جمال الدين الأفغاني
١
مهما بحث الباحثون في تاريخ نهضة الشرق الإسلامي، وتشعَّبَتْ بهم الطرق في تعيين أسباب يقظته وعوامل نهضته؛ تجدهم يرجعون في ذلك أخيرًا إلى شخصيةٍ فذَّة في مواهبها، أوْحَدِيَّة في هممها وعزائمها، هي شخصية جمال الدين الأفغاني. فإذا كان لغيره من رجال الإصلاح الذين عاشوا حوالي زمنه بعضُ المشارَكة في هذا السعي، وفي تلتلة شعور الشرق والشرقيين، فإن لجمال الدين وحْده موقفًا لم يَقِفْهُ غيره من أولئك الرجال، موقفًا مِلْؤه الإقدام والثبات والإلحاح والتجرد، واشتداد العارضة في المعارَضة، والتنقل من بلد إلى بلد، والتعرض لخطر النفي والسجن والقتل أحيانًا.
قام في أواسط القرن الماضي رجال مصلحون من أبناء الشرق الإسلامي متقاربو الزمن، حذَّروا قومهم وأَنْذَرُوا ملوكهم وأمراءهم بدنوِّ الخطر، ووجوب التعجل بالإصلاح قبل وقوع الخطر: مصطفى رشيد باشا ومدحت باشا في تركيا، وميلكم خان في إيران، وأحمد خان وأمير علي في الهند، وخير الدين باشا في تونس. لكن موقف كل واحد من هؤلاء في التنبيه والإيقاظ والجهر بالإصلاح كان محدودًا بحدود بلاده، وصوته الإصلاحي ما كان يتخطَّى آذان أهل مملكته. أمَّا جمال الدين فقد كان موقفه محدودًا بحدود العالم الإسلامي، وصَوْتُه الجهير كان يُدَوِّي في سَمْع كل مَنْ عاش في زمنه من أهل ملته. فأي قُطْر من الأقطار الإسلامية؛ عربية كانت أو أعجمية، لم يرتفع له فيه صوت؟ أو لم يكن له فيه مريدون يحملون رسالةَ شيخهم في وجوب النهوض، وتحطيم القيود وإزالة العقبات أمام الناهضين؟
وصراحته في دعوته هذه هي التي كانت تَحُول أحيانًا بينه وبين نجاحه فيما كان يسعى إليه.
بل لقائل أن يقول: إن إخفاق جمال الدين في بعض ما حاوَلَه هو سُلَّم النجاح في كثير مما حاوَلَه، ومن يدري؟ لعل جمال الدين لو صانَعَ الحكام وسارَعَ في هواهم، وأوَّل لهم مخازيهم — كما كان يفعل غيره من الشيوخ — لَخفتَ صوتُه وماتت دعوته، ولَمَا خَلَفَه فيها تلاميذ يصدعون بها، ويلاقون الألاقيَّ في سبيلها.
•••
توفي جمال الدين في الآستانة عام ١٣١٥ هجرية (١٨٩٧م)، ونحن اليوم في سنة ١٣٦٦ﻫ/١٩٤٨م، فيكون قد مَرَّ على وفاته نصف قرن ونيف.
مرور نصف قرن على وفاته نبَّه العالَم الإسلامي إلى هذا الرجل وفضْله على الشرق والشرقيين، فرأوا أن يحتفلوا له، ويُحْيُوا ذكراه بضربٍ من الذكريات يكون أشد علاقة بذاته، وأكثر اتِّصالًا بتاريخ حياته؛ ذلك أن ينقلوا رفاته من بلاد غربته إلى منبت أسلته. فتألَّفَتْ في بغداد لجنة من كبار أدبائها، وأحرار رجالها، لاستقبال جثمان المصلح العظيم من الآستانة إلى بغداد، ولما وصل إليها الجثمان احتفلت به الحكومة العراقية والشعب العراقي احتفالًا عظيمًا، وأُلقِيَت الخُطب والقصائد في تعديد مناقبه، والإشادة بذِكْره، والتنويه بفضله. ثمَّ نُقِل الجثمان بطائرة خاصة إلى بلاد الأفغان، وذلك في كانون الأول سنة ١٩٤٤م.
هذا الخبر عن نقل جثمان السيد جمال الدين هاج في خاطري ذكرى أستاذي العظيم، ومَثَّلَ أمام عيني شَخْصَه الكريم، ورأيت من وفاء الذمم أن أحتفل بمرور كل هذا الزمن على معرفتي به؛ فوضعت هذا الكتاب في سيرة حياته، واصفًا مِنْ خبره وجميل ذكرياته، وما شاهدْتُه واطَّلَعْتُ عليه من مختلف شئونه ما أرجو أن تكون فيه مُتعة للقراء، وتبرئة لذمتي من قلة الوفاء.
والكلام على جمال الدين وتقصِّي أخباره له عدة شُعَب، وسأقتصر في معظم ما أُدَوِّنه عنه على ما عَرَفْتُه مِنْ أَمْرِه بنفسي، أو سَمِعْتُه من الرواة بأُذُني. أمَّا التوسع في نقل عامة أخباره فهذا إنما يكون في كتاب ضخم، لا في رسالة تؤلَّف من عبارات معدودة، وتُقرأ في دقائق محدودة.
٢
أول ما فُوجِئت باسم جمال الدين كنت تلميذًا في المدرسة السلطانية التي أَمَرَ بإنشائها في بيروت الوالي حمدي باشا سنة ١٣٠٠ﻫ/١٨٨٢م، وكان ناظر المدرسة يومئذٍ الشيخ أحمد عباس الأزهري، المشهور في بلاد الشام بعلمه وفضله والْتِهاب وطنيته.
مدير السياسة | المحرر الأول |
جمال الدين الحسيني الأفغاني | الشيخ محمد عبده |
تُرْسَل الجريدة إلى جميع الجهات الشرقية. | من شاء أن يبعث إلينا بتحارير أو رسائل في أي موضوعٍ كان، رغبة نشره في الجريدة أو التنبيه على أمر مهم، فليرسلها إلى إدارة الجريدة بهذا العنوان: 6 Rue Martel à Paris. |
قد عُيِّنت أجرة البريد خمسة فرنكات في السنة لمن تسمح بها نفسه. |
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. هذا ما تُمِدُّه العناية الإلهية من قول الحق متعلِّقًا بأحوال الشرق، وعلى الله المتَّكَل في نجاح العمل. خفيت مذاهب الطامعين أزمانًا ثمَّ ظهرت، بدأت على طرق ربما لا تنكرها الأنفس ثمَّ الْتَوَتْ. أوغل الأقوياء من الأمم في سيرهم بالضعفاء حتى تجاوزوا بيداء الفكر … إلخ.
وهذه الفاتحة هي خلاصة برنامج الغرض الذي أُنشِئت مجلة «العروة الوثقى» من أجله: تنبيه الضعفاء إلى ما يريده الأقوياء بهم، وشرح الأسباب التي أدَّت إلى ضَعْف الضعفاء وقوَّة الأقوياء. ويريد بالأقوياء سياسيِّي أوروبا وزملاءَهم سياسيِّي الشرق الذين ساروا على آثارهم وقلَّدوهم في استبدادهم بالضعفاء والتفريط في مصالحهم.
فالأفغاني وعبده كانا يريدان أن يكون لهؤلاء الضعفاء — وهم المسلمون — دولة قوية آخِذة بأسباب المدنية والعمران، الموصلة إلى العزة والاستقلال، مع مراعاة تعاليم الإسلام الأساسية.
•••
هذه الفكرة التي تلقَّنْتُها من العروة الوثقى اختمرَتْ في نفسي واستولى سلطانها على شعوري وحسي، فأعطيتُ «العروة» كلَّ وقتي دراسةً وتفهُّمًا، وكنت أحيانًا أُعْنَى بشرح ألفاظها وتعابيرها. مثال ذلك قولي تعليقًا على قول العروة «وبلغ صوت وقْوقة القُوَّاد الإنجليز إلى أقاصي المسكونة»: «الوقوقة في الأصل أصوات الطير ونباح الكلاب»، وعلى قولها: «لهذا لا تَمْكِن إنكلترا بدسائسها في قُطْر إلا عند سكون أهله»: «تَمكِن، أي تبيض وتفرخ؛ مِنْ أمكنت القملة أو الجرادة إذا أَلْقَتْ بيوضَها، والمكن بيض الصئبان والجراد.»
فلا جَرَمَ أن «العروة الوثقى» مهَّدتْ بين يدَي ناشئة العرب مناهجَ في الكتابة وأساليب الإنشاء ما كانوا يعهدونها من قبل، ونبَّهتْ إلى وجوب استعمال كلمات اللغة الفصحى والاستعانة بها على إيراد المعاني العصرية ومطالب الحياة الاجتماعية الجديدة؛ كقولها: «وبنوا قلاعًا من العساكر، مدرَّعة بلؤام من حراب البنادق، مُسيَّجة بآلات من صُنْع هنري مارتن»، و«اللؤام»: تلاؤُم ريش النبال، فاستعملَتْها «العروة» في تلاؤُم حراب البنادق.
وقد تضمَّن العدد الأول مما يحتاج إلى الشرح من فصيح اللغة نحو ثلاثين كلمة، وعلى هذا قد تبلغ الكلمات اللغوية في أعداد العروة كلها زهاء خمسمائة كلمة. ومن هذه الكلمات قوله: «وتاهَ فيها الخريت وضل المرشد»، «لم يكن له أثر إلا في حواشي طوامير الأوهام»، «لم يَنَلْ من غضاره ما يقوم بحفظ حياته»، «التعصب لفظ تلوكه الألسن، بحيث صار تكأة للمتكلمين؛ يلجأ إليه العَيِيُّ في تَهْتَهَته، والذملقاني في تَفَيْهُقه»، «على غوارب أمواج الحوادث نائمون، تقذفهم كريبة وتتلقَّفهم أخرى» (والكريبة: الداهية العظمى)، «هل يبعد أن يَمتدَّ لياق المهدي السوداني إلى الأقطار الإسلامية الأخرى» (واللياق: شعلة النار)، «واشتهرت إنكلترا بخلابة الشرقيين وأخذهم بالرويغة … ولم يكن قَصْدُها من هذه الزغزغة إلا أن يكون السودان فراطة لا حقَّ لأحدٍ فيه»، إلى غير ذلك من الألفاظ والتعابير التي يجدر اقتباسها وتداوُلها.
وهكذا نرى أن «العروة» تضمَّنَت من الكلمات الفصيحة والتعابير الرشيقة ما شاع على ألسنة الكُتَّاب وأَسِنَّة أقلامهم، مُحْتَذِين مثاله، متداولين استعماله، فكانت العروة الوثقى وأساليبها الكتابية أساسًا لنهضة جديدة في الإنشاء العربي وتجديد الأساليب الكتابية العربية.
أما المَطالب والموضوعات الاجتماعية والانتقادية والأخلاقية، فحدِّث عن كَثْرتِها وفائدتها ولا حرج.
وأمَّا الشئونات السياسية فهي بيت القصيد، وحب الحصيد من الأغراض التي أُنشئتْ لأجلها «العروة»، وتراها تدور حول التشنيع على الإنكليز في أطماعهم، وهيج النفوس عليهم، وتأريث نيران الفتن من حواليهم. وما قالَتْه منذ ست وستين سنة كأنه مما يُقال اليوم. اسمعوا ما قال في العدد الأول: «وإنما رأت الروسية أن الوقتَ وقتُ العمل في آسيا، فطلبت الراحة من جهة حدودها الأوروبية لتتفرَّغ لإجراء مقاصدها في أطراف الهند. وإن الفزع من هذا الانتقال الفجائي قد ظَهَرَ أَثَرُه في جميع الجرائد الإنكليزية. ليت الإنكليز صرفوا قُوَّتَهم ووجَّهوا عزيمتهم لِدَفْع ما يُلِمُّ بهم من الخطر القريب، ولم يقعوا في شَرَك المسألة المصرية، فإن ما كانوا يخافونه من مصر كان وهْمًا صرفًا، فلما طرقوها أوقدوا فتنةً ما كانت تخطر ببالِ أحد. ثمَّ هُمْ بعد ذلك في عَجْز عن علاجها … إلخ.»
أسطورة
أسطورة أخرى
هذا نموذج من جهد جمال الدين الأفغاني ونشاطه السياسي، وهذه هي أفانينه الخلَّابة التي كان يوزِّعها على قرائه في «العروة الوثقى»، وكنت أدرس مضامين «العروة» دراسةً عميقة، وأستوحي من خلال سطورها أفكارًا وآراءً: منها ما كانت تَقْبله «البيئة» وترضاه، ومنها ما كانت تستنكره وتأباه. وأخطر ما كنت أُفَكِّر فيه وألهج به وأدعو إليه من مبادئ العروة «الإصلاح الديني». وكان رفيقي ومؤنسي في هذا الطريق الوعر الشيخ رشيد رضا رحمه الله، وما كان يلذُّنا شيءٌ بقدر ما يلذُّنا أن نعْرف خبرًا جديدًا أو حديثًا مستطرفًا عن جمال الدين الأفغاني، فكان يقصُّه أحدُنا على الآخر ويمتنُّ عليه به مفاكِهًا مداعِبًا.
وأكبر ما أثَّر في أنفسنا وعقولنا وظَهَرَ أَثَرُه في إنشائنا لفظًا ومعنًى جريدة «العروة الوثقى» لحكيمَي الشرق ومجدِّدَي نهضته العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية والدينية والإسلامية، وجدْتُ أعدادًا منها فوجَدْتُني دخلت في حياة جديدة، وأطلعت صديقِي المغربي على تلك الأعداد، كدأبنا في إطلاع كلٍّ منَّا الآخر على ما يستحسنه ويراه مفيدًا. ثمَّ طفقتُ أبحث عن بقية الأعداد وأستنسخ ما أجده منها، وينسخ هو أيضًا حتى كملت لنا، ورسخت آراء الحكيمَين وأفكارهما أو مذهبهما الإصلاحي في أنفسنا. وقد قال لنا مرةً أستاذنا الشيخ حسين الجسر: إن بينكما جوامعَ كثيرة أَخَصُّها حب السيد جمال الدين الأفغاني واتِّباع أفكاره. فقلنا له: بل أَخَصُّها تتلْمُذنا لفضيلتكم وتلقِّينا عنكم. ا.ﻫ.
وبَلَغَنَا أن مصوِّرًا مسيحيًّا من أهل بلدنا (طرابلس) عاد إليها بعد غيابه عنها في بلاد الهند سنين متطاولة، فأخبَرَنا أنه اجتمع بجمال الدين الأفغاني، وأنه يروي عنه أخبارًا طريفة. فهرعنا إلى محل عمله ودمرنا عليه. وكنا نلحُّ بالاستفسار عن جمال الدين ونلهيه أحيانًا عن شغله الذي بين يدَيْه، فكان يروي لنا ما يعرف من أعماله وأقواله، ويصفه لنا وصْفَ العارف به، الواقف على حقيقة خبره، وعَرَفَ أهل طرابلس منَّا حبَّ استطلاعنا لأخبار السيد الأفغاني، فكان كل مَن أراد التودُّد إلينا أو إدخال السرور علينا يجيئنا بخبر عنه.
ومن ذلك أن الشيخ علي العمري المشهور بالصلاح والكرامة — رحمه الله — صادَفَنا في الطريق يومًا، فأطْلَعَنا على كتابٍ جاءه من الآستانة بتوقيع «جمال الدين الخطيب»، وقال لنا إنه لا يعرف أحدًا في الآستانة مسمًّى بجمال الدين إلا السيد الأفغاني — يريد بذلك مُطايَبتنا وإدخالَ السرور علينا، وكانت مُطايَبةُ الناس من عادته — فإذا الكتاب بتوقيع «جمال الدين الخطيب»، وكُنَّا لا نعلم مَن هو هذا «الخطيب»، والأفغاني لا يلقِّب نفسه بالخطيب، ولم يشتهر به، والكتاب حَسَن الخط جيد الإنشاء، وقد ظهر لنا من مضمونه أن كاتبه وَقَع في ضائقة روحية أَقلقَتْه، فهو يلتجئ إلى الشيخ العمري في الدعاء له، فيكشف الله عنه ما هو به؛ فازددنا شكًّا في أن يكون الكتاب من السيد الأفغاني، ثمَّ تبيَّن أخيرًا أن صاحب الكتاب دمشقي فاضل من آل الخطيب، يتعاطى النيابات الشرعية، وهو أخو صديقنا الأستاذ زكي بك الخطيب المحامي والسياسي المشهور.
وكثرة اهتمامنا بالأفغاني والشيخ عبده، والحرص على الاتصال بالوافدين من مصر والآستانة لمعرفة خبرهما والتحدث بما يُروى عنهما من آراء وأفكار قد تكون غير مألوفة، حتى جعل الناس في بعض الأحايين يقعون فينا ويتقوَّلون علينا. وكُنَّا لا نبالي ذلك، ونكثر من الجدل والدفاع عن الشيخَين وتعاليمهما، ووجوب الانتفاع بعلمهما ونُصْحهما.
بقيتُ على هذه الحال في طرابلس زُهاءَ عشر سنين ١٣٠١–١٣١٠ﻫ، ثمَّ برحْتُها إلى الآستانة من أجل الدخول في بعض مَعاهدها الدينية، فمكثت ثَمَّ سنةً واحدة، اجتمعت خلالها بجمال الدين مرارًا، وها أنا ذا أَصِفُ ما شاهَدْتُه منه، وأروي ما سمعته عنه، غير أنه يَحْسُن قبل الشروع فيما إليه قصدْتُ أن آتي على خلاصةٍ من سيرته؛ لتكون تمهيدًا بين يدي السبب الذي جعله يتَّخذ الآستانة مثوًى أخيرًا له.
٣
ولم يبلغ السيد الثامنة عشرة من عمره حتى أتمَّ دراسته للعلوم المختلفة، وعرض له أن يسافر إلى الهند لدراسة بعض العلوم العصرية، وقصد الحجاز لأداء الفريضة سنة ١٢٧٣ هجرية، ثمَّ رجع إلى الأفغان وتقلَّد إحدى وظائفها. ووَقَعَ خلاف بين أمراء الأفغان، فانحاز السيد إلى «محمد أعظم خان»، وكان له بمثابة وزير دولة، وشايَعَ الإنكليز «شير علي»، فتغلَّب هذا على محمد أعظم، ومن هنا نشأت العداوة بين الإنكليز وجمال الدين، واشتهرت حتى قال سليم بك العنحوري في شعرٍ له:
وأخيرًا تغلَّب «شير علي» على منافسه، فلم يتعرَّضْ للسيد بسوء لكنه أضمره له، وأحسَّ السيد بذلك فرحل عن الأفغان سنة ١٢٨٥ﻫ، ومَرَّ بالهند إلى مصر فأقام أربعين يومًا. قال الأستاذ الشيخ محمد عبده: «تردَّد في أثنائها على الأزهر، وخالَطه كثيرٌ من الطلبة السوريين، وسألوه أن يقرأ لهم شرح الإظهار، فقرأه لهم في بيته». ا.ﻫ.
ثمَّ شخص السيد من مصر إلى الآستانة في عهد الصدر عالي باشا، وكان بزيِّه الأفغاني (جبة وكساء وعمامة عجراء)، فعَظُمَ أَمْرُه وارتفعت منزلته، وأطلق لسانه بسائق من طبعه في وجوب الإصلاح والتعجل به قبل فوات وقته.
