فتاة لبنان
خير الروايات ما تُسبر فيها جراح الأمة، وأرقاها ما ترك في نفس المُطالِع ميلًا إلى الإصلاح.
***
مر الهزيع الثاني من الليل والصبية لم تنم بعد.
نام أبوها منهوك القوى من العمل في الحقول طول النهار، ورقدت أمها قرب أختها الصغيرة، وساد السكوت على تلك العيلة الهادئة التي تحيا بالعمل، ولا يدخل بابها رغيف خبز ما لم يقطر من جباه أفرادها ما يعادله عرقًا.
بين ذلك السكوت العميق في قلب الظلام المجلل الحرش والرامي أطرافه على القرية الحقيرة، كان البيت الصغير مختلطًا مع أشباح الليل، منفردًا تناجيه أرواح الطبيعة التي تتساوى عندها الأكواخ والقصور.
كان السراج يبعث نورًا ضئيلًا على الأوجه الأربعة: ثلاثة منها لا يرتسم على جباهها غير تموجات الخيال الذي ترسله الأحلام، حينما يقوم الوهم مقام الأفكار قاسمًا حياة المرء إلى شطرين؛ شطر الراحة وشطر العذاب، والوجه الرابع ذلك الوجه المستدير المشرق بعينين زرقاوين كالسما الصافية تحطاته دائرة من الشعر الأشقر، كأنه هالةٌ شفافةٌ على أطراف القمر، ذلك الوجه كان مستندًا على كفٍّ عبثت بها المياه المحرقة في معمل الحرير، ولكن زندها العاري الناصع البياض لم يزل ناعمًا صافي اللون، كأنه مسبوك من شعاع الشمس، أو مكوَّن من ذرات الأثير الوردي عند الشروق.
لو أُتيح لشاعر أن ينظر من الكوة المفتوحة إلى داخل البيت لتوهم أن القمر المتعب من ذرع السماء قد ولج هذا المسكن الحقير ليرتاح من مصافحة السحب ومناجاة العاشقين، ولكن القمر كان لم يزل بعدُ وراء الجبل العالي يتقدم ببطء؛ ليتسنَّم ذروته ويقف مرسلًا شعاعه إلى الكوة المفتوحة؛ حيث القمر الإنساني ينتظر شروق أخيه.
وردَّت الصبية أنظارها إلى النافذة، فتلاشى ما كان يحمله ذلك النظر المتَّقِد بين ذرات النور الضعيف المنبعث من السراج الساهر مع عيني الغادة الساهدة.
مر الهزيع الثالث من الليل، فأطل القمر مِنْ على الرابية فترجرج الظلام الساكن في مطارح شعاعه، وما لبث حتى انجلت دقائق الوشاح الليلي عن جثمان الطبيعة الأبدية، فتحركت الطيور في أعشاشها وقد خدعها شبيه النهار، وصغرت دوائر النجوم السابحة في الفضاء كأنها تراجعت إجلالًا لملك السكون.
كل الأشياء التي لا تنام في الطبيعة؛ الغدير المتسرب بين الأعشاب، والأعشاب نفسها، الأشجار الباسقة، وأوراقها المتحركة بحركة الحياة الدائمة، الصخور النامية من دقائق الأثير تحت جنح الليل كما بالنهار، كل الطبيعة التي لا تنام لأن إرادتها مقيدة بغير هذا العالم وحركتها مربوطة ما وراء المنظور في الأزل، كل منظور انتباهه كرقاده، هزته حركة خفية لدى ملامسة نور القمر له، فكأن ذلك النور يد الأم الساهرة، تمر بخفة وحنان على وجه الطفل الراقد.
كل موجود شعر بانبثاق نور الشمس الغائبة وراء مدار الأرض والمرسلة صورتها على مرآة القمر الصافي، ذلك الجِرم المنطفئ، ذلك المظلم المنير، ولكن الحيوان بفرعيه الناطق والأعجم فقد بات كما هو ولم يتحرك؛ لم يشعر بنور القمر؛ لأنه قسمٌ من الطبيعة، خرج منها وانفصل عنها، فهو نائمٌ لرضوخ إرادته للضرورة.
أما الجماد فإنه لا ينام، نظامه متعلق بقوةٍ خارجةٍ عنه تديره كقلب صبية الكوخ الساهدة التي أصبحت حياتها في حياة كائن ينفصل عنها، وأضحت إرادتها مندغمة في إرادته، فهي ككل جماد الطبيعة لا تنام، هي كالزهرة التي تحيي الليل بأسره، تمتص جراثيمها خلاصة الأرض لتهدي عبيرها نسيم الصباح، وذلك النسيم يذبلها ويطرحها ميتة على التراب الذي تغذت منه.
مع الغدير الجاري على الحصباء، ومع النبات والجماد، شعرت الصبية بامتداد نور القمر على الأرض، وأول أشعة اخترقت النافذة الحقيرة كانت ميعاد خروجها لتحت القبة الزرقاء، فجلست على فراشها بتحذر، ونظرت إلى ما حولها، وإذ تأكدت استغراق الكل بالوسن قامت وفتحت الباب مندفعةً إلى الخارج، ودمها يكاد أن يتفجر من صمامات فؤادها النابض بشدة، كأنه يريد الخروج من صدرها.
تقابل القمران وجهًا لوجه فارتعشت الأشجار كأنها تنحني أمام الجمالين؛ جمال الفتاة المستعير الإشراق من الجرم السماوي التائه في الفضاء، وجمال ذلك الكوكب الذي انعكست عليه آيات المحاسن الحية، وهي معلنة مجد الدائم على الزائل.
وهنالك تحت الصفصافة القديمة المدلية أغصانها على ماء الغدير كأنها تحنو عليه وهو يتململ متألمًا على الحصباء، هنالك على مرج نضر رصعته الأزاهر كالنجوم على الأطلس المستدير، هنالك كان فتى … هو في عنفوان شبابه، جميل الطلعة، طويل القامة، ملتف بدثار رمادي طويل مشقوق من وسطه؛ حيث يغطي الكتفين، وينفرج عن عنقٍ جمع القوة والجمال، وكان الشاب واقفًا وأنظاره مصوَّبة نحو باب الكوخ كأنها كرة النار موجهةً لافتتاح قلعةٍ حصينة.
فتح الباب وظهرت الفتاة، فأسند الشاب قلبه بيده الشمال، وبيده اليمنى ألقى بالدثار على المرج، فظهر لعين الغادة بكل جمال الفتوة تحت نور القمر المتألق، وقد ارتفع عن الجبل كأنه يتملص من رءوس الأشجار ليشاهد مأساةً هائلة جديدة، تمثلها الأهواء على ملعب الأرض الأبدي.
– جميل!
– سلمى!
– نعم أنا … أتيت؛ لأنني لا أريد الإخلاف بوعدي لك، رغمًا عن تعب النهار الذي أنهك قواي، لم يغمض لي جفن، وقد حملني الشوق إليك … أحب لقاءَك يا جميل؛ لأنني لا أشعر بالحياة إلَّا بقربك، ولكنَّ شيئًا خفيًّا لا أعلم ما هو يكاد أن يقعدني عن ملاقاتك كلما ضربت لي ميعادًا، كلما فتحت الباب تحت جنح الليل وأنت تنتظرني هنا، أتبين من بعيد على نور النجوم القاتم قبة الكنيسة المرتفعة فوق كل القرية، كأنها تسود على ما أرى، كما يعلو الكاهن المذبح وهو أعلى من الشعب يقرأ في ذلك الكتاب الذي يوحي بالابتعاد عن كل قبيح …
– سلمى! … دعي الأوهام بحق حبنا، وهو أقوى من الموت وأحرُّ من النار، دعي الكنائس المرتفعة إلى عنان الجو؛ فإنها مبنية من تعب الفقير لتسخر به، دعي الكاهن فهو ضعيف العزم يفضل المتاجرة بالأوهام من أن يشتغل كباقي الناس، ويعيش منعتقًا من ربقة الضلال الذي يأسر نفسه به ويأسر الناس.
وكان فم جميل لم يزل مفتوحًا يريد أن يندفع بكلامه إلى حدٍّ بعيدٍ، فمدت سلمى يدها إلى فمهِ وألقت أصابعها المحروقة على شفتيه الورديتين، وقالت: اسكت يا جميل وإلا أغلقت أذني عن سماع كلامك، لماذا تجدف على بيت الله وهو ملجأ النفوس المعذبة؟ إذا تركتني أنت، فإلى أين ألتجي؟
– أنا لا أتركك يا سلمى، ولكن اعتقادك بأن الكنيسة هي ملجأ الحزانى لهو اعتقادٌ فاسد، ولو نظرت كما نظرت أنا في أميركا والبلاد المتمدنة كيف أن الكنائس والكهنة ترتفع على قلوب التعساء لغيرت ظنك وضحكت من نفسك.
