المقالة الثانية
لقد تقدم الكلام في المقالة السابقة على مذهب داروِن، وما يترتب عليه على سبيل الاختصار.
وما قيل فيها لا بُدَّ من أنْ يرسخ تأثيره في رأس كل عاقل. على أنَّ الاعتراضات على هذا
المذهب كثيرة، وقد عرفها داروِن نفسه فأفرد لها قسمًا كبيرًا من كتابه، ولم يبسطها كذلك
إلَّا لينفيها بماله من سعة الاطلاع ودقة النظر، ولكي يبين أيضًا صحة مذهبه بمزية التحقيق
وفضل التدقيق. ولقد أظهر من خلوِّ الغرض ما لا شك في أنَّه لم يقصد به سوى معرفة
الحقيقة.
وإنه ليطول بنا الشرح إذا فحصنا كل الاعتراضات التي اعتُرِض بها عليه أو اعترضها هو
على
نفسه، فنقتصر على واحدٍ منها فقط هو أهمها جميعًا؛ لأنَّه يظهر في أول الأمر أنَّ نَفْيَه
غير ممكن، وهو غير الاعتراض اللاهوتي الذي لم ينفه داروِن نفيًا صريحًا، بل أراد تقليل
قيمته بجعله الخلقَ المحصورَ في بضعة أصول قابلةٍ كلَّ تغيُّر لاحقٍ من نفسها أولى بحكمة
الخالق وعظمته. ولا حاجة إلى القول أنَّ مثل هذا التعليل ساقط من نفسه، وكان في إمكان
داروِن الاستغناء عنه، لولا أنَّه راعى حاسات مواطنيه الدينيَّة؛ لأن قاعدة مذهبه الصدفة
العمياء، وكله قائم على أفعال طبيعية لا شيء من القصد فيها، وهو أعرق في المادية من مذهب
لامرك؛ لأن لامرك يسلم بناموس للارتقاء عام، وأمَّا داروِن فإن ارتقاء الأحياء عنده متوقف
على تجمع تدريجي في الأفعال الطبيعية العارضة الضعيفة التي لا تحصى.
فاعتراضنا إذن علمي لا لاهوتي، وهو مهم جدًّا؛ لأنه إذا صح ولم ينفَ أَلَمَّ ليس فقط
بمذهب داروِن وحده، بل بسائر مذاهب التحوُّل أيضًا، ولا سيما ما تعلق منها بالإنسان لتعيين
مقامه في الطبيعة وفي عالم الحيوان، وهو: إذا صح أنَّ الأحياء تكوَّنت بالتحوُّل بعضها
عن
بعض رويدًا رويدًا، فلا بُدَّ من أنْ كان بينها صلة تدل على انتقالها؛ أي من صور بين
بَين،
وكان ينبغي أنْ تلتقي هذه الصور في الأرض، فلماذا لم يكن بينها ذلك؟ وإذا كان فلماذا
لم
يوجد؟
فنقول: إنَّ لنا على فساد هذا الاعتراض ثلاثة أجوبة: أحدها أنه تُعْلَمُ صور كثيرة
متوسطة، وكلَّ يوم تُلتقى صور جديدة أيضًا، ولا سيما من الحيوانات الصدفية المحفوظة أحسن
من
سواها من رتبتها الدنيا لغشائها الحجري أي الكلسي؛ ولذلك كان ترتيبها في سلسلة تحوُّلها
أسهل أيضًا. ولنا الآن سلسلة طويلة من الأصداف المعروفة يختلف طرفاها جدًّا بحيث يستحيل
الجمع بينهما، لولا ما بينهما من الصور المتوسطة الدالة على بطء التحول.
١ وما كان لا يزال ناقصًا من هذا القبيل قد كمل بما وجد في الطبقات المكتشفة
حديثًا في الأرض؛ فإنهم قد وجدوا في هذه السنين الأخيرة بالبحث في طبقات هلستاد وسان
كسيان
في منحنى جبال ألب النمساوية الجنوبي والشمالي بين الأراضي الثنائية، والأراضي الثلاثية
المتوسطة عالمًا من الحيوانات البحرية مؤلفًا من نحو ثمانمائة نوع، ملأَ دفعةً واحدة
فراغًا
واسعًا. ولا ريب أنَّ مثل هذه الاكتشافات لا يزال لازمًا لنا كثيرًا، ولا يخفى أنهم قبل
داروِن لم يكونوا يعبئون كثيرًا بالتنوعات كأن ليس لها معنًى، وأمَّا اليوم فصاروا يعتنون
بها ويعرفون قيمتها.
وإذا نظرنا إلى المسألة من وجهها الحقيقي، نجد أن لا فرق أيضًا بين الحيوانات العليا
كذوات الثدي مثلًا، والحيوانات الرخوة البحرية من هذا القبيل؛ فإن المموث — أي الفيل
الأول
— ليس إلَّا منتهى سلسلة طويلة لا تتضمن أقل من ٢٦ نوعًا من الفيلة الأولى. وهذه الصور
الانتقالية تصل بين المستودنت (نوع من الفيل يمكن تتبع أصله إلى الدور الثلاثي) وفيلنا
الحالي، وهكذا يمكن تتبع أصل الرينوسروس أي الكركدن ذو القرن الواحد الموجود، حيث يوجد
الفيل إلى أجداده الأُوَل، وقد اكتشف المشرح الإنكليزي «أون» عدة صور أحفورية متوسطة
بين
المجترات والصفاقية الجلد، بحيث إنَّ المسافة البعيدة التي تفصل الجمل عن الخنزير مثلًا
قد
انتفت.
واكتشاف الطير العجيب الأركوبيتريكوس مكروروس حديثًا، وصل بين طائفتين من الحيوان
منفصلة
إحداهما عن الأخرى انفصالًا تامًّا؛ وهما: الطيور والحشرات.
٢ وكثير من الجيولوجيين والزولوجيين (علماء طبائع الحيوان)، والبالنتولوجيين يبحث
عن صور متوسطة بين نوعين موجودين، وذلك على رأي داروِن خطأ؛ لأن الصور الحاضرة غير آتٍ
بعضها من بعض رأسًا، بل كل منها منتهى سلسلة تحولات طويلة؛ ولذلك كان يقتضي إذا أريد
الجمع
بين صورتين معلومتين أنْ يبحث لهما لا عن صورة تجمع بينهما رأسًا، بل عن أصل مشترك مجهول.
