الدفاع
بدأ سقراط دفاعه قائلًا: «يا رجال أثينا»، فسَرَتْ في المحكمة أول هزة طفيفة، لماذا لم يقل كالمعتاد: «سادتي أعضاء المحكمة»، هل نسي الرجل أنه أمام المحاكمة؟
«يا رجال أثينا، لست أعرف كيف أحسستم حينما كان متهميَّ يتكلمون، لقد كانوا يبعثون على الإقناع، وأوشكوا أن ينسوا من أي طراز من الرجال أكون.»
وكانت تلك فكاهة بطبيعة الحال، وقد استمتع بها ولم يره أصحابه من قبل أشد ارتياحًا.
وأضاف إلى ذلك جادًّا، وقد صوب نظره نحو أنيتس وملتس وليكون على المنصة المقابلة، أضاف قائلًا: «ومع ذلك فإنهم لم يكادوا يتفوهون بكلمة واحدة من الحق.»
وأسند الملك أركون ظهره إلى مقعدة مستقرًّا، وكان الكاتب والمنادي كل منهما في مكانه، وأدار حفظة الوقت الساعة المائية، واستتب النظام في كلِّ شيء، وكان جدول أعمال المحكمة في ذلك الحين مشحونًا، إذ كانت تقدم إلى المحكمة قضية كل يوم من أيام العمل في العام تقريبًا، وظن الناس أن هذه القضية سوف تكون كغيرها من القضايا، ولم يعلموا أن طريقة سقراط في الحق سوف تقلب الأمور رأسًا على عقب، ومع ذلك فإن ظاهر خطابه لم ينم عن أي انقلاب، وإذا كان سقراط لم يعده هذا الإعداد من قبل، فإن الله كان الآن يصوغه في أدق تنسيق وأجمله، وكانت الألفاظ من البساطة بحيث يدركها الطفل كما يدركها الرجل الحكيم.
قال سقراط للناس: «لا تدهشوا ولا تقاطعوا، إذا كنتم تسمعونني أصوغ دفاعي في الألفاظ ذاتها التي أَلِفْتُ استخدامها في السوق إلى جانب مناضد رجال المال، حيث أصغى إليَّ الكثيرون منكم، أو في مكان آخر، لا تأبهوا لأسلوب حديثي، فإنه يمكن أن يسوء عن ذلك أو أن يتحسن، ولكن وجهوا التفاتكم إلى شيء واحد فقط، وهو: هل ما أقول حق؟ لأن الخير عند القاضي هو في التفاته إلى ما هو حق، كما أن الخير عند المتكلم هو في ذكر الحق.»
وكان هناك الكثير مما يجب أداؤه في هذا الخطاب، ولكن الوقت قصير للأداء، كان على سقراط أولًا أن يمهد السبيل، عليه أن يقتلع الأهواء القديمة والنكات العتيقة من مسرحية قديمة لأرستوفان مثلًا، واللغط الدائر الذي لا يمكن استئصاله، وهو من أجل ذلك أشد خطرًا، وبعض الناس في هذه المحكمة كانوا لا يزالون يعتقدون أن سقراط «عالم بغير إله» مثل أنكسجوراس، بل إن ملتس — الذي كان ينبغي أن يكون أكثر من ذلك علمًا — كان يحب أن يصمه بوصمة «الملحد» وبالنظريات القديمة المفزعة عن الشمس والقمر، وبعض الناس حسبوه معلمًا سفسطائيًّا، يدرب تلاميذه على أن يجعلوا الخطأ يبدو كالصواب.
«وإذن، فإذا لم تكن عالمًا ولا سفسطائيًّا فما عملك يا سقراط؟ وفيم الارتياب في أمرك؟» ولذا فقد كان لا بُدَّ من رواية القصة القديمة عن كاهنة شيرفون، والرسالة التي صدرت عنها وسؤال الخبراء، وما أحس به حكماء الرجال من ضيق عندما أدركوا أنهم حمقى، إن الحق كان مزعجًا، وكانت تلك هي المشكلة الحقيقية، ذلك ما كان يستتر تحت الأهواء القديمة وتهم ملتس الجديدة، وكان ملتس أحمق جاهلًا، وقد ردَّ عليه سقراط بالسؤال لكي يظهر فيه ذلك، ولكن كثيرين آخرين شاركوه أساس حماقته.