– أنا لم أذهب لأميركا يا جميل، ولا أعلم ما يعبد الناس هنالك؛ إذ إنني خلقت في قريتي على سفح لبنان وطني؛ حيث الكنيسة مسقوفة بجذوع الأشجار كبيوتنا، والكاهن فقير مثلنا يشتغل بحقله مع أولاده ليعيش، أنا لست متعلمة في الكليات، ولا أعرف أن أقرأ بغير كتاب الصلوة الذي أهدتني إياه السيدة أولغا في الصيف الماضي، حينما أتت من بيروت لتصطاف في مزرعتنا، ومع ذلك مع كل جهلي يا جميل أراك مخطئًا باعتقادك، مع أنك درست في بيروت وسافرت إلى أميركا، والناس يقولون عنك إنك فيلسوف.
– سلمى! أنا أتيت تحت جنح الظلام من طرف القرية لهنا كي أراك وأسمع كلمة الحب من فمك الجميل، أتيت لألقي رأسي المتعب على صدرك البلوري، وها أنا ذا أرى بدل هيامك معارضات وهمية، وأجد نفسي مضطرًّا للتفلسف معك، أرى الكنيسة والكاهن واقفين حاجزًا بيني وبين صدرك المشتعل بالوجد، فأريد أن أريك وَهَن هذين الحاجزين، أنت لم تعرفي شيئًا من العالم يا سلمى، أنت لا تقدرين على التمييز لتعرفي بأن الكنيسة ليست إلا شَرَكًا يصطاد به القوي الضعيف، فاعلمي بأن الإنسان لا يحتاج لمعبد وكاهن ليعيش، أنت لا تجهلين بأنني عاقل ودارس فاسمعي مني، وأنا لا أريد أن تكوني على ضلال: إن الشريعة هي مثل الترتيب في المعمل الذي تشتغلين به، تتغير حسب إرادة الناس وضرورة الأيام، فالأديان كلها أكاذيب وأضاليل، ولا شريعة غير القوة، ولا إله إلا إله واحد وهو الحب، أنا آخذ حقي من الدنيا قدر قوة يدي ودماغي، وأنت تأخذين حقك قدر جمالك ولطفك، فاتركي الأوهام والكاهن والكنيسة إلى جانب، وتعالَيْ نعبد قلوبنا، انطرحي على يميني؛ لأنها قوية ولا تخافي.
– أخاف أن تتركني يا جميل فلمن ألتجي بعدك؟ أنا أحبك بكل سذاجة قلبي وقوة شبيبتي، ولكن باسم من تحلف، وأمام من تربط عهدك وأنت لا تعتقد بدين ولا بشريعة؟
– أحلف بشرفي وهذا القمر السائد في الفلك، كما تسودين في قلبي وهو شاهدٌ عليَّ، فسوف أحلكِ من قيود المعيشة الفقرية، سوف أنزع اليد المتسلطة عليك في معمل الحرير حيث أنت عبدة ذليلة، وأقودك معي إلى العالم الجديد فترين هنالك نور الحياة وتذوقين لذة العيش.
وباتت سلمى جامدة مسحورة بجمال حبيبها، كأن قوة غريبة تضغط على قلبها الضعيف، وكالعصفور المخلوب أمام الأفعى الهائلة، شعرت الصبية بانجذاب عواطفها إلى الهاوية المفتوحة أمامها.
وبقي جميل يتكلم طويلًا عن فساد المبادئ الفاشية بين الشعب الساذج، فكانت كلماته تسقط كنقط السم على قلبها، وكان الفتى الضال يمد مباديه السافلة إلى قلب الفتاة الطاهر طاردًا منه كل المحاسن التي أوجدها الإيمان به.
هي ترى الله والشريعة مجسمَيْنِ بالكاهن والكنيسة، ولا تفهم من سر الفدا غير تمثيله على المذبح، وكان جميل يعرف بأن الله ليس الكاهن وليست الشريعة الهيكل، ولكنه عرف بأن ذلك القلب الساذج يحصر كل اعتقاده بالمنظور، وأنه حين يخلو من ذلك الاعتقاد يخرج العفاف منه، ويضمحل في شكوكه كل طهارة وحذر، فأخذ يبين لسلمى ضلال بعض الكهنة في حياتهم المملوءة خبثًا، يوشيها المجد وتحتاطها السعة والبذخ، قائلًا بأن سلطة كهذه لا يمكن لها أن تمثل شريعةً مجردة منبعثة عن نور السماء.
تحت تلك الصفصافة الضائعة على سفح لبنان فوق الوادي العميق قرب الغدير الصافي السائل بهدوء بين الأعشاب دوَّى صوت فولتير مرة ثانية على الأرض.
وكانت سلمى قد جلست على دثار جميل المفروش على الأرض، وجميل جاثٍ أمامها، ويده المحترقة بحرارة الشر ملقاة على كتفها المرتجفة … فقالت: جميل … اسمع لكلامي؛ فإنني ساذجة لا أعرف كيف أتكلم، ولكن لا يجب أن يتعلم القلب ليشعر: كنت أحب لو كنت مثل أبي قانعًا بأرض أبيك وأجدادك، أبوك قد قضى وأمك ماتت وأنت وحيدٌ في هذه المزرعة الحقيرة، لا نسيب لك ولا قريب، تعيش منفردًا عن القوم، كأنك لست منهم وتتكبر على لابسي العباءة، كأن أباك لم يرتدِ مثلها ليقوم بمصاريف تعليمك في المدرسة، أنت كالطير الغريب في مزرعة لبنان يا حبيبي، تركت عشك الجميل لتملأ دماغك بأفكار لا أفهمها، وما عدت إلينا إلا بزي جديد ملفوفًا بأثواب غريبة لتركب غارب البحر، وتبقى هنالك السنين الطوال، وها أنت ما بيننا كأنك لست منا، فلا يمكن لنا أن نفهمك كما لا يمكن لك أن تفهمنا، ولو لم يكن رباط الحب أقوى من المدى وأعلى من طبقة العوائد، لما كنت تراني الآن بين يديك، أحبك يا جميل وأذعر منك، أشتاق إلى مرآك وأحذر لقياك، فأنت أمامي جميلٌ مشرقٌ كالقمر، ومظلمُ مخيفٌ كأطراف الوادي البعيد.
– ويلاه يا سلمى! كفي ملامك فإن غصن الورد لا ينتقل من تربته ويرمى لرحمة العواصف إلا لقوة غالبة وإرادة جائرة، بلادي صخرة جرداء وافقها ضيق على النظر الطامح إلى بعيد، تعلمت أن أرتفع بأفكاري إلى الأمور السامية فاحتقرت المحراث وثقلت على كاهلي ملابس أجدادي، فاندفعت كما يندفع إخواني أبناء لبنان إلى الأوقيانس البعيد، وهنالك ذقت ما لا يحلم به سكان صخورنا، ولهذا أريد أن أعيش كما يحبب العيش لي وسوف أعود إلى بلاد الذهب والسرور.
– ويلاه يا جميل يرتجف قلبي من كلامك، وهذه الأرباض الهادئة تضطرب منك، فكأنك نسرٌ خارج من بيضة حمام، ينتفض بجرأة وشدة مخالفًا كل شريعة ونظام، أنت ولدت مثلي في هذه المزرعة الساكنة الهادئة، ولكنك لم تعد صالحًا لسكناها، كما لم يعد بها شيء يحببها إليك، ويكفيني أن أنظر إلى أثوابك التي لا يصنع في بلادنا منها قطعة واحدة لأتأكد بأنك صرت غريبًا، وبك كل الأميال التي تجعلك معرضًا لحياة الاستعباد في بلاد الأجانب، اسمع لصوت حبي، دع عنك هذه المطامع، وخذ لك أرضًا تشتغلها بما لديك من المال فتأتيك بالأرباح، اشترِ أرض أبيك التي باعها ليعلمك، وهذه يدي بيدك لنحيا بسكون ونموت بسلام في مزرعتنا الصغيرة، ففي بساطتها نلقى السعادة والراحة.
وكان صوتها هادئًا ترنُّ به كل نغمات الحب الصادق والاسترحام، فكأن لبنان الساذج السعيد تجسم بذات تلك الفتاة الطاهرة القانعة لينزع من قلب جميل مطامع المهاجرة وضلال الحياة الجديدة.