مثال ذلك الحمام الطاووسي والحمام الغليظ العنق، فإنهما غير مشتقين بعضهما من بعض، بل
من
الحمام البري، وكل منهما يتصل فيه بصور متوسطة خاصة به. ولا يوجد صورة متوسطة بين الفرس
والتابير، ومع ذلك فهما متحولان عن أصل مشترك مختلف عن كليهما، وقد اضمحل منذ زمانٍ طويل.
والصور الأربع الحاضرة الفرس والحمار وحمار الوحش والكواجا، لم يكتشف على صور متوسطة
بينها
تصلها بعضها ببعض رأسًا، مع أنه يجمعها أصل واحد أحدث عهدًا من الأصل السابق، وقد اضمحل
أيضًا. واعلم أنَّ الصور الحاضرة كلما كانت مختلفة بعضها عن بعض جدًّا، كانت الأصول التي
تجمعها بعيدة كذلك.
ومما يعز فهمه أنَّ خصوم داروِن كثيرًا ما يفوتهم هذا الشرط المهم جدًّا، فيقولون
لك
مثلًا: أتريد أنْ تقنعنا بأن الأسد يأتي من الحمار، والفيل من النمر؟
فلو كان مذهب داروِن يعلمنا شيئًا من ذلك، لوجب علينا أنْ نلحقه بغرائب العلم، ولكنه
يترفع عن مثل هذه التهمة بما بسطناه من البيان السابق، وهو أنَّ الصور الحيَّة للعالم
الحاضر لا يشتق بعضها من بعض، وإنما هي النتائج الأخيرة لتحول حاصل في أصل ماضٍ بفعل
الطبيعة البطيء في ملايين السنين. ويستحيل أنْ تتابع هذه الأصول؛ لأن كلًّا منها منتهى
تحول
طويل خاص به، على أنه لا يمتنع اجتماعها بعضها بجانب بعض على أرض واحدة، وفي وقتٍ واحد،
٣ كما تجتمع أوراق الأغصان المختلفة في الشجرة الواحدة، فلو أردنا البحث في أصل
كل ورقة، لاقتضى أنْ نبحث عنه في الأغصان، بل في الفروع، بل في الساق، بل في كل جذر من
جذور
الشجرة على حدته. قال داروِن في هذا المعنى ما نصه:
إنَّ القاعدة التي تعلمنا أنَّ الطفرة في الطبيعة محال، لا تصح إذا اقتصرنا على
الأحياء التي تقطن الأرض اليوم، وإنما تصح إذا نظرنا إلى الماضي، وبحثنا عن أصل هذه
الأحياء فيه؛ فإن بينها فراغًا كبيرًا، ولكنه ظاهري فقط لا حقيقي؛ لأن الصور
المتوسطة التي كانت تصل بينها ماتت منذ زمان طويل.
وفي الجملة، فإن جميع الأصول المتعددة كانت في الماضي — كما قيل في المقالة السابقة
—
أقرب بعضها إلى بعض مما هي اليوم، وأمَّا اليوم فقد تباعدت جدًّا متشععة حول الأصل الأول،
وصار الفراغ بينها كبيرًا أيضًا كذلك.
والجواب الثاني هو قلة المعلوم لنا من الأرض، فإنه قد تقدم في المقالة السابقة أنَّ
المعلوم المستقصى منها يكاد لا يكون شيئًا يذكر؛ ولذلك كان علمنا بالأحياء الأولى ناقصًا
جدًّا أيضًا، فإن ثلاثة أرباع الأرض تحجبها المياه، والربع الباقي قسم كبير منه تغطيه
الجبال، أو تحول دون استقصائه موانع أخرى شتى، وما بقي فلا نعرف عنه إلَّا القليل؛ فلا
غرو
إذا كانت سلسلة الأحياء تظهر لنا مقاطعة تفصلها فراغات عظيمة. وزد على ذلك أيضًا أنَّ
الأحياء الحيَّة لا تُحفظ غالبًا، وإذا حُفظ منها شيءٌ فبعضه، ولا بدَّ له أيضًا من أحوال
خصوصية موافقة، فالأجسام الرخوة لا يبقى منها شيءٌ، ولا يبقى من الأصداف والعظام أيضًا
إلَّا ما كان مدفونًا في الأرض غير معرض للفساد. وقد ذكر ليل في كتابه قدم الجنس البشري
مثالًا على سرعة فساد البقايا، فقال: إنه في سنة ١٨٥٣ لما تمَّ تجفيف بحيرة هارلم لم
يوجد
فيها أثر لعظام بشرية، مع أنه قد حصل فيها حروب وغرق فيها مئات من الإسبانيول والهولانديين،
وقطن على ضفاتها نحو ٤٠٠٠٠ نسمة مدة قرون، ولم يُلتقَ فيها إلَّا بعض بقايا مراكب ودراهم
وأسلحة وما شاكل.
فما قلناه كافٍ لمعرفة النقص في المعلومات البالنتولوجية، وفقد الصلة بين الأحياء
في غالب
الأحيان. ولداروِن في سبب ذلك نظر آخر أيضًا جوهري، حيث يقول: «إنه نظرًا لكيفية توالي
الحوادث الجيولوجية لا بدَّ من فقد الرابط وحصول الفراغ؛ لأن الطبقات الجيولوجية المختلفة
تفصلها أدوار طويلة جدًّا، فإن كل قسم من سطح الأرض يحصل فيه على الدوام تغيرات كثيرة
وبطيئة، تحدث تغيرًا في ارتفاعه فترفعه تارة فوق البحر، وتخسفه طورًا تحته، ويشمل ذلك
مساحة
من الأرض عظيمة.»
