المقالة الرابعة
نفحص في هذه المقالة مذهب داروِن بالنظر إلى مذهب التقدم ونواميسه في الطبيعة والتاريخ.
تقدم فيما مرَّ أنَّ الارتقاء في التحول نتيجة غالبة لا لازمة، وقد ذكرت شاهدًا على ذلك الأصول الباقية على حالها للحيوانات البحرية الدنيا، فإنها لم تستفد شيئًا بالانتخاب الطبيعي، أو استفادت شيئًا لا يُذكر؛ لشدة بساطة تركيبها، ولاستواء أحوال الأشياء التي من خارج المحيطة بها. وذكرت أيضًا بعض أمثلة تدل على تقهقر بعض الأحياء، وقلت: إنَّ الانتخاب الطبيعي قد تكون نتيجته في بعض الأحوال تقهقرًا لا تقدمًا. وفي وسعي أنْ أضيف إلى ذلك أيضًا بعض طوائف من الحيوانات الدنيا خاصة، كانت في الأصل أعلى تركيبًا، وأكثر اختلافًا منها اليوم.
فبناءً على ذلك وعلى أمور أخرى، قد أنكر بعض العلماء الارتقاء في الأحياء، ومنهم قوم من مذهب داروِن، وليل مع كونه من مذهب الارتقاء مرتاب في مسائل كثيرة، وخصومه مع اضطرارهم للإقرار بارتقاء بعض الطوائف والأجناس، يزعمون أنَّ ذلك لا يدل دلالة صريحة على أنَّ الارتقاء مطَّرد في سائر الأحوال.
فالعلماء، ولا سيما علماء الإنكليز الذين بحثوا كثيرًا في هذه المسألة، منقسمون إلى قسمين: أصحاب مذهب التحول، وأصحاب مذهب الارتقاء. فمن القسم الأول من ينكر الارتقاء، ومن القسم الثاني من ينكر التحول. ومثل هذا الاختلاف حصل بين العلماء في ألمانيا أيضًا، وقد اشتدَّ بينهم الخصام، ولا سيما على مذهب جيولوجي وضعه أولًا الأستاذ بيشوف من «بون». فأصحاب هذا المذهب ينكرون كل ارتقاء في العالم العضوي، ولا يستغربون وجود آثار بشرية في الصخور السيلورية والدفونية؛ أي في باطن الطبقات المشهورة أنها أقدم المتكونات الأرضية، وذلك موافق لرأيهم في تكوين الأرض؛ إذ يعتقدون أنَّ الأرض لم تتغير في أحوالها منذ الأزل، فلم تتغير في موجوداتها، وكل دور من أدوارها عود على بدءٍ. على أنَّ الجيولوجيا لا تستطيع فصل المسألة وحدها، بل يلزم في ذلك اعتبار البالنتوجيا والتشريح، والفيزيولوجيا والأمبريولوجيا أيضًا، فلا يصح الحكم إلَّا بعد اتفاق سائر هذه العلوم.
إنَّ التمييز الذي يميزون به تاريخ الأدوار الأرضية المختلفة بحسب نظامها مغلوط، وإنَّ الارتقاء والتقهقر في عالم الأحياء، وإنْ كانا يحصلان في الجزء قبل ملاشاته، إلَّا أنهما متعادلان في الكل، فالارتقاء الدائم إلى ما لا نهاية له حلم جميل.
وهكذا يقال عن التاريخ أيضًا على رأْيه ورأْى باقي خصوم الارتقاء، والبراهين التي يستندون إليها واحدة في التاريخ والطبيعة.
