المقالة الخامسة
إني أبسط في هاتين المقالتين الأخيرتين الرابط الذي يربط مذهب داروِن بالرأي المادي وبالفلسفة المادية للماضي والحال. وهذا الارتباط واضح كما أنَّه طبيعي. والإنسان إذا تأمل قليلًا بنفسه وبالأشياء التي تحيط به، فأول ما يعرض له بعد السموات والأرض هو نفسه وعالم الأحياء الذي يقرب منه، وأول سؤال يخطر له هو هذا: من أين أتت هذه الأحياء؟ وكيف أَتت؟ ومن خلقها؟ والإنسان الذي هو سلطان الأرض وأكمل المخلوقات من أين أتى هو أيضًا؟
ولما كان الجواب على هذه السؤالات جوابًا مقنعًا يمتنع بدون واسطة العلم، كان أقدم الروايات في الخليقة عند الشعوب المختلفة مشحونًا بالخرافات، مملوءًا من كل عجيب وغريب من التصورات الخاصة بالشعوب إذ كانوا في مهد الطفولية.
إنَّ الكائن الأول الأزلي غير المنظور، والذي لا يدرك إلَّا بالعقل أراد أنْ يتجلى بكل قدرته وبكل مجده، فخلق أولًا الماء من فكر واحد ووضع فيه بذرة الخليقة، فصارت البذرة بيضة تلمع كالذهب وتضيء كالشمس. ثم دخل في هذه البيضة على صورة بارام براما؛ أي الإنسان الإله. ثم انفلقت البيضة فلقتين بعد ملايين ملايين من السنين الشمسية، فخلق من الفلقة الواحدة السماء، ومن الفلقة الأخرى الأرض التي فصل اليابسة منها عن المياه. ثم شطر نفسه شطرين، خلق من الشطر الواحد الذكر، ومن الشطر الآخر الأنثى؛ أي إنَّه تقلد طبيعتين طبيعة فاعلة، وطبيعة قابلة.
ولذلك كان الأرمن يتهادون البيض في رأس السنة، ثم أجاز النصارى هذه العادة، وقد نقلوها إلى عيد الفصح.
ورواية سكان جزائر البحر الجنوبي في الخليقة على ما نقله لنا المرسل تورنر أبسط من ذلك؛ فإنهم يعتقدون أنَّ الأرض كانت أولًا مغطاة كلها بالماء، ثم انسحب الماء شيئًا فشيئًا، فأرسل أبو الآلهة ابنته على صورة حمامة ومعها قبضة تراب ونبات حي، فوضعت التراب على الحجار، وغرست النبات ولما امتدت أصوله تغطى بالذباب، ومنه تكوَّن الرجال والنساء، وبعض السمك الذي كان في الماء حيث اليابسة اليوم تحوَّل إلى حجار؛ ولهذا السبب كنا نجد حجارًا كثيرة كانت من قبل أسماكًا أو حيوانات أخرى.
وعند الفرس الخلق كائن من مادة أولى كذلك ذات قوة أولى متصلة بها؛ أي من الكاوس الذي ينشأ فيه هرمز وأهرمن إلاهاهم العظيمان، فهرمز إله النور خلق العالم في ستة أيام، كما في رواية التوراة مع الفرق في الترتيب، فخلق في اليوم الأول النور والسماء والكواكب، وفي اليوم الثاني المياه والغيوم، وفي اليوم الثالث الأرض والجبال والسهول، ثم في الرابع النبات، ثم في الخامس الحيوانات، وفي السادس الإنسان.
وأهل بابل يعتقدون أنَّ كل شيء كان في الأصل ماء وظلمات مسكونة بالجن، ثم فصل الإله «بل» من هذا الكاوس السماء والأرض وصنع الكواكب، ثم كلف الآلهة فخلقت البشر والحيوانات.
والمصريون كانوا يعتقدون أنَّ الإله «فتا» كوَّن العالم من بيضة خرج منها.
وهذا الانقسام في العقائد والتصورات إلى قسمين موجود في تاريخ العقل البشري من أوله إلى آخره، أحدهما يجعل أصل كل شيء في المادة، والآخر في إله حي ومستقل، وهذه التثنية لا تزال اليوم كما كانت في القديم، ويعبر عنها تارة بالقوة والمادة، وطورًا بالروح والجسم، وبالطبيعة وبما وراء الطبيعة.
وما عدا هذه الروايات الدينية؛ فإنه يوجد أيضًا آراءٌ فلسفية بحتة قديمة تقترب أحيانًا من آراء العلم اليوم فيما خص ظهور العالم وسكانه. وربما كان سبب هذه الموافقة أنَّ أكثر الفلاسفة في القديم كانوا أطباء أو طبيعيين لا يعتمدون إلَّا على المراقبة والاختبار. إلَّا أنَّ الفلسفة ما لبثت أنْ استقلت بعدهم، وصارت علمًا قائمًا بنفسه، فأخذ الفلاسفة يتقلبون في تيه التصورات، وكثرت الآراء كثيرًا واختلفت. على أنَّه وُجد في كل زمان قوم منهم ميالون للرأي المادي، وسنأتي على بيان ذلك فيما يأتي. وإذا كان الفلاسفة الماديون لم يفوزوا على خصومهم؛ فلسطوة الدين على الفلسفة من جهة، ولقلة ما كان لهم من المعلومات الصحيحة من جهة أخرى. فإنه لما لم يكن للماديين من البراهين الحسية ما يؤيدون به رأيهم في مادية الوجود، ولا سيما ظهور العالم العضوي طبيعيًّا، كانت دعوى الروحيين إنْ لم تكن أقنع فأرضى، حتى إنَّ فلاسفةً كأرسطو وفولطر لم يهملوا أنْ يستعملوا ضد الرأي المادي الحجة القديمة التي لا تزال تكرَّر لما لها من الوقع العظيم على الجمهور، وهي أنَّ العمل يقتضي له عامل ضرورة، والبيت بانٍ كذلك.