٤ فهذا التعاقب نتيجته حصول فترات في الأدلة الجيولوجية على تكون الأحياء؛ لأنه
في حين الارتفاع الأصلح لتكون الصور الحية الجديدة لا ترسب تلك الرواسب اللازمة لحفظ
البقايا العضوية وترسب في حين الانخفاض. وعلى ذلك، فالأرض التي ترتفع فوق الماء تكون
أنواعها حديثة، مع أنها هي نفسها متكونة في أماكن أخرى، لكنها لا تحتوي شيئًا مدفونًا
فيها
من البقايا الحية التي تسمح بربطها بالأنواع التي كانت عليها قبل الانغمار في الماء،
فلا
تعلم النسبة بين أحيائها قبل الانغمار وبعده، ولكي يمكن ذلك ينبغي الحصول على عدد وافر
من
الأصول من أماكن مختلفة، ولا يكاد يتيسر. ذلك على أنَّه في كل سنة تحصل اكتشافات تؤيد
هذا
المذهب؛ إذ يزداد عدد الأصول المعروفة التي بينَ بين، فيقوى المذهب على دحض أغلاط الماضي،
ولكم بقوا لا يعتقدون وجود ذوات ثدي كبيرة قبل الدور الثلاثي؛ أي إنَّه لا توجد قرود
أحفورية فيما قبله، وأمَّا اليوم فيعرفون كثيرًا من القرود الأحفورية. وقد وجدوا ذوات
ثدي
كبيرة في الأراضي الثنائية حتى فيما هو أقدم منها أيضًا. وهكذا أيضًا كان يظن في الطيور،
فإنه لغاية سنة ١٨٥٨ لم يكونوا يعرفون آثار طيور قبل الدور الثلاثي، وأمَّا من ذاك الوقت
فقد اكتشفوا في أعلى العرق الرملي الأخضر — حجر المسن — للطبقة الطباشيرية (طبقة ثنائية
عليا) آثار طير مائي من طائفة زمج الماء المعروف بالنورس أيضًا. وقد اكتشفوا الأركوبتريكوس
مكروروس في أقدم من ذلك أيضًا؛ أي في الطبقة الأوليثية للدور الثنائي. وعلى قول داروِن:
إنهم عرفوا في العرق الرملي الأحمر أثر أرجل ثلاثين طيرًا كبيرًا لم يعثروا على بقايا
لها،
وعلى ذلك فكلما كثرت الاكتشافات الجديدة اتضح لنا عدم ظهور الأنواع فجأة خلافًا لما كان
يُعتقد سابقًا.
٥
والجواب الثالث الذي يدحض داروِن به الحجة المقامة على مذهبه من فقد الصور المتوسطة
يتعلق
بأحوال حياة هذه الصور، فإنه لا توجد الصور الانتقالية إلَّا نادرًا على رأيه؛ لأنها
أقل
شدة وأقصر مدة من الأصول التي جاءت بعدها. ولسهولة اضمحلالها وسرعته سببان:
أحدهما: أنَّ مدة التغير في أحوال الحياة الخارجية الموافقة خاصة لتولد الصور الجديدة
بالانتخاب الطبيعي، هي أقصر جدًّا من المدة التي تتكيف وتثبت فيها الصور المذكورة، ولبيان
صحة هذا القول أعود إلى ذكر المثال الذي ذكره شارل فوجت في رسائله في الإنسان، حيث ذكر
أنَّ
الدب الأسمر الحاضر لا شبهةَ في أنَّ أصله دب الكهوف القديم، الذي كان في الدور الطوفاني؛
فإنا نعرف الدرجات الثلاث الانتقالية بينهما غير أنَّ وجود بقاياها نادر بخلافهما، فإن
وجودهما كثير، ولا سيما دب الكهوف الذي لا يكاد يخلو منه كهف من الكهوف الكثيرة جدًّا
التي
استقصيت للدور الطوفاني. ولا يفهم سبب ذلك إلَّا لسرعة تغير أحوال الحياة الخارجية،
واضمحلال هذه الصور الانتقالية في تنازعها مع هذه الأحوال الجديدة.
واعلم أنَّ تغير الأحوال الخارجية قد بلغ الغاية في التأثير والثبات، حيث حصل انتقال
من
الحياة في الماء إلى الحياة على اليابسة وفي الهواء، فكل صورة حية ثبتت في هذا الانتقال
كان
تكوينها بالغًا من الارتقاء شيئًا غير قليل. ويظن داروِن أنَّ مثل هذه الأصول لا يزال
موجودًا، كالمنك الذي يطارد السمك في الماء في الصيف والحيوانات الأرضية في الشتاء.
والسبب الثاني الذي تضمحل لأجله الصور المتوسطة — أي الانتقالية — بسهولة وسرعة: هو
أنَّ
المنازعة والمزاحمة تبلغان الغاية في الشدة بين الصور الأقرب بعضها إلى بعض، فما كان
منها
ضعيفًا تلاشى لمنازعة ما كان منها قويًّا له، وتقل المنازعة بين الأحياء المتباعدة بطول
المنازعة بينها، فيسهل قيامها بعضها بجانب بعض. وعلى ذلك فتكون أسباب تلاشي الصور
الانتقالية عظيمة جدًّا، كما كانت أسباب توليدها كثيرة كذلك. وكلما أسرع الارتقاء وتميز
—
كما في أعلى ذوات الفِقر خاصة — خفي تحوله.
ومن المقرر أنَّ الصور التي بينَ بين تضمحل أيضًا في مبحث آخر غير هذا له به علاقة
شديدة،
وإنْ ظهر لنا أنَّه بعيد عنه جدًّا؛ أعني به المبحث اللغوي، فإن اللغات المختلفة كالأنواع
تنمو وتنشأ بعضها من بعض، وتنازع أيضًا، والفرق بينها أنَّ اللغات تتغير بسرعة أكثر من
الأنواع جدًّا؛ ولذلك كانت في تغيرها أظهر لنا منها. فالأنواع قد تدوم مائة ألف سنة،
ولا
يعلم أنَّ لغة دامت أكثر من عشرة قرون، وهذه المشابهة المهمة جدًّا ذكرها داروِن في صفحة
٤٢٦ من كتابه إلا أنَّه لم يبسطها البسط الكافي، بخلاف الجيولوجي ليل فإنه استنادًا إلى
أبحاث الفيلولوجي
٦ الشهير مكس مولر أفرد فصلًا من كتابه «قدم الجنس البشري» لإطلاق مذهب داروِن
على اللغات، وقد بيَّن فيه بما لا يقبل الاعتراض أنَّ الأنواع في الطبيعة واللغات في
التاريخ تتغير تبعًا لنواميس متشابهة، وكما أنَّه يصعب تمييز الأنواع عن التباينات هكذا،
يصعب تمييز اللغات عن الألسنة أيضًا. والفيلولوجيون غير متفقين على عدد اللغات، كما أنَّ
الطبيعيين غير متفقين على عدد الأنواع، فهي عندهم من ٤٠٠٠ إلى ٦٠٠٠ لغة، وليس لهم حدٌّ
مقبول يفصل اللغة عن اللسان، كما أنَّه لا يوجد حدٌّ يفصل النوع عن التباين. والعاملان
الجوهريان في اللغات هما كما في الأنواع التغير والانتخاب الطبيعي. وكما يحصل في الأنواع
كذلك يحصل في اللغات أيضًا نتائج عظيمة لتجمع أسباب عديدة صغيرة لا قيمة لها في الظاهر
بحد
نفسها كإدخال عبارات أجنبية، وكثرة الخطباء والكتبة والاختراعات والاكتشافات، وتعلم علوم
جديدة، وتنازع الألفاظ المختلفة … إلى غير ذلك مما يغير اللغة، وتكون نتيجته ملاشاة الحدود
أو الصور التي بينَ بين. فإن ترجمة لوثر للتوراة قد أيدت شأن اللسان السكسوني في سائر
ألمانيا زمانًا طويلًا، وأمَّا اليوم — أي من بعد ثلاثمائة سنة — فيكاد لا يفهمه أحد.