- أولًا: إنَّ الأحياء والحيوانات البحرية الأولى الدنيا٣ هي اليوم كما كانت في ابتداء العالم، فأين الارتقاء هنا؟٤
- ثانيًا: إنَّ طوائف الأحياء الأربع أو الخمس الكبرى؛ أي النباتات والحيوانات الأولى والمشععة والرخوة والمفصلة، حتى ذوات الفِقرات توجد منها آثار مجتمعة أو متجاورة في أسفل طبقات الأرض. فلو كان مذهب الارتقاء صحيحًا، لاقتضى أنْ يكون الأعلى منها بعد الأدنى، فتكون النباتات أولًا، ثم الحيوانات الأولى، ثم وثم … إلى الحيوانات الفِقرية التي يقتضي أنْ تكون في الآخر. وقد يكون أقدم الصور بالغًا من التكوين درجة عالية؛ فإن أقدم النباتات البحرية المعروفة يعادل اليوم أعلى صور طائفتها الدنيئة جدًّا في سلم الأحياء كما لا يخفى.
- ثالثًا: إننا نجد في الطبقات الحديثة أجناسًا أو أنواعًا أدنى منها في الماضي، وبعض حيوانات دنيئة فوق حيوانات عالية جدًّا. وبعض الأكينيودرم والحيوانات المشععة — على قول أجاسيز — ذو تكوين أعلى منه في الرخوة أو المفصلة، وربما في بعض ذوات الفِقر أيضًا. ويوجد أيضًا في طائفة الحيوانات المفصلة ذباب يصعب إظهار ارتفاعه على القشرية، وإنْ كانت أدنى منه جدًّا في سلم الأحياء. وبعض الديدان قد يكون أعلى من بعض القشرية، وبعض عديمات الرأس قد يكون أحسن تكوينًا من بعض البطنية الأرجل أو الحلزون … إلخ.
- رابعًا وأخيرًا: إنَّ كثيرًا من الأجناس والطوائف كان في الأيام الأولى أكمل منه اليوم، فلو كان الارتقاء يحصل دائمًا وأبدًا لما كان فيه ذلك. والحيوانات الرخوة كالسفالوبود٥ والبراشيوبود٦ كانت في الدَّور الأول بالغة في النمو، ومتنوعة جدًّا في الصور خلافًا لليوم، فإنه لم يبقَ من هاتين الطائفتين إلَّا الشيءُ القليل المعروف. ويلتقي أيضًا في هذه الأدوار القديمة صور نامية جدًّا وبالغة في التكوين، مثل «ليس» البحر الموجود في المتكونات الأولية والثلاثية للأرض، فإن صدفته مؤلفة من ثلاثين ألف قطعة متميزة، موضوعة أحسن وضع لموافقة سائر احتياجاته. وليس ذلك خاصَّا بالحيوانات الرخوة، بل يوجد في سائر طوائف الحيوان؛ فإن تكوين بعض حشرات الدور الثاني أكمل منه في أمثالها اليوم كالتمساح مثلًا. وكان للحشرات أنواع تفوق حد الحصر، وبعضها كان يبلغ كبرًا هائلًا، ولم تقل إلَّا بعد حينٍ؛ لمنازعة ما كان من ذوات الفِقرات أكمل منها لها. وكانت الطيور وذوات الثدي في الدور الثلاثي تبلغ نموًّا كبيرًا جدًّا هي في الحاضر دونه، وقد ذكرت فيما تقدم تقهقر بعض الأنواع كالديدان البطنية والحيوانات الحلمية … إلخ.
ومن الأمثلة الدالة على تقهقر بعض الصفوف يذكرون الحيَّات مثالًا لصف الحشرات، والطيور الكبيرة والإوَز الدهني بسبب ضمار جناحيه مثالًا لصف الطيور، ثم الحيتان لصف ذوات الثدي … إلخ.
- أولًا: إنَّ بعض الشعوب لا يزالون حتى الآن كما كانوا في الأصل؛ أي لا يزالون على عادات الإنسان السابق العهد التاريخي المعاصر للمموث، ولدب الكهوف، وللأيل العظيم، ولوحيد القرن الأول. ومنهم حتى يحارب حتى اليوم بأسلحة من الحجر وله آلات مصطنعة من الحجر، ويسكن أكواخًا من ورق الشجر أو ما شاكل، ويعيش كالحيوان وهو واقف لا يتقدم لا جسديًّا ولا عقليًّا.
