المقالة الثالثة
مذهب داروِن على ما بسطناه في المقالتين السابقتين مهم؛ لأنَّه يكشف لنا عن أهم الظواهر وأوسعها، ألا وهو: أصل العالم العضوي؛ إذ يهيئُ لنا المعدَّات التي يتيسر لنا بموجبها الحكم بأسبابه، وهل هي في الأسباب الطبيعية أم في الأسباب الغائية المعوَّل عليها حتى اليوم.
ويعظم شأنه أكثر إذا أُطلق على الإنسان ليُعلم ما إذا كان يصح أيضًا عليه، وإذا ما كانت النواميس العاملة في باقي الأجسام الحية هي العاملة في أصله كذلك، أم هو خارج عن حكم هذه النواميس؟
فلا يخفى أنَّ أكثر الفلاسفة والطبيعيين أيضًا — ما خلا المدعوين ماديين من فلاسفة اليونان — كانوا يعتقدون أنَّ الإنسان مختلف جوهريًّا عن عالم الحيوان، ولا اتصال له به لا جسمانيًّا ولا روحانيًّا. وبقي هذا الاعتقاد معوَّلًا عليه حتى اليوم؛ لفقدان الأدلة التي يبنى عليها ما يخالفه، ولو ناقض الوحدة العامة للطبيعة والتصور الفلسفي للكون. فمسألة «من أين أتى الإنسان، وكيف أتى؟» لم يستطع العلم حلها طبيعيًّا، واعتبرت أنها تعلو على العلم، فلم يكن حلها ممكنًا إلَّا للدين وحده. لكن لما كانت الأديان متعددة كانت الروايات في أصل الإنسان كثيرة أيضًا، وأحيانًا غريبة للغاية؛ فإنك تكاد ترى روايات تتعلق بهذه القضية عند جميع الشعوب على اختلاف طبقتهم في المعتقد والتمدن، وهذا دليل على ما للإنسان حتى المتوحش من الميل إلى معرفة أصله، الذي هو «سر الأسرار» كما قال عنه أحد فلاسفة الإنكليز.
ويؤكد هكسلي أنَّه لا يوجد فرق جوهري كذلك بين باقي الأعضاء، كالعضلات والأحشاء والأسنان والدماغ … إلخ، فالتسنين الذي هو أوضح الأدلة على تقارب ذوات الثدي واحد في الإنسان والكورلا، من حيث عدد الأسنان وأنواعها وتكوين التاج، والفرق بينهما في أشياء عرضية فقط، وربما كان أعظم بين أنواع القرود المختلفة. وقد بيَّن شفهوزن أنَّ أسنان اللبن في الإنسان لا فرق بينها وبين أسنان القرد بشيءٍ؛ لأن الأضراس الكاذبة التي تنبت فيما بعد، والتي تتميز بتاج صغير وجذور ملتصق بعضها ببعض لا توجد في التسنين الأول، ويوجد مكانها أضراس صحيحة ذات تاج وجذور أشبه بما في القرد؛ أي إنَّ الإنسان يكون في التسنين الأول أدنى في التكوين — أي أقرب — إلى أصله، ولا يبلغ الإنسانية حقيقة إلَّا في التسنين الثاني. وفي هذا التسنين أيضًا تشبه أسنان الإنسان أسنان القرود العليا في جميع صفاتها ما خلا الحجم. وقد استنتج شفهوزن من ذلك «أنَّ الإنسان كان في السابق يعيش على الأثمار.» وبناء القرود العليا يشبه بناء الإنسان في كثير من الأمور التشريحية، وقد بيَّن هكسلي أنَّه في تشريح جثث البشر كثيرًا ما تلتقي العضلات موضوعة كما في القرود تقريبًا، «وعليه فالمشابهة بين الإنسان والصور الأدنى منه — كما يقول شفهوزن — ليست في الحياة الجنينية فقط كما هو معروف من زمان طويل، بل في حالة نموِّه وبلوغه الكمال أيضًا، ولا يزول أثرها إلَّا شيئًا فشيئًا.» وعلى قول هذا المؤلف يوجد من المشابهة بين القرود والإنسان في بناء ثلاث من أعظم الحواس «العين والأذن والجلد»، ما ليس لباقي ذوات الثدي، «فالقرد بعد الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي له الجسيمات الحساسة التي تحس بأخف التأثيرات، وهو الوحيد أيضًا الذي له البقعة الصفراء في الشبكية، والذي الدهليز فيه (الأذن الباطنة) شبيهٌ بما في الإنسان، خلافًا لأنصاف القرود التي يختلف فيها ذلك عنه.»
