سقراط يتوجه إلى المحكمة
كان العام الأول من الأولمبياد الخامس والتسعين، وهو العام الذي سُمِّيَ فيما بعد بعام ثلاثمائة وتسع وتسعين قبل ميلاد المسيح، وقد جاوز سقراط الآن عيد ميلاده السبعين، وعاش بعد عصر بركليز خلال الهزة المريعة: هزة الحرب مع إسبرطة وخلال الثورة والدكتاتورية، حتى كانت سنوات السلم الأولى من عهد الديمقراطية العائدة.
ولا يرى المرء في الظاهر كثيرًا مما يذكره بالحرب وهو يتجوَّل في أثينا في هذا العام، عام ٣٩٩ق.م، فإن أربع سنوات من السفن المحملة بالحبوب والأسواق المترعة بالبضائع قد ملأت وجوه الناس، وإن أربع سنوات من السلام قد وارت خلفها ندوب قتال الشوارع في بيريس، حيث كان الديمقراطيون المنفيون يشقون طريقهم إلى المدينة بالقتال، وسلم قبل ذلك بعامين آخر حصن للثلاثين، وأضحت أثينا ديمقراطية مرة أخرى، وقد عُين بها المحلفون بنزاهة وإخلاص، وعاد إليها مجلس السيادة، وأقسم المواطنون جميعًا أن يحافظوا على السلام وينسوا الماضي، وكان أفلاطون الآن في الثامنة والعشرين من عمره، يتحرق شوقًا إلى أمر يستحق أن يضحي في سبيله بحياته، فبدأ يفكر جديًّا في الزج بنفسه أخيرًا في معمعان السياسة، وبدا له كأن المدينة قد نبذت حكم الرعاع والاستبداد، وأمست مكانًا للرجال المهذبين مرة أخرى.
أما في حقيقة الأمر فإن الحرب الأهلية بطبيعة الحال لم تغب عن الذاكرة بهذه السرعة، ولم يكن أن يعود أي شيء حقًّا إلى ما كان عليه قبل الحرب، برغم أن كل امرئ تقريبًا كان يود أن يحاول ذلك، فقد تشتت شمل الأسر، وطالب كثيرون باسترداد أملاكهم، أو بالانتقام لإخوة قُتِلوا أو أبناء، واستولت المرارة على النفوس، غير أن نصف المدينة قد شاطر الثلاثين في إثمهم، في حين أن النصف الآخر كان قد كابد النفي والحرمان، وإذا لم يستطع النصفان أن يعيشا معًا فلن تكون هناك مدينة بعد زمن وجيز.
ولذا فإن الناس إن كانوا بحاجة إلى الشيء الكثير، فقد كانت خشيتهم أشد، وكان أكثر ما يخشون: أي أمر يعكر صفو السلام، وكان الوطنيون المخلصون المحافظون الذين تزعموا المدينة في السنوات الأولى بعد عودة الديمقراطية، متحدين مع أغلبية المواطنين في هذا، وقد عملوا من أجل السلام، وتحدثوا في أدب إلى الإسبرطيين، وتحملوا صابرين ضياع الإمبراطورية الأثينية، ودفعوا من خزينة هزيلة ما كانوا يدينون به لإسبرطة منذ عهد الثورة، وضحوا بمصالحهم الخاصة للاحتفاظ بالسلام في بلادهم، وأثنت المدينة بأسرها على واحد منهم، هو أنيتس الوطني الغيور؛ لأنه رفض أن يسترد أملاكه التي بيعت خلال غيبته في المنفى.
وطلبت التضحية من الآخرين كذلك، وحكم المجلس الصغير بالإعدام على أول مواطن حنث في اليمين التي أقسمها لينسى أحزان الماضي، ونُفِّذَ فيه الحكم فورًا، ولم يرضَ عن ذلك الكثيرون؛ لأن المحاكم والمجلس الكبير هما وحدهما اللذان يملكان حق الحكم بالإعدام، ولم يسمح بتكرار مثل هذا الحادث، ولكنه أظهر اتجاه النفوس، والتمس الشعراء الهزليون، مثل أرستوفان الناقد صديق سقراط، الذي كان يحب أن يناقش السياسة المعاصرة ويسخر من الساسة، التمسوا لمسرحياتهم موضوعات أخرى أشد من ذلك أمانًا، ولم يعد النقد شعبيًّا في أثينا الآن، بل كان أمرًا يتنافى مع الوطنية.
