أعرفه فذلك أن لنا جميعًا ساعات ضعف ننكر فيها علمنا، ونتنكر لماضينا، ونخضع فيها خضوعًا أعمى للكمين في أعماقنا مما ورثنا عن أسلافنا، أو مما يقوله المحيطون بنا ولم يكن لرأيهم من قبل أي احترام عندنا. وكما أن السعيد بجهالته الكافر بهذا العلم الذي غير وجه الأرض القانع من العيش بإيمانه بكل ما نسميه الخرافة والوهم الناسب المرض، والعلة للحسد والجن — كما أن هذا الإنسان يذعن أحيانًا، فيذهب بمريضه إلى الطبيب منكرًا إيمانه بأن الطبيب هو الله. كذلك يقع أن يذعن المؤمن بالعلم الشديد الاعتزاز به المنكر لكل شيء سواه، فيرضى أن يستمد العون أو الشفاء أو الهداية لنفسه أو لذويه من قوى كان من قبل يسخر منها ويزدري المؤمنين بها. وكثيرًا ما حدث لبعض أكابر العلماء في مختلف الأمم أن أهوت عليهم مصائب من نواح مختلفة، فلم يجدوا آخر الأمر عاصمًا منها إلا الالتجاء لزيارة الأولياء والمقربين، ومن العلماء من نذر النذور ومنهم من أقرا أهله على نذرها. وهؤلاء الذين يقومون اليوم بتجارب مخاطبة الأرواح إنما تدفعهم إليها — في أكبر ظني — عاطفة كهذه العاطفة التي تذهب بالعالم لزيارة ولي أو النذر له. وهل زيارة الناس أجداث موتاهم لا تنطوي إلا على لذع من هذا الشعور الذي لا نجد له تفسيرًا في العلم الواقعي، علم المشاهدة والتجارب، وإن وجدت له تفسيرًا في هذا الضعف الإنساني الذي يبلغ في كثير من الأحايين من القوة ما لا تبلغه كبرياء العلم.
والحقيقة أن العلم قد كشف لنا عن كثير مما في الحياة، وأتاح لنا الاستمتاع بنعيمها إلى حد لم يكن يخطر بخيال أحد من قبل. والحقيقة كذلك أن الظمأ للمعرفة بعض طبائع الإنسان، فهو ما يكاد يقف على شيء ويكتنه بواطنه حتى تدفعه الطلعة؛ لكي يقلب في هذه البواطن أو يبحث عن جديد لما يخضع لعلمه. لكن الحقيقة كذلك أن المعرفة لا تلقي سببًا للسعادة، بل إنها كثيرًا ما تكون داعية قلق النفس واضطراب الخاطر. والسعادة، هذا الحلم الجميل الطائر أمام أعيننا بأجنحة من نور، هذا الأثير المحسن نتنسم في الجو ذراته، ونريد أن نستنشقها ملء صدورنا فلا نجد منها أبدًا ما يكفينا، السعادة هي ما يجري بنو الإنسان وراءه من عهد آدم إلى اليوم. يجرون وما يكاد أحدهم يحسب نفسه أدركها حتى يجذبه من خلفه شيطان الشقاء فيصده عنها. هذه السعادة ليست في العلم؛ لأن العلم شهوة وليس من وراء شهوة سعادة، وكثيرًا ما أكب علماء على العلم فأفنوا فيه حياتهم حتى إذا كانوا عند خاتمة المطاف منها لذعتهم الحسرة أن زادوا أنفسهم بعملهم همًّا، فأوصوا أن ينشأ أبناؤهم في الإيمان وأن يعمدوا وأن يرسلوا في الحياة على سجيتهم، وألا يطلبوا إلى العلم حل طلاسم الغيب. فعلمنا وإن اتسع المدى ضيق إذا قيس إلى مدى الوجود الذي لا نهاية له. بذلك أوصى تين وغير تين من أكابر العلماء الذي آمنوا صدر شبابهم بأن العلم هاتك حجب الغيب لا محالة، حتى إذا رأوا حجب الغيب لا تنتهي ضعفوا، وخيل إليهم أنهم كانوا يسعون وراء سراب لا حقيقة له، وإن كانت غاية هذا السراب كل الحقيقة.