ومن
المقرر أنَّ القاطنة المنقطعة علائقهم مع وطنهم الأصلي إذا مرَّ عليهم نحو خمسمائة أو
ستمائة سنة وهم على هذه الحال من الانقطاع، فإنهم لا يعودون يفهمون لغة وطنهم لما يكون
قد
حصل فيها من التغير؛ بسبب المخالطات والتقدم بخلاف لغتهم التي لا تكاد تتغير لقلة ذلك
عندهم. فإن الأمير برنار من سكس ويمر التقى في سفره إلى أميركا الشمالية (سنة ١٨١٨–١٨٢٦)
بقاطنة ألمانية انقطعت علائقها مع أوروبا في حروب الثورة الفرنساوية (سنة ١٧٩٢–١٨١٥)
نحو
ربع قرن، فوجدهم يتكلمون لسانًا قديمًا كان شائعًا في ألمانيا في القرن الماضي وقد قلَّ
استعماله فيها. وقد نزلت قاطنة نروجية في أيزلاندا في القرن التاسع حيث بقيت مستقلة نحو
٤٠٠
سنة، وتتكلم لغتها الغوثية القديمة، وأمَّا لغة نروج نفسها فقد تغيرت جدًّا عن الأصلية
لعلاقاتها مع أوروبا؛ ولهذا السبب لا يفهم الألمان اليوم اللسان الألماني القديم، ولا
الإنكليز الإنكليزي القديم، ولا الفرنسيس الفرنساوي القديم.
وكلما تمدنت الأمم زاد تقدم لغاتها؛ لتوزع الأعمال حينئذٍ واتضاح الأفكار واتساعها،
ولزوم
التعبير عن كل منها بدلالة خاصة، فغنى اللغة بالألفاظ دليل على حالتها من التقدم وحالة
الإنسان من التمدن.
٧
وقد ذكر ليل مثالًا واضحًا على فقد الصور المتوسطة في اللغات، وعلى ما يترتب على ذلك
من
النتائج، فقال: إنَّ اللغة الهولاندية متوسطة بين الألمانية والإنكليزية، فلو ماتت اللغة
المذكورة كما لو انضمت البلاد إلى بلاد غيرها استغرقتها، أو طرأ عليها طارئٌ طبيعي أوجب
مثل
ذلك فيها، لابتعدت المسافة بين الإنكليزية والألمانية جدًّا، ولَمَا ظنَّ الفيلولوجيون
في
المستقبل — على فرض جهلهم ذلك — أنَّه كانت توجد صلة بين اللغتين. فسبب التباعد العظيم
بين
اللغات كما بين الأنواع أيضًا، هو فقد الصور المتوسطة ليس إلَّا، وكل لغة ماتت لا تحيا،
كما
أنَّ كل نوع انقرض لا يعود.
ومن أراد التعمق في هذا البحث فعليه — ما عدا كتاب ليل — بكتاب شليخر «مذهب داروِن
وعلم
اللغات» (سنة ١٨٦٣)، قال مؤلفه: «إنَّ مبادئَ داروِن تطلق جميعها على كيفية نمو اللغات،
فإن
جميع لغات أوروبا يكاد يكون لها أصل واحد هو اللغة الهندية الجرمانية، ومنها تفرعت عدة
فروع
أولًا، ثم تفرع من هذه الفروع فروع أخرى … وهكذا. ولا يُظن أنَّ ما قيل افتراض! كلَّا،
بل
هو مقرر علميًّا؛ فإنه يمكن مراقبة لغة من اللغات، وتتبع سيرها في سائر أحوال ارتقائها
—
وبهذا يتميز الفيلولوجي عن الطبيعي الذي يصعب عليه مراقبة الأنواع جدًّا — كاللغة اللاتينية
مثلًا فإنه يُتحقق منها أنَّ اللغات تتغير ما دامت يُتكلم بها. ولنا في الآثار الكتابيَّة
الدليل الذي لا يُنقض على صحة هذا القول، ولولا الآثار المذكورة لتعذرت معرفة ذلك على
الفيلولوجي، ولكانت عليه أصعب من الأنواع على الطبيعي. ولما كانت تحولات لغة تحصل في
زمن
قصير جدًّا بالنسبة إلى الأنواع كان إدراكها أسهل أيضًا، وزد على ذلك أنَّ سائر اللغات
حتى
أعظمها يُعلم من بنائها أنَّ ارتقاءها حصل بالتدريج مبتدئًا من أبسط الصور، فلم يكن فيها
في
أولها سوى الألفاظ البسيطة المعبرة عن الإحساسات والصور والأفكار وما شاكل بدون أدنى
تغير
صرفي أو نحوي. وقد تكونت هذه الأصول في أول الأمر كما تكونت الكريات العضوية، وكانت كثيرة
نظيرها، وهذا يدلنا على أنَّه كان في البدءِ لغات أمٍّ كثيرة، خاضعة كلها لكيفية نموٍ
واحدة
كالصور العضوية الأصلية، ولم يسر نموها في سبل مختلفة إلَّا بعد حين نظيرها.»
وعلى رأي شليخر فاللغات بقيت قبل دخولها في العهد التاريخي زمانًا أطول منه بعده،
وذلك
مطابق لما يُعلم عن الإنسان وقدمه قبل العهد المذكور. ولا يخفى أنا لا نعلم شيئًا عن
اللغات
قبل اختراع الكتابة، وأنَّ هذا الاختراع يدل على درجة متقدمة جدًّا في تاريخ الارتقاء
البشري.