وواصل سقراط بطبيعة الحال عمله كالمعتاد، وكان دائمًا يريد مدينة نظامية، ويعتقد في طاعة القوانين، غير أنه لم يعتقد قط في كَمِّ أفواه الناس كي يبقى ظاهر الأمور مستقرًّا، وخلال سنوات عدة من العمل استطاع أن يرى حقيقة الخير كامنة في أغوار العقول، كما رأى أبوه من قبل رأس الأسد كامنًا في الحجر، وقد ألف سقراط أن يشق السطح كي يبرز إلى النور ما يرى، شأنه في ذلك شأن النحات الماهر، وإذا كان الشق يزعج الناس في أول أمره، فقد اعتاد ذلك سقراط، إن الحق شائع بين الجميع، وبمجرد ظهوره تكون له قدرته الذاتية على فرض السلام والوفاق، وإذن فليستأنف بحثه عن الحق.
وربما لم يتنبأ سقراط بأية متاعب جدية، ولو أنه ما كان ليعيرها اهتمامًا لو تنبأ بها، وربما لم يُساور الشك أقريطون ذاته، فلقد استطاع أن يتغلب هو وسقراط في كثير من أوقات العنف والشدة، وأثينا اليوم مدينة مسالمة تحترم القانون.
وهمس الناس ذات يوم بأمر، وتحوَّل الهمس إلى نبأ يتنقل، ثم شاع النبأ في لحظة في جميع أرجاء المدينة؛ ذلك أن سقراط قد دُعِيَ للمحكمة لكي يُحْكَمَ عليه بالموت.
ولو استبعدنا الشائعات؛ ألفينا الحقيقة كما يلي: لقد اتُّهِمَ سقراط بأنه لا يعتقد في الآلهة التي تؤمن بها المدينة، ولكنه يعتقد في مقدسات أخرى، وأنه يفسد الشباب، ولا يعني هذا شيئًا على وجه الدقة، ولكنه يمكن أن يحور فيعني أي شيء تقريبًا لو تناوله خطيب ماهر، وكان ملتس هو المتهم الرسمي، وهو شاب لم يعرفه أحد حق المعرفة، برغم أنه قد رفع الدعوى من قبل هذا العام على رجل آخر متهمًا إياه بالزندقة، ورافقه في المحكمة مساعدان رسميان ذوا أهمية أكبر ذلكما هما ليكون الخطيب، ثم أنيتس السياسي، أنيتس الوطني النزيه، الذي كان مجرد ذكر اسمه بين المدعين سببًا في إضعاف الفرصة أمام سقراط.
وكان مفروضًا أن تُعْرضَ القضية خلال الشهر أمام إحدى المحاكم الكبرى التي تتألف من واحد وخمسمائة عضوًا، ولكن لم يعرف أحد على وجه التحديد مَنْ هم الأعضاء حتى يحل يوم المحاكمة، وبمجرد بلوغ القضية ساحة المحكمة لا بُدَّ أن يقضي فيها في يوم واحد، والأغلبية — حتى لو كانت بفرد واحد — تكفي لإدانة سقراط والحكم عليه بالنفي أو بالموت أيًّا كانت العقوبة التي تحددها المحكمة، وإن كان ملتس لا بُدَّ أن يطلب عقوبة الموت، وكان أمام سقراط يوم واحد، وأقل من يوم بكثير، ثم ساعات قلائل بحساب الساعة المائية في المحكمة، لكي يبرهن لما لا يقل عن مائتي وخمسين من زملائه المواطنين على صحة حياته كلها.