وأمَّا اليوم فقد اختلف الأمر لما بين مذهب داروِن والفلسفة المادية من الارتباط الشديد؛ إذ بيَّن هذا المذهب أنَّ التعليل الطبيعي ليس بالممتنع كما كان يُظن من قبل. على أنَّ الذين اعتقدوا وحدة الكون قبل داروِن قد بينوا فلسفيًّا أنَّ ظهور الأحياء أمر طبيعي، وكذلك ظهور الإنسان، وإني من الذين قالوا بهذا الرأي مع التأكيد الممكن إذ ذاك، وذلك قبْل داروِن بسنين عديدة.
على أنَّ مثل هذه النتائج الفلسفية المستخرجة من مبادئ عامة لا قيمة لها إلَّا لعددٍ قليل من ذوي العلم والأفكار الراقية، وأمَّا القسم الأكبر (الذي كما يقول الفيلسوف بركلي: لا يفتكر لنفسه، ويريد له رأيًا)، فيقتضي له أدلة حسية واضحة وتعليلات كذلك، وهذه موجودة في مذهب داروِن الذي انتقضت به كل الأفكار الفلسفية المبنية على النظر، فخلا الجو للفلسفة الطبيعة أو المادية التي تستند في براهينها إلى الطبيعة والمواد نفسها.
وهو واضح بعد ذلك أنَّ الفلسفة المادية استفادت كثيرًا من مذهب داروِن، ولا يسعها أنْ تنحرف عنه لا للنسبة الكائنة بينهما، والتي ذكرناها فقط؛ بل لأن هذا المذهب هو الذي مهد السبيل أولًا لتشييد فلسفة في الطبيعة صحيحة. والفرق بين الفلسفة المادية على ما صارت إليه اليوم، وما كانت في الماضي واضح كذلك؛ فإنها كانت في الماضي تستند إلى بعض المشابهات، وربما أهملت أكبر الاختلافات، ثم تبني نتائجها في أمر الكون على ما لا يخرج عن حد الآراء والحدس، فكانت تعدم قيمتها لذلك. وأمَّا اليوم فصارت بمذهب داروِن ليس فلسفة فقط، بل علمًا أيضًا وعلمًا وطيدًا.
وإذ قد تقرر ذلك، وعرفنا ما لمذهبنا من الشأن في فلسفة الطبيعة، بقي علينا أنْ ننظر إلى أولئك الذين كان لهم هذه الأفكار أو مثلها، وقد جاهروا بها فيما تقدم من العصور. وسنرى أنهم نظرًا لمبدئهم الطبيعي والبسيط هم يتوافقون في الأمور الجوهرية؛ ولذلك كانت فلسفتهم واضحة جدًّا ومتفقة كذلك، بخلاف سواهم الذين تكثر عندهم المناقضات، وتكاد لا تجد اتفاقًا بينهم في أمر من الأمور، وإنك لتضيع في مذاهبهم حتى تقول أخيرًا كما قال التلميذ في رواية «فوست» للشاعر غاتي:
الرأي المادي القديم
فهذا المذهب الذي لم يُنتبه إلى البحث فيه إلَّا حديثًا مع أنَّه ممتد جدًّا في الشرق، هو دين بدون إله ولا ضحايا ولا طقوس ولا صلوات؛ أي ليس فيه شيءٌ مما هو مصطلح عليه في الأديان، وأساسه الأدب والإنسانية، وبعبارة أخرى الفضيلة. وهو مأخوذ من تعليم سنكجاه الذي ليس فيه إله ولا آلهة ولا ما يسمى العالم، بل يعلم بمادة أزلية لا تتلاشى يحركها عاملان هما الطبيعة والنفس، وهي تتغير بالقوى الطبيعية المتصلة بها، فالموت ظاهري فقط، ولا يوجد في الحقيقة إلَّا تغير دائم ما خلا نفس الإنسان، فإنها موجودة لنفسها، ومنفصلة عن الجسد، فالطبيعة والروح أمران متضادان.
فهذان العاملان موجودان في مذهب بودا الذي لا يسلم بالوجود الحقيقي إلَّا لبراكريتي العظيم؛ أي المادة الأولى الكائن بها قوَّتا السكون والحركة أو الراحة والعمل. والحركة هي التي كونت العالم الذي لم يكن بد منه طبيعيًّا كنتيجة لسبب، والذي هو كائن بتخريب ما كان موجودًا وتحويله على الدوام.