وألقى جميل رأسه على كتف الفتاة، فتمثلت لديه صورة الحياة الهادئة في مزرعته قرب سلمى وهي تحبه بكل قواها، رأى نفسه ساكنًا في بيت أبيه القديم وأرزاقه تدرُّ عليه اللبن والعسل، وتخيل أنه بنى معملًا صغيرًا يشتغل به مع عدد من أهل المزرعة بصناعة النسج التي تعلمها في المهجر، فاهتز بنفسه وجدان اللبناني القديم فوضع فمه على شفتي سلمى الورديتين، فكأن بهذه القبلة التي رنَّت على كتف الغدير فتلاشى صداها مع خريره كانت رابطة عهد جديد بين قوة لبنان وجماله …
ولكن تلك النفس اللبنانية المجبولة على العفاف لم تكن لتقوى طويلًا بطبعها على ما تطبعت عليه، وذلك الاعتقاد اللبناني القديم الذي رسخ مع الأدهار لم يكن ليقوى على الشكوك المتسلطة عليه من فساد بعض التقاليد السطحية.
تلك الليالي التي قضاها جميل بين غابات نيويورك وعواهر مرسيليا، تمثلت لوجدانه المشكك كشبح اللذة الكاملة ومودع السعادة الحقيقية، وذلك السم الذي دار بدمه مع ملاصقة الفواحش والنزول إلى قعر الدنس، ذلك السم كان لم يزل جاريًا يحارب دماء اللبناني القوية.
وكانت سلمى قد سكرت من مظاهر الجمال الطاهر الذي لاح لعينيها على وجه جميل حين افتكاره بسعادة الحب وسكنى الوطن، فارتخت عزائمها ورقدت روحها بين طيات الأمل.
كل شيء في هذا الكون مقسوم إلى قسمين؛ قسم يأمر وقسم يرضخ، ذرات الدقائق، الجوهر الفرد لا يكون إلَّا مزدوجًا، ولا يمكن تصوره منفردًا ما لم يصبح عدمًا، وفي ذات ذلك الجوهر المزدوج يوجد متعدٍّ ولازم، يوجد سابقٌ ولاحق، أولٌ وثانٍ، تابعٌ ومتبوع، فلا يمكن اندغام متشابهين ما لم يكن متسلطٌ وراضخ، لا يوجد اشتراك تامٌّ إلَّا بالظواهر في الطبيعة المنظورة.
روح سلمى الثملة بعواطف الحب الأكيد وحياته الأمل، وروح جميل المحترقة بحمى الملاذ ونارها ذكر الضلال الماضي وأمل اللذة العتيدة، حياةٌ طاهرة وحياةٌ مفسودة تندغمان بقوة مجهولة تضم كل شيء حتى كأنها تمزج الخير بالشر مزجًا.
سرٌّ هائلٌ في هذا الكون يجعل القوة سائدة وهي مفصولة عن الخير، فكأنما قد قدر على الصلاح أن يلازم الضعف ويرضخ أبدًا للجور، فيفتخر بالانكسار وتكون حياته بالضحية.
توسط القمر كبد السماء، وأصبحت أشعته الساقطة عموديًّا على الأرض تقصر الأشباح، وتضم كل خيال لجرمه، فأنيرت المروج العارية حول الصفصافة، وأصبح خيالها مستديرًا يغطي جذعها والدائرة المنبسطة حولها، فكأن القمر رأى ما سيكون هنالك فضَنَّ على المجرم بنوره، وخشي أن تتلطخ أشعته الفضية بدماء الطهارة المهدورة.
هنالك لم يكن حبيبان، هنالك لم يكن غير خادعٍ ومخدوع، قاتلٌ وقتيل.
•••
ساد السكوت وتوالت الساعات وكان القمر قد جنح إلى جانب الأفق محمرًّا كأنه متشرب من أبخرة الجريمة المستورة، ودامت الأرض سائرة في هذا الكون الفسيح لتتمم دورتها اليومية.
تكحل الشرق بغبارٍ ذهبي، وهب نسيم الصبح عليلًا ليحيي الروض الشاخص إلى السماء بجمود المفتكر، فاتخذت مياه الغدير لونًا ذهبيًّا يتوهج على الحصباء بين المرج وقد ظهرت عليه زهرة حمراء جديدة بين أزاهر الطبيعة البيضاء الطاهرة …
كان الوسن لم يزل سائدًا على أجفان الإنسان، وهنالك في الكوخ الحقير اختلطت ذرات النهار بنور السراج الضئيل، وقد شح زيته وقارب الانطفاء، وعلى الصفصافة القديمة التي زرعها أبو سلمى على تلك الأغصان الخضراء الناضرة، بين السكوت المجلل الطبيعة بخشوعها، كان عصفورٌ صغير قد فتح عينيه للنور وبدأ يغرد!
•••
أشرقت الشمس على ثغر بيروت المفترِّ بكل جماله أمام بحر الروم الصافي فكانت السماء تبتسم للأرض، والأرض تهدي السماء أبخرة الصباح الزرقاء المتصاعدة إلى العلا كأنها عرف البخور، وهنالك عند أقدام لبنان حيث ترتفع الصخور على صفحة الماء الممتد إلى أطراف الأفق كان الترامواي اللبناني سائرًا مخلفًا وراءه المعاملتين وجونيه ووجهته بيروت.
من ركاب الطبقة الثانية كان الشاب عاشق سلمى مسندًا يده إلى نافذة القطار، وأنظاره تسبح على وجه الماء وتسير نحو الأفق كأنها تريد الوصول إلى ما وراء الحجاب، وكان يفتكر: لقد مضت سنة منذ وطئت رجلاي أرض أجدادي، فأخال هذا العام قرنًا طويلًا، ما أثقل رجل الزمان السائرة على قلب فارق وسطه ولم يعد يشعر بالحياة إلَّا على ما تعود! هنالك في الولايات المتحدة لا يحتاج الإنسان لإجهاد الفكر ليعيش هنالك، كل شيء مرتب؛ التجارة والصناعة حتى الكذب والاحتيال والسرقة لها أبواب معلومة ونظامٌ متبع، وهنا إذا أراد المرءُ الإتيان بعمل فعليه أن يحارب العناصر والأحياء معًا، عليه أن ينكر ذاته لقاء الصالح العام، فينجح من حوله ويبقى هو تعيسًا، في كل بلاد الله ينجح الفرد ليعم التقدم كل الأمة، أما هنا فيجب أن يسقط أفرادٌ كثيرون ليدخل الرُّقي عن الطريق العامة ويعود مقسمًا على الأفراد، كان معي حين حضوري سبع مائة ليرة ضخمت كيسي بعد جهاد أربع سنوات، وها أنا ذا أرى بأسفٍ أن داء الهزال يسطو على هذا الكيس، فهو كالمريض الذي تجهده الحمى ولا يتغذى، فقد أصيب بفقر الدم، وكل مدة يجب أن أحضر لبيروت؛ لأنها تمثل لي خيال البلاد المتمدنة، فلا أخرج منها إلَّا منهوك القوى فارغ الجيب.
بيروت استغرقت نصف مالي، ولكنَّ بيروت ستعوض عليَّ.
بنات الهوى يفرغن الكيس، ولكنَّ أولغا ستملؤه، أبوها تاجر معتبر وواسع الثروة، فلا تقل الدوطة عن الست مائة ليرة وحينئذٍ وداعًا يا لبنان!
أولغا ليست جميلة، ولكنها متمدنة، هي تلبس كورسه إيديال وقبعة إفرنسية ووشاحًا إنكليزيًّا وأساور أميركانية و… و…
وبحصر الكلمة هي خلاصة تمدن العالم كله … تتكلم الإنكليزية والإفرنسية وتخلطها بشيء من العربي … مسكينة سلمى ما كان أحقرها في عيني في الصيف الغابر حينما كانت تذهب للتنزه مع الغانية المتمدنة، سلمى تلبس قميصًا من دير القمر، وفسطانها من ديما بيت شباب مفصل على طرز باريزي محض، فهي تخاف أن تشد على صدرها، وفي رجلها حذاء من جلد زحله ضخمٌ بلون أغبر؛ لأنها تصبغه كل سنة مرةً.
ولاحت على شفتي جميل ابتسامة صفراوية مركبة من كل العواطف المتزاحمة المتلاطمة في قلبه.
حين افتكاره بسلمى، تذكر الليلة التي أوشكت أن تمحى من مخيلته، وقد طبعت بكل تفاصيلها على قلب الفتاة المخدوعة، وعلى سفح لبنان وأشجاره وغديره؛ لأن لبنان كان محتملًا إهانة جديدة من أبنائه بشخص فتاته الطاهرة الساذجة.