وكانت القضية التي تُعْرَض أمام المحكمة دائمًا مجالًا طيبًا للغو واللغط في أثينا، ولو استمعت إلى الأحاديث في السوق لوجدت اسم سقراط في كل مكان وإن لم يحضر بشخصه في ذلك الصباح.
يقول الرجل عند لوحات سوق السمك: «لست أعرف رأيك، ولكني كنت أنتظر أمرًا كهذا منذ سنوات، ولقد أصاب أنيتس كبد الحقيقة، وليس هناك مدينة من المدن تستطيع أن تجعل شبابها ينقدون آباءهم، وكان ينبغي لنا أن نتعلم الدرس عندما رأينا ما صار إليه ألقبيادس دون أن ننتظر كرتياس وصحبه، إن هذا الرجل سقراط رجل خطر، إنه لا يمكن أن يبقى في إسبرطة أسبوعين اثنين.»
ويقول آخر عند دكان القصاب: «كلا، لم أكن هناك لما وقع هذا الأمر بطبيعة الحال، ولكنهم يقولون إن ابن أنيتس قد أصابه شيء من أسباب التعب، إنه لم يرد أن يلتحق بعمل أبيه في الصباغة — كما فهمت — وقد أبلغ سقراط أنيتس بذلك، فسقط المقبض من يد الشيخ، وقال: إن ابنه من شأنه، وعليه أن يصدع بما يؤمر به أو شيئًا من هذا القبيل، ومهما يكن من شيء، فإن الفتى قد أدمن على الشراب من ذلك الحين، ويبدو أن أنيتس يعتقد أن وزر ذلك يقع على عاتق سقراط، وإن سألتني رأيي في هذا قلت: إن أنيتس قد يكون رجلًا عظيمًا من رجال الدولة كما يقول الناس جميعًا عنه ذلك، ولكني سعيد لأنه لم يكن أبي!»
وإن مررت إلى جوار مناضد رجال المال سمعت أحدهم يقول: «هل تحسب أن في قصة شجارهم مع ألقبيادس شيئًا وهو في طريق عودته، لقد سمعت …»
ويقول أحدهم عند بائعي الزيت: «ويقولون: إنه في السبعين من عمره، وله زوجة وثلاثة أطفال، كان بوسعهم أن يتركوا الشيخ آمنًا، ثم إني تحدثت إليه ذات مرة، وكان يقف مكانك الآن تمامًا، ويتحدث في أمور بسيطة جدًّا، ولم يستخدم ألفاظًا ضخمة كما كان يفعل السفسطائيون، ولم يتسع لنا الوقت في ذلك اليوم، إن الوقت لا يتسع لنا مطلقًا، ولسوف أحضر محاكمته إذا أغلقت دكاني لأدركها.»
ويقول أحدهم وهو يسير جيئةً وذهابًا تحت قبة زيوس: «ماذا عسانا فاعلين يا أقريطون؟ لقد رأيت مسلكه حينما أردنا أن نأتي بثياب الحداد المألوفة لزانثب ولأطفاله كي يؤثروا بها على أعضاء المحكمة، وقد رفض أن يأخذ الحيطة كما تفعل عامة الناس، ثم لا تنس موضوع الخطاب الذي يلائم المقام، ربما كان مصيبًا عندما رفض أن يحفظ الخطاب الذي أراد ليسياس أن يكتبه له، غير أني لم أره يُعِدُّ لنفسه خطابًا، ثم أرقب، سوف يهبط إلى الملعب كعادته بعد ظهر اليوم، وبعد غد، حتى تحين المحاكمة، وقد يضحي بنفسه من أجل هؤلاء الشباب، وهم لا يستحقون خنصره، بل إنَّا جميعًا لا نستحقه … آه يا أقريطون، ماذا عسانا فاعلين؟»
ويقول آخر عند بيت أنيتس الوطني: «استمع إليَّ يا ليكون: لا بُدَّ لنا أن نتجنب الخطأ في القضية، وخير لنا أن نتخلى عنها بتاتًا من أن نلفقها ونخلق من الرجل بطلًا، ولا تعتمد كذلك كثيرًا على مليتس، فلو أن سقراط ساجله السؤال؛ لقلبه رأسًا على عقب في لحظة واحدة.»