ضعفوا فضعفت كبرياء العلم فيهم فنصحوا بالإيمان. وكثيرًا ما قيل: إن الإيمان مظهر من مظاهر الضعف الإنساني، وأن النفس كلما كانت أشد قوة كانت أقل للإيمان حاجة. ولقد يكون هذا صحيحًا، ولكنه إن صح لا ينفي أن الإيمان كمين النفس كمون الضعف فيها. وكما أنك ما دمت في مقتبل شبابك صحيحًا قويًّا لا تعني بالقلب أين موضعه، ولا يهمك غير القلب من الأعضاء، ولا أن تعرف مكانه ولا تكوينه ولا ما يؤثر فيه ويتأثر به، فإذا دب إليك الهرم أو المرض ذهبت تستقصي عن هذه الأعضاء وخصائصها وما يتعلق بها وظهر أمام بصيرتك هذا الكمين المخبوء في أطواء جسمك، كذلك تراك من الإيمان والوهم أو الخرافة أو ما شئت فقل.
أنت لا تعرف من ذلك شيئًا ما دمت قوي النفس جلدًا على مكافحة الحياة. فإذا دب إلى نفسك هم أو بأس أو أضعفك هرم أو مرض، رأيت هذه الكامنات النفسية تظهر أمام بصيرتك من مخبئها في أطواء جوانحك، ورأيت وأنت العالم المنكر لهذا كله تشعر بمثل ما يشعر به من ليس له بعض علمك وفضلك. وكثيرًا ما تعترض كبرياؤك العلمية على ما يثير الضعف من إيمان، ولكنك ترى نفسك في هذا النضال بين كبرياء العلم وضعف الوهم لأن تسلم لأيهما أقوى، أو لأيهما أشد صبرًا وأقدر على المثابرة في السجال. وكثيرًا ما تنتهي الغلبة للإيمان.
لقائل أن يقول: إن العلة ضعف والهم ضعف واليأس ضعف، وأن هذه كلها حالات مرضية تنكرها الصحة السليمة، فالإيمان المترتب عليها هو لذلك حالة مرضية هو الآخر. وإذا كان للمرض أن يغلب الصحة وأن ينتهي بنا إلى الموت، فليس معنى هذا أن المرض هو الحق، وأن الصحة ليست حقًّا، فالحياة والحق عدلان، والحياة والصحة عدلان، وكل حالة مرضية لا يمكن أن تعبر عن حقيقة الحياة. فالعلم إذن هو الذي يعبر عن هذه الحقيقة دون الإيمان. وكبرياء العلم هي كبرياء الحياة في عنفوان صحتها، وضعف الوهم وما يترتب عليه من آثار نفسية هو في الواقع مقدمة الانهيار إلى الموت وإلى الفناء. ونحن في كل مباحثنا العلمية إنما نجري وراء مظاهر الحياة نريد أن نثبت سننها، ولا نعني بالموت إلا بمقدار ما يمكن أن تتجدد به في صورة حياة أخرى.