•••
جنحت الشمس عن الهاجرة وهوت على منحدر المدار الذي ينتهي على أفق البحر، في أحد بيوت بيروت الكبيرة بإحدى قاعاته الواسعة العالية كانت عانسٌ تبلغ الخامسة والثلاثين من سنيها، عريضة الأكتاف ثقيلة الردف مقطوعة من وسطها بزنار مذهب مربوط برخاءٍ؛ لأنه لا يحتاج للشد، والكورسه من وراء الفسطان واصل إلى آخر ما يمكن للشريط أن يشد، وكانت جالسة على مقعدٍ مخملي أحمر، وفسطانها الكحلي الفاتح متدلٍّ برخاء وترتيب على الأرض، وبيدها جريدة لم تزل مربوطة بغلافها، وبعد أن قلبت العانس جريدتها مرارًا بين يديها ضربت على جرسٍ كان بجانبها فدخلت الخادمة.
– خذي هذه الورقة يا مريم فلربما تلزم للمطبخ.
وتناولت الخادمة الجريدة وبعد أن نظرت إليها بإمعان قالت: هذا جرنال معلمي نسيب وهو يسألني كل أسبوع عنه فكيف تريدين أن ألقيه بين أوراق المطبخ؟
– آه هذه الجريدة العربية خذيها حالًا واحرقيها فإن نسيب قد أصبح مجنونًا من يوم مطالعته هذه الورقة، فهو كل أسبوع يملأ آذاننا بأخبار جديدة وآراء مضحكة، فهو تارة يقول لي أن أتعلم العربي، وتارةً يعطيني أوامر كيلا أقف على الكشف، مرةً يعارضني إذ يجدني أحادث شابًّا على خلوة، ومرةً يأتينا منشدًا أشعارًا يقول عنها إنها أسمى من نفس موسى وأرفع من خيال هيغو، وأنا أحتمل تشدقه فلا أفهم غير قرقعة القاف والضاد والعين، فأخاف على أذني أن تنسد.
والبارحة أتانا بنغمة جديدة، هو يريد أن ألبس قطعة ديما أحضرها من جهنم … وقد لبس ثوبًا شديد الشبه بملبوس الإيطاليان الذين يشتغلون على الطرق، وهو يقول إن هذه الأقمشة هي مصنوعات الوطن.
خذي هذه الورقة بالله عليك؛ لأنني أخاف أن يطلع عليها نسيب ويكون بها وصفة جديدة تأتيه بجنون جديد.
وأُخرجت الجريدة العربية من غرفة المتفرنجة محمولة على أيدي مريم وهي لا تدري أن بها شرارة الحياة لبلاد تفتح عينيها للنور، ألقيت الجريدة في النار فالتهبت ومريم ناظرةٌ إلى لسان اللهيب الأزرق المتلاعب في الموقد، وهي لا تدري بأن تلك النار هي روح الوطنية وأنفس الكتاب السائلة كقطرات الدمع على تأخرنا وضلالنا، وهنالك في الغرفة الواسعة كانت أولغا قد أخذت من جنبها كتاب «صفحة غرام» بقلم أميل زولا، واستغرقت في القراءة معجبة بالسموم التي كانت تدخل لقلبها ضاحكةً من جنون أخيها وحبه للجرايد العربية.
وما لبث حتى فتح الباب على مهل ودخلت الخادمة قائلة: سيدتي أتى جميل.
– أين هو؟ دعيه يدخل حالًا.
وإذا أدارت مريم وجهها لتذهب استوقفتها أولغا قائلةً: أين أمي يا مريم؟
– هي في غرفتها تلبس أثوابها لتذهب لزيارة مدام بطرس.
– لا تقولي لها إن جميل أتى، دعيها تذهب فعند رجوعها تراه.
– أمرك يا سيدتي.
وما توارت الخادمة خلف الباب حتى وقفت أولغا بتحذر لئلا تنقطع الشريطة الماسكة طرف المشد بربطة الساق، فتراجع ردفها قيد ذراع إلى الوراء وانحنى صدرها إلى الأمام، وبدأت تتخطر في الغرفة كأنها سابحة في الهواء، واستوقفت المرآة أنظارها فلبست وجها جديدًا يلائم حالة الملتقى، ثم ركضت إلى المقعد وارتمت عليه مرتبة طيات ثوبها بكل تأنٍّ.
فتح الباب ودخل جميل حاملًا بيده علبة مذهبة الحواشي، وتقدم حتى لاصق ركاب أولغا فبقيت جالسةً (مودة إفرنسية: السيدات لا يقمن للرجال.)
رأت أولغا سيدات الإفرنج يفعلن هكذا في المحافل الرسمية، فخيل لها أن هذه العادة مقبولة بكل ظرف حتى مع الحبيب!
هكذا تعودنا أن نتمثل بالأجانب … كل شيء من وجهه القبيح.
اهتزت أولغا على مقعدها دلالةً على فرحها، ومدت يدها الشمال بحركة مرتقصة، فأخذها جميل ورفعها إلى شفتيه، فقالت: أهلًا وسهلًا، إمتى حضرت لبيروت؟
– بقطار الظهر.
أول كلمة نطق بها الخطيب أمام خطوبته كانت كذبًا! وصل جميل بقطار الصباح، وسار توًّا لمشاهدة إحدى الغانيات قرب مرسح التريانو، وبعد أن مضَّى معها الساعات الطوال توجه لسوق الطويلة، واشترى العلبة هدية لأولغا، وأتى لديها قائلًا إنه وصل بقطار بعد الظهر!
– اجلس هنا قربى … وقل لي إمتى نسافر؟
ثم ألقت أنظارها على العلبة، فلم تعد تستطيع الصبر لسمع الجواب، فأردفت: ما هذه العلبة؟
– هي أساور أحضرتها لك، تقدمةً أرجو قبولها.
– لا سبيل للرجاء، فقبولها مني واجب عليك … إمتى نسافر؟
– حالًا بعد الزفاف إذا شئت.
– وإمتى الزفاف؟
– الأحد القادم.
وطال الحديث بين الخطيبين.
قاربت الشمس أن تغرب، ووالدة أولغا لم ترجع بعدُ من زيارتها، قام جميل قاصدًا المبيت في لوكندة أميركا، فوقفت أولغا وشيعته إلى الباب، وهنالك تعانق الخطيبان، والخادمة واقفة على قمة الدرج تنظر إليهما، وبعينيها بارقة نار خضراء …
هذه القبلة المتبادلة بين الضلال والدوطة، بين الخداع وحب المجد، هذه القبلة الباردة بين شفاه المتمدن والمتمدنة، كانت عربون اتصال تحل عليه البركة الإلهية وتجعله مقدسًا … وهنالك على سفح لبنان في حقول المزرعة الهادئة كان صدى القبلات المحفوظة في تموج النسيم يدوي مع خرير الغدير كنواح الغادة التي تجبل خبزها بدمها وتمزج شرابها بدموعها …
•••
وكانت الباخرة الإفرنسية تتأهب للإقلاع من مينا بيروت، والزوارق تتوارد إليها زرافاتٍ ووحدانًا، وقد اختلط المودع بالمسافر، ووقفت الأم لجنب ابنتها، والابن لجنب أبيه، الصديق قرب صديقه، والحبيبة قرب الحبيب، وكلهم شاخصون إلى السماء كأنهم يستطلعون ما كتب لهم في المجهول.
من يدري إن لم يكن بذلك الملتقى أواخر القبلات وأوائل الدموع التي لا يجففها غير الكفن.
على ظهر الباخرة كان كاهن وشاب واقفين، ويد كل واحد منهما بيد صاحبه، وكلاهما شاخصان إلى قمم لبنان العالية.
وكان الشاب يقول للكاهن: لا تلقِ الملام على شبان سوريا المتخرجين في المدارس؛ فهم أتعس شبيبة في العالمين، دعهم يذهبون، وإذا ضاقت بهم الحال يجدون معملًا يشتغلون فيه، أما إذا مكثوا هنا فلا معامل ولا معادن ولا زراعة راقية، فإما أن يضربوا بمعاولهم الأرض أو أنهم يطوفون في البلاد بأجساد أنحلها الهم، ونفوس تنتظر الفكاك من أسر الحياة، لبنان لا يحتاج لمثل هذه الثمرات الساقطة على الأرض وقد عبث بها الهراء؛ لأنها ناضجة قبل أوانها، فنهضة لبنان لا تقوم إلا بقوة الأيادي العاملة والأجساد الشديدة التي كان يجب أن تخرج كنوز الأرض، وها هي تتدفق من جبالنا العالية إلى شاطئ هذا البحر ليحملها إلى قلب العالم الجديد.
– أنت تطلب عذرًا لنفسك يا سعيد، فلا أراك مصيبًا بكل ما تقول.