وقال سقراط في هدوء: «إن ما سوف يحطمني في النهاية — إن تحطمت — لن يكون ملتس أو أنيتس، ولكن حديث العالم السيئ وشعوره السيئ، الذي كان سببًا في هدم كثير من الرجال الطيبين الآخرين فيما مضى، أجل وسوف يكون سببًا في المستقبل كذلك فيما أحسب، ولن يكون الأمر معي على خلاف ذلك.»
وتمتم الناس عند ذلك، وقال أحد القضاة لجاره وهو غاضب: «استمع إلى هذا الحبيس الذي يمثل دور القاضي! فإذا كنا نحن الخمسمائة جميعًا ندينه بالجريمة، ويموت كما يموت المجرم، فإنه يبقى مع ذلك «رجلًا خيِّرًا»، أليس كذلك؟ أية مادة هذه التي يعلمها الشباب في ديمقراطيتنا! إني أعرف من أية ناحية أعطي صوتي.»
وربما طَرَقَت التمتمة أُذُنَي سقراط، وربما لم تطرقها.
ولكنه واصل حديثه رافعًا صوته قليلًا حتى أمكن سماعه بسهولة برغم ضجيج الجمهور، وقال: «ربما قال أحدكم: ألم تخجل يا سقراط لأنك ارتكبت أمرًا أدى بك الآن إلى خطر الموت؟» وإني أقدم عن هذا إجابة مخلصة لأي امرئ يتوجه بهذا السؤال فأقول: «إنك تُخطئ يا صاح إذا حسبت أن المرء يجب عليه أن يوازن بين فرص موته وفرص حياته، وأقصد المرء الذي له أي قدر، هل تظن أن أخيل أقام للموت والمخاطر وزنًا؟» كلا، يا رجال أثينا، إنما الحقيقة في ضوء الحق هي هذه، حيثما يتخذ المرء مكانًا — إما لأنه ارتآه بنفسه خير الأمكنة، أو لأنه وُضِعَ فيه بأمر رجل من رجال الحكم — فإني أعتقد أنه ينبغي له ألا يبرحه، وعليه أن يجابه المخاطر التي تعترضه، وينبغي له ألا يسمح للموت أو لأي شيء آخر أن يرجح الخجل وزنًا.
«إني كجندي يا رجال أثينا وقفت حيث أوقفني رؤسائي من الضباط، أولئك الضباط الذين اخترتموهم لكي يكون لهم عليَّ سلطان، وقفت عند بوتديا وعند أمفيبوليس ودليم كما يقف أي إنسان، وعرضت لي فرصة الموت، أما الآن فإن الله هو الذي يوقفني، ذلك ما أعتقده وما أفهمه، إنه الإله الذي يأمرني أن أكرس حياتي لممارسة الفلسفة بالبحث في نفسي وفي غيري، وإني لأرتكب أمرًا إدًّا يا رجال أثينا لو أني تخليت عن هذا الواجب خشية الموت أو أي شيء آخر، إن ذلك يكون أمرًا مريعًا، لو فعلته جاز لكم أن تتهموني بعدم الاعتقاد في الآلهة.»
وحتى أصدقاء سقراط الذين أحبوه لم يروه مثل ذلك قبل اليوم، وكانوا يفكرون بينهم وبين أنفسهم «بأنه على حق، وإنهم لم يفهموه، لقد كان طوال حياته يستعد لذلك، ولقد نما وأصبح أكبر مما عرفناه.»
وكان أمرًا جليلًا — وحتى أنيتس ربما أحسَّ ذلك إلى حد ما — وكان كذلك أمرًا يدعو إلى الاضطراب أن يؤتى بصغار الرجال ليواجهوا هذه الضخامة وجهًا لوجه، وكلما استمر سقراط في حديثه، استطاع أصدقاؤه أن يحسوا هزة المعارضة تعلو، تلك المعارضة التي أحسوها في أنفسهم بعض الأحيان قبل أن يتعلموا النظر إلى الأشياء بطريقته وأسلوبه، ولم يكن من الهين أن يُرْغَم المرء باللفظ وبالمثل ضد مقياس لا يلين، على أن يخضع للحكم كل أفكاره وأعماله.