وفي رأينا أن الإيمان والعلم لا يتناقضان، وأن في النفس الإنسانية ما يتسع لهما جميعًا، حتى لو أنك أخذت الإيمان في درجاته التي تنزل إلى الوهم وإلى الخرافة. فالعلم هو مجهود أفراد الإنسانية المتصل المتتابع؛ ليكشفوا رويدًا رويدًا عن حقائق الوجود، وهذه الحقائق لا تتناهَى. وأنت كلما كشفت منها عن جديد تبدَّى لك بعده ما كانت الحقائق التي كشفت عنها تحجبه قبل أن يقع نور العرفان عليها، فأما الإيمان فما تتصوره نفس الفرد أو الجماعة الإنسانية من أثر هذا الوجود الرهيب فيها، وقد يتغير الشعور من فرد إلى فرد ومن جماعة إلى أخرى. فجوانب رهبة الوجود متعددة في غير حد، كما أن جوانب العلم به متعددة إلى غير حد. وما دامت حياة الإنسان محدودة، وما دام كل واحد منَّا يبدأ جهادًا جديدًا للوقوف على ما أورثه أسلافه من العلم، ثم يرى نفسه بعد كل مجهوداته أمام غيب لا يقل عن العلم قوةً ولا جلالًا، ويرى أن عمر الحياة أقصر من أن يصل به إلى الكشف عن هذا الغيب؛ وأن الموت له بالمرصاد — ما دام ذلك كله فسيظل في النفس الإنسانية ضعف قد لا يعرف الإنسان الجانب الذي يكمن فيه، ثم إذا حادث من الحوادث قد جلى هذا الضعف وأبرزه واضحًا صريحًا.
وليس لدينا من سلطان نتغلب به على هذا الضعف إلا أن نعترف به ونذعن له، لا إذعان خضوع واستسلام، ولكن إذعان رضا وسلام، وما عسى يفيدنا، أو يفيد الإنسانية عن جهودنا، أن نقف حياتنا على مقاومته والعمل للتغلب عليه والاندفاع بذلك في سبيل من الأثرة التي لا جدوى لها ولا طائل تحتها! وإن لنا من ذلك عزاء وعنه سلوى في أن نوجه كل جهودنا للقيام بالواجب الذي تفرضه الحياة علينا، فليس منا إلا من تفرض عليه الحياة واجبًا شريفًا يستطيع أن يجد الطمأنينة الممكنة في الحياة بأدائه. هذا الواجب الشريف وسعينا المتصل في سبيله هو عوضنا عن كل ضعف يصيبنا، وهو قوتنا على الحياة والوسيلة لملكنا إياها فإذا مرت بنا في الحياة عاصفة حالت بيننا وبين القيام بواجبنا فلنطأطئ الرأس للعاصفة، ولنذعن لوحي إيماننا في الوسيلة لاتقائها، ولنا بعد ذلك من العمل الجد النزيه ما يرد إلينا القوة، ويذهب عنا الضعف والخوف. ولو أذعن بطلا قصة دوهامل لوحي ضميرها لما أضاعا سنة كاملة في نضال مستمر بين كبريائهما وإيمانهما، ولما تركت الحياة في نفسيهما جرحًا إن اندمل يومًا، فهو لا بد تارك أثره مذكر إياهما بضعف لا يلذ النفس ذكره.
٣
ولقد ازددت إيمانًا بصدق هذا الشعور في أثناء مقامي بالأقصر وأسوان في أسبوع عيد الفطر الأخير، وحين شاهدت للمرة الثالثة معابد الأقصر وخوفو وآمون بالكرنك ومقابر الملوك والملكات، ومعابد الدير البحري والروماسيوم ومدينة هابو وتمثالي ممنون بطيبة، ومعبد إيزيس الغريق في مياه الخزان عند الشلال فيما وراء أسوان. ازددت إيمانًا بصدق هذا الشعور؛ وتبدى لي أن حضارة جديدة لا بد سيبزغ فجرها عما قريب، وستكون حضارة الفراعنة هذه، وحضارة الشرق والإسلام بعدها، هي العامل الأكبر في هذا البعث، وكما أن غزو الأتراك مدينة قسطنطين وإجلاءهم الكثير من علماء النصرانية إلى اليونان وروما، قد كان سبب البعث (الرينسانس) في الغرب وأساس هذه المدنية الغربية التي ظلت قوية قاهرة أكثر من أربعة قرون، فإن غزو الغرب للشرق واقتحام علم الغرب أبواب مقابر الملوك الأجداد وكشفه عما في هذه المقابر من أسرار تاريخ تلك العصور، وفتح هذا العلم عيون أبناء مصر والشرق على هذه النفائس المحدثة عن حضارة كملت لها كل أدوات الحضارة، وإثارة عواطفنا ودفعها لتنهل من هذا التراث الذي كشف، ولن يعود إلى الظلماء من بعد — سيكون هذا كله بسبب البحث (الرينسانس) في الشرق وأساس حضارة جديدة يتزاوج فيها العلم والإيمان، فيرتوي منها العقل والنفس جميعًا، وتجد فيهما الروح الإنسانية غذاءً يجمع لها بين الرخاء والسعادة وبين النعمة والطمأنينة.