– أنا مقتنع كل الاقتناع بما أقول، وهذا برهاني: قبل أن تجبرني الظروف على الإبحار، قبل أن أصرف آخر درهم أبقاه لي أبي بعد وفاته، وقفت مرارًا على هذا المرفأ أتأمل بالمهاجرة في حين لم أكن من طلَّابها، فكنت أرى أبناء الوطن بل نسمته وروحه يبارحونه جسدًا أنحلته الأدواء، فألقي على الأجساد القوية الضخمة المملوءة شدة وحياة نظرةَ أسف وتمرمر، أما القسم المهذب الراقي من إخوتي فكنت أزودهم دمعةً ورحمة، كنت أشعر معهم بما أشعر به اليوم، وأتأسف على وطن يكفيه خمودًا وعارًا أنه يقذف عنه شعلة الذكاء المنزلة عليه برءوس أتعس أبنائه، فما أشبه حالة ألفتنا اليوم يا أبي بتلك المغاور البعيدة الأطراف التي يسطو عليها الفساد، إلى درجة تنطفئ بها كل شعلة تلمع بديجوره الأربد! ولَكَمْ رأينا من تلك اللمعات ما بيننا! لَكَمْ لاح لنا من نورٍ يسطع وشيكًا ثم يتبدد بكربون الفساد فكأنه لم يكن … أين أديب إسحق ونجيب حداد واليازجي، وأي نفعٍ أبقوه للبلاد بل أية حياة نفخوها في قومنا؟ وهم لم يتركوا غير نفثات أقلامهم تدخل إلى صدور الشبيبة فتدفعها إلى القنوط وتجرها إلى القبر، فكأن تلك الأقلام تحمل مع الفكر السامي ميكروب السل الذي أفنى تلك الأجساد التاعسة.
إذا بارح الوطن رجال العمل عن طمع وجشع وكسل وبعض الضغط فلا يبارحه رجال الفكر والعلم إلَّا كرهًا، وعن ملالة من ألفة تحتاج لانتباه ولد بأكثر مما تطلب عقل رجل، تحتاج لمن يحسن الجمع والضرب والقسمة بأكثر من احتياجها، لمن يحل صعاب الرياضيات في موقف الاختراع المفيد والأعمال الكبيرة، تحتاج لمن يكتب: «بعد سؤال الخاطر العاطر واصلكم صورة الحسابات.» بأكثر من احتياجها لمن يلقي القلم على القرطاس، فيغرَّد تغريدًا، تحتاج لمن يعرف استجلاب البضائع الأجنبية بأكثر من استعدادها لقبول أهل الفكر والعمل المستقل الذي يخرج من الوطن ما يفيد أبناءه، تحتاج لكل من ينادي بالمبادئ المقتبسة عن الأجانب بقطع النظر عن ملائمتها للبلاد، وترفض كل رأي ينزع إلى الإفادة بارتكاز مبدئه على الحاجة الماسة وضرورة الوسط الحالي …
ووقف سعيد عن كلامه بغتةً كما ينقطع مطر الربيع حينما يتساقط بشدةٍ من السحب التي تلامس الجبال.
وكان رفيقه الكاهن يلعب بأطراف لحيته وأصابعه النحيلة ترتجف بحركة عصبية تدل على تهييج شديد، وبعد سكوت قصير فتح الكاهن فاه وقال: لربما يكون بكلامك بعض الحقيقة يا سعيد، فأنت تظهر وجوب بقاء الفلاح العامل في البلاد لأن وجوده ضروري لحياة الأرض، ولكنني لست من رأيك بعدم نفع الطبقة الراقية للوطن، اعلم يا سعيد أن ألفة بلادنا واقفة بين خائنين؛ وهما الغني الحريص يقضي ليله بلعب الميسر ونهاره بالرقاد على فراش الرخاء والكسل، والفلاح الجاهل الطامع الذي ضربه طاعون التشبه والتطاول، فترك أرض آبائه وذهب إلى حيث يقنع بلبس السترة والبنطلون، إذا احتج المهاجرون المتعلمون بأن المدارس التي لا نعرف واجباتها زرعت في قلوبهم كل ما يدفع للمهاجرة، فبمَ يتعلل الفلاح يا ترى؟ أما الطبقة المتهذبة الفقيرة فما أراها إلَّا سفينًا ضائعًا بين بحر الشعب الهائج وزوابع الأغنياء ورعود صلفهم ومواطر ضلالهم، تلك الطبقة لا تقدر أن تدير القوة الجاهلة لقصر اليد، ولا يمكن لها إقناع ذوي الثروة لفتح أبواب الأعمال المفيدة، شبيبة الوطن المهذبة هي العسكر المجاهد الذي يحتمل كل الجراح في هذا الممر الصعب، فيجب عليها أن تثبت لتكون رابطة الاتحاد بين الصناديق المقفلة والأرض المهملة، يجب عليها ألا تيئس من الوصول يومًا إلى موقفها الذي تعده لها العناية السرمدية.
أنا لا ألومك لتركك هذه البلاد يا سعيد، أنت تهرب من الجولان بالشوارع والتعرض للفساد، أنت تهاجر كيلا تموت فيك القوة والموهبة، ولكن سيأتي يوم وهو قريب ينتصر العلم به على جهل العامل وضلال المثري، وحينئذٍ يصير كل شاب متهذب وعالم مسئولًا أمام وطنه إذا بارحه، يصبح مطالبًا أمام الله والألفة إذا هرب من موقفه؛ لأنه يكون إذ ذاك جنديًّا جبانًا يخلي الأرض التي وضع للمحافظة عليها نهبًا مقسمًا للأعداء …
اذهب يا سعيد إلى حيث قُدِّر لك، ولكن خذ مني وصية واحرص على إتمامها: لا تقف كل حياتك في بلاد المهجر لجمع المال فقط، بل تعلَّمْ من أرض العمل ما يمكنك نفع بلادك به إذا رجعت، لقد مرَّ الوقت، وعن قريب سيحملك البخار إلى بعيد، فليكن الله حارسًا لك، ولا تدَعِ الفسادَ يسطو عليك، كلما قامت بوجهك صعوبة تذكَّرْ إلهك يا سعيد، تذكر وطنك فأنت مديون له، لا تترك هذا العش الجميل خاليًا من كل فراخه …
•••
نزل الكاهن الشيخ على سلم الباخرة وعيناه دامعتان وجبينه العالي مصفر كالشمس التي تلامس أفق الماء آذنةً بالمغيب، وما وضع رجله على مقعد القارب حتى اصطدم بقاربٍ آخر كان يشق الماء بسرعة للوصول إلى السلم، فأدار الكاهن وجهه فرأى أحد أبناء وطنه من المزرعة القريبة لقريته جالسًا وقربه فتاة ضخمة ترفرف القبعة فوق جبينها، وعلى وجهها نقاب صفيق يلاعبه الهواء، فدهش الشاب إذ رأى الكاهن وقال له: الوداع يا أبانا بطرس.
– جميل … إلى أين؟
– إنني من أميركا وإليها أعود.
– لا يا ولدي أنت من لبنان، قدر الله أن ترجع إليه.
– المستقبل لله، أرفقنا بدعاك يا أبي.
– مع السلامة، وليكن الله معك يا جميل.
وكان جميل يتكلم وعيناه مصوبتان نحو المرفأ، وجبينه يتقطب بحركة اغتصابية، وفؤاده ينبض بشدة وهو يجتهد أن يخفي اضطرابه.
ضرب النوتي بمجذافه صفحة الماء فمخر الزورق عبابه وسار توًّا بالكاهن الشيخ إلى المرفأ، وإذ وضع خادم الله رجله على الدرج حانت منه التفاتة فرأى ابنة قروية واقفة أمام الحاجز الحديدي وبيدها منديل غطت به عينيها وقطرات الدمع تتساقط من بين أصابعها إلى الأرض.
وكانت الباخرة قد صرخت بصوتها الأبح معلنة المسير، وارتفع من داخونها ضباب أسود كثيف، فأدار الكاهن وجهه لجهتها فرأى صديقه «سعيد» واقفًا على المؤخر وبيده منديل يومي به إليه مودعًا، فارتفعت أفكار الكاهن الشيخ إلى العلا، وهو يناجي رحمة خالقه بأسرار الحياة وحالة لبنان، ولكن لم يَطُلْ وقوفه تحت جنح التأمل والصلاة حتى سمع صوت زفير متقطع وتنهد متحشرج، فأدار وجهه، فرأى القروية قد هوت على البلاط أمام غرفة البوليس محافظ المرفأ.
سقطت القروية على الأرض وارتمت يداها برخاءٍ على صدرها المرتجف، فلاح وجهها المصفر لعيني الكاهن كأنه شبح اليأس وخيال الموت، فتبين من تلك الملامح الشاحبة صورة سلمى تلك الفتاة التي طالما رآها جاثية بخشوع في كنيسة قريته.