ويعظم الفرق أكثر بين هذين المذهبين من حيث الفروض، فإن تعليم بودا يهم الشعب أكثر وغايته تحرير الإنسان. والفروض التي يفرضها عليه هي: الفضيلة والمحبة والشفقة والاتضاع والرحمة والحسنة والصبر والعفة ومحبة الغريب ومساعدة المسكين والرأفة، ولا سيما بالحيوانات، وعدم الحقد والعروض عن الانتقام … إلخ. ويأمر بها حبًّا بالخير لا طمعًا بالمكافأة، ولا خوفًا من القصاص. ويُعلم أيضًا المساواة والإخاء بين جمع البشر، وينفي سائر الامتيازات من جهة المولد والمقام، وبودا يقول: «إنَّ جسد الأمير لا يساوي أكثر من جسد العبد.»
وقد تميز بودا عن سواه بأن كتب تعليمه بلغة العامة لا بالصنسكريت؛ أي لغة الخاصة خلافًا لباقي الأديان في ذلك الزمان. وقد أنكر الودا (أي الكتب المقدسة للهنود) وطرد الآلهة والأرواح البراهمية بدون أنْ يرتكب التعصب أو يتهور بسوءِ المعاملة. وكان يقتضي أن يسلك هذا المسلك؛ لأنَّه كان يريد أن يجعل دينه دينًا عامًّا؛ ولذلك انتشرت رسله في سائر أقطار المسكونة كرسل الدين المسيحي اليوم، لأن غايته الإخاء والتسوية بين جميع الناس، وإنهاض جميع الشعوب الذين يعدهم بالخلاص من جميع الآلام والمصائب بدخولهم في «النيروانا»؛ أي العدم. فغاية بودا أن يزيل من العالم كل ضيق خلافًا للبراهمة الذين لا يهتمون إلَّا بأمر أنفسهم؛ ولذلك انتشر مذهب بودا كثيرًا وسريعًا.
ذكر دونكر في تاريخه القديم أن أسوكا ملك مغاده (٢٥٠ سنة ق.م) أقام دين بودا في مملكته، ولم يعامل المخالفين بالقسوة، بل بالحسنى كما يأمر به التعليم المذكور، فلم يضطهد البراهمة أو الكهنة، ولم يقتل أسيرًا خلافًا للعادة في الشرق. قيل: إنه منع القصاص بالموت، وقد زرع الأشجار على عرض الطرق، وأقام السبل لراحة المسافرين واستقائهم، واعتنى كثيرًا بالفقراء، وأنشأَ مستشفيات ليس للبشر فقط، بل للحيوانات العاجزة والمريضة أيضًا.
ولما خاف البراهمة على مذهبهم أن ينقضه مذهب بودا حركوا الأمراء على اضطهاده، ودام هذا الاضطهاد الشديد من القرن الثالث إلى القرن السابع للمسيح. وبعد هِراقة دماء كثيرة انحصر مذهب بودا في الهند القديمة؛ أي في مكان منشئه وفيما جاوره من البلدان كسيلان والصين واليابان وتيبت ومنكوليا حتى إنَّه اليوم أكثر الأديان انتشارًا بعد دين المسيح، فإن البوديين يبلغون ٤٥٠ مليونًا، والمسيحيين ٤٧٥ مليونًا.
وأمَّا النيروانا فهو غاية مذهب بودا، وقد اختلفوا في معنى هذه اللفظة، والصحيح أنها تعني لا شيءَ أو العدم، وعليه فيكون مذهب بودا عبارة عن العدمية في أتم معانيها، وعن الوجع العام، فالعالم على رأيه مركب من الوجع، وكل شيءٍ فيه باطل، وسوف يهلك. والأوجاع الكبرى عنده أربعة: الولادة، والشيخوخة، والمرض، والموت. والحياة كلها عذاب، وللخلاص من هذه الأوجاع ومن هذا العذاب ينبغي على الإنسان أن يتحرر شيئًا فشيئًا بواسطة الدين والفلسفة من كل حاسة ومن كل فكر، حتى يرجع أخيرًا إلى راحة العدم. وللنيروانا غاية أخرى أيضًا وهي: الخلاص من عذاب البعث، والبعث له مقام عظيم في عقائد الهند. فالنيروانا هو إذن تخلص من كل فكر وشعور وعود إلى السكون العام؛ أي إلى العدم الأول (سونجا) الذي هو عبارة عن السعادة العظمى.
وكما أنَّ دين البراهمة استعار كثيرًا من دين البودية، هكذا دين البودية استعار كثيرًا من دين البراهمة، ثم فقد ما كان عليه من البساطة وفسد بانتشاره في الشعوب، فأكثر من القديسين والصور والقون والأديرة والإماتة والكهنة والرتب. ومن هذه الحيثية يشبه الدين الكاثوليكي جدًّا مع شدة ما بينهما من التناقض في المبدأ، ثم صار بودا نفسه إلهًا يعبدونه.
أنتم تجعلون كل اتكالكم على الله، وأما نحن فلا نتكل إلَّا على أنفسنا. والدين المسيحي مصدره من شعب من أصل سامي، وهذا الأصل أدنى من أصلنا، وليس عنده فكر فلسفي غير مستعار، فنحن لا نقبل مثل هذه العقائد البتة.
ولم يستطع البراهمة أنْ يفهموا التكوين بحسب نص التوراة.
إنَّ النصرانية لم تعلِّم إلَّا ما كان يُعلَّم في آسيا زمانًا طويلًا قبلها.