ولعلك تتساءل: كيف توحي الآثار المصرية بهذا الشعور؟ والجواب عندي أن هذه الآثار تحدثك عن علم لأهلها غزير، علم استطاعوا به خلق معجزات ما يزال عصرنا ينظر إليها في شيء من البهر والإعجاب. فهذه الهياكل الضخمة والمعابد العظيمة لم تقم عمارتها على أساس من المصادفة ولا على تجارب للفن وكفى، بل إن في كل منها لآثارًا هندسية يحدثك علماء اليوم عنها حديث معجب بها أشد إعجاب. وهذه الأهرام القريبة منا في القاهرة لم تكن مدافن وكفى؛ بل إن في عمارتها ومقاييسها واتجاهاتها الفلكية ما يدل على معارف هندسية وفلكية دقيقة غاية الدقة. وليس هنا مكان تفصيلها؛ لأنها تستوعب صحفًا وصحفًا من شرح فني لم يقصر علماء اليوم في وضعه تحت أنظارنا، ثم إن ما تراه على جدران المعابد من صور الحياة؛ ليدلك على أن هؤلاء الأقدمين كانوا يفهمون الحياة فهمًا واقعيًّا بحتًا على نحو ما تملي به قواعد العلم والطريقة التي وضعها ديكارت، ونظمها وهذبها من جاء بعده من العلماء. وإنك إذ ترى على جدران الكرنك من صور الطير والوحش والإنسان ما لا مزيد بعده لدقة، لتدهش (للريالسم) القوي الذي كان قاعدة الفن في تلك العصور البعيدة. وقد أطلعت في أحد أعداد مجلة الالستراسيون الفرنسية على صورة جدارية مأخوذة عن آثار بني حسن تصور مصارعة بين رجلين تصويرًا سينماتوغرافيًّا ترى فيه تسلسل الحركات واضحًا جليًّا إلى حد دفع المجلة الفرنسية لإظهار عظيم إعجابها بهذا التصوير الفرعوني السينمائي، في حين ما يكاد الغرب يحتفل بمرور ثلاثين عامًا على السينما فيه بإعتبارها أثرًا من آثار العلم الحديث. ومع ما ترى من غزارة علم أرباب هذه الحضارة القديمة؛ فإنك ترى في نفس الوقت مظاهر إيمانهم القوي بادية كذلك في نقوشهم وتماثيلهم، دالة على أنهم كانوا يحسون ما نحس به من قوى الغيب، وما لا يزال علم الإنسان عاجزًا عن تكييفه وإدراكه واستنباط قوانينه. ولكنهم كانوا لا يتجاهلون هذه القوى كما نتجاهلها ولا ينسونها كما ننساها، ولا يقفون من إيمانهم بها عند الانتظار إلى أن يقتحم العلم خفاياها ويستظهر سننها؛ لأنهم كانوا يشعرون أن حياة الإنسان القصيرة تتمثل الغيب كما تتمثل الواقع، ويجب أن تستلهم غرائزها وحي الغيب كما تستلهم حواسها ومداركها، وعقلها الصورة المضبوطة الدقيقة للواقع.