تألب الناس حول الفتاة واحتاطوها بأحداقهم، فتقدم الكاهن دافعًا الجمهور بلطف حتى وصل قرب سلمى وكانت غائبةً عن رشدها، فأخذ بيدها طالبًا معونة أحد الحمالين رافعًا إياها بين ذراعيه إلى خارج المرفأ، وهنالك وضعها في عربة وسار بها إلى إحدى اللوكندات القريبة تتبعهما أنظار الحضور، وكان ما بينهم شابٌّ مرتد آخر زي وبيده قضيب خيزران يلاعبه فقال: لا يمكن أن يسطو الهرم على هؤلاء الغربان وما كان أولى أن نسميهم نسورًا فهم يجددون شبابهم أمام كل فتاة وسيدة!
•••
في إحدى غرف النزل العلوية المطلة نوافذها على البحر كانت سلمى ملقاة على السرير وأجفانها تأبى الارتفاع عن نور عينيها كأنها تضن عليه أن يختلط بنور الحياة.
وكان الأب بطرس جالسًا على المقعد بعيدًا عن السرير يتطلع من النافذة إلى البحر، ويعود ملقيًا أنظاره الهادئة على وجه القروية الشاحب وأفكاره تائهة بين العالمين تسقط كالنسر لتنظر الأرض عن قريب، وتعود محلقة مثله إلى السحاب فتنفسح أمامها مجالات المنظور.
كان الكاهن إذ ذاك بحالةٍ لا يدركها إلا فئة قليلة ممن يصدقون بالغير المتناهي.
كان يفتكر بالمادة ونظامها فيراها محسوسة أمامه، ولكنه لا يرى غير قسم صغير منها، لا يرى غير الوسط الذي يحتاطه فترتبك مباديه ويتململ ثم يدفعه التأمل بقوة الإيمان إلى ما فوق، فتضعضع أفكاره كأنها نورٌ ضعيف بين الضباب فيرى المادة كلها والألفة بأسرها، يتبين شرائع الإنسان ومطامعه وسعيه وجهاده ولكنه لا يتمكن من سبر هذا الغور البعيد.
المفتكر كالنسر يلمس المحسوس لمسًا فلا يرى إلا دائرةً محدودة لا يتجاوزها بصره، يريد أن يرى كل شيء، فيحلق في عالم الخيال، وإذ يصل إلى أعلى ذروة يتسنمها الفكر يلقي نظره على الأرض فيراها منبسطة أمامه واسعة الأرجاء، يحدها الأفق من جوانبها الأربع … ولكن … ماذا يرى؟ يرى كل شيء ولا يرى شيئًا … تكاد الجبال تغور في السهول وتختلط الأمواه بالصحراء الفاصلة، فلا تتبين عينه المحدقة بإرادة المعرفة غير جرمٍ بعيد لا يفهم منه شيئًا.
هذي هي الدنيا وأسرارها أمام العقل الإنساني الذي يريد أن يفهم خفايا العناية الأزلية المدبرة الكون تحت مظاهر الظلم والشقاء، تلك القوة غير المفهومة التي تنزل الرحمة دموعًا والسرور شقاءً والكرامة هوانًا.
إذا أراد الفيلسوف أن يعرف الدنيا وأحوالها بواسطة الاستقراء الحسي، فإنما هو لامسٌ جزءًا صغيرًا من الطبيعة المنظورة، هو يستقري، هو يلمس، ولكنه لا يلمس أكثر مما تصل إليه اليد في هذه الدائرة المحدودة التي يسمونها أفق العقل المادي … فتكون أحكام المفتكر بهذه الحالة صحيحة على ما يرى، وفاسدة على ما لا يرى … أما إذا ارتقى إلى ما فوق ليبحث فهو بعيدٌ جدًّا عما ينظر، يرى كثيرًا ولا يفهم شيئًا، يشعر بالحقيقة ولكنه لا يلمسها، يتأكد بأن الأرض ليست إلا شبحًا وهميًّا يسبح في الأطلس الفسيح، وحقيقة ذلك الخيال ثابتة إلى الأبد في مكان مجهول … يقتنع ويؤمن، ولكنه لا يتمكن من إقناع سواه ممن لا يصدقون بغير ما يلمسون.
على تلك الذروة العالية كان الكاهن الشيخ واقفًا في تلك الساعة ناظرًا إلى ما وراء أفق البحر، إلى السفينة الحاملة المجرم المتمتع بالحرية ولذة اللقاء وهو يبسم لعروسته ولأموالها، ثم يلقي أنظاره على القروية النحيلة الفاقدة الرشد الساقطة وهي بريئة تحت حمل الشقاء والرازحة تحت ضربة القضاء الهائل.
كان الكاهن يرى بعيني جسده شقاء المهانة وسعادة المهين، أما روحه المرتقية إلى ما فوق فكانت ترى غير ذلك، كانت ترى العروس وعروسته محاطين بضباب أسود كثيف، والقروية المخدوعة المتروكة محاطة بهالة النور اللامعة التي تكلل رءوس الشهداء ولا تنظرها العيون الترابية.
تململت سلمى على فراشها وفتحت أجفانها، وكان الظلام قد هجم بطلائعه على المدينة، ودخل منه ضباب رمادي إلى الغرفة، فتحت عينيها وشخصت إلى السقف وهي تقول: جميل آه ما أقساك!
فوقف الكاهن على مهلٍ وتقدم إلى قرب السرير، وقال بصوت الطبيب الذي يكلم جريحًا: لقد أكثرتِ من ذكر جميل وأنت غائبة عن الرشد يا سلمى، فعرفت سرك الهائل، افتحي عينيك واجلسي يا ولدي؛ فقد أتت ساعة التعزية بالله.
فحدقت الفتاة بأبصارها وإذ تبينت قربها شبح الكاهن الأسود تراجعت إلى زاوية السرير وغطت عينيها بيديها وتمتمت بصوت خافت يرتجف خوفًا: إلى أين تتبعني أيها الرجل؟ لقد رميت بنفسي إلى قعر البحر تخلصًا من عذابي، وها أنت واقف أمامي لم تزل تطاردني، اذهب عني … دعني في سكون الموت … احترم الفناء إذا كنت لا تعتبر الشقاء …
فوقف الكاهن مبهوتًا مما يسمع، وقد داخله شك هائل! أيَّ رجلٍ تعنين يا سلمي؟ أنا الأب بطرس كاهن قرية … أنا أبو سعدى صديقتك، أنا الذي باركت زواج أبيك وأمك، أنا الذي سكب ماء المعمودية على رأسك، فلماذا تخافين مني؟
وما سقطت هذه الكلمات على قلب سلمى الجريح حتى جرى الدم بشدة في عروقها فجلست وفركت عينيها كأنها مستفيقة من حلم عميق، وقالت: الأب بطرس … أبو سعدى، ويلاه أين أنا؟
وأدارت لحاظها في جوانب الغرفة، كأنها تفتش على مهد فتوتها، على الحقول الجميلة والكنيسة البسيطة، لمعت عيناها لحظة وعاد إليها الجمود، فانطرحت على فراشها؛ إذ وقفت أمامها تلك الصفحة السوداء التي كتبها الزمان ولم تَعُدْ تقوى على محوها يدٌ بشرية، انطرحت بكل قوى اليأس وهي تقول: اذهب أيها الماكر، أنا أمقتك، دعني، لقد كفاني الخداع الذي أحتمل ويلاته من الدنيا، فلا أريد أن تشترك السماء بالغضب عليَّ؟
وأخذت الفتاة تردد كلمات متقطعة غير مفهومة، والكاهن الشيخ واقفٌ يصلي، ودموعه سائلةٌ ببطء على لحيته الطويلة البيضاء.
•••
أنيرت الغرفة.
وكان الكاهن الشيخ واقفًا أمام النافذة وسلمى جالسةً على المقعد، وكانت تتكلم بصوت مرتجف وفي عينيها لمعات تلوح وتنطفئ كآخر شعاع الشمعة الذائبة.
– نعم يا أبي بعد أن هربت من مزرعتي المحبوبة حاملةً لعنة والدي على رأسي ودموع أمي بقلبي، بعد أن ودعت ابتسامة أختي الصغيرة وتغريد شحارير الحقل الذي شرب عرق جبيني سنوات عديدة، بعد أن طوى الدهر صفحة فتوتي وعفافي حضرت إلى هذه المدينة مفتشة على قاتلي، فوجدته يتأهب للزفاف، وجدته في لوكندة أميركا وغرفته مملؤة بالأثواب الجاهزة لعروسته، فانطرحت على أقدامه، ووضعت يده على قلبي ليسمع فيه نبضات قلبين فكان جزائي الطرد والإهانة، وبعد يومين من ذلك الملتقى الهائل شهدت حفلة زواجه ذليلة صاغرة، ورجعت إلى النزل وعلى رأسي جبال من الحزن، فرأيت هنالك رجلًا يعتبره الناس، وهو يتكلم عن الدين والتقوى والأدب، وكانت غرفته إزاء غرفتي فأردت أن أفتح له قلبي، وأطلب منه مشورة ورحمة، فكانت تعزية هذا الفاضل لي إهانة لأشجاني وتطاولًا على جسدي المضنى، وقد كان لابسًا ثوبًا يشبه ثوبك يا أبي، ولهذا ذعرت إذ فتحت عيني ورأيتك، فاغفر وقد عرفت السبب.