وآخر دعوى وأقواها أيضًا لفصل الإنسان عن الحيوان تشريحيًّا كانت الدماغ، على أنَّه وجد بعد الفحص الدقيق أن لا فرق بينه وبين أدمغة باقي الحيوان من حيث البناء التشريحي. ولما كان هذا العضو مهمًّا جدًّا كان لا بُدَّ من بسط الكلام عليه، فأقول:
إنَّ الأستاذ أون أحد مشاهير مشرحي الإنكليز سعى من بين كثيرين آخرين في أنْ يجد في دماغ الإنسان فاصلًا يفصله عن الحيوان، ويضعه في صف خاص بين ذوات الثدي، فذكر لذلك ثلاث صفات، وهي؛ أولًا: الفصَّان الخلفيَّان للدماغ المغطيان المخيخ والمطفان عليه، ثانيًا: القرن الخلفي للتجويفين الجانبيين الكبيرين، ثالثًا: الرجل الصغيرة لفرس البحر، ويراد بها عقدة صغيرة بيضاء مستطيلة مستقرة في الجدار الإنسي للقرن الخلفي أو في قعره تنشأ من شرم أو التواءٍ وحشي مقابل. فعلى زعم أون أنَّ هذا التكوين الذي هو أكمل هنا منه في الحيوان، يجب أنْ يضع الإنسان في صف قائم بنفسه بين ذوات الثدي سمي صف الأرشنسفال؛ أي المتسلط، تمييزًا له عن صف الجيرنسفال؛ أي الخاضع.
وأمَّا حجم الدماغ الذي ينبغي اعتباره أيضًا، فقد بيَّن هكسلي أنَّ الفرق بين أصغر جمجمة بشرية، وأكبر جمجمة للكورلا وإنْ كان عظيمًا، إلَّا أنَّه أقل مما هو بين فروع البشر المختلفة. وقد قاس مورتون جماجم بشرية فبلغت مساحة أعظمها من الباطن ١١٤ قيراطًا وأصغرها ٦٣ قيراطًا، وقيل: إنهم رأوا جماجم هنود لا تتجاوز مساحتها ٤٦ قيراطًا، ومساحة أعظم جمجمة للكورلَّا لا تتجاوز ٣٤ قيراطًا؛ وعليه فإن حجم الدماغ يختلف من أدنى الإنسان إلى أعلاه أكثر مما يختلف بين الإنسان والقرد. وأمَّا تلافيف الدماغ التي أرادوا أنْ يجعلوها امتيازًا خاصًّا بالإنسان، فإنها موجودة في دماغ القرود، وبالغة كل درجات النمو من الدماغ الملس للنسناس إلى دماغ الأوران أوتان والشمبانزي، الذي قلما تختلف تلافيفه عن تلافيف دماغ الإنسان.
وهكذا أي عضو أو أي جهاز فحصناه كان لنا نفس النتيجة التي ذكرها هكسلي، والتي هي خلاصة أبحاثه؛ وهي أنَّ الفرق من حيث البناء أقل بين الإنسان والقرد منه بين طوائف القرود المختلفة.