«أليس توجيه السؤال من المتهم فيه شيء مما لم يألفه الناس يا أنيتس؟»
«قد يكون الأمر كذلك، ولكن تلك طريقة سقراط، وسوف يلجأ إليها، إنك لا تعرف صلابة الرجل، ومع ذلك فإن هذه الطريقة عينها هي التي سوف تؤلبهم عليه، لو قمنا نحن بواجبنا، لندفعه قليلًا بقولنا بأن الأغلبية في ديمقراطيتنا تعرف بالطبع خير المعرفة، ولو أنها خطَّأَت تعاليمه فثق بأنه سوف يوافق على «ضرورة» خطئها، ثم … أجل … لقد قصدت أن أذكرك يا ليكون، لا تذكر بالاسم بطبيعة الحال ألقبيادس أو كرتياس، أو أية تهمة يرجع تاريخها إلى ما قبل سقوط الثلاثين، فأنت تعرف أن ذلك هو القانون.»
«ولكن ألقبيادس وكرتياس أقوى ما لدينا من نقاط يا أنيتس، لا أظنك تعني …»
«آسف يا ليكون، إذ لا بُدَّ لي أن ألحَّ في ذلك، اذكر بالتلميح ما شئت طبعًا، ولكن هذا القانون قانون حسن، وهو أملنا الوحيد في تماسك المدينة بضع سنوات، إن اعتراضنا على رجل يحب أن يعكر صفو الأمن في المدينة لا يبرر أن نعكر صفوه نحن بأنفسنا، دعه يسُقْ نفسه إلى المشنقة بكبريائه، ثم هل سمعت حديث الناس في السوق فوق ذلك؟ إن القوم يفكرون بالفعل في ألقبيادس وليسوا في حاجة إلى التذكير.»
هكذا كان الناس الطيبون في أثينا يتحدَّثون ويأملون ويخشون ويتعجبون ويرسمون الخطط، بعضهم بنية سيئة وبعضهم بنية طيبة، ولكن قليلًا منهم مَنْ كان واسع الإدراك، ولما عاد سقراط من سماع القضية المبدئي، توجه إلى الملعب كعادته، ولما سأله أحدهم متى يعد خطابه الذي سوف يلقيه في المحاكمة، أجاب بقوله: «لقد كنت في سبيل إعداده طوال حياتي كلها.» فماذا يستطيع أي امرئ أن يقول بعد هذا؟
وأشرق صباح يوم المحاكمة كما يشرق أي صباح، واجتمع أقريطون وابنه كريتوبيولس وأفلاطون وبقية هذه الزمرة مبكرين في البيت؛ لكي يصحبوا سقراط إلى المحكمة، ووجدوه في طبيعته المرحة المألوفة، أما زانثب التي بدت عليها قلة النوم فقد زعمت أنه قد طاب نومًا، وتبادلوا الحديث وحاولوا المزاح الذي كان أيسر على نفسه منه على أصدقائه، ولحظ أقريطون أنه لزم الصمت قليلًا وهو يخطو خارج البيت، ثم لزمه كذلك وهو في الطريق، كأنه يصغي إلى شيء لا يسمعه، ثم ابتسم تلك الابتسامة العريضة التي أحبوها بالألفة، والتي جعلتهم يتألمون في دخيلة أنفسهم ذلك الصباح، ودخلوا المحكمة سويًّا.
وكان المحلفون الآن في طريقهم إلى المحكمة، وهم أولئك المواطنون الأثينيون الذين يبلغ عددهم واحدًا وخمسمائة منتخبين بالاقتراع ليمثلوا المدينة، يتدافعون لكي يحصلوا على شاراتهم من الحاجب، ويحاورون لكي يظفروا بخير المقاعد الأمامية، وكان القاضي الملك أركون على منصته، والمتفرجون — بعضهم متحمس وبعضهم يتطلع فحسب — يتزاحمون حتى قضبان ساحة المحكمة.