قال المستر بلنت الإنكليزي: «إن سعْي العثمانيين في تحويل حكومتهم إلى دستورية في بادئ الأمر قد يُنسب إلى شيءٍ من تأثير جمال الدين، فقد أقام في عاصمتهم يحاورهم ويخطب فيهم.»
وهكذا كان تأثير جمال الدين في نهضة مصر أيضًا؛ فقد خطب سعد باشا زغلول في بعض الحفلات وقال للمصريين: «لست خالق هذه النهضة كما قال بعض خطبائكم، لا أقول ذلك ولا أدَّعيه، بل لا أتصوره، إنما نهضتكم قديمة من عهد محمد علي وعرابي. وللسيد جمال الدين الأفغاني وأتباعه وتلاميذه أثرٌ كبيرٌ فيها، وهذا حقٌّ يجب ألَّا نكتمه؛ لأنه لا يَكْتُم الحق إلا الضعيف.»
عُيِّن جمال الدين وهو في الآستانة عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، وألقى خطابًا في حفلة «دار الفنون» باللغة التركية التي أَتْقَنَها بعد ستة أشهر من نزول الآستانة، فأنكر المشايخ من خطابه بعضَ الآراء. وكان شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي متغيِّرًا عليه، فقام علماء الآستانة وخُطباء مساجدها يردُّون على جمال الدين ويسفِّهون قوله. وكان يومئذٍ في الآستانة والدي «مصطفى بن أحمد المغربي»، فوضع رسالة في الرد عليه أيضًا ما زالت مخطوطة في مكتبتي إلى اليوم، وسمَّاها «عين الصواب في الرد على من قال إن الرسالة والنبوة صنعتان تُنَالَان بالاكتساب»، قال في آخرها: وكان الفراغ من تبييضها في ذي الحجة سنة ١٢٨٧ﻫ. وأكَّد الشيخ محمد عبده أن السيد جمال الدين لم يَقُلْ هذا في مسألة النبوة والرسالة، وإنما مشايخ الأتراك تحاملوا عليه فألصقوا التُّهمة به وهو منها براء. وكان والدي لا يعرف التركية، فلم يتبيَّن حقيقة الواقع، فكتب في رسالته ما عرفه من مذهب أهل السنة والجماعة، وما قرروه في هذه المسألة التي قال فيها صاحب جوهرة التوحيد:
غير أن والدي في مقدِّمة رسالته أطال في التشنيع على السيد وتعييره بالتهمة التي نُسِبتْ إليه، وأرجو ألا يكون مؤاخَذًا لما وَقَرَ في نفسه من حُسْن القصد وسلامة النية.
ويظهر أن حادثة «دار الفنون» أثَّرت في نفس جمال الدين تأثيرًا جعله ضعيف الثقة بالعلماء والاعتماد عليهم، فقد رووا أن السلطان عبد الحميد لما أراد أن يوفد بعثة من علماء الآستانة لنشر الإسلام في بلاد اليابان بناءً على طلب إمبراطورها، واستشار جمال الدين لم يوافقه — وكان هذا في جيئته الثانية إلى الآستانة كما سيأتي تفصيله — وقال للسلطان: «إن العلماء نفَّروا المسلمين من الإسلام، فأجدر أن ينفِّروا الكافرين، والرأي أن تُرْسِل إلى الإمبراطور هدايا مع كتاب تَعِدُونَه فيه بتلبية طلبه، ثمَّ نجتهد في تخريج طائفة من العلماء يَصْلُحون للدعوة ويدخلون إليها من بابها المعقول.»
أدَّت هذه الحادثة أخيرًا (حادثة خطابه في دار الفنون) إلى خروج السيد من الآستانة مُبعَدًا مظلومًا، فنزل مصر، لا على نية الإقامة فيها، غير أن رياض باشا حمله على البقاء. وعيَّنَتْ له حكومته ألف قرش في الشهر. فأقبل فضلاء مصر عليه كما كان يفعل فضلاء سوريا في مدة إقامته القصيرة الأولى. وكان يُدرِّس العلوم المختلفة من فلسفة وحكمة وغيرهما في داره، فكان يفكك عن العقول عُقُل الأوهام، ويُرْشِد مَنْ حوله إلى حقائق الإسلام. فإذا ذُكِرت كلمة التوحيد مثلًا قال: «إن الناس لو فهموا معناها لما استعانوا إلا بالله، ولا طلبوا المدد إلا من الله»، وإذا ذُكِر التصوُّف قال: «أنا لا أفهم معنًى لقولهم: الفناء في الله، وإنما الفناء يكون في خلق الله، ومعنى الفناء فيهم تعليمهم وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم.» وكان يقول: «ما أكثر الجرائد السياسية والعلمية والأدبية في هذه البلاد! مع أن أهاليها في حاجة إلى جريدة أبسط من ذلك كله؛ إلى جريدة تقول لهم: اغسلوا أرجلكم، اغسلوا أيديكم، اغسلوا أثوابكم.»
وقد نشأ له من جرَّاء صراحته هذه وتجديده في العلم والدين وفهْم الحياة مريدون كثيرون، فحسده الشيوخ؛ ولا سيَّما من يَعُدُّ قراءة الفلسفة من الكفر، ومال إليهم العامة. وخاض السيد غمار السياسة المصرية، ونبَّه المصريين إلى وجوب تنظيم حكومتهم، فساعَدَ هذا كله على تنكُّر ولاة الأمور له والخشية منه؛ ولا سيَّما بُغْضه للإنكليز الذي كان يعلنه ولا يخفيه. وانتظم في سلك الماسونية لينفسح له المجال أمام الأعمال السياسية، وكتب مقالات في السياسة تولى غلادستون نفسه الرد عليه، ووافق ذلك تولية «توفيق باشا» للخديوية، فلم يطِقِ الصبر على السيد، فأُخْرِج من القطر المصري، فذهب إلى الهند وذلك سنة ١٢٩٦ﻫ. وكان سفره من السويس، فعرض عليه قنصل الإنكليز مبلغًا من المال نفقة السفر فأبى، وقال كلمته المأثورة: «الأسد أينما ذهب لا يعدم فريسته»، فتكون مدة إقامته الثانية في مصر ثماني سنوات، ثمَّ غادر الهند إلى لندن فباريس، وهناك اتصل به الشيخ محمد عبده وأصدرا جريدة «العروة الوثقى» التي وَصَفْنا من خبرها ما وَصَفْنا في صدر الكلام. وكان إصدارها بتكليف من جمعية «العروة الوثقى المصرية»، ثمَّ أُقفِلت بسبب إقفال أبواب الهند ومصر والسودان في وجهها. لكن السيد لم يترك الكلام في السياسة، فكتب في الصحف الباريسية، وجَرَتْ له أبحاث مع رينان في العلم والإسلام.
وطلبه «تشرشل» و«سالسبوري» إلى لندن ليسألاه رأيه في مهدي السودان، فذهب إليهما، ثمَّ رجع إلى باريس، فطلبه شاه إيران «ناصر الدين»، فخفَّ إلى طهران فولَّاه الشاه وزارة الحربية، فأحبه الإيرانيون ومالوا إلى تعاليمه، فخافه الشاه وتغيَّر عليه، وأحس السيد فاستأذنه في السفر انتجاعًا للصحة، فذهب إلى موسكو فبطرسبرج، وكان له في كل مكان ينزله مريدون مشتاقون إليه، سمَّاعون له، عاملون على نشْر آرائه. وزار معرض باريس سنة ١٨٨٩م، والْتقى ثمة بالشاه ناصر الدين فلاطفه الشاه واطمأن جمال الدين إليه، وعاد معه إلى طهران، وعادت إليه مكانته الأولى فيها، وجعل يبث الروح الدستورية بين أبنائها، فعاد الشاه إلى تنكُّره له، فأحسَّ السيد بذلك واستأذنه في زيارة «شاه عبد العظيم»، وهي بلدة على بُعْد عشرين كيلومترًا من طهران، وتَبِعَه مُحِبُّوه. واتخذ من قداسة المكان طريقًا إلى الجهر برأيه في إصلاح الحكومة، فلم يطِقِ الشاه صبرًا عليه، فأرسل قوة عسكرية إليه، فاحتملوه من فراش مرضه إلى حدود تركيا فنزل البصرة.
واتَّفَقَ أن كان في البصرة يومئذٍ قاضيها عبد الحميد أفندي الرافعي الطرابلسي، فروى بعضُ الإخوان عن لسان القاضي طرائف من أخبار السيد الأفغاني وهو في البصرة، أَوْدَعْتُها مقالي المنشور في «البيِّنات»، بعنوان «جمال الدين أفغاني أم إيراني»، وستأتي مناسبة لذكر نزول السيد البصرة واقتباس شيءٍ من أخباره فيها. واستأذن السيد الأفغاني وهو في البصرة حكومة الآستانة في أن يذهب إلى السياحة في داخلية جزيرة العرب، فلم يؤذَنْ له، ثمَّ أَذِنُوا له في الذهاب إلى لندن، ثمَّ لم تلبث أن جاءت برقية بمنعه، وكان غَادَرَ البصرة بعد أن بذل وسعه في تأريث نار الفتن بين الإيرانيين والشاه، من ذلك أنه حصل على نسخة من كتاب «علي بابا»، تأليف «جيمس موري»، فترجَمَها إلى الفارسية، وجعل يبعث بنسخ منها إلى إيران ليقرأها الطلاب والنشء الجديد، فيعرفوا كيف يستهزئ الأجانب بهم ويهُبُّوا إلى الإصلاح.
وبعد أن غادر البصرة أقام في لندن يتحدث إلى الإنكليز في مجتمعاتهم وأنديتهم. وكان يكتب المقالات الرنَّانة في جريدة «ضياء الخافقين» بتوقيع السيد، وكان معظم اهتمامه في كتاباته وأحاديثه في الطعن على الشاه، وما آلت إليه حالة إيران في عهده. فكان الشاه يكتب إلى السلطان عبد الحميد شاكيًا له منه، فتوسَّط السلطان سفيره رستم باشا في أن يُقْدِمَ جمال الدين إلى الآستانة، فلم يفلح رستم وأفلح الشيخ «أبو الهدى»، فكتب إليه السيد بفنون من معسول الكلام فانخدع وشخص إلى الآستانة، ونزل في «المسافرخانه» حيث كنت أوافيه مع جماعة من محبِّيه ومريديه. فهو إذن نزل الآستانة مرتين؛ المرة الأولى سنة ١٢٨٧ﻫ / ١٨٧٠م، والمرة الثانية سنة ١٣١٠ﻫ / ١٨٩٢م، وبين المرتين ثلاث وعشرون سنة، وستأتي زيادة تفصيل لأخبار السيد جمال الدين مع شاه إيران.
وكان السيد مع «أبي الهدى» في أول الأمر على وِفاقٍ وجميلِ صحبة، وقد شَهِدْتُهما يوم يريدان الركوب في عربة من دار أبي الهدى إلى المابين، فجعل كل منهما يُقْسِم على رفيقه أن يركب في الجهة اليمنى ورفيقه يأبى، وقد ارتفعَتْ أصواتهما بالأيمان على مرأًى ممن حولهما. والأفغاني لم يكن يكترث لما يسمُّونه رسميَّات أو تشريفات، غير أنه قد تكلَّف ذلك لأول نزوله الآستانة؛ مراعاةً لمقام صديقه الجديد «الشيخ أبي الهدى»، على أن ذلك لم يَدُمْ طويلًا، فإن كلًّا من الصديقين رَجَعَ إلى شنشَنَتِه وما ركز في طبعه، «إن التخلُّق يأتي دونه الخلق»؛ ولذلك عادا فاختلفا بعد التَّفاهم، وتَنَاكَرَا بعد التَّراحم، حتى أدى الحال بينهما أخيرًا إلى اللمز والتعيير، وكان أبو الهدى ينبز الأفغاني بالمازندراني.
وسمعت شيخنا الشيخ حسين الطرابلسي مؤلِّف الرسالة الحميدية يقول: إنه كان في مجلس الشيخ أبي الهدى بالآستانة، فحدَّث أحد الجلساء عن بعض علماء أوروبا المستشرقين وقال: إن هذا المستشرق عمد إلى القرآن فرتَّب آياته بحسب معانيها وموضوعاتها فصولًا فصولًا، فجمع في فصلٍ الآيات المتعلِّقة باليهود مثلًا، وفي فصلٍ آخر الآيات المتعلَّقة بالنصارى، وفي فصلٍ آيات الطلاق … آيات الإرث … آيات الجنة … آيات النار … وهكذا، وروى المحدِّث هذا الخبر عن لسان السيد الأفغاني، قال: وقد استحسن الأفغاني هذا الصنيع من المستشرق ولم ينكره. قال شيخنا الجسر: فغضب أبو الهدى الصيادي عند سماع هذا الحديث عن جمال الدين وقال: إن العمل كُفْر والرضى به كُفْر، وجعل يُشَنِّع عن جمال الدين، وسمعت أخيرًا من السيد بديع بك المؤيد العظم — وهو من أعرف الناس بأخبار الآستانة ورجالتها في العهد الحميدي — قال: إن السلطان أنعم على السيد برتبة «قاضي عسكر»، وأُحْضِرَتْ إليه شاراتها؛ جبة فضفاض ملونة، وزينة للصدر والرأس مذهَّبة. ولمَّا أُخبر السيد بالإرادة السلطانية وطُلِبَ منه أن يقوم إلى حيث يَلْبَس هذه التشريفة أبى وقال للرسول: قل لمولاي السلطان: إن جمال الدين يرى أن رتبة العلم أعلى الرتب، وبعضهم يروي أن جمال أجاب بقوله «إنه لا يريد أن يكون كالبغل المزركش» معرِّضًا بالسيد الصيَّادي الذي بَلَغَ من رُتَب الدولة أعلاها، ونال من زينة المراتب أثمنها وأغلاها.
•••
فقلت له: إن السيد جمال الدين على ما يظهر يجد في حديث هؤلاء القوم ما يسلِّيه، ويسري عنه هموم حياة النصب التي يحياها، فلم يُعْجِب التاجر قولي، وبقي مصرًّا على استنكار ما كان يفعله جمال الدين من غشيان هذه الأكواخ ومحادثة أهلها، وأن هذا يضع منه ويحطُّ مِنْ قَدْره، فقلت له: إن طبع السيد الأفغاني مشتقٌّ من طباع الفلاسفة، فهو يرفِّه عن نفسه بمحادثة الغجر، وربما تعوَّد ذلك ليتوسل إلى إكرامهم والرضح لهم بالبخشيش، وجعلهم يشعرون بشيءٍ من راحة الحياة ولون من ألوانها الضاحكة، وأنهم غير منسيين من إخوانهم البشر ذوي الرغد والعز والسلطان. والسيد في بلاده الأفغان على مقربة من بلاد الهند، وقد أَلَمَّ بها المرة بعد المرة، ورأى بعينيه نظام الطبقات السائد فيها وشناعته ومبلغ حطِّه من كرامة الجنس البَشَرِي، فهو بتأنيسه لأولئك المحدودين المنكودي الحظ كأنه يعلن شريعة الأخوة الإنسانية التي علم بها الإسلام وجهر بها النبي عليه الصلاة والسلام في مثل قوله: «يا أيها الناس، إن الرب واحد والأب واحد.»
وإن العقلية الفلسفية ليست كالعقلية التجارية؛ فإن نفس الفيلسوف يلذُّها أن تغوص في أعمق طباع البشر، وأخفى أسرار حياتهم على اختلاف طبقاتهم. وهؤلاء الغجر طبقة من الناس تحيا حياةً خاصة وتمتاز بعقلية غريبة، ويُروى عنهم من الأخبار ونوادر القصص ما يسلي السيد جمال الدين، ويشغله قليلًا عن الجد الذي يعانيه في مقاوَمة الملوك المستبدِّين، ومجادَلة البلداء من العلماء والعظماء.
والأفغاني في تحدُّثه إلى الغجر وتنزُّله إلى مجاملتهم، وتأنيسهم يشبه ما حكي لنا عنه وهو في القاهرة؛ أخبره مريدوه الحريصون على تفكيهه وتسليته، أن فتاة أوروبية لها «مشرب» في حيِّ الأزبكية تسقي فيه البيرة بيدها، وأنها غاية في الجمال والذكاء والأدب، فقال لهم جمال الدين: هيُّوا بنا إليها.
وقد عُرِفَ من أمر السيد أنه ما كان يتعاطى مُحرَّمًا، وراوي الخبر لم يقل إنه شرب البيرة عند الفتاة، على أن بعضهم رَخَّص بالبيرة؛ لأنها تُتَّخَذ من غير عصير العنب المُسَمَّى خمرًا، والقليل منها لا يسكر (كما قالوا).
دخل السيد الأفغاني ورفاقه على الفتاة، وإذا هي كما وصفوها جمالًا وذكاءً، فأشار إليها بعض رفاق السيد منوِّهًا بمقامه، فأقبلَتْ عليه بالتأنيس وبعذب الكلام، وأقبل عليها هو بالبحث والتفتيش عن خبايا نفسها وأسرار حياتها، ثمَّ الْتَفَتَ إلى رفاقه قائلًا: أتريدون أن أُبْكِيَها لكم؟ فقالوا — وقد عجبوا لقوله: نعم. فالْتَفَتَ إليها وقال ما معناه: إني رأيت من جمالك وذكائك وحسن أدبك ما آسف عليه وعليك وعلى ضياع حياتك تمضي سبهللًا، كان يمكنك بهذه الأوصاف التي أنت عليها أن تبلغي أقصى درجات السعادة والمجد والشهرة، وكثير من وصيفات القصور لَسْنَ على بعض ما أنت عليه من جمال وعقل وذكاء ونبل، آسف جدًّا على شبابك وجمالك أن يُبْتَذَلَا في هذه الحانة التي يؤمُّها أحيانًا أشرار الناس وأوباشهم، فترَيْنَ وتسمعين منهم ما يجرح كرامتك، ويؤذي أدبك، وسمو تربيتك. وأطال السيد في هذا ونحوه، والْتَفَتَ الرفاق إلى الفتاة فإذا هي مطرقة خاشعة تنحدر دموعها على وجنتيها، وقد أرعش البكاء شفتيها. عندها قال رفاق السيد للسيد: أجئنا بك إلى هنا يا أستاذنا لنُسَرَّ ونَطْرب، أو نبكي ونحزن؟ فقال لهم: أتريدون أن أبدِّل بكاءها ضحكًا، وحُزْنها هناءً؟ قالوا: افعل. فالْتَفَتَ إليها وكَلَّمَها كلامًا فيه فكاهة ودعابة، فعادت إلى المرح والانبساط.
•••
قصدت إلى زيارة السيد الأفغاني في «المسافرخانه»، حيث كان ينزل المسافرون من ضيوف الخلافة، فاستأذنْتُ عليه، وكان لديه طائفة من أهل الفضل والأدب، أَذْكُر منهم الفاضلَيْن السلاوي وإبراهيم أدهم زعيمَي أدباء العرب في عاصمة الترك في العهد الحميدي، ومن أشهر المترددين على السيد يومئذٍ الشيخ عبد الرشيد إبراهيم الرحالة المسلم الروسي، وكان السيد يخصُّه برعايته وعطْفه، ولم أَكَدْ آخذ مكاني من المجلس حتى سألني السيد عن نفسي، فانتسبْتُ إليه بذكر بلدي وأسرتي، وأني أخذْتُ العلم عن شيخي الشيخ حسين الجسر، فأثنى السيد على الشيخ وقال إنه قرأ مؤلَّفه «الرسالة الحميدية» مُذ كان السيد في البصرة. والرسالة الحميدية هذه أثبَتَ فيها شيخنا الجسر أحقية الدين الإسلامي وحقيقته، ردًّا على طوائف المنكرين له، وقد أطال النفس — رحمه الله — في الرد على الدهريين والداروينيين خاصة.