- ثانيًا: إنَّ بعض الشعوب يقف بعد أنْ يبلغ درجة معلومة من التمدن ساكنًا زمانًا طويلًا، ربما كان ألف سنة مثال ذلك الصينيون.
- ثالثًا وأخيرًا: إنَّ بعض الشعوب بعد أنْ بلغ ذرا المجد والتمدن انحطَّ إلى حضيض الجهل والغباوة: قابلِ العصور القديمة الزاهية لليونان والرومان بما عقبها من العصور التي انحطت فيها العلوم والصنائع عندهم، وقابلْ عصر بريكلس بالعصور المظلمة بعده، وافتكرْ بما كانت عليه بلاد مصر والعجم والهند وآسيا الوسطى وأفريقيا الرومانية واليونان وإيطاليا وإسبانيا ومكسيكا … إلخ، وبابل ونينوى وأكبتان وبرسبوليس ورومة وغيرها، ثم افتكر بما لحق بها من السقوط. واعلم أنَّ الاكتشافات الجديدة ترينا التمدن في الماضي أبعد فأبعد يومًا عن يوم كما في بلاد مصر.
فمجرى الأشياء إذن واحد في التاريخ والطبيعة؛ أي إنَّه يحصل تغير دائم في الزمان والمكان والبشر، فيحصل تعاقب دائم بين التقدم والتأخر، والعمار والخراب، والنمو والوقوف، والولادة والموت. وأمَّا الارتقاء الدائم فيعد من الأمانيِّ التي لا تُنال، بل كل شيء يتحرك في دائرة مصمتة أشبه بالحية الرمزية التي تعض ذنبها، أو أنَّ الأشياء تجري كما في مرسح تتغير فيه المناظر والأشخاص على الدوام، حيث يظهر أنَّ كل شيء يتحرك بنشاط مع أنَّه لا يزال في مكانه.
فتاريخ الأرض وتاريخ الإنسان على مذهب الذين ينكرون الارتقاء معبر عنهما بتصور هذا الشاعر. وهذا التصور يوافق أيضًا أصحاب الارتقاء؛ إذ يريهم أعظم التغيرات يتعاقب في الطبيعة، وفي تاريخ الإنسان، إلَّا أنَّ الأزمنة التي يقتضيها ذلك لا يدركها الإنسان الذي يرى أنَّ كل شيء حوله ساكن، ولا يدركها إلَّا من أُعطي له علم كل شيء. وإله هذا الشاعر حقيقة هو العلم الذي لا يقتصر نظره على الحاضر القصير، بل يمتد إلى ما وراء ذلك. وما يؤاخذ به على الشاعر روكرت علميَّا إنما هو قصر الزمان الذي اعتمد عليه في أدوار سياحة سائحه، فلو قال: خمسة آلاف سنة عوضًا عن خمسمائة؛ لكان أقرب إلى الحقيقة، ولزاد شعره رونقًا أيضًا.
على أنَّ ما نعلمه يجعلنا نجزم بأن القول بسكون أبدي أو بحركة دائمة لا تقدم فيها خطأ، وأي خطأ! فإن الأشياء في الطبيعة والتاريخ تدلنا بالضد من ذلك على تقدم دائم ولو بطيء، ولا يراد من هذا القول أنَّ الاعتراضات المذكورة غير صحيحة أو لا قيمة لها، كلَّا، وإنما تدل على أنَّ الأشياء ليست بسيطة كما كان يظن، وكما لا يزال يظن أيضًا كثيرون. فقد كان الاعتقاد زمانًا طويلًا أنَّ جميع الأجسام الحية تؤلف من أعلى إلى أدنى سلسلة بسيطة منتظمة، وأنَّه لم يكن للنمو في الماضي والحاضر إلَّا سيرٌ صاعد، وهذه السلسلة التي آخرها الإنسان لا بُدَّ أنْ كان أولها في ذي الكرية الواحدة، أو الإسفنج، أو بعض الصور النباتية الدنيئة جدًّا. وعليه، فالنباتات لاعتبارها أدنى الأحياء وجدت أولًا، ثم الحيوانات الدنيا التي خرجت منها الحيوانات المشععة والرخوة، ثم المفصلة الناشئة من الرخوة، ثم الأسماك من المفصلة، فالحشرات من الأسماك، ثم ذوات الثدي والطيور من الحشرات، ثم الإنسان. واعتقدوا كذلك أنَّ مثل هذا الترتيب كائن في نفس الصف، وأنَّ كل صورة ناشئة من صورة أدنى منها، فهذا المذهب قد انتقض اليوم؛ إذ لا يتفق مع سائر الأشياء، ولا سيما مع تحوُّل طائفة كبيرة إلى أخرى.