وكان سقراط يفعل ذلك الآن، لا متريثًا بالسؤال والجواب كما قام لهم بذلك من قبل، مشاركًا إياهم تقدمهم، ومتقهقرًا عند ما لا يكونون مستعدين لمتابعته، إن الوقت لا يتسع لتيسير الأمر على الناس في هذه المحكمة اليوم، وقد تكون هذه المرة آخر فرصة تسنح له لكي يخاطب الأثينيين، وكان عليه أن يقول في جرأة ما كان ينمو في نفسه طوال حياته كلها، ويأمل أن يفهم بعضهم مرماه.
ولذا فإنه لم يذكر لأعضاء المحكمة الأمور السارَّة التي توقعوا أن يستمعوا إليها تصدر من سجين في قبضتهم، وإنما ذكر لهم الحق الذي ظن أن لا بُدَّ لهم أن يعرفوه، ذكر لهم لماذا لم يقبل أن يأتي بأسرته تشفع له، ولديه زانثب وطفلها يبكون ويتوسلون إلى المحكمة أن تخلي سبيله، فتلك كانت التقاليد؛ لأن ذلك يعطي المحكمين إحساسًا بالنفوذ وعمل الخير، ولكن سقراط لم يقبل على نفسه ذلك، ووضع الأسباب وذكَّر المحكمين بهذا القول: «إن القاضي قد أقسم ألا يقدم الفضل كما يشاء له الهوى، بل أن يقيم العدالة طبقًا للقانون، ولا ينبغي لنا أن نعوِّدكم الحنث في يمينكم، ولا ينبغي لكم أن تسمحوا لأنفسكم بالانزلاق في هذه العادة.»
وأنبهم كذلك على انعدام المبادئ في الحياة السياسية في مدينتهم، مرددًا قصة القواد الستة — القصة التي كانوا يمقتون ذكراها — وقال لهم: إنه من الخطر على المرء أن يقف في معارضة نزيهة سواء تحت الحكم الديمقراطي أو تحت دكتاتورية الثلاثين. «إن الرجل المخلص لا يكاد يستطيع أن يخدمكم في وظيفة عامة مع بقائه حيًّا!»
ولذا فقد قام برسالة خاصة لكي يعينهم «وتلك أكبر نعمة حَبَتْ بها الآلهة هذه المدينة» كما قال، وحتى لو وعدوا أن يخلوا سبيله مقابل التزامه الصمت لرفض أن يلزمه.
وقال في جد مجيبًا عن السؤال الذي عرف أنه يتردد في فؤادهم: «يا رجال أثينا، إني صديقكم، وإني أحبكم، ولكني برغم هذا سأطيع الآلهة بدلًا من أن أطيعكم، ما دام في صدري نَفَسٌ يتردد وفي قلبي قوة فلن أكفَّ عن ممارسة الفلسفة، وسوف أشجع كل رجل ألاقي وأوجهه إلى الحقيقة، وسوف أسأله وأختبره وأفحصه، ولو وجدت أنه لا يملك الخير، وإنما يزعم أنه يملكه وحسب، لمته على ذلك، وسوف أقول له: إنه يُقدِّر بأبخس الأثمان أجلَّ الأمور، وبأعلى الأثمان ما هو أقل منها قيمة، وإذن أيها الأثينيون فإنه سواء لديَّ أن تطلقوا سراحي أو لا تطلقوه، ولكن أيًّا ما تفعلون، فلتفعلوه وأنتم تعلمون أني لن أغير مسلكي، حتى لو حكمتم عليَّ بالموت عدة مرات!»
وإن المرء ليكاد يعتقد أنه أراد أن يدان، وقد ظن ذلك بعض مَنْ سمع بالخطاب فيما بعد، وقد كان رجلًا عجوزًا، وربما ملَّ الحياة، ولكن صوته لم ينم عن تعب أو ملل، وكان يدافع عن حياته بأسلوبه الأمين المثير.
قال لهم: «إن أنيتس لا يستطيع إيذائي، ولست أظن أنه يسمح لرجل أفضل أن يُؤذى من رجل أسوأ. (ربما استطاع أن يقتل الرجل الخير أو أن ينفيه، وقد يحسب أن القتل والنفي من الشرور الكبرى، ولكني لا أعتقد ذلك، إنما أعظم من ذلك شرًّا أن يفعل مثلما يفعل الآن)؛ ولذا فإني لا أدافع من أجل نفسي، وإنما أدافع من أجلكم»، ثم قصَّ القصة التي ظلت تُرْوَى عنه فيما بعد دائمًا، وإنها لنكتة — كما سماها — ولكنها صادقة: قصة الجواد العظيم النبيل الكسول الذي يُسمى أثينا، والذبابة التي تلدغ: وهي سقراط، الذي أرسله الله لكي تبقى أثينا متيقظة، وليس من شكٍّ في أن الأثينيين كانوا ساخطين على الذبابة، كما يسخط النيام حين يوقظون، وظنوا أنهم يستطيعون سحقها بضربة واحدة، ثم يغطُّون في النوم إلى الأبد، بَيْدَ أنه حذَّرهم قائلًا: «خير لكم أن تستبقوني، فلن يتيسر لكم أن تجدوا رجلًا آخر مثلي!»