ولا يخفى أنَّ التعاليم الأدبية للتوراة كانت موجودة عند البوديين، وقد قال بودنوف: إنَّ حكاية الابن الشاطر موجودة في الكتب البودية مع بعض اختلاف فيها، وما عدا ذلك فإن النصرانية تتشابه جدًّا مع البودية في مسائل شتى كالإماتة، وانفصال الطبيعة والروح وتضادهما، واحتقار الجسد والحياة الدنيا، والنسك، والزهد، والاعتزال في الأديرة، وما شاكل.
فلا يوجد إذن شيءٌ في النصرانية لم يكن موجودًا قبلها، وقد قال المؤرخ الإنكليزي بوكل: «إنَّ القول بأن النصرانية جاءت بحقائق أدبية جديدة لم تكن موجودة اختلاق محض أو جهل بالتاريخ. والقضايا التي يزعمون أنها خاصة بها مستعارة أيضًا كمسألة الحبل بلا دنس، فإنه قيل مثل ذلك من نحو ألف أو ألفي سنة عن ابنة أحد ملوك مصر.» والتثليث على قول «ريث» كان في عقائد الشعب المصري.
أنا ما كان وسيكون.
إشارة واضحة إلى ذات المادة، وهذا يظهر أكثر أيضًا في الاسم المعطى لنيث، وهو «الأم العظمى».
وهذه رواية الخليقة على مذهب المصريين قالوا: إنَّ الإله الأول فصل جزءًا من مادته، وكوَّن العالم منه. فالعالم على رواية هذا المذهب ليس بشيءٍ جديد، وإنما هو نمو أو استحالة فيما كان موجودًا منذ الأزل. وهذا العالم ذو شكل مستدير، ويسمى بيضة الكون أيضًا، وفيه تتكون الآلهة صادرةً من مادته لا خالقة لها، ثم يتكمل هذا العالم رويدًا رويدًا في الدهور الطويلة.
وتابعه كثير من أهل وطنه، وبحث عن أصل الكون في المادة، ومنهم: أَنكزيمندر (ولد ٦١٠ق.م) فصنع أول مقياس للوقت، ورسم البحر والأرض على لوح من نحاس أحمر؛ أي إنَّه أول من رسم خارتة جغرافية، واعتنى بضبط خطوط الانحناء للكواكب ومسافاتها ومساحتها. وزعم أنَّ الأرض كقرص مستدير معلق في وسط الكون، وأنَّ المخلوقات الحية فيها من أدنى الحيوانات البحرية حتى الإنسان تكونت بالتتابع. ولم يوافق طالس على أنَّ الماء أصل كل شيء، بل أراد أنْ يجد شيئًا أبسط، فجعل المادة نفسها قبل كل شيء، وأصل كل شيء، وقال: إنها غير متلاشية وغير متناهية، وإنها دون رقة الهواء، وأرق من الماء متحركة نامية من نفسها، قال: «إنَّ المادة الأولى تشمل كل شيء، وتدبر كل شيء.» وقال أيضًا: «كل شيء سيهلك ضرورة ويعود إلى حيث أتى.»
ثم جاء أنكزيمانيس، وهو الثالث من الفلاسفة الميلتيين، وأنكر على أنكزيمندر مادته الأولى أنها لا تقوى على توليد الحياة؛ لأنها ساكنة وأخذ يبحث عن مادة أخرى تكون أقبل لذلك، فرأَى أنَّ حياة الإنسان متوقفة على دوام نفَسه، والإنسان يتنفس الهواء، فقال: إنَّ الهواء إذن شرط الحياة في الإنسان والحيوان، وإنه إذا كانت الحياة تتوقف على الهواء في المخلوقات العليا، فبالأولى أنْ تكون كذلك في المخلوقات الدنيا، وإذا كان الهواء شرطًا لها فيصح أنْ يكون سببًا لها أيضًا، فالهواء غير منظور ونفس الإنسان كذلك، والهواء يتحرك ونفس الإنسان كذلك، فربما كان الهواء نفس الإنسان ونفس كل حي في الطبيعة؛ ولذلك اعتبر النفس أو النسمة والحياة والنفس شيئًا واحدًا. وقال: إنَّ الهواء ليس نفس الإنسان فقط، بل نفس العالم أجمع؛ أي إنَّه مادته الأولى وقوته الأولى كما هو ظاهر من قوله: «إنه كما أنَّ نفسنا التي هي هواءٌ تشملنا وتتسلط علينا، هكذا الهواء يشمل كل شيء.» فالهواء على رأي هذا الفيلسوف لا ينفك يتحرك، ولا يزال يتغير من مادة إلى مادة، ومن صورة إلى صورة، فإذا رقَّ استحال إلى نار، وإذا تكثف استحال إلى غيم وماء وتراب وحجر، وإذا رقَّ أيضًا صيَّر الحرارة، وإذا تكثَّف صيَّر البرد. والأرض ليست سوى هواء متكثف، والأجرام السماوية اللامعة عبارة عن أجزاء تطايرت من الأرض، ولسرعة حركتها رقت فتولدت فيها الحرارة والنار.