لقد قال لي جميل إن الفضل ليس إلا ستارًا للفظائع، فلم أصدق ولكنني في ذلك الحين شككت بوجود الله وقد احتقرت الدنيا ومن عليها فقمت متملصة من يد الرجل هاربةً تائهةً على ساحة البرج، وهنالك استوقفتني مناظر مريعة، هنالك رأيت وردة ابنة القرية المجاورة لنا لابسةً أثواب الحرير تتخطر ضاحكة ثاملة، وكنت أحسبها من قبل ميتة إذ سافرت من قريتها ولم ترجع ولم يسمع أحدٌ عنها شيئًا.
أدخلتني إلى غرفتها حيث مجالي الفخفخة والراحة، وبعد حديث طويل فهمت من الدنيا ما لم أكن أعرفه من قبل، عرضت عليَّ وردة البقاء معها فرفضت، وقلت لها إنني أريد الموت، قلت لها إن جميل مسافر غدًا مع عروسته، فأريد أن ألقي بنفسي إلى البحر الذي سيحمله، بكيت كثيرًا وكنت خائفة واجفة في ذلك المكان الذي ترتفع حوله جلبة الفسق وأصوات المدينة السكرى، فأردت الخروج ولكن وردة لم تتركني، تعلقت بثوبي قائلةً: ابقَيْ هنا يا سلمى، نامي على سريري آمنةً من كل طارئ، فأنت الآن في حرم صديقة طفولتك، لقد اشتغلنا سنتين في معمل الحرير، فلك عليَّ حق الرفيقة وواجب الصداقة، نامي يا أختي، وها أنا ذا ذاهبة لأقوم بفروضي الثقيلة الهائلة، ولا بد أن تعرفي يومًا ماهية هولها يا سلمى.
ذهبت وردة وأقفلت الباب وكنت تعبة محطمة من اليأس فاستغرقت في نوم ثقيل حتى الصباح.
في وسط الفساد والضلال كنت آمنة على نفسي، وفي المجتمعِ الطاهرِ الظواهرِ لم أكن غيرَ حمامةٍ في مخالب النسور.
بنت الهوى حمتني، وفاضل الناس أراد إهانة روحي الجريحة ليأخذ من ضعفها ما يسلي بطره وضلاله.
أنا مذنبة يا أبي، أما جميل فمجرم … هو دفعني إلى الضلال مفسدًا اعتقادي أولًا، ثم توصل إلى إلحاق الدنس بي فترك في أحشائي نطفة حياته وتبرر منها … فها أنا ذا أرملة وزوجي حي.
هو مكرمٌ من الناس يتزوج بعذراء ولا يبتعد أحدٌ عنه، وأنا مطرودة مهانة لا أجسر أن أنظر إلى السماء، ويُخالُ للناس أنْ لا حقَّ لي أن أمشي على أرضهم.
لا أفهم يا أبي ماهية هذا العدل الذي يرحم القاتل، ويجور على المقتول.
جميل لم يحفظ شيئًا من نتائج فعلته، وأنا أحمل ثمرة إفساده لي، ولهذه العلة يقول الناس إن جرمي أشد فظاعة من جرمه، فكأن هذه الدنيا لا تجور إلا على الساقط تحت الظلم.
– مهلًا يا سلمى إذا كانت عماوة الناس لا ترى الخطيئة إلا على عاتق المظلوم التعيس، فالشريعة السماوية أرفع من أن تحدد الأمور كما يفهمها الإنسان الضال، أنت مذنبة عن ضعف، وجميل مجرمٌ عن قوة، إذا كانت المادة تظهر للنظر أن جميل أعطى وأنت أخذت، فالعقل يرى غير هذا، أنت أعطيت قسرًا وجميل أخذ جبرًا، أنت مسروقة وهو سارق، ولكن شريعة الفادي لهي مبنية على المغفرة يا ولدي، اغفري يا سلمى؛ فهذه الفضيلة التي تُصَيِّر الرجل عظيمًا ترفع المرأة إلى أوج الألوهية، انظري إلى ما فوق يا ولدي؛ فإن الفادي لم يأتِ الأرض لأجل الأصحاء، بل لأجل المسقومين، أتى ليرسم نقطة واحدة على الفكر البشري وتلك النقطة هي المغفرة والأمل، فلا تتركي الشكوك تتسلط على إيمانك؛ لأن المشترع الكبير قد أتى لأجلك ولأجل إخوانك في الشقاء، وهم يغطون بدموعهم وجه الأرض.
وأحنت سلمى رأسها بتعبٍ كزهرة أضناها الذبول فلم تعد تقدر على احتمال النسيم الرطيب الذي سيحمل إليها الحياة، وبقيت برهةً ساكتة ولكنَّ قلبها الجريح لم يلبث حتى دفع الدم إلى جسمها بشدة فرفعت رأسها وقالت: لما كنت على المرفأ أذود خادعي بنظراتي الأخيرة كدت أن أصرخ: هذا قاتلي أوقفوه، ولكنَّ قوة سرية أغلقت فمي، فرأيت أن الناس كلهم ينظرون إليَّ شذرًا، رأيت الشيوخ يرمون عليَّ نظرات الاحتقار، والشبان والكهول يحدجونني بلفتاتهم، فأرى على مرآة عينيهم صورة المشاهد التي يطبعها الفساد على أدمغتهم حين مرآهم فتاة مثلي يمكن التلاعب بحقارتها واغتنام الملاذ من آلامها وهوانها.
رفعت أنظاري إلى ما فوق، فردَّها اعتقاد الناس بي إلى أسفل، نظرت إلى البحر الحامل مجسَّم الطمع هاربًا من وطنه وذراعي القناعة والحب المفتوحتين له، نظرت إلى هذا الأزرق البعيد الذي يسرق شباننا من بلادهم كما يقتلع حبهم من قلب فتيات لبنان، فأحببت أن أطرح بنفسي إلى اللجة، أردت أن أغرق وأموت حيث مرَّت سفينة قاتلي، فخفت من الناس الواقفين حولي ولم أذكر خالقي؛ لأنني لم أعد أخافه بعد أن رأيت جميلًا لا يخشاه.
في تلك الساعة يا أبي حينما يصبح الإنسان مخيرًا بين الحياة والموت، في تلك الدقيقة الهائلة وقف شبح وردة أمامي وقد فتحت ذراعيها العاريتين وهما مطوقتان بالأساور الذهبية التي رنت بأذني كصوت جرس مزرعتنا حين يدوي في الليل لينبي بموت صديق أو قريب … رأيت وردة تنظر إليَّ وتتبسم، فأدرت لحاظي عنها إلى وجه البحر العابس المتجعد، وارتعشت معاطفي فبكيت؛ لأنني لم أرَ غير وردة والبحر، الحياة التي أخاف منها، والموت الذي أحبه بقلبي وأبتعدُ عنه بقوة لا أعرفها، وكأن نفسي المتراجعة عن موت الحياة وحياة الموت وقفت متزعزعةً أمام المجهول، فشعرت بها كأَكرة نور تتحول بغتة إلى ظلام منحل، سقطت على الأرض في حين ظهر لي وجهك يا أبي، رأيتك ولم أعرفك؛ لأن السراج الوحيد لا يمكنه أن يبدد ظلام حياة دخلت في الليل ولم تعُدْ تقبل النور.
وكان صوت سلمى يرنَّ ضعيفًا في غرفة النزل الضيقة؛ لأنه كان أوهن من أن يموِّج دقائق الهواء الفاسد المنتشر بين الجدران الواطئة، ولكنَّ أذن الكاهن كانت تسمع ذلك الصوت كأنه قهقهة الرعد ودوي المدفع، فكان يلتفت إلى جهة الباب خشية أن يسمع أحد ذلك الكلام الذي يجب أن يهز الكرة لترتجف له الأرض.