فسير النمو العضوي والارتقاء المتعلق به هو غير ذلك، وأكثر اختلاطًا أيضًا، فهو ليس سلسلة واحدة فقط، بل سلاسل كثيرة متوازية نشأت في الأصل من أصول واحدة، أو من أصل واحد، ثم انبثت متشعبة إلى ما يفوق حد الحصر عدًّا واختلافًا، وقبل بسط هذه القضية المهمة لا بُدَّ من تفنيد الاعتراضات المعترض بها على مذهب الارتقاء واحدًا واحدًا، فأقول:
فالحياة لم تبتدئْ حيث توجد الآثار العضوية بكثرة فقط. ولا بُدَّ أنْ يكون قد مضى عليها آلاف من القرون قبل أنْ أمكنها ترك آثارها في قلب الحجار، فالمتكونات الحيوانية الأولى لا تقع إذن تحت المشاهدة، والحجارة التي اعتبروها حتى اليوم كأنها أول المتكونات الجيولوجية، والتي ليس فيها أثر أو فيها آثار مشبهة للحياة، لا بُدَّ أن مضى عليها زمان طويل حتى تكونت؛ نظرًا لعظم سماكتها. فإذا لم نجد آثار الأحياء الأولى بكثرة؛ فلعدم حفظها لصغرها، ولقلة متانتها، ولنقص تكوينها من جهة، ولشدة تغير الحجار القديمة جدًّا في جوف الأرض من جهة أخرى. وكما تقدم يجب أنْ ننتظر العثور على حجار أقدم فأقدم يومًا عن يوم، كما يدل على ذلك اكتشاف الطبقة اللورنسية الحديث.
وهكل يقول: إنَّ الطبقات النبتونية أو السيلورية التي اعتبرت خطأ حتى اليوم أقدم الطبقات، والتي يوجد فيها آثار حيوانات نامية جدًّا ومتميزة كذلك، هي حديثة العهد بالنسبة إلى غيرها، ويظن أنَّ الزمان الذي اقتضاه تكون الطبقات السابقة في الجيولوجيا العضوية أطول جدًّا منه في اللاحقة، كما يستدل من عظم سماكة النظامين الكمبري واللورنسي. وهذه الاعتبارات تضعف أيضًا قيمة الاعتراض المأخوذ من وجود آثار الأربعة، أو الخمسة صفوف الحيوانية معًا في أعمق طبقات الأرض؛ لأنَّه لما كنا لا نعرف — أو نعرف ولكن معرفة ناقصة — أقدم الطبقات حقيقة، ولا نعرف الأحياء التي تتضمنها، لم يكن يجوز لنا أنْ نستنتج من طبيعة ما نجده في الطبقات المتكونة حديثًا بالنسبة إلى سواها أنَّ التقدم غير حاصل، بل بالضد من ذلك ينبغي أنْ نسلم بأن الحياة موجودة منذ ملايين من السنين قبل تكون هذه الطبقات؛ أي منذ الزمان اللازم لبلوغ الحياة مبلغ الحيوان العالي في الارتقاء البطيءِ.