فكم تقترب هذه الآراء الفلسفية التي لا تستند إلى شيء من المعارف الحقيقية في الطبيعة من نتائج العلم اليوم! ولا يخفى ما اقتضى للعلم من البحث والزمان الطويل حتى بلغ هذا المبلغ؛ فإننا نعلم اليوم كما كان يعلم طالس أنَّ الأرض كرة، وأنَّ كل شيء على سطح الأرض وفي السماء طبيعي. ونعلم كما كان يعلم «أنكزيمندر» أنَّه توجد مادة أولى أزلية لا تتلاشى فيها قوة الحركة والنمو، ونعلم كما كان يعلم «أنكزيمانيس» أنَّ كل الأجسام هواءٌ متكثف أو متلطف، ونظن نظيره أنَّ أرضنا والأجرام السماوية متكونة من الهواء أو من مادة هوائية، ونحن نعتبر أيضًا أنَّ النيازك التي لا تزال تحصل في السماء أجسام من أصل هوائي أو غازي، تتكثف عند دخولها في الهواء، وتسخن، وتنقض على الأرض. ونعتبر الماء هواءً متكثفًا، ونعلل عن الحر والبرد بحركة انقباض وانبساط في المادة. ونعلم أيضًا أنَّ الغازات باجتماعها على ضروب من التركيب تفوق الحصر والعد، تؤلف جسدنا وكل الأحياء وسائر مواد الكون. نعم، إننا تقدمنا جدًّا عن الفيلسوف اليوناني، وصارت لفظة هواء عندنا أعم جدًّا مما كان يظنه؛ إذ صار عندنا مركبًا ما كان عنده بسيطًا.
ثم إنه بعد هؤلاء اليونان الذين لم يقتصروا على الفلسفة فقط، بل اعتمدوا أيضًا على المراقبة، والذين أدخلوا في العلم القواعد الكبرى الثلاث: الماء والهواء والمادة، قامت المدرسة البيثاغوروسية التي أسسها بيثاغوروس (المتوفى سنة ٥٤٠ق.م) وأصحاب هذه المدرسة لا يعدون من هذه الطبقة، فإنهم هم الذين أدخلوا الأشياء الغامضة في الفلسفة. وعوضًا عن أنْ تكون قاعدتهم مراقبة الطبيعة كاليونان، كانت الاستناد إلى المسائل الحسابية، فبيثاغوروس رسم أركان الفلسفة المصرية الأربعة، وهي: المادة الأولى، والروح الأول، والخلاء، والزمان الأولين في واحد مربع. والبيثاغوروسيون اشتغلوا كثيرًا بالحساب والهيئة والموسيقى، وقد وضعوا قضايا من مثل «جوهر كل شيء في العدد» أو «كل شيءٍ عدد»، وهكذا أدخلوا أشياء كثيرة لا قياس لها في الفلسفة. وأفكارهم في التكوين غير واضحة على أنَّ أحدهم أوكلوس لوكانوس قال ما معناه:
وقد علق الكاتب الشهير بيرن على القاعدة الشهيرة لبيثاغوروس: «إنَّ مربع الضلع المقابلة للزاوية القائمة في مثلث قائم الزاوية تعدل حاصل مربع الضلعين الأخيرتين» العبارة الآتية، قال: «إنَّ بيثاغوروس لما اكتشف قاعدته الكبرى ضحى للآلهة مائة ثور، فكلما اكتشفت حقيقة جديدة تملأ الثيران الجو بخوارها.»
أمَّا المدرسة الآلياوية فتهمنا أكثر من مدرسة بيثاغوروس، ومؤسسها الشهير أكزينوفانوس من كولوفون (آسيا الوسطى). وقد أخذت اسمها من مدينة آليا في سيسيليا، ووجودها كان في سنة ٥٤٠ق.م.
وأكزينوفانوس أول من قام ضد الأوهام الدينية. وينسبون إلى الفيلسوف لويس فورباخ العبارة الآتية: «كل تصوُّر بالله محوَّل عن الإنسان»؛ أي إنَّه منسوخ عن صورة الإنسان وذاته. والحال أنَّ أكزينوفانوس هو السابق إلى هذا المعنى حيث قال لأهل وطنه — وقد غاصوا في بحر الأوهام — هذه العبارة الشهيرة: «يظهر للبشر أنَّ الآلهة لها صورة البشر وأثوابهم ولسانهم، فالأَسود آلهته سود، وأنفها أفطس، وابن طراس يصور آلهته بعيون زرق وشعر أحمر، ولو أنَّ للبقر والأسود يدين لصورت آلهتها على صورتها!» ولقد مرَّ في مقالتي الأولى أنَّ أكزينوفانوس عرف المتحجرات في بطن الأرض كما هي حقيقة؛ أي إنها أحافير حيوانات كانت موجودة سابقًا. وظنَّ أنَّه توجد عوالم لا نهاية لها إلَّا أنَّه لم يحسب الكواكب الظاهرة في السماء من عداد العوالم، وإنما اعتبرها تصعدات نارية من الأرض.
ومن مشاهير هذه المدرسة أيضًا بارمنيدس من آسيا، ولد سنة ٥٢٠ق.م؛ فإنه في أرجوزته في الطبيعة ينكر العدم والفراغ، فوجود شيءٍ من لا شيء أمر مستحيل عنده، وهو يقول: «إنَّ ما يفتكر فينا وتكوين الكل شيءٌ واحد.»
إنَّ الآلياويين صرحوا بالبنتايسم، ومعناه أنَّ الله في الكل، والكل هو الله لمضادة أصحاب الدين في الكون.