وقد سمعت من لفْظ شيخي المشار إليه — رحمه الله — أنه لما كان في الآستانة اجتمع بالسيد جمال الدين في المابين، في دائرة الحاج علي بك كبير القرناء، ولم يكونا الْتَقَيَا قبل ذلك، فأثنى الأفغاني على الشيخ وعلى رسالته الحميدية التي قرأها مُذ كان في البصرة، لكنه انتقد «جريدة طرابلس»، وكانت أُنْشِئَتْ حديثًا سنة ١٣١٠ﻫ، وكان صاحبها ومديرها المسئول وجيهًا عصاميًّا من وجهاء طرابلس، وكانت جريدته إخبارية، يهم صاحبها قبل كل شيء رواجها واستثمارها ورضى الحكام عنها، وقد حَفِظَ صفحتها الأولى لشيخنا الجسر، الذي كان السبب في سماح الحكومة بإصدار في طرابلس، فكان الشيخ يكتب الافتتاحيات المسهبة في الدين والأخلاق والاجتماع بتوقيع منتحل، فقال السيد الأفغاني لشيخنا الجسر رحمهما الله: ما هذا يا أستاذ؟ إن جريدتكم «طرابلس» جمعت بين الكفر والإيمان، أقرأ في صفحتها الأولى الحض على الفضيلة والخير ومكارم الأخلاق، وفي باقي الصفحات ضروبًا من التملُّق والنفاق (وهذا الصنيع من أبعد ما يكون عن طبع الأفغاني). قال شيخنا الجسر: فاعتذرْتُ عن مدير الجريدة بطبيعة الوقت، وأن الجريدة لا تعيش في بلاد مثل بلادنا ما لم تَتَمَشَّ إدارتها على هذه الطريقة من اللين والرفق ومجاملة الحكام. قال: فلم يَقْبَل الأفغاني هذا العذر.
قال شيخنا: ورجوتُ الأفغاني أن يخفض صوته في حديثه معي؛ كيلا يشعر رجال المابين أنني صحافي أكتب في صحف الأخبار، فامْتَعَضَ الأفغاني وقال: ولماذا يا أستاذ تحاذِر هذا وتأبى الانتساب إلى الصحافة؟ الصحافة عمل شريف، وأنا صحافي، وكان لي في باريس جريدة أكتب فيها — وقد أراد بها «العروة الوثقى» — فجعل شيخنا الجسر يحتجُّ عليه باختلاف البيئات وتبايُن أطوار البلاد، وأن مثله (أي مثل شيخنا الجسر) في انتسابه إلى علم الدين يُزْرِي به — في نظر الناس — الاشتغال بالصحافة، فلم يَقْبَل الأفغاني عُذْرَه هذا بالطبع.
أقول: وقد أيَّد رأي شيخنا الجسر في الصحافة ومنزلتها يومئذ ما كان بعد ذلك من الشيخ «أبي خطوة» القاضي الشرعي المصري الكبير، الذي فصل في «مسألة الزوجية»، وحَكَمَ بأن الصحافي ليس كفؤًا للشريفات، فقامت قيامة رجال الصحافة المصرية يومئذٍ وأوسعوا القاضي لومًا وحُكْمَه استنكارًا، ومهما يكن؛ فقد كان صنيعه مؤيِّدًا للجسر على الأفغاني تأييدًا لا يقول به الكثيرون من الأفاضل.
وتمحيص الخبر إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار، وتمييز صِدْقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة. ولا يُرجع إلى تعديل الرواة حتى يُعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. وأمَّا إذا كان الخبر مستحيلًا فلا فائدة للنظر في تعديل الرواة وتجريحهم. ا.ﻫ.
فكأن شيخنا الجسر رحمه الله في دروسه إنما يشرح لنا ما قاله ابن خلدون في نظريته، وقد علَّمنا بأن ندقق الخبر، ونعمِّق النظر، فليس كل نصٍّ يُقبل، سواء أعُقِل أو لم يُعقَل، بل نَزِنُ كل ذلك بميزان القرآن والسنة وطبائع العمران، اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ، بينما كان والدي — رحمه الله — بسبب تربيته الأزهرية لا يسمح لي في أن أنحو هذا النحو في النظر والتدقيق وإعمال الفكر في التفريق بين النصوص الدينية.
غير أني لما اتَّصلت بالسيد الأفغاني، وأنعمْتُ النظر في دراسة تعاليمه، انتقلت في حياتي الفكرية إلى الدور الثالث أو الطور الثالث، وهو أن نفهم النص الديني فهمًا صحيحًا، مراعًى فيه قوانين اللغة وقواعد بلاغتها، ونستوثق من مطابقة النص للكتاب والسنة، ثمَّ نجرأ على التصريح بما فهمناه من النص، سواء أوافق رأي غيرنا أم لا. وقد اقتبسنا هذه الطريقة في الفهم من أقوال السيد الأفغاني وتعاليمه المروية والمبثوثة في «العروة الوثقى» أوَّلًا، ثمَّ في سائر ما عَلِقَ بكفِّنا من كتاباته وكتابات تلميذه الشيخ محمد عبده ثانيًا. فالأساس الذي بُني عليه الإصلاح الديني إذن هو تمييز نصوص الدين، والحرص على فهمها فهمًا حرًّا، مستندًا إلى قواعد اللغة العربية وقوانين بلاغتها، ثمَّ الجرأة في الدعوة إلى الصحيح المعقول من تلك النصوص والتعاليم، واطراح الباطل الدخيل عليها، والجهر بذلك كله من دون جمجمة في قول، أو تقية من ذي صول.
قال السيد الأفغاني لجلسائه، وقد سُئِل عن رحلاته إلى لندن، إنه ذهب إليها ثلاث مرات، كان يقصد في إحداها باريس، فألمَّ بلندن إلمامةً خفيفة لم تتجاوز خمسة عشر يومًا. قال: وقد اتفق لي فيها أن إنكلترا أرادت أن أكون في الوفد الذي عَزَمَتْ على إيفاده إلى الثائر في السودان «محمد أحمد المتمهدي» بقصد مذاكرته في أَمْر الصلح، وكانت ثورته الشغل الشاغل لإنكلترا في ذلك الحين. قال السيد: وقد سُرِرتُ في نفسي من هذه الرحلة إلى السودان، لما أنه انفتح أمام عيني الطريق إلى خدمة المسألة المصرية، ومعالجة أسباب إنقاذها من سلطة الإنكليز — لو تَمَّ ذلك — لكنه لم يَتِمَّ بسبب موت المتمهدي.
أما المرة الثالثة التي نزل فيها السيد الأفغاني «لندن» فقد كان الغرض منها مقاومة نصر الدين شاه، بعد ما كان من سوء معاملته للسيد وهو مريض في «شاه عبد العظيم»، وإبعاده إلى الحدود التركية كما أمر. وكان السيد إذا ذُكِر شاه إيران طعن عليه طعنًا قبيحًا، ولا يألو في تعديد مثالبه والتهكُّم به والزراية عليه، وأخذ في لندن يسعى في إلقاء النفرة بينه وبين إنكلترا. قال: «لأن الشاه طغا وتجبَّر، وبالَغَ في الكبر والعتو، وسب الأشراف والأولياء، وسلَّمَ وزارته لوزيرٍ شابٍّ جاهلٍ عاتٍ ظالمٍ فخرب بلاد إيران، ولم يجرئه على فِعْله هذا إلا استناده إلى إنكلترا، فإذا أعلنت إنكلترا أنها لا تؤيده في أعماله المنكرة هذه سلمتْ إيران، وعاد إليها الأمن والأمان.»
فكان جل ما يرمي إليه السيد في نزوله «لندن» هو أن يحفِظ قلب إنكلترا على الشاه ووزيره الشاب، وقد بلغ أمنيته هذه بواسطة نشر مقالاته في الصحف والأحاديث عن الشاه في المحافل؛ حتى صَغُرَ الشاه في نفوس الإنكليز، وحقُر في أعينهم، وهان قَدْرُه عليهم.
ولم يَخْفَ هذا على الشاه، فكَبُرَ عليه وتعاظَمَه وأَقْلَقَ راحته، فجعل يفكِّر في طريق الخلاص من السيد وإخراجه من «لندن»، فرأت حكومته أوَّلًا أن ترسل كتابًا إلى السيد بواسطة سفيرها تستعطفه وتقسم عليه بجده المصطفى ﷺ أن يُقْلِع عن مقاومة الشاه ويَكُفَّ عن الطعن عليه والوقيعة فيه، وعرضت عليه أن يطلب في مقابل ذلك ما يشاء ويتمنَّى، فأجابهم السيد: «لا أتمنى إلى أن تُزْهَقَ روح الشاه ويُشقَّ بطنه، ويوضع في القبور.»
كل هذا سمعته من فم شيخنا الأفغاني الذي كان يرويه بطلاقة لسان وتوقُّد جنان.
وما كان أجوده بالأحاديث وقصِّ الأخبار على جلسائه، فقد كان لا يبخل عليهم بجواب، ولا يُعْيِيه خطاب.
هذا فيما يتعلق بالجدِّ من الأمور، أما لحين المطايبة وإرسال النكت، فهو الروض لا تهدأ عن التغريد أطياره، ولا تألو في نشر الشذى أزهاره. وكنت أتخيل قبل اجتماعي بشيخنا الأفغاني، وكثرة ما وصفوه لنا بالفلسفة والحكمة أنني سأراه عابس الوجه مهيب السمت شديد الإطراق قليل الكلام، إذا سُئِل أجاب بالإيجاز، وأورد كلامه كما تورد الأحاجي والألغاز، شأن أولئك الذين يسمُّون أنفسهم فلاسفة أو متفلسِفين، ويغمضون فيما يقولون أو يكتبون، فلا يُفْهَم ما يعنون ويقصدون.
أما فيلسوفنا «الأفغاني»، فما كنَّا نراه إلا مُشرِق الوجه، منبسط الأسارير، جذَّاب لحظ المقلتين، تبرق عينه وهو يحدِّث بما يُسأَل عنه، وتنفرج شفتاه عن ابتسامة لطيفة حين سماعه النوادر من جلسائه؛ ولهذا أَحَبَّه مريدوه، وكَثُرَ زُوَّاره، وشاعت في الناس أخباره.
روى الأستاذ عباس محمود العقاد في بعض كلامه على سعد باشا زغلول، وقد بشَّره (أي بشَّر سعدًا) يومًا أحد أصحاب الرؤى والأحلام بنجاح الوفد في الانتخابات النيابية، فقال سعد: وماذا عليه؟ إن أخفقنا معشر الوفديين لم نَرَ له وجهًا، وإن نجحنا جاءنا يطلب البشارة. ثمَّ تابع سعد حديثه حاكيًا حكاية السيد جمال الدين الأفغاني مُذ كان مسافرًا في سفينة وقد خِيفَ عليها الغرق، فقال: أخبرنا الشيخ جمال الدين أنه لما رأى الصبية والنساء وضعاف القلوب في السفينة يضطربون ويهلعون، ذهب يؤكد لهم أشد التوكيد أن سفينتهم لن تغرق في تلك السفرة، ويقسم لهم إنها لناجية بلا مراء. قال الشيخ: وكان القوم يظنُّون فيَّ القداسة منذ يرونني بالعمامة الخضراء، فيحسبونني من دراويش الهند الذين يكشفون الغيوب، ويطَّلِعون على أسرار المستقبل، والمسألة بَعْدُ مسألة حسابية؛ إن غرقت السفينة لم أَجِدْ منهم من يكذِّبني، وإن سَلِمَتْ ظفرت بالقداسة من أقرب سبيل. وسمعته مرة يروي نكتة عن رجلين قال أحدهما لصاحبه يَعِظُه وينصح له: يا أخي لماذا لا تصلي؟ الصلاة فضلها كذا ومكانتها من العبادات كذا وكذا، صَلِّ أربعين يومًا فقط، وانظر إذا كان يمكنك بعدها أن تترك الصلاة؟ فأجابه صاحبه، وأنت يا أخي، اترك الصلاة أربعين يومًا، ثمَّ انظر إذا كان يمكنك بعدها أن تعود إليها. فضحك جلساء السيد لهذه النكتة الدالة على خبث هذا التارك للصلاة ومُحاجَّته فيها بباطل القول وزور الكلام.
قال لنا السيد: مرَّ بالهند سفير أرسلَتْه حكومته الأمريكية إلى بلاد الصين، ثمَّ ما لبث وهو في الهند أن اجتمع بالمسلمين وأَكْثَرَ من مخالطتهم والتَّمَرُّس بهم، فمالَ قلبه إلى الإسلام فأسلم، وحاوَل أن ينقل الإسلام إلى بلاده وينشره بين الأمريكيين، وأخبروه بمكانة السيد من العرفان والمقدرة، وأنه يقيم في الآستانة، فكتب السفير كتابًا إلى البرنس «فاضل باشا المصري» يخبره فيه بعزمه على نشر الإسلام في أمريكا، وفي طيِّه كتاب آخر منه إلى السيد جمال الدين يطلب منه فيها أن يتهيَّأ للرحيل معه إلى أمريكا، وَشَرَحَ له قصْده من هذه الرحلة، وكتب كتابًا ثالثًا إلى الجمعية الإسلامية في ليفربول يخبرهم بغرضه أيضًا، فأرسل رئيس هذه الجمعية «عبد الله وليم» كتابًا إلى «فاضل باشا» وفي طيِّه كتاب إلى السيد يحضُّه فيه على تلبية السفير، وأن يشخص السيد أوَّلًا إليهم في «ليفربول» فيؤلِّفوا بعثة دينية إسلامية يتولى السيد رئاستها، ويصحبوه برجال من عندهم يثقون بكفايتهم ومقدرتهم. فلم يسع «فاضل باشا» إلا أن يعرض هذه الرسائل على السلطان عبد الحميد، فلم يسمح السلطان بذلك ضنًّا بتلك الجوهرة أن تَخْرُج من صدفتها الجديدة، ولا أذكر ما إذا كان السيد هو الذي نَطَقَ بتلك العبارة (أي: ضنًّا بتلك الجوهرة … إلخ) أو هي من مقولي، والجوهرة هو جمال الدين، وصدَفَتُه الجديدة هي الآستانة التي دعاه السلطان إليها، وأنزله على الرحب فيها ليريح زميله شاه إيران من حملاته — كما وصفْنا آنفًا.
وكيف يسمح السلطان للسيد بالسفر إلى أمريكا فينشر ثَمَّ من أخبار الآستانة وعجر المابين وبجره ما يُزْعِج السلطان ويُقْلِق راحته. ومَنْ رأى العبرة في غيره فليعتبر، وقد جعل عبد الله نديم المصري دعوة السلطان للسيد الأفغاني إلى الآستانة منقبة من مناقب السلطان، فقال: وساح (أي السيد) في الأقطار، وخالَط الأمم، وداخَلَ السياسيين، ودَرَسَ التاريخ الحاضر والماضي، وامتد باعه في العقليات، فأصبح أمة واحدة بين ذوي الفضل، وهذا الذي دعا مولانا الخليفة الأعظم لاستدعائه إلى عاصمته، وإدخاله في لفيف العلماء الخاص بمجلسه العالي، فقد أهَّلته المعارف والتجارب والمخالطة العامة لمسامرة الملوك والنظر في السياسات، وهذا كله من فضل السيد الأعظم. ا.ﻫ.
وسُئِل السيد عن رأيه في «عبد الله وليم» الإنكليزي الذي كان أَسْلَمَ في ذلك العهد، وألَّف جمعيته المذكورة، وعمَّا إذا كان اجتمع به؟ فأثنى السيد عليه، وقال إنه على هُدًى من أمره. قال: ولما كنت في لندن أرسل «عبد الله وليم» إليَّ كتابًا يدعوني إليه في «ليفربول»، وحاوَلْتُ إجابة طَلَبِهِ؛ غير أن دعوة السلطان إيَّاي إلى الآستانة حالت دون ذهابي إلى ليفربول.
قال السيد: واستأذنت يومًا على السلطان، فعيَّنوا لي يوم الخميس للمقابَلة، وجئت يوم الخميس فقالوا لي: تعالَ يوم الإثنين، وتكرَّرَ هذا منهم، فقلت للحاج علي بك «رئيس القرناء»: إنني لا أجيء إليكم بعد اليوم، ثمَّ اجتمع بالسلطان، قال: فأثنيت على جلالته؛ إذ كان محبًّا للدين، عاملًا على نشره، قال: وطالت المذاكَرة بشأن إيفادي إلى أمريكا حسب طلب السفير الصيني الآنف الذكر، وكاد يَتِمُّ الأمر، ثمَّ عدلوا عنه ورأوا أن الأصلح أن يذهب السيد إلى أوروبا، فيقوم ثَمَّ ببعض الأغراض السياسية المتعلقة بمصالح الدولة العلية، ثمَّ ضربوا صفحًا عن كل ذلك وقال له السلطان: أريد أن أجعل وطنك الآستانة؛ إذ لم يكن لك وطن.
والْحَقُّ أن السلطان كان يُخشى شِرَّة السيد ويحاذِر صولته — كما مر آنفًا — فهو يفضِّل أن يبقى محبوسًا في القفص.
أما أن السلطان يريد أن يجعل الآستانة وطنًا للسيد فهو قول لا محصل له في نظر السيد؛ لأن الإسلام بطبيعته يُعَلِّم بأن بلاد الإسلام مهما اتسعت رُقْعتها وترامت أطرافها، تكون كل قرية أو بقعة منها وطنًا للمسلم الذي ينزلها، فأهلها إخوته، وحكومتها حكومته، ويعنيه من أَمْرِها ما يعني سكَّانها أنفسهم، فله أن يشتغل بسياستها، وينقد حكامها، ويرفع صوته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها. وهذا ما كان من جمال الدين طول حياته التي عاشها، فقد كان أفغانيًّا في الأفغان، إيرانيًّا في إيران، هنديًّا في الهند، حجازيًّا مصريًّا في الحجاز ومصر، تركيًّا في بلاد الترك. وكان إذا سُئل السيد عن وطنه أجاب: ليس لي وطن. على أنه لا وطن اليوم للمسلمين، يشير بهذا إلى أنهم غرباء في أوطانهم ما دام الأجانب مسيطرين عليهم. لا جرم أن شيخنا الأفغاني كان في حياته وجولاته في بلاد الإسلام رمزًا قائمًا بنفسه إلى وحدة الممالك الإسلامية، وأن سُكَّانها شعب واحد، يعيشون في وطن واحد؛ ولذا كان أكبر غرض يسعى إليه هو إقامة حكومة إسلامية قوية، ينضوي إلى رايتها جميع شعوب الإسلام. هذا كان همه الأكبر وهدفه الأعظم، لكنه — وا أسفاه — لم يجد من ينقطع إليه في خدمة غرضه من المريدين به سوى الشيخ محمد عبده، على أن هذا شعر أخيرًا بصعوبة الأمر، وأوجس خيفة من الخيبة فيه قبل حلول وقته المقدَّر له، فكان يشير على جمال الدين وَهُمَا في باريس بترك الصحافة وهَجْر السياسة إلى الانقطاع للعلم والدرس والتعليم في مدارسَ يبنونها ومعاهدَ يؤسِّسونها، فكان يقول له جمال الدين: اسْكُتْ أنت مُثَبِّط. وكأن المتنبي نظر إلى السيد الأفغاني بعين الغضب مُذ قال:
ويا ليت الأفغاني كان اليوم حيًّا فيرى ما وُفِّق إليه زعماء العرب أخيرًا من تكوين هذه «الجامعة العربية»، فإنَّ فيها بعضَ ما كان يدعو السيدُ إليه ويحرص عليه من أمر الوحدة. لا جرم أن في وحدة العرب وقُوَّتِهم قوة للإسلام في جميع بلاد الإسلام، ولا سيَّما إذا عرفَتْ رجال الجامعة كيف يُخْلِصون في العمل ويتفِّقون في الاتجاه، ويطبِّقون أعمالهم وقرارات جامعتهم على نواميس مدنية هذا العصر، ويُفرِغون مساعيهم في قوالب عقليةِ أهله، ودهاء ساسته، وهم فاعلون إن شاء الله.