وقد اضمحلت لغات كثيرة في بحر الدور السابق العهد المذكور وفيه أيضًا، وقد تكونت عنها
لغات جديدة كذلك. ولا شك أنَّ اللغات التي اضمحلت قبل التاريخ والتي لا نعرف عنها شيئًا
أكثر جدًّا من اللغات التي عاشت بعده، ولم يبقَ في تنازعها اليوم سوى اللغات الهندوجرمانية
المنتشرة جدًّا، والمتسعة كذلك، وفيها كثير من الأنواع والتباينات، فإنه لمهاجرات الشعوب
ولأسباب أخرى كثيرة قد فُقدت من بينها الصور الانتقالية، بحيث صارت اليوم كأنها منفصلة
بعضها عن بعض انفصالًا جوهريًّا، كائنة بعضها بجانب بعض نظير الأنواع في العالم
العضوي.
فيُرى مما تقدم كيف أنَّ داروِن قد نفى الصعوبات التي تعترض مذهبه — ولا سيما الاعتراض
المبني على فقد الصور المتوسطة — وكيف أن أبعد مسائل العلم في الظاهر تجتمع حول مذهبه
متقاربة متشابهة. فإنه — كما قلنا في المقالة السابقة — قد أراد بعضهم أنْ يضع من شأن
هذا
المذهب فجعله محض افتراض لا يمكن تبيين صحته، والحال أنَّ مثل هذا الطعن لا يفيد شيئًا؛
لأن
أعظم الاكتشافات وتقدم العلوم — ولا سيما الطبيعة — سببها مثل هذه الافتراضات، وما ينبغي
اعتباره في كل افتراض كون المواد المبني عليها كافية أم لا، والنتيجة المستخرجة قياسية
كذلك، ولا يستطاع إنكار ذلك على مذهب داروِن. ومما يؤيد صحته هو أنَّه يُعلل به كثير
من
المسائل التي لا تفهم بدونه ببساطة كلية، وبأسباب طبيعية. وكل تعليل لا يكون طبيعيًّا
لا
يفيد شيئًا بالحقيقة، بل هو إقرار بالجهل يقيم المعجزة مقام النواميس الطبيعية، والعلم
لا
يرضى ذلك. والطاعنون على مذهب داروِن هم أصحاب الدين مع أنَّ تعليمهم نفسه — المبني على
ثبوت الأنواع وتكرار الخلق — أحق بلفظة الافتراض في أسوءِ معانيها؛ لأنَّه ما عدا أنَّه
لا
برهان لهم على تأييد دعواهم سوى الإيمان، فمذهبهم لا يتفق مع الحقائق البينة والعلم الصحيح
الذي لا يعرف نسبة أخرى سوى نسبة الأسباب والمسببات، وإذا كانت أمورٌ كثيرة لا تزال محجوبة
عنا، فلا يلزمنا من ذلك أنْ نلبسها ثوب المعجزة، ونغلق باب البحث في وجهها، بل ينبغي
لنا
أنْ نبالغ في معالجتها عسى أنْ ينكشف سرها لنا يومًا ما.
فلا خوف على مذهب داروِن من هذا القبيل، والإيضاحات المذكورة لا تُبقي عند من يطلع
عليها
شبهة في أنَّ الأنواع تكونت ولا تزال تتكون بالطرق التي ذكرت فيه. ولكن … هل هذه الطرق
كافية وحدها للتعليل عن سائر أحوال نمو العالم العضوي؟ كلَّا؛ فإنا لو أطلقنا مذهب داروِن
على جميع الحوادث المفردة أو على ظواهر الحياة أجمع لوجدنا كثيرًا منها لا ينطبق عليه،
وربما كان معه على طرفي نقيض، ويستدل منه على أنَّ الطبيعة سلكت سبلًا أخرى أيضًا لتحويل
الأنواع، ولا شك في أنَّ هذه السبل عديدة جدًّا؛ لأنَّه من المسلَّم أنَّ الطبيعة في
تفنُّنها الذي لا نهاية له يندر أنْ تبلغ غايتها بسبيل واحد. وأنا من رأي شارل فوجت حيث
قال
في بحثه عن مذهب داروِن في غازت دكولوين، وقد أقرَّ على صحته:
إنَّ طرقًا كثيرة تؤدي إلى رومه.
٨
وأحق ما يؤاخذ داروِن به كونه لم يعبأ كثيرًا بما للأحوال الخارجية
٩ ولاختلافها من الفعل الشديد في تغيير الأحياء، ولقد مرَّ بنا في المقالة
السابقة أنَّ داروِن كثيرًا ما يذكر هذه الأحوال الخارجية، إلَّا أنَّه لا يجعل لها فعلًا
إلَّا مع «الانتخاب الطبيعي»، وما ذلك إلَّا تفصيلًا لمذهبه لكي يجعل له المقام الأول،
على
أنَّ فعلها الخصوصي عظيم جدًّا في الواقع، ولا بدَّ من التسليم بأن أحوال سطح الأرض
المتغيرة على الدوام تؤثر تأثيرًا شديدًا في تحويل الأحياء، ولا سيما إذا اعتبرنا ما
بين
القارات من الاختلاف العظيم في الشكل وغيره، وهذا الفعل كان شديدًا جدًّا حيث شاركه مهاجرة
الحيوان والنبات. واعلم أنَّ المهاجرة تكاد تتناول الأجسام الحية كافة. وأسبابها إمَّا
القحط، أو إزاحة نوعٍ لنوعٍ آخر، أو اختلاف في الإقليم، أو التربة، أو غير ذلك. وقد تكون
المهاجرة اتفاقيَّة غير إرادية كانتقال بزور النبات من مكان إلى آخر، بواسطة المياه،
أو
الرياح، أو الطيور وما شاكل.
فالأحوال الخارجية قد تتغير تغيرًا كليًّا وبغتة بسبب المهاجرة، وتؤدي غالبًا إلى
نتائج غريبة،
١٠ فإن الأَصل الإنكليزي قد تغير جدًّا في أميركا وأوستراليا في مدة قصيرة على نوع
ما، بحيث إنَّ الفرق اليوم بين الإنكليزي والأميركاني والأوسترالي ظاهر. وإذا أردنا معرفة
هذه النتائج في المُدد الطوال، فعلينا بالنظر إلى الشعوب الهندية الجرمانيَّة التي هاجرت
من
آسيا — بين نهر الكنج وجبال حملايا — إلى أوروبا؛ فإنه قد تقرر بالأبحاث الفيلولوجية
أنَّ
الأسوجيين والهنود الآريين ذوو أصل واحد، فسائر أعضاء هذه العائلة الآرية الكبرى منشؤها
الواحد في شرقي بحر قزيين أو الجنوب الشرقي منه، ولكن أي فرق اليوم بين رجل هندي وأسوجي
أو
نروجي! وكم تغير عبيد (سود) أفريقيا تغيرًا حسنًا بنقلهم إلى أميركا، فإن جلدهم أشرق
لونه،
وعقلهم زاد إدراكه وتنبهه. على أنَّ الأسود في مذهب داروِن لا يصير أبيض وبالعكس؛ لأنهما
ليس بعضهما من بعض، بل كلٌّ منهما آتٍ من صورٍ بينَ بينَ لا عِدادَ لها تختفي أصولها
في أصل
عالم الحيوان.