وأحد تلامذة أكزينوفانوس هرقليط انفصل عن المدرسة الآلياوية، وأقام تعليمًا جديدًا. فهرقليط، ويسمى بالغامض لغموض كتابه في الطبيعة، عاش سنة ٥٠٠ق.م، وكان عبوسًا يحب العزلة، فالآلياويون كانوا يعتبرون الكينونة خاصة، وأمَّا هو فلم يكن يهمه إلَّا الصيرورة، وقد قال: «إنَّ الأشياء هي دائمًا في حالة المصير فإنها تظهر وتزول، ولكنها غير كائنة في وقتٍ ما.» وقد زاد على عناصر اليونانيين الهواء والماء والمادة عنصرًا رابعًا: النار، ويعتبرها أعظم من الثلاثة الأولى. وقال أيضًا: «إنَّ العالم الواحد الكل لم يصنعه أحد لا آلهة ولا بشر، وإنما هو كان وكائن وسيكون إلى الأبد نارًا دائمة تشتعل وتخمد إلى حدٍّ محدود، فهو لعبة يلعبها جوبتر مع نفسه.»
وهذا العدم في الأشياء الأرضية يذكرنا بتعليم بودا، ولقد أسهب هرقليط فيه حتى أُطلق عليه لأجله اسم «الباكي أو المنتحب».
ثم ظهر أمبيدقلوس (سنة ٤٥٠ق.م)، وكان طبيبًا فاجتهد في التوفيق بين كينونة الآلياويين وصيرورة هرقليط، والذي يزيد اعتباره عندنا كونه الأب الأول لمذهب داروِن، وللوصول إلى هذا الغرض اعتبر الصيرورة عبارة عن تجديد ما كان؛ أي إنَّه ضرب من ضروب الكينونة. وقد زاد على العناصر الثلاثة الموجودة: النار والماء والهواء عنصرًا رابعًا وهو التراب، وعلى ذلك فهو صاحب العناصر الأربعة التي دامت زمانًا طويلًا في العلم، وتسميتها عناصر أرسطو خطأ؛ لأن أرسطو لم يضعها، وإنما أثبتها في فلسفته، وقد أضاف إليها الجوهر الخامس، وهو عنصر أثيري أرق منها، وربما كان على رأيه سبب الظواهر الروحية.
وأمبيدوقل كهرقليط يعتبر العالم أزليًّا وغير مخلوق.
ثم قال: «إنَّ جميع العناصر المتجمعة كرة واحدة بالشوق الذي فيها كانت في أول الأمر ساكنة، ثم حصل التنافر والانقسام اللذان يضادهما الشوق؛ وهذا هو سبب التجاذب والتدافع اللذين كوَّنا العالم فيما بعد.»
وبعد أنْ تكوَّن العالم يقول: «إنَّ الأرض والعالم العضوي تكوَّنا شيئًا فشيئًا الأكمل من الأنقص، وربما كان في هذا النمو صور غير قياسية أو غير منتظمة، لا طاقة لها على الثبات على ما هي عليه، فتخلصت من هذه الموانع ونالت تركيبًا أنسب.»
وهو يعتقد تحول المادة؛ لأنَّه يقول: «إنَّ العناصر المركب منها الإنسان ربما كانت قد مرَّت بسائر المركبات الممكنة.»
ويعتقد أيضًا مفارقة الأنفس، وينسب ذلك إلى غاية معنوية ترجع النفس فيها إلى الحالة الأولى من الراحة والشوق أو الحب.
على أنَّ أهم الفلاسفة لتاريخ الفلسفة المادية قبل سقراط، هم أصحاب القول بالجواهر الفردة وأعظمهم لوسيب ودموقريط، وأصل دموقريط من القاطنة اليونانية في أبدير حيث ولد سنة ٤٥٠ق.م.
فلوسيب — أو لوسيبوس أيضًا — لا يُعلم عنه شيءٌ كثير، والظاهر أنَّه أبو مذهب الجواهر الفردة، وإنْ يكن الفيلسوف أنكزاجوراس قال قبله بوجود بذور أولى أو دقائق مادية متساوية لا عداد لها، وهذا المذهب الجوهري له شأن عظيم في العلوم الطبيعية، ولا يزال حتى اليوم وقد تعاظم جدًّا.
فيوجد على رأي لوسيبوس: «فراغ تتحرك فيه منذ الأزل دقائق لا تدرك بالحواس لا عداد لها، والأشياء تظهر وتختفي بحسب ما تجتمع هذه الدقائق أو تنفصل، وهي لا تتجزأ ولا تتلاشى.»
وأمَّا تلميذه دموقريط فأشهر منه وتعليمه أنَّ الدقائق منتشرة بسيطة لا تتجزأ أزلية تفوق الحصر، ولا تدرك لصغرها، وقد شبهها بالغبار الموجود في الهواء، والذي لا يدرك عادةً، ولا يظهر إلَّا في شعاع الشمس، ومن اتحاداتها المختلفة تتكون سائر المواد من جماد وحي. واختلاف المواد متوقف على اختلاف هذه الدقائق أو الجواهر في العظم والصورة والوضع، وهي منفصلة بعضها عن بعض بمساحات فارغة أكبر منها، ولها — بعضها بالنظر إلى البعض الآخر — حركتان: حركة دائرة وحركة اصطدام مستقيمة. وعدد العوالم لا نهاية له كسعتها، ولا تزال تتولد عوالم وتتلاشى عوالم. والنفس مركبة من جواهر فردة لطيفة جدًّا كروية، شبيهة بجواهر النار تولد حرارة الجسد، ولكل جسد نفس وحرارة معينة. والنفس لا تنفك تطلب الانفصال عن الجسم إلَّا أنها ممنوعة عن ذلك بتصعد التنفس، فإذا وقف التنفس وقع الموت.