والأستاذ هكسلي يقول كذلك: إنَّ الفرق بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان في الكم فقط — أي في العدد والحجم — وهو أقل مما بين الحيوانات العليا والحيوانات الدنيا، والفرق على رأيه أعظم بين رجلين أحدهما من الطبقة العليا والآخر من الطبقة السفلى منه بين أدنى الناس وأعلى الحيوانات. وعنده أنَّ الأنثروبولوجية أو علم الإنسان ليس إلَّا فرعًا من الزولوجية أو علم الحيوان.
وعليه فلا يوجد فرق جوهري بين الإنسان والحيوان ينفصل به الواحد عن الآخر انفصالًا تامًّا، لا في الجسماني ولا في الروحاني أو العقل؛ لأنَّه لا شبهةَ اليوم في أنَّ الدماغ عضو الفكر، وأنَّ العقل يختلف بحسب كبر الدماغ وشكله ووضعه ونموه؛ أي إنَّ الإنسان والحيوان سيان جسمانيًّا وروحانيًّا، والفرق بينهما في النمو والارتقاء فقط.
على أنَّه يوجد كثيرٌ من الفلاسفة واللاهوتيين والطبيعيين لا يسلم بأن الإنسان حيوان إلَّا في الجسماني فقط، وأمَّا في الروحاني فهو غير خاضع لنواميس الحياة الحيوانية.
ولا ينبغي أنْ يُظن من ذلك أنَّ هذه القوى العاقلة غير موجودة في الحيوان، كلَّا، فالحيوان يقابل، ويستقري، ويستنتج، ويتعلم بالاختبار، ويتأمل كالإنسان، وانحطاطه عنه في ذلك كمي فقط. ونواميس الفكر في الحيوانات العليا هي كما في الإنسان، ومعرفة الأسباب واستخراج النتائج يتمان في كليهما على شرائط واحدة، وكل النظامات السياسية والاجتماعية للإنسان موجودة في الحيوان، ولكن على سبيل الرسم، وقد تكون أكمل فيه منها في الإنسان.
والخلاصة أنَّ حياة الحيوان العقليَّة لم تُعلم إلَّا قليلًا حتى اليوم، وقد حطت جدًّا عن مقامها؛ لأن أساتذتنا الفلاسفة الذين جعلوا درس هذه المسائل محصورًا بهم قد بنوا أحكامهم على أمور مجردة لا على الاختبار، وأمَّا الذين يدرسون هذه الأشياء عن قرب فإنهم يرون أمورًا غريبة كثيرة تدلهم على ما يستطيعه عقل الحيوان. ولفهم ذلك لا ينبغي الاعتماد على العلماء الذين يجلسون وراء مكاتبهم، بل على الناس الذين يخالطون هذه الحيوانات، كالصيَّادين والرعاة والفلاحين، وأصحاب معارض الحيوانات والمحافظين عليها، وغيرهم الذين يتيسر لهم مراقبة أعمالها العقليَّة. فمنهم نعلم أشياء مختلفة عما يقال عادة، فالحيوانات ليس لها عقل وعواطف كالإنسان فقط، بل لها أيضًا لغات وجمعيَّات قد تكون منتظمة أحيانًا أكثر من جمعيَّاته، وتبني بيوتًا وقصورًا تفاخر بها قصورنا، وعندهم جنود وأسرى وسجون ومحاكم، وتعتني كبارها جدًّا بتهذيب صغارها، وربما كان اعتناؤها بذلك أكثر من اعتناء الإنسان به، وتغير أخلاقها وتكتسب كثيرًا بمخالطة الإنسان — والحيوانات الأهلية شاهد على ذلك — خلافًا لزعم من ينفي هذه القابليَّة عنها توسلًا لجعل ذلك فاصلًا لها. حتى ولو صح هذا الزعم لما