كان يظن قبل سنة ١٨٣٨ أنَّ أصل السمك الأحفوري لا يتجاوز طبقات الفحم الحجري، على أنَّه قد وُجد في الطبقات الدفونية حتى في السيلورية أيضًا في طبقاتها العليا، لا في طبقاتها السفلى، حيث لا يوجد له أثر، ولا في المنطقة «لبرند» الأولية الأقدم منها. ويستنتج من ذلك أنَّ الأصل الفِقري لم يكن موجودًا، أو كان نادرًا جدًّا في أقدم الطبقات المعروفة التي اعتبرت خطأ أنها أول الطبقات، مع أنها آخر سلسلة طويلة من الطبقات التي كانت مأهولة بالأحياء.
فلا شبهة في أنَّ هذا النمو في الأنواع سار سيرًا صاعدًا، وكل صف ابتدأَ بصور بسيطة أخذت تنمو بعد ذلك شيئًا فشيئًا، كما يُعلم من الاختبار في الماضي والحال، وإلَّا لو كان مذهب الارتقاء غير صحيح لحصل ضد ذلك، إنْ لم يكن في الكل ففي البعض.
فبهذا التعليل البسيط يفهم لماذا هذه المناقضات الكثيرة، وهذا الخروج عن القياس، وهذا التقهقر أيضًا في البالنتولوجيا من غير أنْ يكون في ذلك داعٍ إلى إنكار مذهب الارتقاء؛ إذ لا شبهة في أنَّ الطوائف العليا من حيث ارتقاؤها الكلي جاءت أخيرًا. وكلامنا في الكلي لا في الجزئي؛ وعليه فعالم الحيوان هو فوق عالم النبات الذي سبقه بوجه العموم، والأصل الفِقري أعلى من الأصل العديم الفِقر المتكون قبله. وما كان من الأصل الفِقري أتم وأكمل جاء بعدما كان منه دونه، فجاءت الحشرات بعد الأسماك، وذوات الثدي والطيور بعد الحشرات، والإنسان بعد الطيور، وهكذا في كل صف من صفوف ذوات الفِقر. ولا يُعلم أنَّه حصل عكس ذلك في الطبيعة البتة. ولئن كانت نواميس الارتقاء الجيولوجي في الحيوانات العديمة الفِقر غير واضحة، وكان فيها عدم انتظام في التقدم والتأخر كثيرًا، إلَّا أنَّ الصور الأبسط تتقدم دائمًا الصور الأكمل، كما يتضح جليًّا من «السفالوبد» الذي هو أعلى صف الحيوانات الرخوة، وإذا كانت صور الحيوانات الرخوة أكثر تنوعًا في متكونات الأرض الأولى، فينبغي أنْ نعتبر أيضًا أنَّه كلما كانت تلك الأصول الدنيا تنقص كانت الأصول العليا تزيد كذلك.
إلى أنْ يقول أيضًا: «كأن الطبيعة نفسها شعرت بما سيكون للإنسان من العُجب بنفسه، فأرادت أنْ تجعل عقل الإنسان يتذكر عند انتصاره، كما كان يذكِّر العبيد في رومه الظافر بأنه ليس إلَّا ترابًا.»
على أنَّ وقوف بعض الشعوب في الخشونة الأولى، لم يمنع تقدم البعض الآخر في التمدن طبقًا لما يحصل في الطبيعة.