إن هذا الرجل تَعَلَّم في مدارس الهند الإنكليزية وهو صغير فتنصَّر، وسُمِّيَ ميرزا يوحنا، ثمَّ صار تُرجمانًا لمشير الجيش الإنكليزي، واجتمع به السيد جمال الدين في فرضة بوشير في إيران عندما كانت العساكر الإنكليزية تحتل تلك الأنحاء احتلالًا عسكريًّا. وكان ميرزا شاعرًا في اللغة الإنكليزية والفارسية، عارفًا بالعربية، وكان يقول الأشعار يهجو بها صاحب الرسالة، وكان مسلمو تلك الجهات لا يَقْدِرون على معارَضته خشية شرِّه وسطوة الإنكليز. ثمَّ جعل يتردد على السيد من وقتٍ إلى آخر، فكان السيد يعارضه في سوء ما يقول، وكان عُمْرُ السيد يومئذٍ عشرين سنة، وكان ذلك أثناء عودته من الحجاز إلى وطنه الأفغان، فكان ميرزا يرد على السيد كلامه مستهينًا به، فامتعض السيد يومًا وقال له: أنهاك أن تأتي داري بعد اليوم، فلم يَكْتَرِثْ ميرزا لقوله، وثابر على المجيء، وبَقِيَ على عادته من التفوُّه بما لا يليق، فهيأ السيد زمرة من شجعان الأفغان وجهَّزهم بالهراوى الضخمة، حتى إذا صَدَرَ منه ما ضاق صدر السيد عنه قام إليه ولطمه على وجهه بملء يده، ثمَّ أشار إلى رجاله فهبُّوا إليه وبطحوه وانهالوا عليه بالهراوى ضربًا وجيعًا، حتى سال الدم من فمه ومنخريه، واستغاث بجدِّي السيد (النبي والحسين) فتركه السيد وذهب حبوًا إلى الإنكليز، فلامه هؤلاء وقالوا له: أنت المخطئ في مجادلتك قومًا خَرَجْتَ من دينهم.
وكان السيد أمر رجاله الأفغانيين أنهم إذا رأوا ميرزا في حيِّهم يقتلونه، فرأوه يومًا مُطلًّا برأسه من دار بعض القساوسة، فعرفوه وأرغوا باب الدار وراموا فَتْحَه فامتنع عليهم، فعزموا على حرق الدار، وأحضروا النار، ولولا أن القسيس نزل إليهم من الدار مُقسِمًا بالإنجيل على أن ميرزا لا يأتيهم بعد الآن لَأَحْرَقُوه. ثمَّ ضرب الدهر ضرباته، وإذا السيد جمال الدين في باريس، فجعل يسأل عن الميرزا حنا، ولا أحد يخبره عنه، ففي بعض الأيام جاءه كتاب فضة، وإذا هو بتوقيع ميرزا باقر، وقد افتتح كتابه بالصلاة والسلام على النبي حنيفًا مُسلٍمًا، ثمَّ اجتمعا وتصافيا، وكان السيد يرسله مع الشيخ محمد عبده إلى باريس ليترجم بينه وبين رجال السياسة، فأرسله معه مرة لمذاكرة السياسيين بشأن «مالية مصر»، فجعل ميرزا في أثناء الترجمة يتعرض للمسائل الإسلامية، وبيان مزايا الإسلام والدعوة إليه، وكان هذا دأبه، فكان الشيخ عبده يقول له مبتسِمًا: خلِّ الدعوة لوقتٍ آخر ومكانٍ آخر، نحن اليوم مشتغلون بمسائل مالية مصر وغيرها من الشئون، لا في مسائل الدين والدعوة إليه، وميرزا لا يصغي إلى نصيحته، ولا يرجع عن اللهج بدعوته، وكان يطبع نشرات يدعو بها إلى الإسلام، ويقف على أبواب الكنائس ويدسُّها في أيدي الداخلين والخارجين من أغنياء ومُعدمين.
وقد نَظَمَ بعض الإيرانيين قصيدة باللغة الفارسية مدح بها فيكتوريا ملكة الإنكليز، وكلَّفوا ميرزا باقر ترجمتها إلى الإنكليزية، فترجمها شعرًا، وعرضوا عليه مكافأةً عليها مبلغ خمسمائة جنيه فأعرض مستنكِفًا، وقال: لا أريد مكافأة عليها إلا الجلاء عن مصر، الجلاء عن مصر، وكان رحمه الله فقيرًا جدًّا لا يملك قوت يومه.
هذا ما سمعناه من فم جمال الدين عن ميرزا باقر رحمه الله، وأنه ختم حياته الجديدة بنشر مزايا الإسلام والدفاع عنه والدعوة إليه، والكتابة في مناقبه، والمقارنة بينه وبين الأديان الأخرى، على نمط ما كان يفعل كلٌّ من صاحبيه — السيد الأفغاني والشيخ عبده. وما أشدَّ اغتباطنا في أن يقوم فينا عدة رجال كجمال الدين لا جمال الدين واحد. وكان الشيخ محمد عبده رحمه الله يأسف ويحوقل مُذ يسمعهم يقولون له: إنه لا يوجد في المسلمين غيره، ويقول لهم: إن قولكم هذا يؤلمني جدًّا، وكم أتمنَّى أن يكون في المسلمين كثيرون أفضل مني وأقدر على العمل في خدمتهم، وتوفير مصلحتهم، والذود عن حقوقهم.
وما قاله الشيخ عبده يذكِّر بما كان من الفخر الرازي، فقد كان يقوم على منبر الري خطيبًا، فيطرق طويلًا ثمَّ يرفع رأسه ويضرب بيده على لحيته وينشد:
وسمعت السيد الأفغاني يقول في مجلس له: إن أهل أوروبا مستعدُّون لقبول الإسلام إذا أُحسِنت الدعوة إليه؛ فقد قارنوا بين الدين الإسلامي وبين غيره فوجدوا البون شاسعًا من حيث يُسرِ العقائد وقُرْب تناولها، وأَقْرَبُ من أهل أوروبا إلى قبول الإسلام أهل أمريكا، وإنما كانوا أقرب من الأوروبيين؛ لأنه لا يوجد بينهم وبين الأمم الإسلامية عداوات موروثة ولا أضغان مدفونة، مثلما هو الحال بين المسلمين والأوروبيين.
قال السيد: والقرآن من أكبر الوسائل في لَفْت نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام، فهو يدعوهم بلسان حاله إليه، لكنهم يَرَوْنَ حالة المسلمين السوأى من خلال القرآن، فيقعدون عن اتِّباعه والإيمان به.
قال: فإذا أردنا اليوم أن نحمل غيرنا على الدخول في ديننا، وَجَبَ علينا قبل كل شيء أن نقيم لهم البرهان على أننا لسنا متمسِّكين بخصال الإسلام، فلم نكن مسلمين … كاملين. وأفاض السيد في مزايا القرآن وتعاليمه السامية، من ذلك أنه (أي القرآن) أول من دلَّنا على الوصول إلى الحقائق بالطريقة الفلسفية، وهي «لمه» و«لماذا» إذ إن معظم آيات القرآن واردة في معرض لِمَ كان الأمر كذا؟ ولماذا كان الأمر كذا؟ وتكليف المخاطبين أن يعطوا الجواب المعقول على هذا السؤال، وليست الفلسفة سوى ذلك.
قال: ومن مزايا القرآن أن العرب قبل إنزال القرآن عليهم كانوا في حالة همجية لا توصَف، فلم يَمْضِ عليهم قرن ونصف قرن حتى ملكوا عالم زمانهم، وفاقوا أمم الأرض سياسةً وعلمًا وفلسفةً وصناعةً وتجارةً. وكل هذا لعمري لم يَنْتِجْ إلا عن هدي القرآن وإرشاد القرآن، فالقرآن وحده الذي كان كافيًا في اجتذاب الأمم القديمة وهدايتها، جدير أن يكون كافيًا اليوم أيضًا في اجتذاب الأمم الحديثة وهدايتها.
ولما انتهى الحديث بالسيد إلى هنا تنفَّس وقال: لولانا، لولانا، القصور منَّا والتبعة علينا، انصرفنا عن الأخذ بروح القرآن، والعمل بمعانيه ومضامينه، إلى الاشتغال بألفاظه وإعرابه، والوقوف عند بابه، دون التخطي إلى محرابه. ولا بدَّ هنا من إرسال نظرة عميقة في قول شيخنا الأفغاني: «القرآن وحده»، فإن في قوله هذا إشارةً إلى أن المسلمين في الصدر الأول كفاهم القرآن وحده في هداية البشر، أمَّا اليوم فلماذا لم يَكْفِهِم القرآن وحده هداية البشر وهداية أنفسهم؟ أليس هذا عجيبًا من مواضع العجب؟
السيد الأفغاني ينبِّهنا إلى أن القرآن لم يَعُدْ وحده في قلوبنا ولا على أكفنا؛ ليسهل علينا العمل بتعاليمه، وليتيسر لنا عرضه على الأمم مبشِّرين ومنذِرين. وقد كانت الدعوة إلى القرآن والتبشير به من أكبر ما يطمح إليه الأفغاني في حياته، وكان يتلو على من يرى فيه المقدرة على الدعوة قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وإنما نحن اليوم حَمَلْنا مع القرآن أبحاثًا لفظية، ومناقشاتٍ حول أحكامه فرضية، واستنتاجات ليست في مصلحة البشر ولا هي من وسائل هدايتهم إلى الإيمان به، وأَضَفْنا إليه من الشرح والتفسير ما لا مُحَصِّل له سوى الإغراب وإرضاء العامة، وأي حاجة لأن يزداد على قوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، هذه الجملة «تُقاد — أي جهنَّم — بسبعين ألف زمام، وكل زمام بيد سبعين ألف ملك» في نظير ذلك من الزيادات المفسِدات للدين المزعزِعات لليقين.
وكما قلنا فيما سبق أن تمييز النصوص صحيحها من فاسدها، والجرأة في نصرة الصحيح والجهر بالدعوة إليه وحده — هو أول قاعدة من قواعد الإصلاح الديني — نقول بمناسبة قول شيخنا الأفغاني: «القرآن وحده»؛ إن القاعدة الثانية للإصلاح وتيسير الدين للدعوة هي الاعتماد على القرآن وحده في هذا الإصلاح والدعوة، ونحن نعلم من شيخنا الأفغاني أن ما آخى القرآن هو من القرآن، فالحديث المتواتر هو من درجة القرآن في إثبات الحكم، وكذلك إجماع المسلمين في الصدر الأول على حُكمٍ من الأحكام العملية الماضية مع الزمن هو مما يتمشَّى مع القرآن، ولا سيَّما أعمال النبي ﷺ في حياته هو تفسير للقرآن، وعمل بالقرآن، فهو إذن من القرآن. فالتواتر والإجماع وأعمال النبي المتوارَثة إلى اليوم هي السنة الصحيحة، التي تدخل في مفهوم القرآن وحده والدعوة إلى القرآن وحده.
القرآن وحده سبب الهداية، والعمدة في الدعاية، أَمَّا ما تَرَاكَمَ عليه وتجمَّع حواليه من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم، فيبتغي ألا نعوِّل عليها كوحي، وإنما نستأنس بها كرأي، ولا نحملها على أكفِّنا مع القرآن في الدعوة إليه، وإرشاد الأمم إلى تعاليمه لصعوبة ذلك وتعسُّره، وإضاعة الوقت في عرضه، ألسنا مُكلَّفين بالدعوة إلى الإسلام وحَمْل الأمم على قبوله؟ وهل تُمْكن الدعوة من دون ترجمة تعاليم الإسلام إلى لغة الأقوام الذين ندعوهم؟ هل في طاقة سُكَّان البرازيل مثلًا إذا أردنا دعْوَتَهم إلى الإسلام أن يفهموا كنه الإسلام من ترجمة أقوال علماء الإسلام وآرائهم المتشعِّبة في تفسير القرآن والحديث. أَلْقِ نظرة على فهرست أحد الكتب الدينية الكبرى، وتأمَّلْ فيها لترى ما الذي يمكن عَرْضُه والدعوة إليه من أحكامها وتعاليمها، وما لا يمكن، تجد أن ما لا يمكن العمل به ولا الدعوة إليه ولا تطبيق مفاصله أصبح عبئًا يجب الاستغناء عنه بما يمكن، والممكن هو ما في القرآن وحده كما قال السيد الأفغاني، وكما أشار إليه في آخر رسالته في إبطال مذهب الدهريين منه قال: «لم تَبْقَ ريبة أن الدين هو السبب الفرد لسعادة الإنسان، فلو قام الدين على قواعد الأمر الإلهي الحق ولم يخالطه شيء من أباطيل من يزعمونه ولا يعرفونه، فلا ريب أنه يذهب بمعتقِديه في جواد الكمال الصوري والمعنوي.»
وكأن السيد يريد أن يقول في تعاليم الإسلام: إن الشجرة إذا ازداد نموها، واشتد الْتِفَافها، وكَثُرَت أوراقها، وتشعَّبت أغصانها؛ قلُّ ثمرها، وتضاءلت غلَّتها. فالبستاني الحاذق يعمد إليها فيبتر ويشذب، ويقلِّم ويُهذِّب، ويُبقي على بعض أصولها، فيتسرَّب الغذاء إلى هذه الأصول وَحْدها، وبذلك يعود إلى الشجرة طاقة إثمارها. وإيتاء أكلها. وهكذا القرآن يجب أن تنصرف هِمَم المُصْلِحين، وتَتَّجِه عزائمهم إلى فهمه وَحْده، وفَهْم حياة النبي العملية التي تفسِّره وَحْدَه، وتنمية شعور المسلمين وتربيتهم على قداسته وَحْده، وإنما كان هذا؛ لأن تزاحم الأمم على الحياة في هذا العصر استأثر بالوقت، فلم يَبْقَ منه للثقافات الدينية والدراسات الروحية إلا القليل، فيجب اغتنام القليل وتسخيره في خدمة القرآن، فيخفُّ الحمل وتسير السفينة باسم الله.
ورأى بعض جلساء السيد الأفغاني ما تَرَكَهُ الحديثُ السابقُ في نفسه مِنْ أثر انفعال وتأثُّر، فرفَّه عنه بشيءٍ من المفاكهة والمطايبة، وهو سؤاله عن سبب زهده في الزواج، وسأله آخر من طلاب العلوم عن الجوهر الفرد ودليله، وهما سؤالان متناقضان من حيث الجد والفكاهة. وكان بَلَغَنَا أن السلطان عبد الحميد رَغَّبَ إليه أن يتزوج بإحدى سراري القصر، فيُفرِد له منزلًا بأثاثه ورياشه، على أن السلطان ما كان يهمُّه أن يتزوج جمال الدين بقدر ما كان يهمُّه أن يربطه بزوجٍ ومسكنٍ فيبقى تحت مراقبة جواسيسه، وتهدأ بلاده وبلاد الشاه خاصة. ولم يُغْنِ الشاه ذلك فتيلًا، فإنه قُتِل بيد رجلٍ من رجال جمال الدين متأثِّرًا بآرائه ونزعاته.
واعترض الحديثَ بعضُ أدباء الترك الحاضرين في المجلس بمناسبة ذِكْر الجوهر الفرد، فأنشد أبياتًا بالتركية، وَصَفَ فيها الشاعر فم محبوبه بشدة الصغر، فقال: «جوهر لا يتجزأ ديسه م ياخود فم»، أي: هل أقول عن فم محبوبي إنه فم أو جوهر فرد.
ومن كلام السيد الأفغاني في فلسفة اليونان واحتضان فلاسفة الإسلام لها قوله: «إن القول بوحدة الوجود أصله دين قدماء اليونان، وقد دخل في مذاهب العرب عند ترجمتهم لكتب أولئك القدماء، فهو دين متداخِل في دين من غير شعور الآخذين به.» وكان السيد الأفغاني يعجبه الحديث عن اليونان وفلاسفتهم ومن حذا حَذْوَهُم من فلاسفة الإسلام، وهذا ما جعل «رينان» يقول فيه: كنت وأنا أحدِّث جمال الدين الأفغاني كأنِّي أحدِّث ابن سينا أو ابن رشد. وروى العلَّامة سليمان البستاني، أن السيد الأفغاني قال له منذ بلَّغه أنه شارع في ترجمة الإلياذة: «وإنه ليسرُّنا جدًّا أن تفعل اليوم ما كان يجب على العرب أن يفعلوه قبل ألف عام ونيف. ويا حبَّذا لو أن الأدباء الذين جَمَعَهُم المأمون بادَروا بادئ بدء إلى نقل الإلياذة، ولو ألجأهم ذلك إلى إهمال نقل الفلسفة اليونانية برمَّتها.» ا.ﻫ.
أمَّا سبب زهد السيد الأفغاني في الزواج فأجاب عنه بقوله: «الإنسان في هذا العالَم يشبه مسافرًا عاريًا حافيًا، يسير في مفازة ذات تضاريس وأشواك وعواثير تحيط به من كل جانب، وهو يجتهد في التخلص منها، ثمَّ النجاة بنفسه سالمًا. فما بالكم لو حَمَلْنا على ظَهْر هذا المسافر مسافرًا آخر أعياه السير، أما يُخشى عليه من الهلاك؟ كذلك شأن المتزوج.» ثمَّ قال إنه لو تَزَوَّجَ وقد بلغ هذا العمر (وكان عمره يومئذٍ ستًّا وخمسين سنة) لاستغرب الناس منه ذلك كما يُستغرب من الشيخ عليش لو سار بتلاميذه إلى أزبكية مصر وجلس معهم إلى بعض المشارب، ثمَّ أمر الجارسون أن يُحْضِر إلى الشيخ ده زجاجة بيرا، وإلى الشيخ دوكها زجاجة شمبانيا.