وبعد أن وقف الكاهن متأملًا، قال لسلمى وقد وضع يده على كتفها، وقال بكل وقارِ خادمِ الله وعفافِ الشيخ: لماذا لم تطالبي جميل بحقوقك، والقانون يقضي عليه بالتعويض؟
– أنا لا أعرف القانون يا أبي، ولكنني سألتُ، فقيل لي إن دون الوصول إلى الإثبات عقبات هائلة يستحيل على الحقيقة اجتيازها، فلا أربح سوى احتقار الناس والفضيحة والشنار، وآخر ما يصل إليَّ من التعويض عن حياة أصبحت لغوًا هو بضعة دنانير يذهب بها العار ليسطع لامعًا بدنائته أمام الألفة وقلبي المخدوع، عبثًا تخرج الشرائع من مصدر الحق السامي إذا كان البشر لا يفهمون قوة العدل، ماذا يهمني إذا انتصر لي القانون وهو حين يبرز حكمًا على الجريمة يضحك منها الجاني وتزيد بها جراح المجني عليه؟ ماذا يفيدني حكم العدالة في المحكمة، والمحكمة الكبرى المؤلفة من الشعب كله ظالمةٌ عمياء، لا ترى الجرم إلا على كاهل الضعيف؟
وكان الكاهن يفتكر.
في الشريعة روح سامية تتجلى على المواد لتجعلها حيةً تدير عنان الأحياء، والناس يقرُّون بوجود تلك الروح الأزلية التي أنزلها الله على أقلام المشترعين ولكنهم يخالفونها كل يوم ليس بأفعالهم فقط، بل بمبادئهم أيضًا، بكل حركة وكل رأي نرى مخالفة عادات الألفة للشرع، فهي تقرُّ به به إقرارًا ظاهريًّا، ولكنها تعتقد بالأمور كما تشاء، بكل شريعة وُضع عقاب للرجل الجاني على العذراء ولم يوضع عقاب على المرأة الجانية على الرجل؛ لأن منذ تشكيل المحاكم البشرية حتى اليوم لم يقمْ رجلٌ دعوى على امرأة اغتصبته، ذلك لأنه يكون دائمًا متعديًا في حين أن المرأة تكون غالب الأحيان مخدوعة مهانة، ومع ذلك فالناس لا يفهمون، وإذا وجدوا خائنًا وخائنة فهم يحولون كل احتقارهم إلى هذه ويجدون أعذارًا لذاك!
منذ أيام قام أحد الكتبة المفكرين شارحًا تساوي الجرم بالخداع بين الرجل والمرأة، وأراد أن يعارض رأي الألفة بتبرير الرجل وألقى كل الذنب على المرأة، فانتصر لمآل الشريعة الشاملة مبينًا مطابقتها للواقع المحسوس من حيث المبدأ والنتائج، قصد أن يجعل الرأي العام مطابقًا للحقيقة، أراد أن يقوم بهذه الخدمة فعارضه قسم كبير ممن يعتقدون بإبقاء حاجز الجهل بين الفكر العامِّ والشريعة الشاملة السامية.
التفت الكاهن للفتاة وقال لها: سأتركك الآن يا سلمى، فنامي إلى الغد، والله المدبر الأمور يسهل أمامك سبل الخلاص.
– نعم يا أبي، سأنام إلى الغد ولكن في أحضان الجزع والشقاء، ولا أومل من الله شيئًا؛ لأن الله إنما يوصل إلى الناس عدله بواسطة الناس، وهؤلاء قد فسدوا فلا يصلحون رُسلًا لرحمة خالقهم، لم يبقَ أمامي غير وردة والاستخدام والاستعطا، ولربما فضَّلْتُ الحالة الأخيرة.
خرج الكاهن متعجبًا من حديث سلمى، وهو لا يفهم كيف أن الشقاء يولد الفلسفة حتى في أبعد الناس عن العلم؟
انطرحت الفتاة على فراشها واستغرقت بالبكاء ولم يلبث حتى ساد الوسنُ على عينيها المتعبتين، وكان الكاهن لم يزل بعد ساهرًا يصلي وهو يجول بأفكاره على الألفة السورية ليرى بها موضعًا يُنصر فيه الضعيف الساقط؛ ليجد مكانًا يقدر به الشريف أن يعضد الضال التعيس دون أن يُرمى بالحيف وسوء الظن، جال طويلًا حتى عثرت آماله، ورأى نفسه وهو رسول الدين الآمر بالرحمة والغفران عاجزًا عن مديد المساعدة لأولى الناس بالبر والإشفاق، مقيدًا بعوائد الألفة واعتقاداتها التي انفصلت على كل جميل وعظيم، فأحنى رأسه بتعب، وقال واليأس يكيِّف مقاطع صوته: إذا ضاقت مجالي الإسعاف على الدين والأدب، وإذا أصبح الدين عاجزًا عن إحياء النفوس البرية؛ لأن الناس تريد قتلها وتتهم بالضلال كل من يناصرها، فقد بقي وجه واحد أساعد به المخدوعة التاعسة.
وفتح الكاهن هميانه فوجد به خمسة دنانير قلَّبها بيده، وقال: في العالم دولتان؛ دولة المادة، ودولة الروح، وقد أصبحت الأرواح مهانة كيفما انقلبت حتى لا يمكنها أن تحسن بعد … فليس من قوة لغير المادة في هذه الألفة التي ضعف بها كل شيء لا يكون محسوسًا، ولهذا حُصر الإحسان في الدرهم مميتًا كل شفقة أدبية ومساعدة روحية تجعل النفوس عاضدة للنفوس.
كثير من الناس من يضحك مع الضاحكين؛ لأن الضحك اشتراك المادة مع المادة ولكن أين الذين يبكون مع الباكين؟ أين الصديق على شقاء الصديق؟ أين الابن على عجز أبيه؟ أين الحبيب على قبر حبيبته في هذه الألفة الجاشعة المسكينة التي يقتلها الطمع وهي ملقاة على حضيض الهوان.
أين الذي يجلس مع العشارين ليردهم إلى الحق الرفيع، أين الذي لم تدنس قدماه من دموع الزانية النادمة؟!
وأنا خادم ذلك المحسن العظيم الذي ظهر على الأرض، أنا الذي حصرت واجباتي بشفاء جراح النفس، أينما وجدت أجدني مقيدًا بعماوة الألفة التي تحيط بي، كان يجب أن آخذ سلمى إلى بيتي وأساويها بسعدى ابنتي، ولكن حنان نفسي لا يمكن له أن يبرر جسدها، فهي أمام الناس شقية ساقطة ودنس جسدها يوصل الأذى إلى كل عيلتي فنسقط كلنا معها ولا نقدر أن نرفعها.
وبهت الكاهن برهة طويلة كانت مبادي المسيح بها تناضل ضد عوائد الألفة وضلالها ولكنه رفع رأسه أخيرًا وفي عينيه ذلة المنكسر وقال: عفوًا يا رب فقد امتنع عليَّ أن أكون خادمًا لمباديك الإلهية بروحي وقلبي، فاسمح أن أحصر إحساني بهذا المال القليل الذي أصبح وحده مدار البشرية بعد أن اشتريتها بدمك وعززتها بروحك الأزلية، وكثيرٌ من أمثالي يضنون على إخوتك التعساء حتى بهذا المعدن الزائل …
•••
مرَّ شهران على هذه الحوادث.
في أسواق بيروت المكتظة بالناس كانت امرأة شاحبة اللون غارقة العينين حاملة طفلًا على ذراعيها وهي تتوسل إلى المارَّة باسم الله والولد، باسم الدين والرحمة، هي ترتجف من الضعف وأثوابها ممزقة تستر جسمًا كان منذ أشهر قلائل كدمية الرخام ممثلة مجموع الجمال … تدلى شعرها الأشقر قصيرًا على كتفيها وقد فقد لمعانه، اختلط بنور عينيها قتام مهيم فهي ظلمة متوهجة يخشع أمامها الناظر.
إذا كانت لفتات العلماء والشعراء تدخل الاعتبار في قلب الناظر إليهم ففي لفتات المجانين ما يولد الخشوع والارتهاب، إذا دلت العين التي وراءها قوة مفكرة على وجود نفس سامية في الإنسان، ففي العيون الجامدة وقوة ضعفها المذيب برهان لكمون النفس الناطقة؛ لأن لا شيء أدعى إلى ظهور القوة الخفية من وجود العذاب فيها.
لو عاد جميل من وراء الأوقيانس البعيد ورأى هذه المرأة حاملة ابنهُ متسوِّلة على قارعة الطريق هل يعرف بها سلمى يا ترى؟
لو مر اللبناني قرب هذه المرأة وهو يعرف روايتها، فهل يجود عليها بدرهم ذاكرًا أنها صورة وطنه المخدوع الضائع مثل هذه الفتاة التاعسة في أحضان المدنية القاسية …
هي شريدة وحيدة بين هذه الألفة السائرة وراء السعادة وقد نضب ماء وجهها مع مياه حياتها، وكل من عرف حالها يلقي عليها الملام، ومن القساة الجهلة من يعنفها ويلعنها …
هكذا تفهم الألفة ماهية الجرائم، فأكبر المخلوقات إثمًا لدى الناس من سقط ليتعذب …