وإلى هذا النحو من تمثل الحياة تميل نظريات كثيرة من فلسفة الغرب اليوم، وفي مقدمتها نظريات الفيلسوف الفرنسي الكبير هنري برجس. وأحسب أنا جميعًا نرانا — بحكم عقولنا نفسها — مضطرين لتمثل الحياة على هذه الصورة لو أننا تركنا وإلهام عقلنا غير متأثرين بالنظريات الأخرى، التي نرى واجبًا علينا محاربتها ولو أدى بنا التطرف في الحرب إلى شيء من الغلو وإنكار الواقع. فليس عالم من العلماء إلا يشعر بأن العلم الإنساني على عظمة ما كشف عنه من نواميس، وما أخضع للإنسان من قوى، وما يزال يحيط به حظ من الغيب عظيم له كما للمحسوسات والمدركات نفسها أثر كبير في الحياة وفي سيرتنا فيها، وإذا كان ممكنًا في حكم التفكير المجرد أو الجدلي أن يصل العلم يومًا من الأيام إلى الكشف عن كل ما في الوجود وإخضاعه لحسِّنا وإدراكنا، فإن ذلك لن يكون — على ما نظن — في مستقبل قريب. بل هو لن يكون إلا إذا تطور الناس طورًا آخر، وأصبح لهم من الحواس وأسباب الإدراك أكثر مما لهم اليوم، واستطاعوا أن يستعينوا بوسائل العلم أضعاف ما يستطيع إنسان عصرنا. والحضارة، وهي طريق حياة العالم وسبيل سعيه إلى الرغد والسعادة، لا تستطيع أن تنتظر حتى ذلك اليوم البعيد، أو حتى تصبح الإنسانية في صورة أخرى غير الصورة التي نعرفها، ويعرفها آباؤنا وأجدادنا من ألوف السنين. وما دمنا جميعًا نشهد في حضارة الغرب شيئًا من مقدمات القصور عن أن تؤدي للعالم ما تشعر الإنسانية أنه طلبتها في الحياة من رغد وسعادة، فلا مفر لهذه الحضارة من أن تسمح لحضارة غيرها — رويدًا رويدًا بطبيعة الحال — من أن تقوم بما قصرت هي عن القيام به.
ومقدمات القصور من جانب حضارة الغرب عن أداء الرسالة التي يطلب إلى كل حضارة أداؤها؛ أكثر وضوحًا من أن تحتاج إلى طويل بحث أو جدل. ويكفيك مقنعًا بل إيمانًا بقصورها أن تسأل عن الرسالة النفسية التي أخذت حضارة الغرب على عاتقها أن تقوم بها، وأن تجد الجواب عن سؤالك هذا سلبيًّا أو في حكم السلبي. فحضارة الغرب شرقية الأصول في روحها يونانية الأسس في مظاهرها، هي تقوم على المسيحية في جانبها الروحي، وعلى اليونانية في جانبها العقلي والفني. وقد كان بين هذين الجانبين من جوانبها، وما يزال بينهما نضال غايته أن يكون لأحدهما على الآخر الغلب. فمنذ القرن السادس عشر قام الثائرون على سلطان الكنيسة بالحركة الفكرية والعلمية التي طبعت حضارة الغرب في العصور الأخيرة بطابعها. وككل حركة جديدة مضطرة للنضال، كانت هذه الحركة العلمية والفكرية ترمي إلى هدم الكنيسة، وتقويض أركانها ومسح قواعدها وأسسها. وإذ كان العلم قد أسفر عن نجاح قوى سريع قلب نظام الحياة، ودخل إلى الناس في دورهم ومساكنهم، ويسر لهم من ألوان العيش والحياة ما لم يعرفوا شيئًا مثله حين حكم الكنيسة، فقد صفق الجميع لرجال العلم، وانزوى رجال الدين في ناحية قانعين بالهزيمة التي أصابتهم منتظرين يومًا أحسن. وطال برجال الكنيسة الانتظار أن كان العلم يطفر من نجاح إلى نجاح، وأن كانت القوى التي كشف عنها تضع في متناول الناس كل أسباب الرغد رخيصة جميلة فيها ما يلذ وما يستهوي، ثم إن كانت الكنيسة ورجالها قد أحاطت تعاليمها بحجب كثيفة من الأوهام التي كانت محسنة السواد أيام جهل السواد، والتي