وكان السيد يرتضخ لهجة مصرية، ولا غرو فقد أقام في مصر نحو ثماني سنوات. والشيخ عليش هذا شيخ مغربي من علماء الأزهر، اشتُهِر بالتقوى والصلاح والتشدد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله حكايات جمَّة في شدَّته على السيد الأفغاني وتلاميذه، وخاصة على الشيخ حسن الطويل (أحد علماء الأزهر المتخصِّصين في الفلسفة وتعليمها)، فكان الشيخ عليش يهرول إلى مكامنهم في زوايا الأزهر ويشلُّهم بعكازته شلًّا، ولا يدعهم يلوِّثون بقاع الأزهر الطاهرة بالكفر والزندقة.
وهكذا عاش شيخنا الأفغاني عزبًا، والْتَحَقَ بربه عزبًا. وقد شغله عن اتخاذ الأهل والولد انصرافُه بهموم نفسه وشراشر قلبه إلى إنشاء دولة إسلامية، تَتَّخِذ من أسباب الرقي والمدنية والعزة ما تحمي به نفسها، وتنقذ غيرها من الأمم الإسلامية المستضعفة.
وذِكْر السيد الأفغاني للشيخ عليش وتمثُّله به في مسألة الزواج يدل على أن السيد — رحمه الله — كان يتسع صدره لغضب الشيخ عليش، ويتلقَّى ما كان منه من شدة الوطأة عليه وعلى تلاميذه بكثيرٍ من الصبر وبكثيرٍ من العذر، فإنَّ قَلَقَ الشيخ عليش وهياجه ضدَّ المشتغلين بالفلسفة خشية أن يتسرب إلى الدين ما يفسده ويضر بسلامته أمر طبيعي فيمن كان على مثل حاله وورعه وتربيته الأزهرية، فلا يُستغرب منه هذا، بل ربما كان من المستغرب أن يتسامح مع هؤلاء المجددين من النوابت.
٤
قال السيد: وإنما سعى الإنكليز في جعل المسلمين دهريين، ولم يَسْعَوْا في جعلهم مسيحيين؛ لأنهم رأوا — بَعْدَ طول تجربة واختيار — أن دعوة المبشِّرين لمسلمي الهند بالنصرانية لم تنجح، وأن مساعيهم في نشرها كانت تذهب أدراج الرياح؛ لأنهم وجدوا أن المسلمين نصارى وزيادة، فهم يؤمنون بعيسى ومريم وبجميع التعاليم المعقولة التي عَلَّمَ بها المسيح، «ويبرئونه وأمه من كل شَيْن»، كما يبرِّئه المسيحيون.
١٩ محرم سنة ١٢٩٨ﻫ
قال المولوي محمد (بعد رسوم المخاطبة): يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت نيشر نيشر، وإنه ليصل إلينا من جميع الأقطار الهندية، من الممالك الغربية والشمالية و«أوده» و«بنجاب» و«بنغاله» و«السند» و«حيدر آباد الدكن»، ولا تخلو بلدة أو قصبة من جماعة يلقَّبون بهذا اللقب «نيشري»، ويظهر لنا أن من يعلَّق عليهم هذا اللقب ينمو عددهم على امتداد الزمان؛ خصوصًا بين المسلمين. ولقد سألت أكثر مَنْ لاقيت من هذه الطائفة: ما هي حقيقة النيشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيشريين؟ وهل مِنْ قَصْد هذه الطائفة بمسلكها الجديد عندنا أن تقوِّم عماد المدنية، ولا تعدو هذا المقصد؟ أو لها مقاصد أخرى؟ وهل طريقتهم تنافي أصول الدين المُطْلَق؟ أو هي لا تعارضه بوجه ما؟ وأية نسبة بين آثار هذا المشرب وآثار مطلق الدين في عالم المدنية؟ والهيأة الاجتماعية الإنسانية؟ فإن كانت هذه الطريقة من النحل القديمة، فلِمَ لم تُنْشَر بيننا ولم نَعْهَد لها دعاة إلا في هذه الأوقات؟ وإن كانت جديدة فما الغاية من إحداثها؟ وأي أثرٍ يكون عن الأخذ بها؟ ولكن لم يُفِدْني أحد عمَّا سألت بجوابٍ شافٍ كافٍ؛ ولهذا، أَلْتَمِس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريين بتفصيل ينقع الغلة، ويشفي العلة والسلام. ا.ﻫ.
محبي العزيز …
«النيشر» اسم للطبيعة، وطريقة النيشر هي تلك الطريقة الدهرية التي ظهرت في بلاد اليونان في القرنين الرابع والثالث قبل ميلاد المسيح، ومقصد أرباب هذه الطريقة محو الأديان، ووضْع أساس الإباحة، والاشتراك في الأموال والأبضاع بين الناس عامةً. وقد كدحوا لإجراء مقصدهم هذا، وبالَغوا في السعي إليه، وتلوَّنوا لذلك في ألوان مختلفة، وتقلَّبوا في مظاهر متعدِّدة، وكيفما وُجِدُوا في أمة أفسدوا أخلاقها، وعاد عليهم سَعْيُهم بالزوال. وأيما ذاهب ذَهَبَ في غور مقاصد الآخذين بهذه الطريقة تجلى له أنه لا نتيجة لمقدِّماتهم سوى فساد المدنية، وانتقاض بناء الهيئة الاجتماعية الإنسانية، إذ لا ريب في أن الدين مطلقًا هو سلك النظام الاجتماعي، ولن يَسْتَحْكِم أساس للتمدن بدون الدين البتة، وأول تعليم لهذه الطائفة إعدام الأديان وطرْح كل عقْد ديني. وأمَّا عدم شيوع هذه الطريقة وقلة سلاكها مع طول الزمن على نشأته، فسببه أن نظام الأُلفة الإنسانية — وهو من آثار الحكمة الإلهية السامية — كانت له الغلبة على أصولها الواهية، وشريعتها الفاسدة؛ ولهذا السر الإلهي انبعثت نفوس البشر لمحو ما ظهر منها. ومن هذا لم يسبق لهم ثبات قدم، ولم تَقُمْ لهم قائمةُ أَمْر، ولا في وقت من الأوقات. ولتفصيل ما ذكرنا نتقدم بإنشاء رسالة صغيرة، أرجو أن تكون مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تَنَالَ من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار. ا.ﻫ.
شرح لنا السيد الأفغاني في مجلسه كل هذا، وانتهى به القول إلى وَصْف ما عليه قبائل الهند من الجهل والغباوة، وقال: حبَّذا لو أن الدولة العثمانية تُرْسِل بعثات من العلماء إليهم، لا لأجل دعوتهم إلى الإسلام فإنهم مسلمون، ولكن لأجل أن يعلِّموهم قواعد الإسلام، فإن جهلهم لها جعلهم مسلمين بالاسم، حتى إذا سُئِلوا عن الدين الذي يدينون به قالوا في الجواب: «نأكل لحم البقر والحمد لله»، يعنون أنهم من أتباع الدين الذي كلُّ ما يعرفونه عنه أنه يبيح لهم أكل البقر، وليسوا من أتباع الدين الذي لا يبيح لهم ذلك، وهو دين وَثَنِيِّي الهند الذين يعبدون البقر، ولا يأكلون لحومها.
قال: فقبائل الهند لا يعرفون من أحكام دينهم — دين الإسلام — إلا جواز أكل لحم البقر، مثل هؤلاء يجب علينا أن ننشر بينهم تعاليم ديننا، وهذا بالطبع أقرب وأوجب مِنْ نَشْره بين غير المسلمين. ثمَّ قال: ويا ليت أهل مصر الذين ينفقون في موالد الأولياء مليوني ليرة أو أكثر في السنة الواحدة، أنفَقوا ذلك في سبيل نشْر الإسلام بين تلك القبائل الجاهلة، فإنه أصلح للأمة، وأعون على لَمِّ شعثها.
واستطرد إلى وصف نيشريِّي الهند ومآربهم، والطرق التي يسلكونها للوصول إلى أغراضهم، من ذلك أنهم يَدَّعُون أن إبراهيم وموسى وعيسى، وطائفة كبيرة من عظماء العالم كانوا نيشريين، يُضلِّلون بذلك عقول السُذَّج ويهوِّنون عليهم الدخول في بدعتهم.
ثمَّ قال السيد: وكما كانت روح الماسونية سياسية محضة، كانت روح البروتستانتية سياسية دينية، ومن هنا انساق الحديث إلى طائفة «الجزويت»، فقال السيد: إنها جمعية دينية محضة، ثمَّ شرح ما لهذه الطائفة من النية السوأى نحو الإسلام وأهله. فَذَكَرْتُ له مثالًا لذلك ما كان يرتكبه بعض اليسوعيين من تحريف الكتب التي يطبعونها، والتلاعب بالنصوص التاريخية التي ينشرونها، وفيها بعض الكيد للمسلمين، وبذلك شوَّهوا خدمتهم للعلم والتاريخ، وأَضْعَفُوا مِنْ مَيْل المسلمين إلى الاستفادة من مطبوعاتهم. فوافق السيد الأفغاني على ما قلته، وأيَّده بقوله: إن اليسوعيين لم يُطرَدوا من فرنسا إلى لكثرة دسائسهم وغلوِّهم في مذهبهم، حتى أصبح اسم «جزويت» شتمًا يَشْتِم به الرجلُ الآخرَ، على أن تلك الطائفة قليلة العدد بالنسبة إلى غيرها من الرهبنات، فإن أتباعها لا يتجاوزون العشرين ألفًا، وسبب هذه القلة فيهم أنهم لا يقبلون دخول أحد في زمرتهم ما لم يتوفر فيه شرطان؛ الأول: أن يكون غنيًّا ذا ثروةٍ ونفوذٍ ماليٍّ عظيمٍ، والثاني: أن يكون عالِمًا مُتبحِّرًا أو خطيبًا ماهرًا، ويختبرون مقدرته بإعطائه موضوعًا علميًّا يَكْتُب فيه ويعلِّق عليه من رأيه، فإن أعجبهم قَبِلُوه وإلا رفضوه.
وسألنا شيخنا عن مصير آثاره، وما وضعه من الرسائل والتصانيف، فقال: إنه لا يوجد لديه منها في الآستانة شيءٌ، وقد تركها في لندن حينما غادرها إلى الآستانة على جناح السرعة، حتى إنه لم يصحب من أمتعته سوى سفط أودعه لبوس بدنه.
وسألته عمَّا إذا كان أنجز وعده الذي بَلَغَنَا عنه من أنه سيؤلِّف كتابًا في حقيقة الديانة الإسلامية، فقال إنه لم يؤلِّفه بعد، وإنما هو كَتَبَ باللغة الفارسية عدة مقالات في الدين الإسلامي وسُمُوِّ تعاليمه، لكنها ليست محفوظة لديه، وإنما هي مبعثرة هنا وهناك عند أصدقائه ومريديه الكثيرين المنتشرين في الهند والبصرة ومصر ولندن.
وروى الشيخ عبد الرشيد إبراهيم، أن للسيد الأفغاني رسالة في الرد على المسيحيين، ولم يذكر شيخنا الأفغاني هذه الآثار، ولم يَعُدَّها من مصنَّفاته، وإنما اقتصر على ذِكْر مقالاتٍ كَتَبَها في سموِّ الدين الإسلامي. ومِثل السيد الأفغاني تلميذه «أستاذنا الشيخ محمد عبده»، فإنه أيضًا ما كان يُعْنى بوضع المصنَّفات، ولم يُؤْثَر عنه منها إلا رسالة لطيفة الحجم في العقائد الإسلامية، وهي «رسالة التوحيد» المشهورة، وإلا رسالة في إصلاح المحاكم، ورسالة في الرد على هانوتو، ورسالة في الإسلام والنصرانية. وله مصنَّف في العلوم الأزهرية تكلَّفَهُ منذ كان يعمل مع علماء الأزهر في علوم الأزهر، فأنت ترى أن آثاره لم تَتَخَطَّ شكل الرسالة واسمها، وما نُسِب إليه من التفسير لم يَضَعْهُ وضعًا بقصد التصنيف في تفسير القرآن، وإنما هي دروس كان يلقيها على الطلاب في الرواق العباسي — أحد أروقة الأزهر — فكان الحريصون من المريدين — وأشهرهم صديقنا «الشيخ رشيد رضا» — يدوِّنون ما يسمعون منه في التفسير.
فالمصلحان العظيمان لم يشاءا أن يؤلِّفا، ولا أن يخوضا غمار المناقشات الدينية والعلمية؛ عِلمًا مِنهُما بأن كثرة الخوض في أحكام الدين وعقائده وموروث تعاليمه، والتوسع في شرحها يزيد المسلمين بلبلةً وخِلافًا، ويورِّط الخائض في مناظرات مع الآخرين تؤدي حتمًا إلى مهاترات ومجادلات تنتهي أخيرًا إلى بذاءات ومنابذات. عَلِمَ هذا شيخانا العظيمان، فزهدا في إطالة النفس في وَضْع المصنَّفات، وعدَّا ذلك قاطعًا عليهما عملهما في الإصلاح الإسلامي والاشتغال عنه بما لا يفيد مع العلم، ولا ينسجم مع أخلاق العلماء. ولا جَرَمَ أن الجدل مع المخالفين والرد ورَدَّ الردِّ يَشْغَلُ رجال الإصلاح عما هم بسبيله من الإصلاح وتعبيد طرقه وتعميم الدعوة إليه. هنا دعوة إلى الإصلاح الديني وقرَتْ في نفس المصلحَيْن العظيمين، وقد تعبَّدا إلى الله في نشرها، وإقناع إخوانهم المسلمين بها، ويجب أن يسبق الدعوةَ إلى الشيء تعيينُ ذلك الشيء وتشخيصُ هدفه وتحديدُه من أطرافه، وأن يكون ململَمًا موجَزًا تحيط به نفس السامع، ويستوعبه فهمه، وتتشربه مداركه؛ فلا ينبغي أن يُشَاب الإصلاح بما ليس من موضوعه من الاستطرادات والحشويات، ولو بحجة الرد عليها، فإن ذِكْرَها يغري بها، ويفتح باب الجدل حواليها، كما وَقَعَ للمؤلِّفين الأقدمين من فحول علمائنا.
وبعد أن تُحدَّد مطالب «الإصلاح» وتعيَّن، يجب الإلحاح في الدعوة إليها، وحَمْل الآخرين على النظر فيها، وكلما حاوَلَ الآخرون الخروجَ عنها إلى الجدل في غيرها ردَّهم المصلِحُ بلُطْف أو بعنف إليها قائلًا: هذه هي مطالب الإصلاح، لا نريد بدلًا منها ولا انصرافً عنها. وإذا لم يكن للمصلح بدٌّ من الجدل قَصَرَ جداله عليها، وإذا حُورِبَ حُورِبَ من أجلها، وليحذر اللغط فإنه من أكبر الغلط. هذا «لوثيروس» أشهر المصلحين الذين نجحوا في إصلاحهم إلى أبعد حدٍّ، لم يكن يُقدَّر له النجاح لو لم يَدْعُ إلى شيءٍ معدودٍ ومبدأٍ محدودٍ، غامَرَ في الدعوة إليه والصبر عليه، وعرَّض نفسه للخطر في سبيله، فنال المراد، وقضى نهمته مما أراد، ولا نظنُّه خرج في دعوته إلى الجدل في غير مَطَالِب الدعوة المعدودة المحدودة؛ ولذا عاشت دعوتُه، وملأت الخافِقَيْنِ رعيتُه.
ما لنا وله، هذا «محمد» وبحسبنا «محمد» مثلًا، قام ﷺ في وَجْه المشركين، فرَفَعَ صوته بالدعوة إلى شيءٍ واحدٍ، الأوثان باطلة، والله واحد، التوحيد التوحيد، دعوا الشِّرْك دعوا الشرك، قضى على ذلك عشر سنوات في بقعة واحدة (مكة)، لا تكاد تُعْرَف له دعوة فيها إلى غير توحيد الإله، وخَلْع الأوثان، والاستكثار من ضَرْب الشواهد والأمثال، وتنويع أساليب الحجاج في تصوير قُبْح ما هم عليه، وحُسْن ما يدعوهم إليه. وبهذه الصورة انتشر التوحيد، وخالطَتْ بشاشته قلوب العرب، حتى إذا تم له ﷺ ما أراد أخذ في وضْع بناء الشرع على أساسه، وتوجيه أتباعه إلى الاهتداء بنبراسه.
هذا ما كان يطمح إليه شيخنا الأفغاني؛ ولذلك لم يُكْثِر من التأليف خشية أن يَصْرِفه عن الدعوة إلى المقصود والأمل المنشود، وهو وحده يجب أن يكون هدف المصلحين العاملين.
•••
جئت بطرسبرج، فمكثت فيها أكثر من أربع سنوات، وفي خلال هذه المدة زارها الشاه، وأحب الاجتماع بي، فلم أرغب في مقابلته، ثمَّ سافرت إلى «مونيخ» من بلاد الألمان، فجاءها الشاه أيضًا، وطَلَبَ مقابلتي فامتنعْتُ، فتوسَّط بيننا بعض كبار الرجال الألمانيين وغيرهم، فاجتمعنا، وطَلَبَ مني الذهاب إلى بلاده كي يجعلني رئيس وزرائه، فأبَيْتُ وقلت له: إنني متهيئ للسفر إلى باريس ومشاهدة معرضها (سنة ١٨٨٩م)، ولكن الشاه أخذ يلحُّ عليَّ إلحاحًا شديدًا، فلم أَجِدْ مناصًا من إجابة طلبه والذهاب معه إلى بلاده. قال السيد: ومن جملة قول الشاه فيَّ: «هذا رجل العالَم السياسي الحربي اللائق أن يكون رئيس وزارة، يقوم فيها بتدبير الأمة.» فقلت للسيد: كيف يدعوك الشاه لأن تكون رئيس وزرائه وأنت مشهور بفرط رغبتك في تشييد عقائد أهل السنة؟ فقال: جنونٌ منه وهَوَس.
«كذا سألته وكذا أجابني»، وكِلا السؤال والجواب مستغرَب في نظري اليوم. ولا أتذكر السبب الذي دعاني إلى أن أوجِّه إليه هذا السؤال، ويخطر لي أنني إنما أردت استخراج تصريح منه فيما يتعلق بكونه أفغانيًّا سنيًّا أو إيرانيًّا شيعيًّا، فدلَّ جوابه على أنه ليس من الإيرانية ولا الشيعية في شيء. قال السيد: وبعد أن أقمت في بلاد إيران حينًا من الزمن طَلَبْتُ الذهاب إلى الأوروبا، فمنعني الشاه من السفر، وبَلَغَنِي عن لسانه كلام خشن فِيَّ، وأنه ينوي لي نية سوء، وأن يحجر عليَّ في البلاد الإيرانية، فاحتلْتُ على الذهاب إلى مقام شاه عبد العظيم على مسافة عشرين كيلومترًا من طهران.