ساغ جعله صفة خاصة به دون غيره؛ إذ إنَّ متوحشي البشر قلما يكتسبون كذلك. وجميع فروع البشر غير متساوين في هذه القابلية، فإن أحمر الجلد والإسكيمي والبولينيزياوي والماوري والأوسترالي … إلخ يتلاشون جميعهم كما لا يخفى بمخالطة القوم المتمدنين. ولا نعلم من قَوي على ذلك، وارتفع فوق حالته الأصلية سوى الأسود الذي أُدخل إلى أميركا الشمالية، وهذا أيضًا في حالة العبودية وبمخالطته الإنسان «نظير الحيوان تمامًا». وإذا قالوا: إنَّ الإنسان له خاصة النطق للتعبير عن أفكاره مجردة، فإنهم أيضًا لا يثبتون شيئًا، إذ إنَّ الألفاظ المعبرة عن ذلك لا وجود لها في جميع اللغات الأميركانية، كما يعلم من فيلولوجية المقابلة، وكذلك اللغات الأوسترالية، وبعض اللغات البولينيزياوية، وأكثر الألسنة التي يتكلمها سود أواسط أفريقيا. وإذا أريد المقابلة بين الإنسان والحيوان فيلزم ألَّا تكون مع أكثر الناس تمدنًا، إذ إنَّ الفرق بينهما عظيم، بل مع متوحش أفريقيا أو أوستراليا القريب إلى الحيوان جدًّا، وإنْ كان يطلق عليه اسم الإنسان نظيرنا. وإذا كان الأستاذ بيشوف المشرح والفيسيولوجي الشهير يرى فرقًا بين الإنسان والحيوان في أنَّ الإنسان له — ما عدا الضمير — شعور بالذات أيضًا يعرَّفه «أنَّه قوة يقدر الإنسان بها أنْ يتأمل بذاته، وبسائر أحوال الأشياء ونسبتها إلى باقي الخلق»، فيليق بنا أنْ نسأله إذا كان يعتقد أنَّ ابن زلاندا الجديدة، أو متوحش الأمازون، أو ابن جزائر فيليبين، أو الإسكيمي، أو البوتوكودي حتى الصعلوك الأوروباوي له ذلك أيضًا؛ أي إنَّه يستطيع أنْ يتأمل في هذه الأشياء الجميلة؟! لكنه يقول هو عنهم: إنهم أناس تائهون متوحشون لم تنمُ فيهم «الصفة البشرية الخاصة»، ولسوء البخت لا يذكر من أين جاءنا بما يسميه «الصفة البشرية الخاصة» إنْ لم يكن من مراقبة نفس الإنسان. وهو ينقض كلامه بكلامه إذ ينفي عن أناس هم بالحقيقة بشر الصفة المميزة للبشر على زعمه، ولم يبين إمكان ظهور هذه الصفة بطريقة من الطرق. على أننا نعلم علم اليقين من الحوادث الجلية — كما قلنا مرارًا — أنَّ الفروع السفلى الأقرب إلى الحيوان منها إلى هذا الإنسان التصوري الذي خلقه بيشوف، ليس أنها لا تقبل التهذيب فقط، بل تهلك إذا أُريدَ إخضاعُها له أيضًا.
وبيشوف منفرد وحده بين الفلاسفة الذين حشر نفسه بينهم في تعريفه الإنسان، فالإنسان من أي طبقة كان، والحيوان كذلك لهما هذا الوجدان أو العلم بما يسمونه «أنا»، أو كما يقولون أيضًا: الشعور بالذات، ولا ينفيه — كما يقول شوبنهور — عن الحيوان بدون أدنى سبب ظاهر إلَّا الفلاسفة الذين لا شعور لهم. ويقول أيضًا: «إنه يلزم أنْ يقع أحد هؤلاء الفلاسفة بين مخالب النمر؛ حتى يتعلم على نفقته كيف يفرق الحيوان بين ما هو «أنا» وما ليس «بأنا»!»