جعلت تتداعى بانتشار النور بين الناس وبمداومة العلم الكشف عما في هذه الأوهام من سخف وترهات. على أن هذه الحجب من الأوهام والأباطيل إن سترت ما كانت رسالة الكنيسة تضفي عليها بيئة من نور، فهي لم تطفئ ضياء الروح الذي ينبعث هذا النور عنه. ألست ترى الجاهلين من الناس يلفون الشخص الذي يعزونه في خلق يريدون أن يتقي هذا الشخص به البرد، فإذا الخلق يحوي من أسباب الضعف ما يجعل العزيز يتألم. وبدلًا من أن يكشف أهله الخلق، ويزيلوا الهدم البالية تراهم يضيفون عليها خلقًا وأثوابًا بالية قذرة تزيد عزيزهم ضعفًا. لكنه ما دام على قيد الحياة فهو قدير على أن يعود إلى قوته إذا هو أزيلت عنه الأثواب المحيطة به. كذلك جعل العلم يهدم ما أحاطت به الكنيسة روح المسيحية من خرافات وأباطيل، وجعل البعض يتوهمون أن هذه الخرافات متى انكشفت كلها فلن يبقى تحتها من شيء. لكن جماعة من العلماء أنفسهم شعروا بأن هذا الضياء الذي كانت المسيحية تريد أن تنير العالم به تمهد به السبيل بين شقاء الحياة وآلامها هو بعض حاجات النفس الإنسانية، فيجب أن تصل إليه، إن لم يكن عن طريق العلم فمن طريق آخر غير العلم، وجاهد العلماء يريدون أن ينبعث عن العلم هذا الضياء. وهم إلى اليوم لم يصلوا من ذلك إلى غاية. ولعل السر في هذا أن لهذا الضياء مصدرًا غير التفكير؛ وأن طرائق العلم قد جعلت التفكير وحده، التفكير القائم على أسس المشاهدة الحسية، هو الوسيلة لاستنباط ما يمكن استنباطه من سنن الكون. والمشاهدة الحسية والتفكير الإنساني لم يستطيعا حتى اليوم أن يقفا على سنن الكون جميعًا، وإذن فلا بد لنا من حاسة غير الحواس المعروفة تنير لنا ما لم ينر العلم من طريق الحياة، وهذه الحاسة هي ما يسميه برجسون الإلهام، وما تسميه الأديان البصيرة أو النور أو هداية الله.
على أن الحضارة اليونانية التي اتخذ منها الغرب أساس نشاطه في القرون الأخيرة كانت تمسكها روح من الخلق أهملها الغرب إلى حد كبير كأساس من أسس حياته، وإن لم يهملها مفكرو الغرب في مضارباتهم النظرية التي لا يستطيع أحد أن ينكر قوتها وغناءها.
أهمل الغرب روح الخلق هذه؛ لأن طريقة العلم لا تعتمد على شيء غير الحس. وقد انتقلت هذه الطريقة من العلم إلى الفن، وبالغ الفن فيها حتى جعل من الحس كل شيء، وحتى خضع لسلطان الحس وشهواته خضوعًا تراه واضحًا في الأدب كما تراه واضحًا في الصور والتماثيل. ولما كان العلماء يعزون طرائقهم إلى اليونان القديمة، فقد عزا الفنانون طرائقهم كذلك إلى اليونان القديمة. ولقد أذكر بحثًا قرأته منشورًا في مجلة (المركير دفرانس) منذ سنوات يبين البون العظيم بين تصوير الفن اليوناني للحياة، وتصوير الفن الأوروبي الحاضر لها. فمن النظريات التي خرجت مجرى الحقائق عند أرباب الفن أن الجمال العريان يوناني قديم، وهو لذلك طاهر عفيف. وأخذًا بهذه النظرية جعل كثيرون من كبار المصورين والمثالين في القرون الأخيرة الجسم العاري للرجل والمرأة موضع دراستهم وبحثهم وتصويرهم ونحتهم. وأنت إذ تعود إلى كتاب ككتاب ريشين عن الميثولوجيا الإغريقية القديمة ترى فيه صورًا بديعة لأنجز ورمبرانت ورويفس وغيرهم، وأكثرها يمثل آلهة اليونان وإلاهاتهم عارية يبهر جمال عريها الإحساس والإبصار.