ولنا — بقطع النظر عن المهاجرة المهمة — حوادث ظاهرة تبين ما للأحوال الخارجية من
الفعل
الخاص في تكوين الأحياء وتحولها؛ فإن في قارة أوستراليا المتميزة عن باقي القارات بأحوال
خصوصية من حيث الإقليم والتربة والهواء وغير ذلك حيوانات ونباتات خصوصية ذات أشكال غريبة
غالبًا.
فأشجارها شائكة لا خضرة فيها، ذات أوراق صفراء رقيقةٍ متجهةٍ عموديًّا، لا تحجب نور
الشمس. وفي أميركا الجنوبية القيمان
١١ والبوما
١٢ والنعام والجاجوار
١٣ أصغر من أمثالها في العالم القديم. وفي سوريا والعجم جميع ذوات الثدي — حتى
الصادرة من بلاد غريبة — ذات شعر طويل أبيض. والكلاب والخيل في بلاد الكورس جلدها مرقط،
وقد
تضاعف غلظ الخنازير، واستقامت آذانها واسودَّ وبرها في جزيرة كوبا. والقطط المدخلة إلى
باراجي قد تغيرت جدًّا، حتى صارت القطط التي يؤتى بها حديثًا من أوروبا تأبي مباضعتها
إلَّا
بكرهٍ. وخيل سهول أميركا الجنوبية تختلف جدًّا عن خيل العرب، مع أنَّ أصلها من خيل أضاعها
الإسبانيون هناك سنة ١٥٣٧ وهي عربية الأصل. فلون شعر الحيوانات وجلدها غالبًا يتغير بحسب
طبيعة الإقليم، فالتربة وكل ما يحيط بالحيوان يفعل في ظاهره فعلًا واضحًا؛ فإن المناطق
الحارة تولد الألوان الشديدة الزاهية، والمناطق الباردة تولد اللون الأَبيض غالبًا وكل
لون
باهت، والحيوانات التي تقطن الرمال تتلون بلونها، والتي تقيم على أصول الشجر تأخذ لون
القشور، والتي تعيش على الأوراق تكون خضراء … إلخ.
فإذا كان مثل هذه الأمثلة على ضيق مجال اختبارنا كافيًا لإظهار فعل الأحوال الخارجية
وتغيراتها في الأجسام الحية؛ فلا شك إذن أنَّ فعلها البطيء والمستمر في الأدوار الطويلة
لتكوُّن الأرض كافٍ لأن يجعل في الأجسام الحية — نباتًا كانت أم حيوانًا — تغيرات كلية
شديدة جدًّا، ولا سيما إذا اعتبرنا الاختلافات التي وقعت في الإقليم والهواء والحرارة
وتوزيع المياه. فإن سطح الأرض قد تغير جدًّا، فارتفع في جهات، وانخفض في أخرى، وكم هبطت
الجبال وهادًا، وكم ارتفعت الوهاد جبالًا، وكم طغى الماء على اليابسة فصيرها بحرًا، وكم
ظهرت اليابسة في وسط المياه. وكثير من العلماء الذين لا يسلمون بمذهب داروِن يجعل للأحوال
الخارجية فعلًا يكتفي به وحده للتعليل عن تسلسل الأنواع وتحولها في الماضي والحاضر.
١٤
على أنَّ هذا القول تطرف، لكن لو عدلنا إلى الحالة الوسطى وقسمنا العمل بين الانتخاب
الطبيعي من جهة والأحوال الخارجية من جهةٍ أخرى، لسهل الأمر علينا جدًّا، وكان لنا حينئذٍ
عاملان قويان صحيحان لتعليل التحول.
ولا بدَّ أيضًا من التسليم بعامل ثالث لم يبسط كما ينبغي، ولم يذكره داروِن، ولكنه
يتم في
الأحياء بحالتها الجرثومية مدةَ أطوار التكوين، ويجعل ما يسمونه «تغير التكوين». وهذا
القول
غير حديث، وقد ذُكر مرارًا عديدة، والأستاذ بمجرتنر من فريبورج قال فيه سنة ١٨٥٥ ما معناه
أنَّ الحيوانات العليا ربما كانت قد خرجت من جراثيم أو بيوض حيوانات أدنى بانقسام الجراثيم
أو بتحولها، غير أنَّ الأدلة على ذلك كانت قليلة وغامضة، فلم يمكن الاستناد عليها. أمَّا
مذهب داروِن فنبه العقول لإعادة البحث في هذه المسألة حتى جعلها بعض العلماء الجديرين
بهذا
الاسم موضوعَ بحثه، أعني به المُشرِّح والفزيولوجي الشهير الأستاذ كوليكر، فإنه جمع أبحاثه
في تقرير تلاه على مجمع العلوم الطبيعية والطبية في ورزبورج، وهذا التقرير طبع في لبزيج
سنة
١٨٦٤. فكوليكر بعد أنْ بيَّن في تقريره ما في مذهب داروِن من النقص، شرع في تبيين ما
له من
المزايا، فقال: إنَّ داروِن قد خطَّ الطريق الوحيد المؤدي إلى حل مسألة أصل الأحياء حلًّا
صحيحًا، فظهور الأجسام الحية — حسب كوليكر — بصفة أحياءٍ كاملة غير مقبول، بل تتكون على
مقتضى ناموس للارتقاء عام. وعنده أنَّ مبدأ هذا الناموس موجود أقل في عامل «الانتخاب
الطبيعي» الداروِني منه فيما يسميه مذهب «التكوين الكثير الطبائع»؛ ويراد به أنَّ بيوض
الأجسام الحية الدنيا أو جراثيمها ملقحة كانت أم غير ملقحة، تستطيع في بعض الأحيان أنْ
تتحول إلى صور أخرى قد تكون أعلى منها في الأصل، ليس بالطريقة البطيئة التي يعول عليها
داروِن، بل بالتحول فجأة. وهو يذكر تأييدًا لمذهبه الأحوال العجيبة لتغير التكوين، وللبرثنوجنزيا،
١٥ وللتحوُّل، وأيضًا السهولة التي بها يتغير الجنين في أطواره الأولى من التكوين
لأقل الأسباب تغيرًا يبعد به كثيرًا عن أشكال نموه الأصلي؛ مما يستنتج منه أنَّ العالم
العضوي قائم على رسم أساسي يكون بموجبه ميل لأبسط الصور للبروز في أشكال متغيرة أكثر
فأكثر.