وهكذا تنقض أيضًا باقي الاعتراضات على الارتقاء في التاريخ، فالأمم أو الممالك التي بعد أنْ بلغت درجة عالية من التمدن، إمَّا هلكت أو بقيت واقفة، أو تقهقرت، تشبه هذه المجاميع التي ذكرناها في تاريخ عالم الأحياء، والتي بعد أنْ بلغت مبلغًا معلومًا من الكمال وقفت، وقام مقامها فروع أخرى من جنسها أكثر فتوة وأعظم قوة. هكذا أيضًا في التاريخ؛ فإن بلاد اليونان قامت على أثر مصر ورومه على أثر اليونان، والشعوب الجرمانية على أثر رومه متدرجات على سلم التقدم العظيم، ولم يصب التقدم إلَّا وقوف زمني فقط. وأوروبا بكل مجدها وعظمة تمدنها ستسقط يومًا ما، ويقوم على أثرها فرع من البشر أكثر فتوة وأعظم قوة، فتسقط المدن العظيمة، وتنطفي الأسماء الشهيرة، وتفتقر البلاد الغنية، ويزول التمدن الرفيع:
وهذا الارتقاء لا يتم بسرعة، بل ببطء كلي. وكما أنَّ تاريخ العالم الماضي لا يحسب إلَّا بالملايين من السنين، هكذا أسباب الارتقاء لا تتيسر إلَّا مع الزمان الطويل جدًّا. ولكن ما هو الزمان بالنظر إلى السير الطويل في الطبيعة والتاريخ، فالإنسان يبخل بالدقائق؛ لأنَّه يرى نفسه يقترب من نهايته ساعة عن ساعة، ويومًا عن يوم، وأمَّا العالم فيسير من الأزل وإلى الأبد، والملايين من السنين كيوم واحدٍ فيه.
وللفروغ من هذا الباب لا بدَّ من التنبيه إلى أنَّ مبدأ التربية يكون أشد وأقوى كلما كانت الصور الفاعل فيها أكمل. وسبب ذلك بسيط وواحد في الطبيعة والتاريخ، فكلما كان التكوين وأحوال الحياة الخارجية أكثر اختلافًا، كان العقل والاحتياجات والأفكار وكل ما يتعلق بها أعلى مطلبًا، وكانت المهيجات ووسائط التكميل أكثر وأقوى كذلك. قال ليل في ذلك ما معناه: إنَّ الارتقاء الصناعي والعلمي في عصرنا هو على نسبة هندسية مع التمدن والمعارف العمومية، وينقص على نفس هذه النسبة كلما تقهقرنا في الماضي، بحيث إنَّ التقدم الحاصل في عشرة قرون في الماضي لا يقتضي له أكثر من قرن فيما يأتي بعده. وقال أيضًا: إنَّ الإنسان في القديم كان يشبه الحيوان أكثر جدًّا بالميل الغريزي لأن يتقلد كل فرع من فروعه الفرع الذي تقدمه؛ أي يشبهه بميله للوقوف. وإذا قابلنا تقدم المدن بتقدم القرى نرى أنَّ الأشياء تسير فيها على نفس هذا الناموس؛ فإن القرى لقلة المهيجات الداخلية والخارجية فيها ترى أنها شديدة الحرص على الأشياء المقررة، كثيرة الاحترام لنظامها.
فلا غروَ أنْ مرَّ على الإنسان في العهد السابق التاريخ ألوف من السنين، وربما ألوف من القرون قبل أنْ بلغ درجة راقية من التهذيب أو صار له تاريخ فقط، وأمَّا بعد ذلك؛ أي بعد أنْ رسخت قدمه في التمدن، فصار ارتقاؤُه أسرع فأسرع يومًا عن يوم. وما قيل عن الإنسان صحيح أيضًا على سائر العالم العضوي؛ فإن الارتقاء في الحيوان لا يكون واضحًا ومنتظمًا وسريعًا، إلَّا فيما كان منه أكمل من غيره،ِ كذوات الفِقر وذوات الثدي خاصَّةً. وأعظم ارتقاء في الطبيعة والتاريخ هو ما حصل في الإنسان؛ إذ تفلَّت من الأصول العليا لذوات الثدي حتى صار بينها وبينه بون شاسع. ولا نستغرب هذا الفرق بينهما؛ لأن من أمكنه أنْ يقطع العقبة الموصلة إلى الإنسان لا شك أنَّه قابل لضروب متنوعة من الارتقاء، وبعد أنْ سار على طريق التمدن صارت كل خطوة من خطواته تبعده أكثر فأكثر عن صورته الأولى.