وتطبيقًا لهذه القاعدة أصبح تمثيل الجمال العريان ممتدًّا على أوسع جبهات ميادين الفن في العصور الأخيرة جميعًا. على أن صاحب البحث الذي أشرت إليه في (المركير دفرانس) يعارض هذه القاعدة وينقضها نقضًا علميًّا. فالجمال العريان ليس قديمًا، وليس هو لذلك طاهرًا ولا عفيفًا. والدليل على ذلك ما خلف السلف اليونان أنفسهم من آثارهم. فأنت لا تجد من الصور العارية التي تمثل الآلهة ذكورًا كانوا أم إناثًا إلا تمثالًا واحدًا للزهرة. أما ما سوى هذا التمثال فكاس، وبالغ كساؤه حد الحشمة والوقار. ويشير الباحث كذلك إلى أن الفن المصري القديم الذي سبق اليونان وفنها كاس هو الآخر. ولم نعرف التماثيل العارية إلا للمرانة في الألعاب الرياضية؛ لأن جسم هؤلاء وتكوينه هو في الغالب فيهم على الروح وجمالها. وإنما اختط القدماء في الفن هذه الخطة؛ لأنهم كانوا يتوسمون في الجمال صورة غير ما تصبو إليه رغبات الحس وحدها، هذه الرغبات المادية التي تنسى سامي مطامح النفس إلى المثل الأعلى، والتي تحرك في المجموع من وضيع الشهوات ما قد يقمعه العلم في نفس العالم أو الفن في نفس الفنان؛ أو قد يتهاون العالم أو الفنان فيه حين يكون هو لسواد الجماعة سبب شقوة وتعس. والحضارة الصحيحة هي التي تغلب بوسائلها الفعالة على أسباب الشقوة والتعس.
لا بد إذن من مثل أعلى تؤمن به الجماعة، وتجد من تطلعها إليه وهيامها به ما ينسيها ما في الحياة من هم وبأساء. وهذا المثل الأعلى لم يكن يومًا من الأيام مطمع العلم. إنما كان مطمع العلم الوصول إلى الحقيقة المحسوسة. وليس في أي من المحسوسات ما يستلزم تطلع الجماعة إليه وهيامها ببلوغه؛ لذلك جعل الدين في الدار الآخرة موضع الأمل الأسمى والرجاء الذي لا رجاء بعده؛ ولذلك تضافرت الأديان كلها على وصف ما في الدار الآخرة من نعيم يعوض عن شقاء الحياة ومتاعبها. فقليلون أولئك الذين يجدون في صور الحياة التي نحياها، وفي آداء الإنسان واجبه في الحياة ما يكفي لنسيان المرء نفسه في واجبه، وفي القيام بأداء هذه الواجب. ولئن رأى بعضهم في هذا التصوير للحياة الآخرة تصويرًا ماديًّا، ورأوا لذلك أن السعادة كل السعادة في إدراك كل ما تحتوي عليه المادة من جمال وحق وتحصيله، ورأوا لذلك في جهود العلم كي يخضع قوى الكون لسلطان الإنسان ومتاعه محققًا في هذا العالم لما يصبو إليه في العالم الآخر، فإن ذلك لن يروي ظمأ النفس الإنسانية، وظمأ الجماعة بنوع خاص، إلى مثل أعلى قد يكون محالًا أمام العقل إدراكه؛ ولكن في هذه الاستحالة نفسها موضعًا لطمأنينة النفس إلى أنها تجاهد في سبيل ما ترجو من سعادة، وأنها بقوة إيمانها لا تَحكُّم عقلها؛ قد تصل يومًا إلى بلوغ هذه السعادة المنشودة.