ولدموقريط مذهب فيما خص إدراك الحواس خاص به، قال: «النفس تتأثر وحركاتها الأفكار، ولكن الأفكار لا تحصل إلَّا عن انفعال جسدي أو عن إدخال صورة جسمية إلى النفس. وهذه الصور المنبعثة من كل جسم تدخل النفس، وتؤثر فيها عن طريق الحواس، وتأثيرها في النفس غير مطابق لطبيعة الأشياء؛ إذ لا تدرك حقيقة الجواهر، والجواهر وحدها حقيقة، فإننا نرى الألوان ونسمع الأصوات … إلخ، حيث لم يكن يلزم أنْ ندرك إلَّا صورًا هندسية. فلا يصح الاكتفاء بإدراك الحواس، بل يلزم الاعتماد على العقل أيضًا. والآلهة كذلك ليسوا سوى جواهر فردة متجمعة، والفرق بينها وبين الإنسان أنَّ جواهرها أقوى وأكثر حياة من جواهر الإنسان. والنفس ليست خالدة؛ لأنها مؤلفة من جواهر محترقة، فإذا حصل الموت انحلت هذه الجواهر وصارت جواهر نار.»
وهو كبارمنيدس وضع هذه القاعدة: «لا شيءَ من لا شيءٍ ولا يتلاشى شيء.» وهذه القاعدة الأخرى أيضًا وهي أهم: «كل شيءٍ بالاضطرار لا بالاختيار.»
وأدب دموقريط بسيط جدًّا، فهو يقول: إنه يلزم عمل الفضيلة؛ لأن الفضيلة تجلب السعادة. وهذا شأن أكثر الأقدمين فإنهم يعتبرون أنَّه يلزم عمل الخير لا خوفًا من شيءٍ؛ بل لأنَّه واجب. وإنه يلزم أنْ يخجل الإنسان من نفسه لا من غيره، فالحياة التي لا قلق فيها ولا غم أكبر سعادة في الأرض.
- أولًا: في مذهبه الجوهري الذي يشبه مذهبنا في الجواهر بجميع الأمور الجوهرية، والفرق بيننا وبينه أنَّ الجواهر عنده ليس لها إلَّا أشكال هندسية مختلفة، وأمَّا عندنا فالاختلاف بينها بالصفات الكيماوية. وهو ينسب لها حركة أولى، وأمَّا حركتها عندنا فمن تضاد قوتي الجذب والدفع اللتين نعتبرهما غريزيتين في الجواهر. وجواهرنا أصغر جدًّا من جواهره التي يشبهها بالغبار المنير في الهواء.١٣ ولا يخفى أنَّ جواهره تصورية لتسهيل التعليل عن أحوال الكون، وأمَّا جواهرنا وإنْ كانت تصورية أيضًا إلَّا أنها تستند إلى ملاحظات وامتحانات علمية شتى.
- ثانيًا: مذهبه في كثرة العوالم إلى ما لا نهاية له، وزوال بعضها وقيام آخر يشبه مذهبنا في علم الهيئة اليوم.
- ثالثًا: قاعدته التي يقول فيها: «لا شيءَ كائن من لا شيءٍ، ولا شيءَ يتلاشى»، هي كمذهبنا في عدم تلاشي المادة وفي حفظ القوة.
- رابعًا: هو ينكر الأسباب الغائية نظيرنا، وهذا جلب عليه في القديم من الطعن ما لا يزال يتحمله الماديون اليوم، كجعله «الصدفة العمياء» ربة الكون. وفي الحقيقة هي الضرورة لا الصدفة الحاكمة في الكل، فدموقريط لا ينكر أنَّه يوجد ناموس، لكنه لا يسلم بأن هذا الناموس يفعل لغاية، ويسمى الصدفة: عذر جهل الإنسان.
- خامسًا: مذهبه في إدراك الحواس الذي ليس العالم بموجبه إلَّا جواهر متحركة، وليست الأصوات والروائح والألوان إلَّا شعورًا ذاتيًّا لوجداننا أو لحواسنا، هو مطابق للمذاهب المعوَّل عليها في الإحساس اليوم.
- سادسًا وأخيرًا: رأيه في جوهر النفس هو كرأينا، والفرق بيننا أنَّ جواهر النار لدموقريط يعبَّر عنها عندنا بأفعال الدماغ والأعصاب، المجهولة في زمانه.
فيرى مما تقدم أنَّ دموقريط أقرب إلى أفكارنا من سائر الفلاسفة الأقدمين. وقد اشتهر رأيه المادي في عصره، واضطهد كثيرًا كما لا يزال يضطهد رأي الماديين اليوم. ومن مضطهديه أرسطوطاليس، فقد قسى عليه القول، ثم نسبوا إليه في المستقبل كل شائبة وأوسعوه كل طعن، وهو براءٌ من كل ذلك كما يتضح مما ذكرناه عنه.