والشاه عبد العظيم هذا من أحفاد بعض أئمة آل البيت، ومقامه حَرَمٌ مَنْ دخله كان آمنًا، فمكثت ثَمَّ سبعة أشهر، وكتبت وأنا هناك عدة مقالات، وحرَّرْتُ في الجرائد جملة رسائل أَوْدَعْتُها مثالبَ الشاه، وحضَّ الشعبِ الإيراني على خلعه، ثمَّ خرجت من مقام الشاه عبد العظيم إلى البصرة، وأقمت فيها حينًا، وجَرَتْ لي أمور ذات بالٍ؛ منها إرسال الكتاب إلى بعض مجتهدي الشيعة، ثمَّ قمت من البصرة إلى لندن، وعُدْتُ إلى الكتابة في تقريع الشاه وذَمِّه، والعمل على إسقاطه، ومن لندن طلبني جلالة السلطان عبد الحميد، فاعتذرت بأني منهمك في أَمْر الشاه ومشغول بمقاومته، ثمَّ طلبني ثانيةً (وكان الشيخ أبو الهدى تعهَّد للسلطان بأنه سيُقْنِع السيد بلزوم الحضور)، فأجَبْتُ الطلب ويممت دار السعادة، ناويًا الرجوع إلى لندن بعد مقابلة السلطان، فأنال أَرَبي من تنكيس الشاه وإنزاله عن العرش. (وما أشد سلامة صدر السيد الأفغاني مذ ظن أنه يمكن الخروج من الآستانة، والتخلص من الفخ الذي أوقعه فيه السلطان عبد الحميد والشيخ أبو الهدى).
قال: ولما قدمت الآستانة أخبرني السلطان بأن سفير إيران طلب مقابلته مرتين، فكان لا يسمح له، ثُمَّ أذِن له في المرة الثالثة، فكان مما قاله السلطان لجمال الدين: طلب مني السفير أن آمرك بالكفِّ عن الشاه وترْك التعرض له، وها أنا ذا أطلب منك ترْكه والإعراض عنه، فقلت: إنني امتثالًا لأمر مولانا خليفة العصر «عفوت الشاه عفوت الشاه»، فقال السلطان حينئذٍ: يحقُّ لشاه إيران أن يخاف منك خوفًا عظيمًا. وقد كان أُشكِل عليَّ يومئذٍ قول جمال الدين «عفوت الشاه»، أي تعدية فعل «عفا» بنفسه من دون حرب الجر «عن»، فراجَعْتُ بعض المعاجم فوجدتهم يجوِّزون تعديته بنفسه على هذه الصورة: عفوت عن فلان، وعفوت عن فلان ذنبه. وشيخنا الأفغاني لم يقل: عفوت عن الشاه ذنبه، بل قال: عفوت الشاه، فلا يزال في صحة عبارته نظر.
وذكر السيد أنه حَمَلَ بعض مجتهدي إيران على تحريم شرب الدُخَّان، وقد أراد ببعض المجتهدين «الميرزا محمد حسن الشيرازي»، فأصدر المجتهد فتوى حرَّم فيها على الإيرانيين شُرْب الدخَّان، فامتنعوا عن شربه امتناعًا شديدًا، حتى أن الشاه طلب نارجيلة (شيشة) ليدخِّن بها، فأجابه حجَّابه بأنه لا توجد النارجيلة في القصر؛ لأن المجتهدين حظروا التدخين.
وثار العامة على الشاه وأحاطوا بقصره ليقتلوه أو يلغي المقاولة المعقودة مع الإفرنج لأجل تأسيس شركة «ريجي» في بلاده، فاضطُر الشاه إلى فسخ المقاولة، ودَفَعَ إلى أربابها في مقابل العطل والضرر تعويضًا بلغ نصف مليون ليرة إنكليزية. هذا ما قاله جمال الدين في بيان السبب الذي جعل الشاه يلتجئ في آخر الأمر إلى السلطان عبد الحميد، ويتوسَّطه في كف صولة جمال الدين عنه.
ويَحْسُن أن نروي للقارئ ملخَّصًا من خبر إقامة السيد الأفغاني في البصرة، وما جرى له فيها، حسبما أشار إليه السيد نفسه في حديثه السابق.
قصَّ عليَّ أحد وجهاء طرابلس الشام الخبر الآتي، يرويه عن صديقه الشيخ عبد الحميد أفندي الرافعي، وكان متوليًا قضاء البصرة لحين نزول السيد جمال الدين الأفغاني فيها مُبعَدًا من قِبل حكومة شاه إيران. وإنما حدَّثني الوجيه الطرابلسي بهذا الحديث لأنه سمع مني وصْف الضجَّة القائمة حول أفغانية السيد جمال الدين وإيرانيته، على أثر ما نشره «محمد حسن خان» الملقَّب باعتماد الدولة، وهو من كبار موظَّفي حكومة إيران المقرَّبين لدى ملكها ناصر الدين شاه — في كتابه «المآثر والآثار» — وهو بمثابة السالنامات التي تُصْدرها الحكومة العثمانية في بلادها من وقت إلى آخر. فقد قال اعتماد الدولة: «إن جمال الدين من قرية أسد أباد من أعمال إيران، له مقام عالٍ في العلوم العتيقة والجديدة، يفتخر به أهل إيران — ولهم الحق — تعلَّمَ العلوم الشرعية في مدينة قزوين ومدينة طهران، وسافَرَ إلى بلاد أفغانستان وهندستان، ومنها إلى الممالك العثمانية ومصر. إلى أن قال: وأهل السنة والجماعة يزعمون أنه أفغاني الجنس، كما كَتَبَ كبير تلامذته أستاذ الأدب الشيخ محمد عبده في مقدِّمه رسالة الرد على الدهريين.» انتهى قول اعتماد الدولة.
وسألني سائل في بعض أندية طرابلس عن هذا القول، وعن التوفيق بينه وبين ما قاله كلٌّ من الشيخ محمد عبده وأديب بك إسحق وسليم بك عنحوري، وثلاثتهم من أصدقاء الأفغاني وممن خالَطوه طويلًا، وقد حقَّقوا أنه أفغاني الجنس، فقلت في التأويل: إنني وأنا في مصر (٩٠٥–٩٠٩م) سمعت فاضلًا إيرانيًّا أزهريًّا يروي عن شيوخ قومه أن والد السيد جمال الدين إيراني من ولاية «مازندران» إحدى مقاطَعات إيران، وكان ضابطًا في الجيش الإيراني، فارتأت حكومة إيران أن تُرْسِل ضابطها إلى بلاد الأفغان في مهمة تتعلق بالحدود بين المملكتين، أو لسبب آخر من الأسباب، فذهب الضابط إلى بلاد الأفغان وطابت له السكنى فيها، وتزوج إحدى كرائمها، ووُلِد له جمال الدين منها في بلاد الأفغان. أو أن جمال الدين وُلِد لأبيه في إيران، ثمَّ حَمَلَه أبوه معه إلى الأفغان حين ذهابه إليها. ا.ﻫ.
هذا ما قاله الإيراني الأزهري مما يَصْلُح للتوفيق بين القولين والتقريب بين الروايتين، وعلى هذا تكون تسميته جمال الدين بالأفغاني وهو إيراني كتسمية مؤرِّخي العرب للإسكندر ابن فيلبوس «الإسكندر اليوناني أو الرومي» مع أنه مكدوني، لم يولد في بلاد اليونان، ولا علاقة له بشعبها، لكنه افتتحها، وكان أستاذه «أرسطو» من فلاسفتها، ومعظم جنوده من أبنائها. ولم أسْتَتِمَّ كلامي هذا عن نسبة جمال الدين حتى انبرى الوجيه الطرابلسي المذكور، وقال ممتعِضًا منكِرًا كُلَّ ما قالوه في نسبة جمال الدين إلى إيران، وقال: إنَّ جَعْل السيد من أبناء إيران أو مواليد إيران فرية افترتها عليه حكومة ناصر الدين شاه بقصد الانتقام منه، وإن الخبر اليقين هو فيما حدَّثني به صديقي «الشيخ عبد الحميد الرافعي» قاضي البصرة، في أثناء نزول الأفغاني فيها مُبعَدًا من إيران، فهو إذن شاهد عيان.
قال القاضي: كان والي البصرة ليوم قدوم جمال الدين إليها «هدايت باشا»، وهو رجل جليل القدر كثير التقوى والصلاح، فاحتفل الوالي وأركان الولاية بالسيد وأكرموا نُزُله، وإذا بقرية (شيفرة) وردتْ إلى الوالي من المابين يسألونه فيها عن نشأة جمال الدين وأصله وفصله، وهل هو إيراني كما يزعم الشاه، فقال القاضي: فاستحسن الوالي أن يتوسَّطني لدى السيد جمال الدين فأسأله عن أصله، ومبتدأ خبره، من حيث لا أجعله يشعر بقصدي ووساطتي، ولكن ذكاء جمال الدين الخارق جَعَلَهُ ينتبه إلى الغرض من سؤالي، فبادَرَنِي بقوله إنه أفغاني الأصل والفرع، وأنه لا علاقة جنسية له بإيران ولا تابعية، وأن الشاه يشيع ذلك عنه إرادة اجتراره إلى إيران ثمَّ الانتقام منه والتنكيل به. قال (أي جمال الدين): وفي سنة ١٢٨٧ﻫ في زمن وزارة صفوت باشا للمعارف كان عيَّنه عضوًا في مجلس المعارف الأعلى بناءً على كونه أفغاني الجنس، ثمَّ قال: فليسألوا (أي رجال المابين) الوزارة المُشار إليها إن أحبُّوا.
قال القاضي: فأبلغت هدايت باشا ما قصَّه عليَّ السيد الأفغاني، فأودعه برقية شيفرة رفعها إلى المابين. قال القاضي: وبعد أن أبل السيد الأفغاني من مرضه الذي أُصيب به وهو مُبْعَد في «شاه عبد العظيم» تهيَّأ للسياحة في داخل جزيرة العرب، وهو المشروع الذي قام به بعده المرحوم «السيد عبد الرحمن الكواكبي»، غير أن الوالي هدايت باشا مَنَعَهُ عن هذه الرحلة ريثما يكتب إلى المابين ويستطلع رأي أهله فيما عزم عليه جمال الدين، فجاء جواب السلطان عبد الحميد بالحيلولة بينه وبين ما عزم عليه، فلم يَخْفَ سِرُّ ذلك على جمال الدين فطواه في كشحه، ثمَّ استأذن بالسفر إلى لندن، فاستشار الوالي المابين فأذِنوا له بإطلاق سراحه، فعجَّل جمال الدين بالسفر إلى لندن، وقد أصاب؛ لأن المابين عاد فأرسل شيفرة إلى والي البصرة بمنع جمال الدين من السفر إلى لندن أيضًا.
قال القاضي: ولما همَّ السيد جمال الدين بركوب البحر إلى لندن لم يكن في جيبه سوى عشرة جنيهات، فتعجَّب هدايت باشا من إقدام السيد وكبر همته، وتذاكَرَ مع أعيان البصرة في أمر مساعدته، فاكتتبوا له؛ الوالي بخمسين جنيهًا، ونقيب الأشراف «عبد الرحمن أفندي النقيب والد طالب باشا» بمائة وخمسين جنيهًا … وهكذا، إلى أن جَمَعُوا له خمسمائة جنيه، فسُرَّ السيد بما كان من صنيع الوالي، وشَكَرَ له عليه وقال له: أرجو أن أكافئك خيرًا جزاءَ ما صنعْتَ بي، فأجابه الوالي: كيف تكافئني وقد بلغت من الكِبرِ عتيًّا؟ أقول: وقول جمال الدين هذا يُشْعِر بما كان قد وقر في نفسه من حُبِّ هذا الوالي الصالح واحترامه الشديد له، ولولا ذلك ما قَبِلَ منه الخمسمائة جنيه التي جَمَعَهَا له من أعيان البصرة؛ إذ إن المعروف من أخلاق جمال الدين وكِبر نفسه، الاستنكاف عن قبول أمثال هذه العطايا والمِنح، وفي مثلها قال كلمته المأثورة: «الأسد أينما ذَهَبَ لا يعدم فريسته»، قالها لما أراد قنصل إنكلترا في السويس وبعض إخوانه أن يعطوه نفقة سفر إبعاده.
ووصل السيد جمال الدين إلى لندن، ولبث فيها يخطب ويكتب طاعنًا في الشاه وحكومته حتى أثَّر طَعْنُه في العلائق بين الحكومتين الإيرانية والإنكليزية. وأكثر ما كان يكتب في جريدة «ضياء الخافقَيْن» بتوقيع «السيد»، وكانت هذه الجريدة تُنْشَر باللسانين العربي والإنكليزي، وكانت تُصْدِرها شركة إنكليزية، وقد جَعَلَتْ غرضها «حصول التواصل والتعارف بين الغربيين والشرقيين». وقرأتُ في «ضياء الخافقين» مقالًا للسيد في وصْف ما كانت عليه بلاد إيران من الانحطاط وسوء الحال ختمها بقوله: «أسفًا على هذه الأمة! كيف أبادها الجور، وبدَّدها الظلم، حتى سقطت من عداد الأمم العظيمة، وكان أن يندرس رسمها، وينطمس اسمها، أين العلماء؟ وأين حملة القرآن؟ وأين حُفَّاظ الشرع؟ والقائمون بأمر الأمة؟ وأين نصراء الحق والعدل … إلخ.»
بمثل هذا القول الثائر والمحرِّض أُحْرِج الشاه وضاق صدره، فالتجأ إلى السلطان فكتب السلطان إلى سفيره في لندن رستم باشا فلم يُفلِح السفير، وأخيرًا أَفْلَحَ الشيخ أبو الهدى مذ كتب إلى السيد الأفغاني ضروبًا من الرقى، وأفانينَ من المنى. وكان السيد طيِّب القلب سليم الصدر سهل الانخداع، فوفد إلى الآستانة، وإذا القاضي عبد الحميد أفندي الرافعي كان قد انقضت مدة نيابته في البصرة، فجاء الآستانة يطالِب بغيرها. قال القاضي: زُرْتُ صديقي السيد الأفغاني، فكان أول ما سألني عنه «هدايت باشا» وكيف حاله؟ فأخبرته بوفاته، فترحَّم عليه وكلَّفني أن أبحث عن مقرِّ عائلته، وما هي حاجاتها حتى يقضيها لها، فبحثْتُ عنها وسألتها عن حالها، وإذا هي في أشد الضيق يومئذٍ؛ أرملة الباشا وابنته كانتا تسعيان لدى نظارة الحربية في تقييد ابن ابنة الباشا في سجل «الزاده كان»، أي مع أبناء الأشراف والبيوتات القديمة؛ لكي يُخصَّص له راتب، فلم تنجح شفاعتها، ولما بلغ الخبر السيد جمال الدين شفع في الولد، فقُيِّد اسمه في «الزاده كان» وعُيِّن له معاشٌ دائم ثلاثون جنيهًا، كما وُظِّف للأرملة وابنتها خمسون جنيهًا، ووُجِّهت رتبة عالية على صهرها.
وبمثل هذه الأخلاق الفاضلة والمزايا العالية كان جمال الدين جمال الدين، لا بالانتساب إلى الأفغانيين أو الإيرانيين. هذا ما كان من أمر السيد وخَبَره الذي استقيناه من فم قاضي البصرة مُذ كانا في البصرة.
٥
ونرجع إلى مجالسنا إلى السيد مُذ كُنَّا معًا في الآستانة سنة ١٣١٠ﻫ: للسيد الأفغاني كتاب في تاريخ الأفغان سمَّاه: «البيان في تاريخ الأفغان»، وقد مرَّ ذِكْرُه. إذا تصفحْتَه وجدْتَ فيه مقاطع كثيرة يُسْتَأْنَس بها، على أن السيد كان أفغانيًّا سُنيًّا، لا إيرانيًّا شيعيًّا. من ذلك قوله: «وجميع الأفغانيين سنيُّون متمذهبون بمذهب أبي حنيفة، لا يتساهلون رجالًا ونساءً وحضريين وبدويين في الصلاة والصوم، سوى طائفة «نوري» فإنهم متوَغِّلون في التشيع، ولهم محاربات شديدة مع جيرانهم السنيين، ولا يُبالون بالصلاة والصوم، وإنما يهتمُّون بأمر مأتم الحسين — رضي الله عنه — في العشر الأُوَل من محرم، ويضربون ظهورهم وأكتافهم مكشوفة بالسلاسل.» ا.ﻫ.
ولو كان الأفغاني إيرانيًّا لكانت لهْجته في التحدث عن سنيَّة الأفغانيين وتشيُّع بعض طوائفهم غير هذه اللهجة، ولكان أَفْرَغَ كلامه في أسلوب آخر يَعْرِفُه كل من قرأ كتابات الفريقين السنة والشيعة إذا تكلَّموا عن حوادثهم وسردوا من أخبار تاريخهم ونشوء فِرَقهم ونِحَلِهم. وألذُّ ما يجد القارئ في تاريخ الأفغاني وصْف السيد الأفغاني فيه لقبائل الأفغان وعاداتهم وأخلاقهم، وتقاليدهم في أفراحهم وأتراحهم، مما يدلُّ على لطافة طَبْع السيد وحبه للمزاح والدعابة، مثلما رَوَوْا عن جدِّه سيِّدنا علي بن أبي طالب — رضي الله عنه، من ذلك قوله: وقلَّما يوجد البصل عند بعض القبائل كقبيلة «يوسف زائي» وقبيلة «أجيك زائي»، فتجدهم إذا رأوا أجنبيًّا يتملَّقون إليه، ويتذلَّلون بين يديه، قائلين: «عندنا مريض، فنرجوك أن تتفضل عليه ببصلة عسى أن يكون شفاؤه فيها.» وإن قبيلة «أجيك زائي» كثيرًا ما يتعرَّضون للقوافل إرادة السلب والنهب، يسدُّون طريقها، ويقابلونها بالأسلحة النارية والآلات الحادة، فإذا لم يُمْكِنهم أن يتغلَّبوا عليها صالحوها على أقة أو أقتين من البصل. واتفق أن ملك الأفغان «محمد أعظم خان» بعدما ترك البلاد الهندية وَفَدَ على قبيلة «يوسف زائي»، ونزل في خيمة خانها، فقام الخان مسرعًا وعلى وجهه لوائح الفرح وإذا به يقدِّم للأمير بصلة.
وكان السيد جمال الدين — رحمه الله — يزيدنا على ما تقدَّم كثيرًا من وقائعه وشئوناته الخاصة، ومن تاريخ الأفغان وطباع أهلها، ولَمَّا تساءلنا في المجلس السابق عن كلمة «الحضجر» التي وَصَفَ بها الإنكليز قلت له: لعلَّ بلاد البلوجستان الواقعة في جنوب الأفغان سَلِمَتْ من ابتلاع الحضجر لها، فضحك وقال: تكاد أن تَسْلَمَ، ثمَّ سألناه عن تلك البلاد وعمَّا إذا كانت جزءًا طبيعيًّا من بلاد الأفغان، وإننا لنراها مخططة في المصورات الجغرافية ولكنَّا لا نسمع لها ذِكرًا، ولا في مداولات العالم السياسي رِكْزًا، حتى كأنها خرجت من الدنيا وهي فيها؟ فأجاب السيد: «إن البلوجستان بلاد قاحلة وسهوب مرملة، وإن أهلها في حالة بداوة وخشونة زائدة، وهذا ما ساعَدَها على الاحتفاظ باستقلالها في الجملة، اللهم إلا بعض مناطق منها تابعة لبلاد الأفغان، وبعضها الآخر خاضع لإيران، وللإنكليز فيها بعض المراكز، وقد مدُّوا منها سكة حديدية إلى بلاد الهند، والذي زهَّدهم فيها قلة الاستفادة منها، وذلك لرداءة هوائها وقحول أرضها.» وما قاله السيد الأفغاني عن البلوجستان إنما كان في سنة ١٨٩٢.