وكانت تلك بالتأكيد نكتة كبرى، ولا أعني الجواد والذبابة فحسب، وإنما أعني الموقف بأَسْرِه، وكان ألقبيادس يدرك هذا اللون من فكاهة سقراط الذي يسبِّب الاضطراب أكثر مما يدركه أكثر الناس، وربما كان يقول في ذلك: «إن سقراط وصدقه قد قلب هذه المحاكمة رأسًا على عقب، إنه وصدقه قد اكتسح هذه المحكمة، وإنه يُرغم القضاء على أن يقاضوا أنفسهم، إن السجين هو السيد في هذه المحكمة؛ لأنه يعرف خيرًا أسمى، ولأنه لا يخاف، قد يقتلونه الآن — وكثيرًا ما تمنيت موته — غير أن هذا نوع من الأذى لا يعترف به، ولو فعلوا فإن روحه لن تريحهم، فأنا نفسي لم أجد الراحة قط.»
وأخيرًا، ناشد سقراط الإله والمحكمة في هدوء أن يحكموا بما هو خير لنا كلينا، وانتهى بذلك فجأة الخطاب الذي جاوز حدود المعقول، وجلس سقراط وعاد مرة أخرى الاضطراب والتمتمة التي كان قد كبتها من قبل، وأعلن المنادي أن القضية معروضة للتصويت.
واستمرت إجراءات المحكمة المألوفة، وأُعِدَّت أوعية التصويت، وتسلَّل الواحد والخمسمائة الرجل من المحكمين في أناة مارين بها للإدلاء بأصواتهم، ونُقِلَت الأوعية إلى مناضد العد، هل هو مذنب أو غير مذنب؟ ستعرف النتيجة بعد لحظات ولن يكون بعدها استئناف، إنما العقوبة فقط هي التي يمكن تعديلها، وقد طلب الادعاء عقوبة الموت، ولكن المحكمة قد تقبل النفي لو اقترحه سقراط، وربما كان أنيتس لا يزال يأمل أن يقترح سقراط ذلك.
وهنا جاء المنادي، وقد صدر قرار المحكمة بأغلبية صغيرة فإن ثلاثين صوتًا في الجانب الآخر كانت تقلب القرار، وسجل كاتب المحكمة حكمها، ومسَّ المنادي سقراط بعصاه، إشارة إلى أنه وُجِدَ مذنبًا.
وكان أصحابه يتوقعون هذا، ومع ذلك فقد كان وَقْعه شديدًا عند إعلانه، وحتى في الصفوف البعيدة من المحتشدين، حيث كان يقف عامة المستمعين، كنت تستطيع أن تحس موجة العاطفة تعلو وترتفع، وقد انهمر باكيًا ذلك الرجل الصغير الذي جاء من سوق الزيت.
ونهض سقراط، وأخذ يتحدث مرة أخرى — طبقًا لقواعد المحكمة — حديثه عن العقوبة.
لم يدهش سقراط لنتيجة التصويت — كما قال لهم — إلا لأنها كانت جد متقاربة، أما الآن وقد جاء دوره لأن يقترح العقوبة التي يراها عادلة، وما دام لم يقدِّم إساءة، وإنما كان في الواقع يفعل الخير للمدينة، فلا بُدَّ له أن يطلب جزاء فاعل الخير: «قدموا لي الطعام بغير مقابل ما دمت حيًّا في ملجأ المدينة» قال ذلك جادًّا وإن كان المزاح قد بدا على وجهه: «إنكم بذلك تكافئون الظافرين في أولمبيا، وقد فعلت أكثر جدًّا من أن أفوز لكم في سباق، ثم إني — فوق ذلك — رجل فقير في حاجة إلى معونتكم كي أواصل عوني لكم.»