ثم بعد دموقريط جاء السفسطائيون وألقوا الشك في قلب الإنسان بحقيقة ما هو معلوم، وما سيعلم. وليس لهم أهمية في نظرنا إلَّا باستطالتهم في شكهم حتى إلى الآلهة. منهم بروثاغوراس (٤٤٠ق.م) قال: إنه لا يستطاع أنْ يقال عن الآلهة أنهم موجودون أو غير موجودين؛ فاتهم بالجحود وطرد من أثينا وأحرق كتابه. فالاضطهاد الذي ملأَ العالم مظالم لأجل الدين قديم جدًّا حتى من عهد ميثولوجيا اليونان.
ثم تجاسر السفسطائيون مع الزمان، وأحدهم كريتياس الملقب برئيس الثلاثين ظالمًا شرع يعلم جهارًا أنَّ الآلهة ليسوا سوى اختراع أناس دهاة ليخدعوا الشعب الجاهل. ومعلوم أنَّ السفسطائين ينكرون الخير المطلق، ويجعلون العدل والظلم من اصطلاح الهيئة الاجتماعية. ثم تطرف أريستيب الذي كان في القرن الرابع قبل المسيح، ووضع علمًا جديدًا في الأخلاق أسسه على اللذة التي اعتبرها غاية الوجود، فاللذة عنده هي السعادة، ولا يستطيع أنْ يجمع بين التأمل وضبط النفس ويكون سعيدًا إلَّا العاقل. ولذة الجسد أفضل من لذة النفس، وعذاب الجسد أشد من عذاب النفس.
وكان أريستيب يغشى كثيرًا مجالس الأكابر في ذلك العصر، حَسَنَ المُعاشرة، كثيرَ التردد كذلك على الحكام. وقد اتفق له أنْ اجتمع مرارًا كثيرة بخصمه العظيم «بلاتون» — الحكيم عند «لانيس السيراقوسي» — وقد خرج من مدرسة أريستيب ثيودورس الجاحد.
وأريستيب كان آخر الفلاسفة الماديين قبل سقراط. ثم خلا الجو للفلسفة النظرية، واشتهر فيها الفليسوفان الشهيران بلاتون وأرسطوطالس، ونضرب هنا صفحًا عن ذكرهما، وعن ذكر معلمهما سقراط؛ لأنَّه ليس في فلسفتهم شيءٌ يختص بتاريخ الفلسفة المادية.
إلَّا أنَّ أحد تلامذة أرسطوطاليس وهو ستراتون صاحب الفلسفة الطبيعية الشهير، يظهر من تعاليمه التي لم يبلغنا منها إلَّا القليل أنَّه كان له مذهب مادي؛ فإن القوة أو العقل الذي عند أرسطو يدبر العالم لا يعتبره ستراتون إلَّا العلم المبني على الإحساس. وهو يعتبر أنَّ كل شيءٍ، بل كل حي مشتق من المادة بقوى طبيعية متصلة بها. ولا يجد لزومًا للمبدأ الروحي الذي يضعه أرسطو في باطن كل شيء، بل كل الطبيعة إله، والعقل عنده قوة حسية؛ لأن كل فكر يقتضي شعور الحواس قبله ضرورة.
وقد كتب إبيقورس نحوًا من ثلاثمائة كتاب، ليس لنا منها إلَّا ملخصاتها. وأحسن الموارد التي يُعتمد عليها لمعرفة تعاليمه هو أرجوزة الشاعر اللاتيني «لوكراسيوس كاروس»، أعظم زعماء هذا المذهب بعد إبيقورس (٩٥–٥٢ق.م) في «طبيعة الأشياء»، وهذه الأرجوزة ربما كانت نسخة من بعض كتب إبيقورس وقد تغير اسمها.
وفضل فلسفة إبيقورس ظاهر فيما تعلق منها بعلم الأخلاق الذي اعتبره أهم المسائل. وقد راعى أيضًا في فلسفته الأقسام الثلاثة المعتمد عليها في فلسفة اليونان، وهي: المنطق والطبيعيات وعلم الأَدب، إلَّا أنَّه لم يجعل المنطق والطبيعيات سوى مساعدين لهذا العلم اللازم ضرورة في الحياة، حتى تكون الحياة سعيدة على قدر الإمكان بتخفيف مصائبها بالحكمة والتخلق بالأخلاق الحسنة.
وقد حذا حذو دموقريط في الطبيعيات، وقال نظيره بالجواهر الفردة والفراغ غير أنَّ الجواهر متحركة حركة دائمة في فراغ هذا الخلاء الذي لا نهاية له، وحركتها فيه بانحراف بعضها على موازاة بعض بحيث تصطدم بعضها ببعض، وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع، وهذه الحركة تؤدي إلى تراكيب وصور عديدة متنوعة ومتغيرة. ومن هذا استنتج البعض أنَّ دموقريط كإبيقوروس لم يرَ في جميع ظواهر الطبيعة إلَّا فعل الصدفة العمياء.
كما أنَّه من كرة صغيرة من الجص يعرف كل الجص، وكما أنَّه لا يوجد حقيقة إلا جص واحد، وكما أنَّه يا صاح من حلي واحد من الذهب يعلم كل الذهب أو من جارجة كل الفولاذ، هكذا براهما أيضًا هو مادة كل شيء، وقوة كل شيء، وهو المادة التي تتحول من نفسها. وليس هو سبب كل شيء فقط، بل هو كل شيءٍ أيضًا.