•••
وأفاض السيد يومًا في وصف رحلته إلى أوروبا وما شاهَدَهُ في عواصمها الكبرى، وجعل يفاضل بين هذه العواصم، فقال: إن عاصمتَي الروسيا والنمسا «بطرسبرج وفيِنَّا» كباريس في رونق الحضارة وتزايين العمران، وقال: إن فينَّا أكبر من الآستانة، فانتهزْتُ قوله هذا وجررْتُه إلى الحديث عن العالم الإسلامي، وما يُرجى له من ارتقاءٍ ونهوض، وقلت له: إن الآستانة اليوم ليست كما كانت منذ ثلاثين سنة، كانت متأخرة في عمرانها من عدة وجوه، ثمَّ ما زالت تتدرج في الحضارة واصطناع وسائل العمران، حتى قَطَعَتْ شوطًا بعيدًا في ذلك، فالمسلمون إذن دخلوا في دور الانتباه واليقظة، وضرورة الأخذ بمدنية أوروبا، ومقوِّمات حضارتها المساعدة على القوة، وبدءوا ذلك في عاصمة خلافتهم، كما هو الحال في كل قوم انتبهوا وأرادوا النهوض من نومهم الطويل، وأرى أنه لا يمضي عليهم زمن حتى يبلغوا في تَقَدُّمهم ما بَلَغَتْه أمم أوروبا.
فلم يُعْجِب السيد هذا التفاؤل المرح الذي آنسه في كلامي، وقال: إننا معشر المسلمين إذا لم يؤسَّسْ نهوضُنا وتمدُّننا على قواعد ديننا وقرآننا فلا خير فيه، ولا يمكن التخلص من وصمة انحطاطنا وتأخُّرنا إلا عن هذا الطريق، فقلت له: ولكن ألا ترى أيها السيد فرقًا بين حالتنا اليوم وحالتنا منذ ثلاثين سنة من حيث الرُقي والأخذ بأسباب العمران مما يصحح لنا القول بأننا قد تقدَّمنا تقدُّمًا ملموسًا؟
فقال: إن ما نراه اليوم من حالة حسنة فينا هو عين التقهقر والانحطاط.
– ولِمه؟
– لأننا في تمدُّننا هذا مقلِّدون للأمم الأوروبية، وهو تقليد يَجُرُّنا بطبيعته إلى الإعجاب بالأجانب، والاستكانة لهم، والرضى بسلطتهم علينا، وبذلك تتحول صبغة الإسلام التي من شأنها رفْع راية السلطة والتغلب، إلى صبغة خمول وضعة واستئناس لحكم الأجنبي، فقلت: وما هي الطريقة القويمة التي ترى أن نسلكها لنتوصل إلى التمدُّن الصحيح حسب اعتقادك؟
– لا بُد من حركة دينية.
– زدني إيضاحًا في معنى الحركة الدينية.
– إننا لو تأملنا في سبب انقلاب حالة عالَم أوروبا من الهمجية إلى المدنية نراه لا يتعدى الحركة الدينية التي قام بها «لوثير» وتمَّت على يده، فإن هذا الرجل الكبير لما رأى شعوب أوروبا زلَّت وفقدَتْ شهامتها من طول ما خضعتْ لرؤساء الدين، ولتقاليد لا تمتُّ بصِلة إلى عقل أو يقين، قام بتلك الحركة الدينية، ودعا إليها أمم أوروبا بصبرٍ وعنادٍ وإلحاحٍ زائدين، فأصلح بذلك أخلاقهم، وقوَّم اعوجاجهم، وطهَّر عقولهم، ونبَّههم إلى أنهم إنما وُلدوا أحرارًا، فلماذا استعبدهم المستعبدون؟
- (١)
الطباعة، وكان ظهورها سنة ١٤٥٠م، وجعلها بعضهم أهم العوامل حتى قال: إن الطباعة قَلَبَتْ وَجْه الأرض وغيَّرت أحوال من عليها.
- (٢) فتح القسطنطينية (سنة ١٤٥٣م) من قِبل الأتراك العثمانيين، وهجرة المثقَّفين من أبنائها البيزنطيين، وانتشارهم في أوروبا وخاصة إيطاليا؛ حيث ظهرت النهضة التي يعبِّرون عنها باسم Renaissance.
- (٣)
اكتشاف رأس الرجاء الصالح سنة ١٤٨٦م، وبذلك اتَّصل الغرب بالشرق، وتهيَّأت للظهور نهضة اقتصادية عالية.
- (٤)
اكتشاف أمريكا من قِبل «كريستوف كولومب» عام ١٤٩٢م.
فالعوامل الخمسة بما فيها الإصلاح البروتستانتي هي المؤثِّر المباشر في ظهور مدنية أوروبا، وقد وقعتْ هذه العوامل خلال سبعين سنة ١٤٥٠–١٥٢٠م، يعني أنَّ قَلَق الأوروبيين وعدم رضائهم عن حالتهم التي كانوا عليها، ووثوبهم لالتماس أسباب الرقي والمدنية، كل ذلك كان في القرن الخامس عشر، أي بعد انتهاء الحروب الصليبية بنحو مائتي سنة، فهل يُعقل ألَّا يكون لهذه الحروب علاقة بنشوء تلك العوامل الخمسة. لا جرم أن مخالطة الأوروبيين للمسلمين في عُقر دارهم «سورية» أكثر من قرن ونصف، عدا مخالطتهم لهم في الأندلس مئات من السنين، هذا كله نبههم إلى سوء حالتهم؛ فهبُّوا إلى تغييرها بمختلف الوسائل التي منها العوامل الخمسة. إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (قرآن كريم). وشيخنا الأفغاني كان همُّه المُلِحُّ أن يغيِّر المسلمون ما بأنفسهم من رثاثة تقاليد وغثاثة أخلاق بالرجوع إلى القرآن وتعاليمه، وجعْله (أي جعل القرآن) روحًا للحركة الدينية التي دعا المسلمين إليها، وجَعْل معوله في تقدمهم ورقيهم عليها.
ثمَّ رأيت أن أستزيد شيخنا الأفغاني تحديثًا عن الحركة الدينية التي ذَهَبَ إلى أن نهوض الأمة الإسلامية متوقف عليها، فقلت له: إن ما قُلْتَه أيها السيد عن الحركة الدينية الأوروبية، وما كان من حاجة أهلها إليها لا يهمُّنا بقدر ما يهمُّنا أن نعرف نحن معشر المسلمين ما إذا كان مثل هذه الحركة مما نحتاج إليه في نهضتنا وإصلاح ما تشعَّث من أحوالنا؛ إذ إن هناك فرقًا بيننا وبين الفريقين من حيث الحاجة إليها. إن سوء الحالة الروحية في قارة أوروبا وضغط التقاليد عليهم، وأخْذ رجالها بأكظامهم، كل ذلك ساق «لوثيروس» إلى الصخب، وإثارة الشغب، ورفْع الصوت بالدعوة إلى الإصلاح الديني الذي ترجمْتَ عنه أنت بالحركة الدينية.
أما المسلمون فدينهم ما في القرآن، وهو محفوظ من التغيير والتبديل، وليس من شأنه أن يضغط على نفوسنا ولا أن يعطِّل حريتنا، وهو جدير بأن يكون سببًا لسعادتنا وجمْع كلمتنا في هذه الأزمنة الحاضرة، كما كان سببًا لسعادة أسلافنا وجمْع كلمتهم الغابرة. ومن ثَمَّ لم أفهم معنى الحاجة إلى «الحركة الدينية» التي تدعو إليها، فأجاب: إن حركتنا الدينية هي كناية عن الاهتمام بقلع ما رَسَخَ في عقول العوام ومعظم الخواص مِنْ فهْم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها، مثل حملهم نصوص القضاء والقدر على معنًى يوجب عليهم أن لا يتحركوا إلى طلب مجدٍ أو تخلُّصٍ من ذُلٍّ، ومثل فَهْمهم لبعض الأحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان أو قُرْب انتهائه فهمًا يثبِّط هِمَمهم عن السعي وراء الإصلاح والنجاح في نظير ذلك مما لا عهد للسلف الصالح به، فلا بدَّ إذن من بعث القرآن وبث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور، وشرْحها لهم على وجهها الثابت، من حيث يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة.
قال: ولا بدَّ أيضًا من تهذيب علومنا، وتنقيح مكتبتنا، ووضْع مصنَّفات فيها قريبة المأخذ سهلة الفهم، فنستعين بتلك الكتب والعلوم التي تضمنتها على الوصول إلى الرقي والنجاح، ومن الخطأ أن نجعل هذه العلوم مقصودة لذاتها، كعلم النحو والبلاغة مثلًا، وهي إنما وُضِعت لتكون وسائل لغيرها، فالطالب ينفق معظم سني حياته في الاشتغال بالنحو والبلاغة وحِفْظ مسائلهما، ثمَّ نراه بعد هذا كله لا يقدر على إنشاء مقالة يعبِّر بها عما يقوم في نفسه من الأفكار والآراء. وهنا أفاض السيد في نقد طريقة اشتغالنا في العلوم الموروثة والإطالة فيها على غير طائل، حتى اهتدى الأجانب عنَّا إلى لُبَاب تلك العلوم، وترتيب فصولها وأبحاثها، ثمَّ استعانوا بها على تقويم اعوجاجهم ولمِّ شعثهم، وتركونا وراءهم نتخبط في مَهَامِهِ الحيرة وفيافي الجهالة، ونحن في غفلة عنهم، غير ميَّالين بما تجرُّه غفلتنا علينا من الضعف وفقْد العزة القومية، فلا بدَّ إذن من «الحركة الدينية». ا.ﻫ ما قاله السيد الأفغاني في تفسير معنى حركته الدينية أو الإصلاح الديني، ورُوح هذا الإصلاح الرجوع إلى القرآن وحده كما قال أوَّلًا، ثمَّ فهمه فهمًا صحيحًا حرًّا، وذلك يكون بتهذيب علومنا الموصلة إليه، وتمهيد الطريق إليها، وتقريبها من أذهان متناوليها من أبنائنا وطُلَّاب العلوم فينا.
٦
ومن مُلَح أخبار السيد الأفغاني بعد جيئته الثانية إلى الآستانة أن سمو خديوي مصر عباس حلمي كان فيها، فمرَّ يومًا وهو يتنزَّه بالكاغدخانة، وهي أشهر مفترجات الآستانة ومتنزهاتها، فقيل له: هذا السيد جمال الدين الأفغاني في المتنزه، وحوله أصدقاؤه وخلص إخوانه. وكان الخديوي يحب أن يرى الأفغاني ويجتمع به، غير أن اجتماع مثليهما لعهد عبد الحميد كان من الصعوبة بمكان، فاكتفى الخديوي برفع يده مشيرًا بالسلام إلى السيد جمال الدين ومَنْ حَوْله، فوقفوا له وحيَّوْه من بُعْد، واستمر الخديوي آخذًا طريقه، فلم يلبث الجواسيس أن رفعوا تقاريرهم إلى السلطان يصفون فيها ما يُتَوَقَّع من الضرر للملة في هذه المقابلة بين الخديوي والأفغاني، ولم يقفوا عند حدود الحق والواقع، بل تخطَّوْها — كما هي شنشنتهم — إلى القول بأن الخديوي خلا بالسيد الأفغاني ثَمَّ (أي في الكاغدخانة)، وتحادَثَا طويلًا في شئون الخلافة، وما يجب أن يكون مستقبلها، إلى غير ذلك من الأكاذيب.
فلم يكن بأسرع من أن استدعى السلطان السيد جمال الدين إلى قَصْره، وأَطْلَعَهُ على تلك التقارير، فقرأها السيد وتَبَسَّم، وقال له بأنه لم يجتمع بالخديوي ولا كلَّمه، وإنما أشار إليه الخديوي وإلى مَنْ حوله وهو في عربته بالسلام. ثمَّ قال السيد للسلطان: إن نبيَّنا ﷺ كان له من صحابته جماعة يخبرونه بما ينبغي أن يعرفه من أخبار الناس، وما يجري بينهم من شئون وحوادث، لكنه ﷺ ما كان ليأتمن على هذا العمل إلا من توفَّرت فيه الخلال الحسنة؛ كالصدق والإخلاص وسلامة الوجدان وحُسْن القصد، لا أمثال جواسيسك الذين حولك، فضحك السلطان ووافَقَهُ على ما قال، ومزَّق التقرير بين يديه.
وكان للسيد جمال الدين جرأة ودالة على السلطان لم تُعْهَد لغيره. وحدَّثني صديق صادق من أدباء دمشق أنه سمع من المرحوم «مصطفى باشا القنواتي» أنه كان للسيد جمال الدين صديقٌ يعزُّ عليه من المصريين، فالْتَمَسَ السيد من السلطان رتبة وزيادة في الراتب لهذا الصديق، فوعده السلطان بذلك، ومَضَت أيام على هذا الوعد، فكتب إليه يستنجزه وَعْده، فلم يأتِ الكتاب بنتيجة أيضًا، فاحتدَّ جمال الدين، وكان حديدَ المزاج، حتى قال فيه الشيخ محمد عبده: «وطالما هَدَمَت الحدة ما بَنَتْه الفطنة»، واستأذن السيد على السلطان فأَذِنَ له، فدخل عليه ووقف أمامه منتصبًا على رِجْلَيه وقد بَدَتْ عليه آثار الانفعال، وقال بصوت متهدج: أمير المؤمنين كسر قلبي، أمير المؤمنين كسر قلبي.
فلاطَفَهُ السلطان وهَدَّأَ خاطِرَه، وسأله عن الأمر الذي أَزْعَجَ باله، فلما أخبره به قال: إن هذا أمر طفيف ما كان ينبغي أن تغتاظ من أجله إلى هذا الحد، ثمَّ أمر بالرتبة وزيادة الراتب للمصري حسب طلب السيد، ولما خرج جمال الدين من هذه المقابلة ناوَلَهُ الحاجب كيسًا فيه خمسمائة ليرة عثمانية ذهبًا. وقد ذَكَرَ هذه الحادثة بعضُ مَنْ تَرْجَمَ للسيد جمال الدين وقال: إن السلطان لما رأى انفعال جمال الدين وسأله عن سببه، أجابه السيد قائلًا: «إنما أتيتك لأستميح جلالتك أن تقيلني من بيعتي لك؛ لأني رجعت عنها»، وقد استبعد محدِّثي بالحديث هذه الروايةَ كُلَّ البعد، وأن يكون جمال الدين ممن تبلغ به الحدة إلى هذا الحد، وإنما الخبر الحق ما قاله القنواتي باشا الذي ربما كان سمعه من لفظ عزت باشا العابد في الآستانة، وكان لا يفارق مجلسه، كما كان عزت باشا لا يفارق مجلس السلطان.
ولما كان السيد في روسية أَحَبَّ القيصر أن يراه، فاستدعاه إليه، فكان مما سأله عنه كُرْهه لشاه إيران، والسبب في هذا الشقاق الناشب بينهما، وقياصرةُ الروسية وحكوماتها يهمُّهم جدًّا أن يعرفوا أسرار سياسة إيران وخفايا أحوالها الداخلية، فشرح السيد للقيصر بسذاجة الطفل سوء حالة إيران، وخرَق ملكِها واستبداده برعيته، وأنه نصح له بأن يُدخل الأنظمة الدستورية، والتراتيب الشوروية إلى مملكته، فأبى الشاه عليه ذلك، وامتعض من جمال الدين، وعَمِلَ على إخراجه من بلاده، قال: وهذا هو سبب الشقاق.
ولما سمع القيصر هذا من جمال الدين تمعَّر وجْهُه وكلح، وقال له: الْحَقُّ مع الشاه، وأيُّ ملك يرضى أن يتحكم فلاحو مملكته في مُلْكِه؟ فسكت السيد، وكان لا يَعْدَم جوابًا على ما قاله القيصر لو فُسِحَ له المجال؛ لأن القيصر أعرض عنه وتَقَدَّمَ إلى شحنة مملكته بأن يعملوا على إخراج جمال الدين من بلاده من فورهم.
وحدَّثني صديقٌ آخر من أعيان دمشق بلطيفة من لطائف السيد الأفغاني مع جواسيس السلطان قال: إن سيادة شريف مكة غضب على أحد المكيين المقيمين في الآستانة، وخشي هذا المكِّي على نفسه من تعقُّب الشريف له، فالْتَجَأَ إلى منزل السيد جمال الدين معتصمًا به، فطمأنه السيد وهدَّأ روعه؛ غير أن اعتصامه هذا خَلَقَ للجواسيس شغلًا يستغلونه ويشتغلون به، فجعلوا يطوفون بمنزل السيد ويراقبون اللاجئ المذعور، فكان السيد يَرِقُّ له ويصحبه في عربته أحيانًا إلى مفترج «الكاغدخانة» الذي ذكرنا أنه كان يلم بها للنزهة.
فقيل له يومًا: أَبْعِدْ عنك هذا الرجل (يعنون المكي اللاجئ إليه)، وأَرِحْ نفسك من مضايقة الجواسيس لك بسببه، فأجابهم متعجِّبًا: ما لي وللجواسيس! هؤلاء سفراء الدول إذا لجأ إليهم لاجئ حَمَوْهُ من كل أحد حتى من هؤلاء الجواسيس، وأنا «سفير الله» في هذا البلد، أفلا ينبغي أن يُطْرَد هؤلاء الجواسيس عَنِّي كما طُرِدوا عن سفراء البشر؟!
وسأل بعض المتحذلقين من طلاب العلوم الدينية السيد الأفغاني عن الإيمان: هل يزيد وينقص أو لا؟ فقال: «أمَّا الإيمان في القرى فلا يزيد ولا ينقص، وأمَّا في العاصمة فيزيد وينقص في كل ساعة، كإيمان السلطان عبد الحميد الذي يحيط به هؤلاء الجواسيس.» وكأن السيد في مقاله هذا يريد أن يقول: إن حالة السلطان الروحية تبقى مضطربة غير مستقرة على حالٍ ما دام هؤلاء الجواسيس حوله يخبرونه بما يقوِّي ثقته تارة ويضعفها تارة أخرى، فإذا صَدَّقَهُم نَقَصَ إيمانه، وإذا لم يُصَدِّقْهم زاد.
ولعل التنبيط مأخوذ من اسم «النبط» وهو جيل معروف، ومعظمهم يشتغلون بالفلاحة، فيكون في طباعهم خشونة وجفاء، فمعنى نبط عليه: كَلَّمَهُ كلامًا خارجًا عن اللياقة يُشْبِه كلام الأنباط.
وقد عُرِفَ من رأي السيد الأفغاني أنه يجوِّز استعمال الدخيل واللفظ الأعجمي في الكلام العربي، حتى روي عنه أنه قال: إذا أردتم استعمال كلمة غير عربية، فما عليكم إلا أن تُلْبِسُوها كوفية وعقالًا فتصبح عربية. وقد كنَّى بالكوفية والعقال عن التعريب، فكما أن الرجل الأعجمي إذا أَلْبَسْتَهُ لبوس العرب يصبح عربيًّا في ظاهره، كذلك الكلمة الأعجمية، إذا عَرَّبْتَهَا؛ أي أَلْبَسْتَها صِيَغ الكلمات العربية تصبح عربية جائزةَ الاستعمال، وهذا من السيد توسُّع بعيد في استعمال الكلمات الأعجمية، يَقْبَلُه بعضهم ويردُّه آخرون. وروى صديقُنا الأمير شكيب أرسلان — رحمه الله — أن السيد جمال الدين قال في قول الله عز وجل: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا أن «جد» معرَّب «كد»، ومعناه العرش بالفارسية أو الهندية.