«إذا ملأ الإيمان قلبي وقلت لهذا الجبل: انتقل من مكانك ينتقل». وقد ملأ الإيمان بالعلم قلوب أهل العصور الأخيرة، فنقلوا الجبال وملكوا عنان الجو، وسخروا الكثير من قوى الوجود. لكن هذا ليس هو الحضارة المأمولة التي تملأ قلب الإنسان بالإيمان ليطلب السعادة فيكون سعيدًا، هذا الإيمان بالسعادة يجب أن نبحث عنه في آثار الفراعنة، ومن تأثروا بحضارة الفراعنة، فخلدوا من آثارهم ما خلد نفوسهم وأرواحهم. ويجب أن نبحث عنه بعد ذلك في الحضارات والأديان التي تلت الحضارة الفرعونية والديانة الفرعونية، وأن نرى الصلة بين هذه الحضارات والحضارة الأولى. نعم يجب أن نبحث الإيمان على أنه واقعة اجتماعية لا حياة للجماعات بدونها، وعلى أنه لذلك حقيقة اجتماعية وجدت في كل الأزمان والأماكن، فإذا شذت عنها طائفة من الناس، فقد كانت هذه الطائفة وما تزال أقلية صغيرة. ولم تقل هذه الأقلية يومًا إن ما تقف عليه من العلم كفيل بسعادة الإنسانية، وبتهوين آلام الحياة على الناس فيها.
مثل هذا البحث والوصول فيه إلى شيء قمين أن يصل بنا لأن نضع أمام الجماعات الإنسانية مثلًا أعلى يصبو إليه الإيمان الإنساني، ويتعلق به ويرجو من ورائه بلوغ السعادة التي ينشدها.
وليس كمصر ميدان لهذه المباحث: ففيها نشأت الحضارة الأولى، وعليها تقلبت كل الحضارات والأديان التي تبعتها. عرفت مدرسة الإسكندرية فلسفة الإغريق وحضارتهم. ثم انتقلت إليهما المسيحية مع الحكم الروماني، وكان للحضارة الإسلامية فيها مظاهر قوية غاية القوة. وهذه الحضارات التي تعاقبت على مصر تأثرت كلها إلى حد كبير بالحضارة الفرعونية الأولى، وأثرت فيها وما تزال آثارها باقية إلى اليوم، لا في البرديات والمقابر وكفى، بل في نفوسنا نحن الذين نعمر مصر بعد الفراعنة بكل ما مضى عليهم من ألوف السنين. كذلك كنا أجدر بأن نقوم بهذه الدراسة، وكان من حقنا أن نطمع في هذا التوفيق بين العقل والروح نقيم من هديهما الحضارة التي يلتمسها العالم اليوم في أبحاثه المختلفة.
مثل هذا المجهود الذي نطالب أبناء وطننا به مجهود ضخم هائل قد ينوء به جيل كامل. لكن فخر إقامة حضارة تعم العالم أكبر من أن يهتز أمام أعبائه جيل أو أجيال. فسيكون فخر مصر في عصورها جميعًا؛ وسيكون لأبنائنا وحفدتنا موضع زهو وإعجاب، ثم هو يكون للعالم نورًا يهديه الطريق إلى ما يستطاع بلوغه من السعادة.
كنت أود لو أذكر شيئًا عن واجب الجامعة المصرية في هذا الشان … ولكني أشعر بأني ألقيت من قبل على الجامعة تبعات كثيرة لما تقم بها، فليفكر الأفراد بادئ الأمر في ما أدعو إليه، وإني مؤمن بأن ما أدعو إليه عظيم.