وللإنسان إخوة كثيرون لا يزالون متأخرين جدًّا، فلا يظن من كان بالغًا شيئًا كبيرًا من الارتقاء أنَّ ذلك موهبة مجانية معطاة له من فوق، بل فليعلم أنَّه نتيجة تربية متمهلة وارتقاء صعب، وعلمه هذا أعظم منشط له يحثه للسير في هذا السبيل. ولا يُعلم إلى أين يبلغ به هذا الارتقاء، على أنني متيقن بأنَّه لا يوجد أمر مستحيل على الإنسان إذا أحسن استعمال ما فيه من القوى، وما له من العقل، فتزداد قابليته، ويتسع نطاق سلطانه على الطبيعة إلى ما وراء الحد الذي يظهر أنَّه مفروض له الآن.
وأول ما اتخِذ جلد الحيوان كساءً واصطُنع السهم للصيد وبُذرت الحبوب وزُرع النبات، حصل في الطبيعة ثورة عظيمة لا مثال لها فيما تقدم من تاريخ الأرض؛ إذ ظهر فيها كائن لا يلزمه أنْ يتغير ضرورةً مع العالم، له سلطان على الطبيعة، وإنْ كان محدودًا؛ لأنَّه يدرك عمله ويزنه ويتفق معها لا بتغيير جسده، بل بتقدم في عقله.
ولا يقتصر الإنسان على الخروج بنفسه من تحت حكم الانتخاب الطبيعي، بل يُخرج معه غيرَه أيضًا من تحت حكمه، وسوف يأتي زمن لا يبقى فيه سوى الحيوانات الأهلية والنباتات المزروعة؛ إذ يقوم فيه الانتخاب الصناعي مقام الانتخاب الطبيعي إلَّا في البحر.
على أنَّ ما تحرَّر الإنسان منه جسديًّا لا يزال يفعل فيه عقليًّا؛ ونتيجة ذلك أنَّ الشعوب التي ترتقي بعقلها فوق غيرها، تبقى وحدها أخيرًا إذ تُلاشي غيرها، وتحكم على الأرض حتى لا يبقى إلَّا شعب واحد أضعف أفراده عقلًا يعادل أكبر عقولنا، وربما كان أعلى منه أيضًا. وكل واحد حينئذٍ يجد أنَّ سعادته قائمة بسعادة قريبه، وتكون الحرية كاملةً إذ لا يتعدى الواحد على الآخر، ولا يعود لزوم للشرائع الصارمة، وتقوم مقامها الجمعيات الاختيارية للقيام بالمصالح العمومية المفيدة؛ حتى تستحيل الأرض أخيرًا من وادي البُكا وميدان المطامع غير المرتبة إلى فردوس جميل لم يخطر على قلب ملهم، ولا تصوره فكر شاعر.»
فهذا المذهب الذي لا أسلم به كله حرفًا بحرف، والذي لم أبسطه هنا إلَّا إجماليًّا، إذا كان صحيحًا فلعل فيه ما يعوض على الإنسان في مستقبله ما قد خسره من أصله بإطلاق مذهب التحوُّل عليه. ولئن لم يكن فيه شيءٌ يجعل فينا أملًا بأن سنصير يومًا ما ملائكة بأجنحة، إلَّا أن نظرنا به إلى مستقبل الجنس البشري أَرضى حينئذٍ لكبريائنا من النظر إلى ماضيه في كل حال.
وهذه المتكونات اللورنسية التي توجد في بافيارا وبوهيميا، هي أقدم ما يعلم من الطبقات المحتوية على آثار عضوية، وتحت الرواسب المحتوية على آثار عضوية معلومة، تمتد على سمك عظيم المتكونات البلورية للتحول الشستي لأقدم الرواسب، والآثار العضوية التي كانت فيها تكاد لا تعرف بسبب التغير الشديد.