وإنا لفي غنًى عن إطالة البحث في هذه الاختلافات بين الإنسان والحيوان؛ فإنها لا تخفى على أحد، وهي ذات شأن عظيم في المدارس، وكتب التعليم مشحونة بها، والمعلمون يدخلونها جبرًا أولًا وثانيًا وثالثًا في رءوس التلامذة الذين تأخذهم هزة العزة لعلو مقامهم البشري، وأكتفي منها بذكر قضيتين كافيتين وحدهما لتبيين فساد المذهب كله؛ وهما: الانتصاب في المشي، والنظر المتجه نحو السماء. والقضية الأخيرة مغلوطة؛ لأن الإنسان لا ينظر إلى السماء دائمًا، كما أنَّ الحيوان لا ينظر إلى الأرض دائمًا، وإنما كلاهما ينظران أمامهما طبيعيًّا، وأمَّا أولئك الذين يوجهون أنفهم نحو السماء أكثر مما إلى الأشياء التي أمامهم، فمما يسخر بهم، وبكل الأحوال لا يعتبرون من طبقة أصحاب الأفكار.
ولا شبهة أنَّ الرِّجل البشرية لم تخسر حركتها إلا شيئًا فشيئًا؛ لاستخدامها لعمل آخر ولاستعمال الحذاء، ولنا شاهد على ذلك في سكان جنوبي فرنسا، فإن عادتهم على التعرش على الأشجار جعلت عندهم سهولة كلية في تحريك أصابع رجليهم، بحيث يقابلون إبهامهم لباقي الأصابع كالقرود، ويتناولون بأرجلهم أصغر الأشياء (شفهوزن).
على أنَّ وقوف الإنسان عموديًّا منتصبًا على قدميه ليس كله طبيعيًّا؛ لأن وضع العمود الفِقري لا يقتضيه لزومًا، إذ لا يرتبط الجسد به إلَّا من جانب واحد فقط؛ ولذلك كان الأطفال والشيوخ كثيري السقوط إلى الأمام، والأطفال لا يتعلمون المشي منتصبين إلَّا بكل صعوبة. ولما كان ثقل الجسد كله متعلقًا بهذا العمود من جانب واحد فقط، كان ذلك فيه سببًا للانحناء الكثير الحصول؛ لأنَّه كثيرًا ما لا يقوى على حمل هذا الثقل.
ولكي نفرغ من هذا الموضوع لم يبقَ علينا سوى أمرٍ واحد كثيرًا ما اعتبروه ذا شأن عظيم، وعند الفحص الدقيق تسقط قيمته كغيره؛ أعني به غشاء البكارة والحيض اللذين اعتبرا أنهما خاصان بأنثى الإنسان، فكلاهما يوجدان في القرود، وفي غيرها من ذوات الثدي أيضًا. وقد ذكر الدكتور نوبرت من ستوتكاردت أنَّ بعض أجناس القرود ولا سيما قرود العالم القديم تحيض حيضًا صحيحًا، بعضها كل أربعة أسابيع، وبعضها مرتين في السنة.
فيظهر مما تقدم أنَّه لا يوجد فرق مطلق أو كيفي بين الإنسان والحيوان لا جسمانيًّا ولا روحانيًّا، بل الفرق بينهما نسبي أو كمي فقط. على أنَّ الفراغ العظيم الكائن بينهما سيتسع يومًا عن يوم؛ لازدياد التمدن ولموت الأصول المتوسطة. ولذلك، كلما بعد الإنسان عن أصله الأول زادت الصعوبة في معرفة الحقيقة، فإن الأصول العليا للقرود والفروع السفلى للبشر صارت في حالة التلاشي منذ زمان طويل، وكل منها يقل سنة عن سنة، بخلاف الإنسان المتمدن، فإنه لا يزال يزداد ارتقاءً وانتشارًا على سطح الأرض، فسوف تصير المسافة التي تفصل الإنسان عن الحيوان أكبر جدًّا منها اليوم بعد بضع مئات أو بضعة آلاف من السنين، بحيث يتعذر قطعها على علماء ذلك العصر البعيد إنْ لم يروا في الكتب مستندات يستندون إليها.