وقد جعلت هذه الكلمات موته أكيدًا — وعرف ذلك أصدقاؤه كما عرفه هو نفسه — وصوَّب نظره نحو وجوههم حينما علا ضجيج الغضب من جانب المحكمين، ثم كفَّ عن المزاح، وقد عرف أنهم كانوا يريدونه أن يقترح النفي، وأنه لو اقترحه، والأصوات ضده أغلبية ضعيفة، لكان الأرجح أن ينقذه هذا الاقتراح، بل إنه من الجائز أن ينقذه الآن.
ثم سأل المحكمة قائلًا: «ولكني إن كنت لا أستطيع أن أقول الحق في مدينتي الخاصة أثينا، فكيف يسمحون لي بقوله في أيِّ مكان آخر، وأنا لا أستطيع أن ألزم الصمت؛ لأن الله قد أمرني أن أتكلم، وإن كنت أعرف أنكم لا تؤمنون بذلك، وإذا قلت: إن الواقع أن أعظم خير يصيب الإنسان هو أن يتحدث كل يوم عن الخير، وعن الأمور الأخرى التي سمعتموني أناقشها، باحثًا في نفسي وفي غيري، لو قلت: إن الحياة التي لم تبحث لا تستحق أن يعيشها إنسان، لو قلت ذلك لكان إيمانكم به أقل، ولكن الحق هو ما أقول يا رجال أثينا.»
والآن في الختام اقترح عليهم بغتة ما يمكن أن يسموه عقوبة — غرامة يسيرة — تساوي أربعة جنيهات، شيئًا يثير فيهم السخرية والضحك، ولكنه كل ما يستطيع أن يدفعه، وأعاد عليهم قوله بأنه لا يستطيع أن يتقدم بعقوبة تؤذيه، ولكن تقديم المال لا يعود عليه بالأذى، ولما ضاعف أصحابه المبلغ ثلاثين مثلًا، وهبَّ أقريطون وكريتوبيولس وأبولودورس وأفلاطون صائحين بأنهم يتعهدون بدفع كل ما يستطيعون من جيوبهم الخاصة؛ قابلهم بابتسامة وقَبِلَ الهبة منهم، وقال للمحكمة: «إن أصحابي سيدفعون المال، ويمكن لكم أن تثقوا فيهم.»
ولم يَبْدُ عجيبًا لمن عرفوه أن تخصص بقية الخطاب للحق، في حين أن نهايته كانت لأصحابه.
ولم تحدث بعد ذلك أمور كثيرة، ثم كان التصويت يتبعه الحكم كما توقعه كل إنسان الآن، وحُكِمَ على سقراط بالموت، وكان ينبغي أن يبعد توًّا، ولكنه — بسبب تأجيل لم يكن في الحسبان — وجد فرصة من الوقت يلقي فيها على المحكمة كلمة أخيرة.
قال للرجال الذين أدانوه: «لا تحسبوا أني زللت لأني لم أجد من اللفظ ما يقنعكم؛ لأن المرء حينما يحيق به أي لون من ألوان الخطر يستطيع أن يلتمس كثيرًا من الحيل التي تنجيه من الموت، ولكن الأمر الذي يشق على المرء ليس فراره من الموت، وإنما أشق منه أن تفر من فعل السوء.»
«إن الموت بطيء، وقد لحق بي، وأنا شيخ مسنٌّ بطيء، أما الشر فسريع، وقد لحق بكم برغم مهارتكم، لا بُدَّ لي أن أعاني حكمي، ولكن لا بُدَّ لكم كذلك أن تعانوا حكمكم.»
ثم توجه بالعزاء لأصدقائه الذين أرادوا نجاته، وأخذ طيلة النهار يقول لهم: إنه كان يتأهب لشارة التحذير من الآلهة، ولكنها لم تنزل؛ ولذا فقد كان من الخير له أن يتوجه إلى المحكمة، ومن الخير له أن يذكر لهم ما ذكر، سوف تكون النتيجة خيرًا كذلك، فإما أن يكون الموت نومًا فحسب، أو يستطيع أن يؤدي عمله هناك كما يؤديه هنا.
وأكد لهم «أن هناك أمرًا واحدًا يجب عليهم أن يدركوا صدقه بقلوبهم، إنه لا يوجد للرجل الخير شر، حيًّا كان أو ميتًا، فإن الآلهة لا تهمل له أمرًا.»
وكان عليهم أن يذكروا ذلك بعد لحظات عندما جاء ضباط السجن ليبعدوه.