وإني وإنْ كنت مع داروِن لا أسلم بوجود رسم أساسي لأسباب أعدها كافية، إلَّا أنني
أعتبر
فكر كوليكر قابلًا لأن يكون ذا شأن عظيم إذا اتسع وتأيد بالأبحاث الحقيقية، وهو الآن
مستند
إلى كثير من الحوادث التي تتبين قابلية الجراثيم والبيوض والأجنة للانفعال بالعوامل التي
من
خارج. وعليه، فإنه يمكن تغيير التفريخ من بيض الفراخ على نوع معلوم بوسائط معلومة، ويمكن
أيضًا توليد متولدات غريبة بإحداث بعض عاهات في الجنين. ومما يؤثر جدًّا في تحول الأجنة
طعام الوالدين من حيث الكثرة والقلة. والنحل يحوِّل فروخ العاملات منه فيجعل منها ملكات؛
وذلك بعزلها وحدها والاعتناء بها اعتناءً خصوصيًّا، وتقديمه لها طعامًا وافرًا. والنمل
يجعل
الشاغلات منه تبلغ غايةَ نموها باعتناء خصوصي بها. وبعكس ذلك فعل أدوار فإنه منع فروخ
الضفدع من أنْ تبلغ وتصير ضفادع بحجب النور عنها، ليس لأن نموها توقف، كلَّا، فإنها بلغت
قدرًا هائلًا، إنما بقيت في حالتها الفرخية وبأذنابها. وأجاسيز قال: إنه إذا اعترضت أحوال
خارجية نمو جرثومتين متشابهتين في درجاتٍ مختلفة من نموهما، فقد ينشأ عنهما نوعان
مختلفان.
ولَئِن كان مذهب داروِن غير كافٍ لرفع الحجاب عن سرِّ الحياة مرة واحدة، بل اقتضى
لذلك
عوامل أخرى أيضًا، إلَّا أني لست أرى في ذلك ما يحط من قدره؛ لأن التقدم ولو خطوة واحدة
في
سبيلٍ كثير العقبات كهذا يحسب نجاحًا كبيرًا، ففضل داروِن لا ينقص إذا وجد العلم أنَّ
الطبيعة تستخدم عوامل أخرى أيضًا لتحويل الأحياء.
ولداروِن فضلٌ في إدخال الفلسفة في العلوم الطبيعية، وفي نقض ما كان من الأوهام سائدًا
على العقول. فإن هذه العلوم لم يكن يسمح لها من قبل إلَّا بالمراقبة، وتجميع المواد
وترتيبها وما شاكل، ولا سيما أنَّ تقسيم الأعمال قد بلغ في عصرنا مبلغًا يستحيل معه كل
اجتهاد للتعميم. فكان يلزم رجل واسع الاطلاع، صحيح العلم، جامعًا إلى علمه الميل الفلسفي
الصحيح، حتى يُقدم على مثل هذا الأمر غير خاشٍ غضب أصحاب التقاليد، أو خائف أنْ يتيه
في
تعاريج الفلسفة القديمة للطبيعة. لأن المتعلقين على الدروس الخاصة هم بواقع الأمر قاصرون
عن
ذلك، فالأشجار على رأي المثل تمنعهم أنْ يبصروا الغابة.
ولإدخال الفلسفة في العلوم الصحيحة نتيجة أخرى، ربما كانت أعظم من مذهب داروِن نفسه
فلسفيًّا؛ ألا وهي إزالة الاعتقاد بالأسباب الغائية من دائرة العلوم الطبيعية، أو العلم
عمومًا ببراهين قاطعة. ولا يخفى أنَّ بعض فلاسفة الطبيعيين كانوا قد فنَّدوا هذا الاعتقاد
من قبل بالحجج المنطقية، ونجحوا بعض النجاح، ولا سيما في علم الطبيعيات، حيث لم يبقَ
له أثر
خلافًا لباقي العلوم، ولا سيما علم اللاهوت الذي يجعل الأسباب الغائية أساس حجته وغاية
برهانه؛ إذ يجد بها أن وضع الأنف في وسط الوجه، وعدم وضع العينين في إبهام الرجل غاية
في
الإحكام، ونهاية في الحكمة.
نعم، إنَّ الذي ينظر إلى هذه الأعضاء نظرًا بسيطًا باعتبار فائدتها ونسبتها إلى الأحوال
المختلفة للطبيعة بقطع النظر عن الماضي، يجد فيها من الموافقة والمطابقة ما يحسبه مقصودًا،
وأمَّا العلم فلا يبحث فيما هي عليه من النظام اليوم فقط، بل فيما كانت عليه في الماضي
أيضًا، وبأي الطرق الطبيعية وصلت إلى ما وصلت إليه من الإحكام على نوع غير محسوس. وهنا
يبسط
لنا مذهب داروِن التعليلات الصريحة، والأدلة المأخوذة ليس من الفلسفة وحدها فقط، بل من
الحوادث والأمثلة الحية أيضًا. وألدُّ أعداء الفلسفة المادية وهو الأستاذ شليدن لما قرأ
كتاب داروِن، اضطر أنْ يصرح جهارًا ببطلان القول بالأسباب الغائية في الطبيعة.
١٦
ففي ما تقدم من الأمثلة ما يكفي على ظني للتعليل طبيعيًّا عن سبب ما في الأعضاء من
الموافقة، فمن الجهة الواحدة على مبدأ الانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء،ِ تقوى الأعضاء
الموافقة والصفات المناسبة على سواها في الدهور الطويلة، بحيث تثبت أخيرًا، ومن الجهة
الثانية على مبدأ الارتقاء والوراثة، تحفظ في الأجسام الحية أعضاء لا فائدة لها، وقد
تكون
مضرة أيضًا.