على أنَّ اكتشافات السياح والفوائد الناجمة للعلم منها نتيجتها تسهيل الصعب من ذلك؛ فإنه في أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل التاسع عشر لم يكن يُعلم إلَّا القليل النزر عن القرود الشبيهة بالإنسان، وما كان يذكر عنها حمله كوفيه على محمل الخرافة، وقال: إنه من مختلقات زميله بوفون. وأمَّا اليوم فنعرف أربعة قرود شبيهة بالإنسان: الجيبون والشمبانزي والأوران أوتان والكورلَّا، ومعرفة هذا الأخير حديثة العهد، فالكورلَّا يشبه الإنسان كثيرًا بالقد والهيكل، وكيان اليد والرجل والتسنين وغير ذلك. ومهما روي عن قوة هذا الحيوان وشراسته من المبالغة فقد تحقق أنَّه صحيح في أكثره. وهو أقوى القرود الشبيهة بالإنسان على القيام والمشي واقفًا، إلَّا أنها تشبه الإنسان في بعض أشياء أكثر منه، فالشمبانزي له رأس ودماغ قريبان من رأس الإنسان ودماغه، والجيبون وإنْ كان لا يتجاوز قده ثلاثة أقدام إلَّا أنَّه يشبه الإنسان كثيرًا بقفص صدره وأنواع جلوسه.
فأوجه الشبه مع الإنسان غير محصورة في نوعٍ واحد من القرود، بل متفرقة في أنواع كثيرة، وهذا كافٍ لإظهار غلط أولئك الذين يريدون أنْ يحصروها على ما يفهمون من مذهب داروِن في صورة واحدة تصل بينه وبين القرود رأسًا، وقد بيَّنت هذا الغلط فيما تقدم، حيث قلت: «إنه لا يجوز البحث عن صور انتقالية بين الصور الحاضرة، ولكن بينها وبين جد قديم انقرض من زمانٍ طويل، وكان يجمع فيه الصفات المختلفة للأنواع الحاضرة، وقلت أيضًا، وقد ذكرت مثال الصور الأربع الحاضرة الفرس وحمار الوحش والحمار والكواجا: إنه لا شك في أنَّ أصلها واحد، إلَّا إنه لا يجوز أنْ نطمع بوجود صور حيَّة متوسطة بينها، قال الأستاذ هليار: «إنَّ الأجسام الحيَّة المقيمة بعضها بجانب بعض قد تكون مختلفة جدًّا، ولا حاجة إلى أنْ يكون بينها صور انتقالية؛ لأنها لم تتكون بعضها من بعض، بل تكونت بعضها بجانب بعض، ولئن كان جدها واحدًا إلَّا أنَّه يمكن أنْ تكون مختلفة جدًّا.»
كذلك إذا أردنا شق الإنسان من عالم الحيوان على مذهب داروِن؛ فلا يجوز لنا أنْ نبحث عن صور متوسطة بينه وبين الكورلَّا، بل بينه وبين جدٍّ أو أجداد مجهولة نشأ منها فرع الإنسان من جهة، وفرع القرد من جهةٍ أخرى.»