وافتُتِحَت إجراءات المحكمة بطنين الصلاة المألوف، وبإعلان الملك أركون القضية إعلانًا رسميًّا، ثم استدعى المنادي المتهمين والمتهم لكي يتقدموا، وقال أقريطون: «ابذل من جهدك ما تستطيع يا سقراط من أجل أصدقائك.» وأخجله أن يكون وجله في الواقع من خسارته الشخصية، ولكن تلك كانت الحقيقة.
وبدأ المتهمون بالكلام، وربما أخلصوا في كلامهم طبقًا لمعتقداتهم ومقاييسهم، إلا أنهم لم يذكروا الحق، وأحسَّ سقراط — وهو جالس على منصته ينتظر دوره — أنه لم يمس بما قيل، كانوا يتكلمون عن رجل آخر، رجل يحب الفوضى، رجل ليس لديه أساس لنفسه، ويحطم أسس الآخرين، هل يمكنهم حقًّا أن يعتقدوا فيما يقولون؟
وبرغم هذا، فإن سقراط في إصغائه إلى روح الخوف التي تكمن وراء الألفاظ أكثر من إصغائه إلى الألفاظ ذاتها، لا بُدَّ أن يكون قد فكَّر في عدة أمور، وأدرك عدة أمور، ربما لم يدركها بمثل هذا الوضوح من قبل، فقد أدرك الآن على الأقل — إن لم يدرك من قبل — ما يقصد بهذه المحاكمة حقًّا.
واهتم بما كان يخشاه هؤلاء الرجال، وبالدافع إلى خشيتهم، لقد كانوا يخشون الخير، لم يكونوا على سوء، ولكن الحياة — كما مارسها سقراط — كانت شديدة الحيوية بالنسبة إليهم، والحق الذي نادى به كان قوي الإرغام عليهم، لقد أحبوا ألوان الخير اليسيرة التي كانت بحوزتهم: الأمن والدعة ومألوف الوسائل، وكانوا يخشون أن يفقدوها يا لهم من حمقى مساكين! لقد أراد سقراط أن يقول لهم: ألا تستطيعون أن تدركوا أنه ليس هناك خيارٌ بين ألوان الخير اليسير والخير الكبير، إن هذا الخير هو مصدر كلِّ شيء.
بيد أن سقراط قد فكَّر في أن يكون الخيار في ذلك اليوم إن كان هناك خيار، هذا هو السبب الذي من أجله ساقني الله إلى هذا المكان، ليكن هناك خيار حق في هذه المحكمة، لا بين أنيتس وسقراط — فماذا يهم ذلك؟ — ولكن بين المبدأ والعقيدة الواعية من ناحية والخوف والجمود الجاهل من ناحية أخرى، وليكن لأنيتس الخيار وكذلك لمليتس وليكون وأعضاء المحكمة ورجال أثينا جميعًا، وفكر سقراط — وهو ينهض للكلام — أن الله ما دام قد أراد ذلك فليبدأ به الخيار.
وعلينا أن نستخرج مما ذكر سقراط فيما بعد ما كان يفكر فيه، ونستطيع أن نعرف ما ذكر؛ لأن أفلاطون كان ماثلًا في المحكمة، مائلًا إلى الأمام في ثبات لكيلا تفوته كلمة، ولديه ما يبرر تذكره كذلك؛ لأن ما سمع وما أحس ذلك اليوم سيغير حياته كلها ويجعل منه فيلسوفًا بدلًا من رجل سياسي.
ولذا فقد تذكر أفلاطون خطاب سقراط ودوَّنه على ورق البردي في دقة وعناية، بينما كان أولئك الآخرون الذين استمعوا إليه لا يزالون على قيد الحياة، ولا يزالون يذكرون، وقد أطلق على هذا «دفاع سقراط»؛ لأن «دفاع» تعريب لكلمة يونانية طيبة معناها «خطاب للتبرير»، وإذا كان سقراط قد ألقى الخطاب كما دوَّنه أفلاطون، إذن لقد كان أعجب دفاع سُمِعَ في ساحة القضاء.