وقد ذكر داروِن مثالًا لهذه آذان النباتات المتعرشة، فإنها مفيدة في مثل هذه النباتات،
ولكنها توجد أيضًا في نباتات أخرى لا تتعرش حيث لا فائدة لها. وتعرِّي جلد رأس دود الجثث
يظهر أنَّه في غاية الإحكام لمعيشته؛ لأنَّه يغل في الجثث المتعفنة، ولكننا نرى ذلك أيضًا
في رأس ديك الحبش الذي ليس له هذه الضرورة. وقالوا: إنَّ تداريز الجمجمة في صغار ذوات
الثدي
هي لقصد تسهيل الولادة، ولا ننكر فائدتها والحالة هذه، ولكن لا يصح القول بأنها وضعت
لذلك؛
لأنها موجودة أيضًا في جماجم صغار الحشرات وصغار الطير التي تخرج من البيضة. والغشاء
بين
الأصابع في الفرقاطة، وفي الإوَز الأرضي لا فائدة له فيهما، بل هو مضر في حالتهما الحاضرة،
ولكن لا يزال فيهما بسبب الوراثة. والعظام المتفقة الكائنة في ذراع القرود، وفي القائمتين
المقدمتين للفرس، وفي جناح الخفاش، وفي زعنفة الفقم، لا تفيد هذه الحيوانات شيئًا، وإنما
هي
بقايا موروثة من أجدادٍ انقرضت منذ زمان طويل. وناب الأفعى السام وقناة البيض في الأكنمون
لا ينطبق وجودهما على الأسباب الغائية أو الفائدة؛ لأنهما مضران بغيرهما من الكائنات
الحية.
وحمة الزنابير والنحل لا فائدة بها؛ لأن صاحبها يموت بعد استعمالها … وغير ذلك كثير.
والإنسان الذي هو غاية في الإتقان فيه أعضاءٌ كثيرة لا فائدة لها، وقد تكون مضرة
وسببًا
لأمراض قتالة، مثال ذلك الغدة الدرقية
١٧ التي ينشأ فيها المرض المعروف بالجواتر، واللوزتان اللتان قد يسبب ورمهما
والتهابهما الاختناق، والزائدة الدودية التي هي في الأولاد منشأ التهابات قتالة، والأعور
الذي كثيرًا ما تتجمع المواد فيه تجمعًا خطرًا، والغدد الصعترية والعصعص وأثداء الذكور
…
إلخ، وفي الجملة لا يوجد في بدننا عضو لا يُرى فيه عند التدقيق، أنَّه كان يمكن أنْ يكون
أصلح مما هو للغاية التي وضع لها، وإننا نتعجب اليوم من صنع العين الدقيق التي هي أكمل
الأعضاء وألطفها، والتي أصلها حسب تعليل داروِن نقطة عصبية حساسة، ارتقت حتى بلغت حالتها
الحاضرة بعد أنْ مرت بدرجات من التغير غير محدودة، ومع ذلك فهي ليست في غاية الإتقان
والإحكام؛ لأن أحسن العيون لا يمنع تبدد النور. ووضع القناتين الهوائية والغذائية الواحدة
بجانب الأخرى، وسد إحداهما بلسان المزمار سدًّا ناقصًا، نقص في التكوين قد يؤدي إلى
الإسفكسيا وآفات أخرى بدخول أجسام غريبة في المسالك الهوائية، ولا يعلم سبب ذلك إلَّا
من
تشريح المقابلة.
ومذهب داروِن يعلل لنا أيضًا سبب الأميال والبداهة في الحيوان، التي يعتبرها خصومه
شاهدًا
عظيمًا على ما أُودعته من القصد لغايات معلومة، قالوا: إنَّ الميل للمهاجرة في الطيور
غريزي
أُودع فيها؛ حفظًا لها، ومراعاة لأمر راحتها، مع أنَّ سببه طبيعي، وقد تولد من تعاقب
الحر
والبرد. فإن الشتاء القاسي كان يجعل الطيور السريعة الحركة تنسحب من الشمال نحو الجنوب،
فإذا جاء الصيف حملها حب الوطن على الرجوع إلى الأماكن التي نشأت فيها، وتكرر هذا الأمر
مرارًا كثيرة. وكل سنة كانت الطيور تدفع إلى أبعد لاشتداد البرد، وامتداده نحو الجنوب
حتى
صار فيها هذا الميل السنوي إلى المهاجرة عادة، والعادة صارت وراثية، فصار هذا الميل كأنَّه
غريزي.
وإلى مثل هذه الأسباب أيضًا يجب أنْ ينسب نوم الحيوانات الشاتية، فإنها لِبُطْءِ
حركتها
لم تكن تهرب من أمام البرد، فتنسحب إلى أماكن مظلمة حيث كانت تنام مدة فصل الشتاء، وما
زال
هذا الأمر يتكرر فيها حتى صار عادة والعادة وراثة.
١٨ وداروِن يذكر غير ذلك أميالًا وبدائه كثيرة مثل بديهة الطير لبناء أعشاشه،
وبديهة كلب الصيد المكتسبة بالتعويد حتى صارت موروثة فيه، وبديهة الحيوانات الأهلية التي
تجعلها شديدة الميل إلى الإنسان، وبديهة الكوكو التي تجعله يضع بيضه في أعشاش غيره،
والبديهة العجيبة التي يأسر النمل بها النمل الغريب، والبديهة التي يبني النحل بها خلاياه
وغير ذلك من الأميال والبدائه التي جعلوها أدلة على الأسباب الغائية مع أنها نتيجة الانتخاب
الطبيعي. على أنَّ هذه الأميال تتغير بتغير جنس المعيشة، وهذا دليل على أنها غير غريزية
وغير ثابتة، مثال ذلك ناقر الخشب الأميركاني فإنه فقد هناك عادة التعرش على الأشجار،
وصار
يصطاد الذباب وهو طائر. وكذلك الكوكو في أميركا، فإنه لا يفعل ككوكو أوروبا؛ أي لا يبيض
في
أعشاش غيره، وطيور أخرى غيره تفعل ذلك.
ففي ما تقدم من بسط مذهب داروِن في انتقال الأنواع ما يكفي على ظني لفهمه، وهذا المذهب
يزداد شأنه يومًا عن يوم، ليس بالنظر إلى العلم فقط، بل بالنظر إلى فلسفة الكون أيضًا.
ومهما يكن من أمره في حد نفسه، فشأنه يعظم أكثر باعتبار ما إذا كان يصح على الإنسان،
وإذا
صح عليه فما هي نتائج ذلك؟ ثم ما نسبته لباقي المذاهب المعوَّل عليها حتى اليوم فيما
تعلق
بارتقاء العالم العضوي، هل يؤيدها؟ وإذا أيدها فما هي النواميس التي تترتب عليه لارتقاء
العالم العضوي عمومًا، والإنسان خصوصًا؟ فهذه المسائل المهمة ستكون موضوع بحثنا في المقالات
الآتية.