ورب قائل يسأل: هل مثل هذه الصور الانتقالية وُجد أو وُجد ما يدل على وجوده؟
فأجيب: نعم؛ فإن الاكتشافات العلمية في هذه السنين المتأخرة قد جادت علينا بكثير من ذلك. على أنَّ هذه الاكتشافات على فرض أنها لم تُعلم، لا يجب أنْ تحول بيننا وبين إطلاق مذهب داروِن على الإنسان؛ لأنَّه كما تقدم في المقالة السابقة جوابًا على اعتراض فقدان الصور الأحفورية المتوسط لا قيمة لهذا الاعتراض، لقلة المعلوم لنا من الأرض. ويتضح ذلك أكثر مما يأتي؛ فإن القارَّات التي تعيش فيها القرود الشبيهة بالإنسان الكبيرة، والتي يلزم أنْ تكون فيها الصور المتوسطة لا تزال محجوبة عن الأبحاث البالنتولوجية، وهي المناطق الحارة لقارَّة أفريقيا وجزائر جافا وبورنيو وصومترا. ولا نعرف شيئًا أيضًا عن ذوات الثدي التي كانت تعيش في طبقة البليوسن، والبليوسن الأخير لهذه الأماكن. وأمَّا في أوروبا فقد وُجد في طبقات الميوسن؛ أي في متكوِّنات الأرض أيام كانت أوروبا حارَّة أكثر من اليوم، بقايا قرود أحفورية، وكان يظن من عهد غير بعيد أنَّه لا يوجد قرود أحفورية في أوروبا، كما كان يظن أيضًا أنَّه لا توجد أحافير بشرية لا سبيل اليوم إلى الشك بوجودها. وقد استُخرج من أوروبا في زمنٍ قصير ستة أنواع من القرود الأحفورية بعضها يجمع فيه بعض الصفات الموجودة في القرود والإنسان اليوم، وروتيمير وجد في الأراضي الثلاثية لسويسرا قردًا أحفوريًّا يجمع فيه صفات ثلاثة أنواع من القرود الحية (وهي: الكترهين والبلاتيرهين والمالكي). والقرد المسمى دريوبيتكوس لارتت نوع من الجيبون طويل الذراعين، وُجدت بقاياه في سفح جبال البيرنيز الفرنساوية سنة ١٨٥٦ في طبقات الميوسان الأعلى، وكان أكبر من الكورلَّا، وأسنانه أكثر شبهًا بأسنان الإنسان من الشمبانزي؛ أي كان أقرب إلى الإنسان من سائر القرود الحاضرة الشبيهة بالإنسان.
فإذا كان مثل ذلك وُجد في أوروبا، حيث كان الأمل به قليلًا جدًّا، فكم يجب أنْ يكون كثيرًا في الجهات الاستوائية التي هي موطن القرود الكبيرة، ولا سيما في طبقات البليوسن والبليوسن الأخير. وأمَّا زوال الصور المتوسطة وعدم بقائها زمانًا طويلًا، فلِما حصل بينها وبين الإنسان من المنازعة الشديدة في تنازع البقاء.
إنَّ البالنتولوجية البشرية ربما تُظهر لنا يومًا من الأيام أجسامًا حيَّة نحتار فيها: أبشرٌ هي أم قرود بشرية!
من يقول أننا لا نجد غدًا جمجمة قد نضطر لوضعها بين القرد الشبيه بالإنسان والإنسان.
وإنه لأمر مقرر في سائرِ الأحوال أنَّ ما اكتشفه وحصَّله العلم مهما كان قليلًا وناقصًا، فجميعه يشير إلى معنًى واحد؛ أي إلى رباط شديد يربط الإنسان بالحيوان. وإذا كان غير ذلك، فلماذا لم نجد أمرًا واحدًا يدل على الضد منه، أو شيئًا يدل على الفردوس، أو على صورة بشرية أكمل من الصورة الحاضرة من الصور الكاملة التي خلقها الله، والتي نحن أولاد لها، ولحق بهم النقص بسبب الخطية، فالجواب: لأن ذلك أمر مستحيل؛ إذ لا يمكن أنْ يكون شيء يضاد وحدة الطبيعة، قال بوشه: «الطبيعة واحدة، وسعي العلوم الحديثة إنما هو للوصول إلى هذه الوحدة.»
وإذ تقرر ذلك لم يبقَ علينا إلَّا أنْ نعرف كيف تخلص عقل الإنسان وصورته من عقل الحيوان وصورته؟ وبأي الطرق؟
ليس لنا من المواد ما يكفي للجواب على هذه المسألة جوابًا صريحًا أكيدًا، إلَّا أنَّه يمكن توضيح بعضها والبحث في هل حصل ذلك فجأة أو رويدًا رويدًا؟ فليل الذي بحث فيها في كتابه «قدم الجنس البشري» يزعم أنَّ هذا الارتقاء حصل للإنسان فجأة، مستندًا فيه إلى النوابغ الذين نبغوا في التاريخ بدون أنْ يكون في أجدادهم شيءٌ من الذكاء يدل على مجيئهم، فربما حصل هكذا في بعض الأفراد أو الأصول الحيوانية، فشبَّت فيه بعض الصفات البشرية، فنشأ عنه فرع أقرب إلى الإنسان. وهذا الزعم فيه شيءٌ من المذهب الذي تكلمنا عنه فيما مر؛ أي مذهب التكوين الكثير الطبائع للأستاذ كوليكر.