ومن أشهر آراء السيد جمال الدين التي تتعلق بأبحاث اللغة ما رواه الأستاذ اللغوي المرحوم الشيخ عبد الله البستاني من أن السيد قال في هجو بعض البلداء: هذا رجل من نسل البقروت، قال: فعابوا عليه استعمال كلمة «البقروت»، فأجابهم: ألا تقولون جبروت ورهبوت وملكوت؟ فلماذا تمنعون عني قول «بقروت»؟ فاعترضوا عليه بأن البقروت لم تَرِدْ في كلام العرب، فقال: وهل تريدون مني أن أنكر نفسي. ا.ﻫ.
وقد علَّق الأستاذ البستاني على ما قال الأفغاني مستحسِنًا، وعلَّق الأب أنستاس الكرملي على قوليهما مفنِّدًا مستهجِنًا، وعلَّقْتُ أنا على أقوال الثلاثة في مقال نُشِر في مجلة مجمعنا العلمي العربي (جزء ٨ صفحة ٦٢٦) موافقًا في شيءٍ ومخالفًا في شيءٍ. ومما لاحَظْتُه على شيخنا الأفغاني أنه جَعَلَ بقروت مصدرًا، بدليل حَمْلِه لها على «جبروت» و«رهبوت» و«ملكوت» وهي مصادر، ولا يصح أن تكون «بقروت» مصدرًا في العبارة التي قالها، إذ لا يُقال: فلان من نسل البقرية، وإنما يُقال فلان من نسل البقر، والبقروتُ ليست بمعنى البقر، حتى قرأْتُ أخيرًا للمرحوم المخزومي باشا أن عبارة جمال الدين هي «سياسة بقروتية في مملكة فرعونية»، ولما اعترضوا عليه أجاب: كيف يصح قولُهم ملكوت وجبروت، هكذا يصح عندي بقروت، والسلام. ا.ﻫ.
إذن لا غبار على ما قاله السيد في عبارته المذكورة، فإنه إنما استعمل «البقروت» فيها مصدرًا لا جمعًا، كأنه قال سياسة بقرية، وكأن من روى الخبر للأستاذ البستاني إنما رواه مِنْ حِفْظه، لا نقلًا عن المخزومي باشا في كتابه «خاطرات جمال الدين».
٧
مرَّ في صدر الكتاب أني كنت أنا والأستاذ رشيد رضا شريكين في التعلُّق بالسيد الأفغاني وتتبُّع أخباره وتدوين آثاره، ولما ودَّعْتُ الشيخ رشيد ميمِّمًا شطْر الآستانة سنة ١٣١٠ﻫ/١٨٩٢م، كان أول ما أوصاني به أن أَقْصِد إلى السيد الأفغاني وأبلِّغه تحيته وإخلاصه في حبه، وأن أكتب إليه بكل ما أرى وأسمع من أحواله وأطواره. واتفق أن تَأَخَّرَ لقياي السيد بعد وصولي إلى الآستانة لأسباب عَرَضَتْ يومئذٍ، وكتبت بذلك إلى الصديق «الشيخ رشيد»، فجاءني أولُ كتاب منه مؤرخ في ٩ جمادى الثانية من تلك السنة (أي سنة ١٣١٠ﻫ)، قال فيه بعد أن أسهب في وصف رحلةٍ قام بها من بلده «القلمون» — على مقربة من طرابلس الشام — إلى بيروت، وهي أولى سفراته إليها، ولم يكن قَبْلُ شَاهَدَ ذلك السِّيف الجميل — سيف البحر الممتد بين طرابلس وبيروت — وما انتثر عليه من قرًى ومزارع وخمائل ومناظر خلابة.
وَصَفَ الشيخ رشيد ذلك كله في كتابه إليَّ بأبلغ قول وأَمْتَع أسلوب، وقال في خلال الوصف ما نصه: «إذا أسعدكم البخت أو أكسبكم السعيُ التشرفَ بلقاء حكيم الوقت السيد جمال الدين، فإنه ربما يسألكم عن سورية ولبنان لا عن أوروبا أو بلاد الروم، وإذا سأل فهو يسأل عن الفتيل والنقير والقطمير.» كأن الصديق — رحمه الله — يريد أن يدل عليَّ في وَصْف هذا المسير إلى جبل لبنان، وأن ما قاله سيكون لي مادة أُتْحِفُ بها السيد جمال الدين حين اجتماعي به، أو أن أقرأ عليه كتابه بجملته. وما كان أشد إعجاب الشيخ رشيد بكتابه هذا، ومعه الحق في ذلك، فإن الكتاب طرفة أدبية تاريخية تهمُّ لبنان وساكنيه أكثر من غيرهم، ولعلنا ننشره برمته في بعض المجلات.
ثمَّ قال الشيخ رشيد في آخر كتابه: «اعتذرتم عن تأخير المكاتيب بانتظار الاجتماع بهذا الرجل العظيم، (يريد السيد الأفغاني) لتخبرونا عمَّا تشاهدونه منه، وما تقفون عليه من شأنه، لِمَا تعلمون له عندنا من المكانة التي لم يَحُلَّها من الناس أحد سواء، فنِعْم الاعتذار وحبذا الشفيع، ونرجو الآن أن تكونوا اجتمعتم به، وصرتم من المحسوبين عليه، وأنكم تُوَافُونا قريبًا بما يشرح الصدر من أخباره، ويقر العين من آثاره، ولا نشك بأنكم إذا صار لكم مع سيادته لسان ينطق تخبرونه عن أخيكم بأنه مستغرق في حبه، راجٍ للسعادة بقربه، له لسان لا ينفك يهتف بالثناء عليه، ويتمنَّى أن يتمثَّل للخدمة بين يديه، حيث تعرفون ذلك منَّا حق المعرفة، ولا أراك تذهل عن إفادتي، هل يمكن لأمثالنا ملازَمته إن جئنا الآستانة أم لا؟» ا.ﻫ.
وفي نفسي أن أكَاتِب حضرة السيد، وأطلب منه ما كلفتكم بعرضه عليه أيضًا (أي ملازمته)، فإن أجاب بالقبول فإنني أجتهد كل الاجتهاد في الحضور لطرفكم، وإن أبى «السيد» عليَّ، فإنني أجتهد بعض الاجتهاد في المجيء لنتشرف بزيارته، والتيمُّن بمشاهدة غرَّته المباركة، هذا إذا بقيتم في الآستانة، وإن حضرتم إلى طرابلس قريبًا، فإننا نتذاكر في الإيجاب، وأقل ما يناجيني به ضميري من الفائدة في الكتابة إلى «السيد جمال الدين» قول الشاعر:
أظنُّكم لم تسألوا حضرة «السيد» عما وَعَدَ به في رسالة إبطال مذهب الدهريين، من تأليف رسالتين وافيتين؛ إحداهما في الرد عليهم (أي على الدهريين)، والأخرى في مدنية الإسلام.
انتهى ما بعث به الشيخ رشيد إلينا، وقد عتب فيه علينا مُذ أبدلنا كلمة التردد بالملازمة، ولعلنا تَصَرَّفْنا في الكلمتين تصرُّفًا مقصودًا اقتضاه الحال في ذلك الوقت.
ولما جاءني هذا الكتاب الثاني من الشيخ رشيد زُرْتُ السيد جمال الدين وأَطْلَعْتُه على الكتاب أو ذَكَرْتُ له خلاصته، لا أردي أي ذلك كان، فعاد السيد إلى الثناء على الشيخ رشيد وشدة اهتمامه بأمر الإسلام والمسلمين، وقال لي إن الشيخ رشيدًا أرسل إليه أيضًا كتابًا خاصًّا، فرجوت من السيد إذ ذاك أن يكتب إليه جوابًا بخطه ويسلِّمني إياه لِأُرسله إليه، فاعتذر بعدم وجود ورق وأقلام لديه. أقول: وعدم وجود الورق إمَّا لأن السلطان عبد الحميد لا يريد ذلك كما قيل لي، وإمَّا لأن السيد لا يُعْنَى بالكتابة ولا يَأْلَفُها، وكل ما اعتاده أن ينثر كلامه على من حوله نثرًا، فيلتقطوه مرجانًا ودُرًّا، لكنني خوفًا من عتب الشيخ رشيد أَلْحَحْتُ على السيد الأفغاني بأن يكتب إليه جوابًا مختصَرًا بقلمه البليغ، وكنَّا إذ ذاك وقوفًا، وكأني الساعةَ أتمثَّل السيد منتصِبًا في بهو المسافرخانه ويداه على كتفي، وهو يبتسم ويعتذر عن الكتابة إلى الشيخ رشيد ويقول لي: أنت القلم الأعلى والكاتب البليغ، ولك أنت أن تنوب عني بإبلاغ سلامي وتحياتي إليه.
ثمَّ انصرفْتُ من مجلس السيد، وكتبت إلى الشيخ رشيد رحمه الله بما قُلْتُه له وبما قاله لي، وباعتذاره عن الكتابة إليه، واثقًا بأني أنوب عنه في الجواب حينما نلتقي في طرابلس، وهكذا وَقَعَ.
٨
هذا، ولنختم الكلام عن شيخنا الأفغاني ببحث من أوصافه، أرجو أن يستطرفه القراء، وأن يَجِدُوا فيه متعة وفائدة؛ ذلك أنني كنت أَعْمَلْتُ المقارنة بين المؤرِّخ ابن خلدون وبين السيد جمال الدين، بمناسبة ما كتبه الكثيرون من الكُتَّاب المعاصرين حول المُقَارَنة أو المشابهة بين ابن خلدون وغيره من فحول الكتاب والفلاسفة الأقدمين؛ مثل أرسطو وأبي العلاء المعرِّي ومونتسكيو وأوغست كونت وميكيافلي وسبنسر، وتفصيل هذه المقارَنة وبيان وجْه الشبه فيها بين ابن خلدون وبين هؤلاء العظماء مبسوط في المدوَّنات المعاصِرة التي خصَّها كُتَّابنا بترجمة المؤرخ العربي الكبير، ولكن ألا يخطر بالبال أن يكون ابن خلدون مشابهًا لواحدٍ من فلاسفتنا الشرقيين المعاصرين؟
نعم، إن ابن خلدون يشبه — ولا ريب — فيلسوفًا مسلمًا سياسيًّا ثائرًا عصريًّا، ألا وهو أبو الثورات، السيد جمال الدين الأفغاني؛ لا من وجْه واحد، بل من عدة وجوه:
درس كلٌّ منهما العلوم الإسلامية، ثمَّ تفوَّق على شيوخ زمانه بمهارته في الحكمة والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع، وترغيب المسلمين في دراستها والاستفادة من حقائقها.
كان كلٌّ من الرجلين يشتغل بالسياسة ويحرص على الرئاسة.
كان كلٌّ منهما سليمَ الصدر، سهل الاستمالة، طاهر القلب، ظاهِرُه وباطِنُه سواء، كما كان كل منهما متسرِّعًا حديد المزاج؛ فابن خلدون وَصَفَهُ صديقه وزير الأندلس «لسان الدين بن الخطيب» بأنه بعيد عن التأني، وقال: إن هذا الخُلُق هو السبب في نكباته، وتحامُل رجال الدولة عليه.
وبمثل ذلك وَصَفَ الشيخُ محمد عبده جمالَ الدين، فقد كانا معًا في باريس ينشئان جريدة «العروة الوثقى»، ويسعيان في تحقيق التعاون والتَّفاهم مع أقطاب السياسة الأوروبية من أجل الوصول إلى بعض أماني الشرقيين. لكن جمال الدين كان يحتد أحيانًا أثناء المناقَشة مع رجال السياسة كغلادستون مثلًا، ويَنْتج عن حِدَّته وتسرُّعه انهيارُ ما كانا أسساه، حتى قال الشيخ عبده في وصْف حِدَّة جمال الدين: «وطالما هَدَمَت الحدة ما بَنَتْهُ الفطنة.»
كان كلٌّ من ابن خلدون وجمال الدين يُعمِل عَقْلَه في فَهْم تعاليم الإسلام مستقلًّا مجتهدًا، لا متابعًا مقلِّدًا، وكان كلٌّ منهما يُعْنَى في توفير مصالح المسلمين العامة، ويحرص على إصلاح الجماعات الإسلامية من طريق التوفيق بين أصول الإسلام الصحيحة وبين قواعد علم الاجتماع التي ظَهَرَتْ فائدتها في إصلاح شئون البشر وانتظام أحوال الجماعات، وإن حرص الفيلسوفَيْن «ابن خلدون وجمال الدين» على تطبيق فِكْرَتِهما هذه في العالم الإسلامي من دون تقيَّة ولا جمجمة، وكذا مقاومتهما للخرافات والتقاليد الملصقة بالدين. كل ذلك أثار في وجههما الخصوم، وأَوْجَدَ لهما حُسَّادًا منافسين في كل بلدٍ نَزَلَا فيه، أو بلاط ملكي استدعاهما صاحبه إليه.
فما أشبه حالة ابن خلدون في بلاط غرناطة وفاس وتونس والقاهرة منذ خمسة قرون بحالة جمال الدين في بلاط كابل وطهران والقاهرة والآستانة في عصرنا الحاضر.
وإن كان السيد الأفغاني قد ابتلاه الله من الشيوخ الجامدين بالشيخ عليش، الذي كان يحمل عكازته ويروغ بها على السيد وتلاميذه وهم يدرسون الفلسفة في زوايا الأزهر؛ فإن ابن خلدون ابتلاه الله وهو في تونس بشيخٍ جامدٍ أيضًا، وهو «ابن عرفة» الذي كان يحسد ابن خلدون على إعجاب الناس به وإقبال الطُلَّاب على حلقة دَرْسه، حتى قال ابن خلدون نفسه: إن ابن عرفة هذا كان يسعى به لدى حكام تونس ويغريهم بتغريبه والبطش به.
عَرَضَ «بترو» ملك الإسبانيول على ابن خلدون أن يُرِيح نفسه من العناء، ويُقيم عنده، وهو في مقابل ذلك يُغْدِق عليه من زهرة الحياة الدنيا ما تقرُّ به عينه وينعم عيشه فأبى، وكذلك السلطان عبد الحميد عَرَضَ على جمال الدين أن يريح نفسه من عناء السياسة ومقاوَمة خصومه، وهو في مقابل ذلك يُفْرِد له قصرًا مجهَّزًا بأثاثه ورياشه وخدمه، ويزوِّجه إحدى وصيفات يلدز، فأبى عليه ذلك، وقال: إنه لو فَعَلَ لاستُغْرِبَ منه، كما يُسْتَغْرَب من الشيخ عليش المغربي إذا جلس مع تلاميذه في أحد مشارب الأزبكية.
عاش ابن خلدون في أشد أزمان العالم الإسلامي إظلامًا من الوجهة الاستقلالية والسياسية، فكان كنجمٍ أنار تلك الظلمات ثمَّ أَفَلَ.
كان حنيفًا مسلمًا شديد الغيرة على دينه ومُلْك قومه، وقد رأى هذا المُلْكَ مُفَكَّكَ العرى مضمحل القوى، استولت عليه الأعاجم من أواسط آسيا إلى شمال أفريقيا إلى غرب أوروبا، دويلات مغولية وتركية وبربرية، قامت في كلِّ مكانٍ على أنقاض الدول العربية الصريحة، ساح بنفسه في تلك الممالك، من أشبيلية في الغرب إلى الحجاز والشام في الشرق، رأى بعيني رأسه «تيمور» المغولي في الشرق يجتاح بلاد الشام، كما رأى بعيني رأسه «بترو» الإسباني في الغرب يجرمِّز ويجمع نفسه للوثوب على غرناطة آخر مملكة عربية في الأندلس. كان ابن خلدون يرى ذلك فتتقطع نفسه حسرات على ذلك المُلْك الضائع والبناء المتقوِّض.
كان يسيح في العالم الإسلامي فاحصًا منقِّبًا، فيدرس ويكتب ويؤلِّف، ويهز النفوس الجامدة، ويتلتل الهمم الخامدة، كان كلما صرخ لم يُجَب إلا برجع الصدى، وكلما حذَّر وأنذر لم يُقابَل إلا بالإعراض والجفا.
انطفأت تلك الشعلة وأغْمَضَ «ابن خلدون» عينيه في ذلك الظلام الدامس، وبعد خمسة قرون من موته عاد فعاش ونُشِرَ من قبره ممثَّلًا في جسم جمال الدين الأفغاني.
فتح جمال الدين عينيه، ورأرأ بتوأمتيه، وأدارهما يُمْنة ويُسْرة في جنبات العالم الإسلامي.
فماذا رأى؟
رأى ما كان رآه «ابن خلدون» منذ خمسة قرون، رأى الظلام ظلامًا والقوم نيامًا، رأى تيمورلنك المغولي ممثَّلًا في السلطان عبد الحميد التركي، وبترو الإسباني متقمِّصًا فيكتوريا ملكة الإنكليز.
قام جمال الدين من قبر «ابن خلدون»، فكان همُّه همَّه، وغَرَضُه في هذا النشور غَرَضَه.
ولكن هل يئس «جمال الدين» من يقظة الشرق وسعي الشرقيين في الإصلاح؟
كلا، لم ييأس، نعم رأى شجرة العالم الإسلامي أصبحت أعوادًا يابسة، غير أنه تراءى له من خلال تلك الأعواد والأشواك وُرَيْقات خضر؛ فتهلَّل وَجْهه بعد العبوس، وانتعشتْ نفسه بعد القنوط، وساءل نفسه قائلًا:
أهذه الأوراق الخضر المتفرِّقة هنا وهناك من الشجرة، أهي أوراق قديمة باقية من الحياة الأولى يا ترى؟ أم هي أوراق جديدة حَيِيَتْ بحياة جديدة؟
ومهما يكن فإن في الشجرة اخضرارًا، وفي المريض رمقًا، وفي الجسم دماءً.
فلنجتهد إذن ولنعمل على إحياء مجموع الشجرة، عمل «جمال الدين»، واجتهد حتى كلَّ وتعب، ولقي من حلو الحياة ومرِّها ما لقيه «ابن خلدون» الأول. كِلَا الخلدونَيْن لم يخلف ولدًا، وفرقٌ بينهما: ابن خلدون المغربي خلف مُقَدِّمَتَه الاجتماعية المشهورة، أمَّا ابن خلدون الأفغاني فإنه لم يخلف كتبًا ولا مقدِّمةً، وإنما خلف الأمة التي أيقظها فاستيقظَتْ، ونصح لها فانتصحتْ، وأخذتْ تخوض عباب الحياة بجد وثبات، فهي لا تلبث أن تصل إلى ساحة النجاة إن شاء الله.
روى الشيخ عبد الرشيد إبراهيم (الرحَّالة الروسي المشهور)، قال: دخلت على الشيخ جمال الدين في أُخريات أيام مرضه، فأشار إليَّ بيده أن ادْنُ، فدنوت منه، وكان لا يستطيع الكلام، فأخذ قلمًا وورقةً وكتبَ فيها: «تشهد يا ألله أن كلام النبي ﷺ قبيل وفاته: أمتي أمتي، وأنا أقول: مِلَّتِي مِلَّتِي»، قال: وبعد نحو ساعتين رَجَعْتُ إليه وإذا بهم يقولون: توفَّاه الله. ا.ﻫ.