فمن أراد تصديق هذا الرأي فهو مخير، وأمَّا أنا فلا أراه ضروريًّا، بل الارتقاء البطيء كافٍ للتعليل عن كل أمر. والنوابغ لا يسقطون من السماء كما يظهر من كلام ليل، بل هم نتيجة فعل النواميس الطبيعية المحدودة الأموال المناسبة، كطبيعة الوالدين، وامتزاج صفاتهما المتضادة امتزاجًا حسنًا. وأضف إلى ذلك التربية والأسرة والمكان والزمان، وغير ذلك من الشروط التي لا تنبغ النوابغ بدونها. وما عدا ذلك ففي الطبيعة ناموس عام، هو أنَّ صغار الحيوانات والقرود والبشر الذين هم من أدنى جنسهم، يتشابهون أكثر من البالغين في تكوين الجمجمة وقابلية العقل؛ فإن صغار القرود خاصة يشبهون جدًّا الأطفال باستدارة جمجمتهم، ولا تتميز فيهم صفات القرد إلَّا مع السن، فتبدو الانخفاضات والبروزات والشكل الزاوي، وبروز الوجه عن الجمجمة. وكذلك يحصل في الأخلاق فتزداد القرود شراسة وقساوة، ولا تذعن للتربية كلما طعنت في السن. وهكذا أيضًا في أولاد السود كما يُعلم من روايات يوثق بها، فإنهم يُظهرون في المدارس ذكاءً وقابلية للتهذيب لا مزيد عليهما، فإذا بلغوا أشدهم تخلقوا بأخلاقهم الوحشية، وخسروا كل ما اكتسبوه بالتعليم كأَن لم يكن شيءٌ من ذلك. فمثل هذه الشواهد يعلمنا أنَّه يوجد في سن الصبوة استعداد خصوصي لقبول الارتقاء، فإذا وافقت الأحوال الخارجية فربما شبَّ أصل من الأصول لما فيه من القابلية وهو صغير، فبلغ ارتقاء عاليًا حسيًّا ومعنويًّا.
فما هي الآن نتيجة إطلاق مذهب التحوُّل على الإنسان، هل هي جيدة أم ردية؟ معظَّمة أم محقَّرة؟ مكروهة أم مقبولة؟ وهل أصاب «ولفجان منزل» في تنديده بي حيث صرخ متكرهًا: «الإنسان ابن قرد، آلة مصنوعة للبهيمية!» أو يجب اتباع رأي هكسلي الذي يقول: إنه عوضًا عن أنْ نرى في انحطاط أصل الإنسان عارًا وسببًا للقنوط، ينبغي علينا باعتبار أصلنا وما وصلنا إليه بالتربية أنْ نزداد رغبةً ونشاطًا لبلوغ غاية أعظم فأعظم، وأعلى فأعلى دائمًا.
إنه من السهل أنْ يُبين أنَّ الإنسان بالنظر إلى بنائه لا يختلف عن الحيوانات التي دونه والقريبة منه، أكثر مما تختلف هذه الحيوانات نفسها عن التي من صنفها.
إننا في يقين من أنَّ الفرع الأفريقي لا يستطيع أنْ يبلغ مبلغَ الفرع الأبيض، فقوة التجريد والتنسيق وإدراك نواميس العقل كل ذلك مفقود منه، فلا يعرف الحياة العقلية، بل كل حياته طبيعية.