تلميذ قاطع الحجارة في أثينا
ربما كان أقريطون على صواب، وأن سقراط بدأ يفكر كما يفكر الفيلسوف، ويبحث عن معاني الأشياء، وهو لا يزال صبيًّا في المدرسة، كما اعتاد فيما بعد أن يعين الصبية الآخرين على التفكير وهم في هذه السن ذاتها تقريبًا، معتقدًا أنهم يكونون حينئذٍ على استعداد لذلك، وربما جاءت بداية سقراط بعد أيام الدراسة؛ لأنه بالتأكيد لم يتجاوز الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة حينما أخرجه أبوه من المدرسة.
ولم يأسف لذلك سقراط، فسيبقى معه حتى نهاية حياته بعض ما تعلم في المدرسة، وبخاصة قصائد الشعر في الأبطال القدامى، كما أنه أفاد من تعلمه المصارعة والعَدْو وما قام به من أعمال في ساحة اللعب، لقد أفاد من ذلك أيضًا وإن لم يجعل منه رياضيًّا من الطراز المألوف، غير أن سقراط كان يعرف كيف يتعلَّم لا من المعلمين والمدربين فحسب ولكن من كلِّ إنسان يقابله، وقد دأب على هذا اللون من التعلم — بطبيعة الحال — سواء أكان في المدرسة أم لم يكن بها.
وحان الوقت لسقراط — فوق ذلك — لكي يتعلم مهنة أبيه، وقد وُلِدَ لأب يشتغل نحاتًا كما جاء في قصة قديمة يحتمل صدقها.
وعاش سفرونسكس على مستوًى عالٍ من النحت، وكان سقراط يأمل أن يحافظ على هذا المستوى، فهناك عمل كثير لصانع مدرب في الأشغال العامة الكبرى، مثل «الأسوار الطويلة» التي تم بناؤها، التي تصل ما بين أثينا والبحر، وفي النقوش الدقيقة للقوانين وغيرها من المدونات العامة (وكان سقراط يستطيع أن يُكثر من هذا الضرب من العمل، ما دامت الديمقراطية المتزايدة في أثينا تحب أن تنشر مدوناتها حتى يراها الناس جميعًا)، وبالطبع في المقاولات الخاصة كذلك، وبخاصة في شواهد قبور الموتى، وكانت أكثر أعمال سفرونسكس بطبيعتها بعيدة عن منزله مع العُمَّال الآخرين، وقد أحب سقراط هذه العشرة، وإن يكن قد تعلَّم أيضًا أن يُعين أباه في بيته كذلك عاملًا في فناء المنزل في بعض صغائر الأعمال.
وكان سفرونسكس يستعمل الرخام في أعماله الدقيقة، الرخام الناعم المتماسك الأبيض الشاهق الذي يُقْطَع من محاجر جبل بنتلكس القريب، ويستخدم الأدوات عينها التي كان يستخدمها من قبل أبوه وجده، وهي المطارق المدببة للعمل الخشن أولًا الذي يتعلق بشقِّ الحجر، أما المثاقب، من أمثال المسامير الكبرى — المدببة أو المربعة الأطراف، فكانت تُدَق بمطارق حجرية ثقيلة، أما الأزاميل المقدسة أو ذات الأسنان في أطرافها فكانت تُسْتَخْدَم للعمل في تسوية السطوح، كما تُسْتَخْدَم الخرامات لعمل الثقوب، وقد شهد سقراط أباه يستخدم كل ذلك مئات المرات، ثم تناولها بيديه وسنَّها وتعلَّم المنافع الخاصة لكلٍّ منها.
وظلَّ سقراط — بطبيعة الحال — أمدًا طويلًا لا يستطيع أن يؤدي سوى المراحل الأولى من عملية النحت، فالرخام أثمن من أن يضيع سدًى، فإذا اقتضى الأمر أكثر من تشكيل السطح تشكيلًا بسيطًا تولاه سفرونسكس، ووقف إلى جواره سقراط يناوله الآلات ويراقبه.
كان أبوه مرة — على سبيل المثال — يريد أن ينحت رأس أسد لنافورة، فتناول الكتلة المستديرة وأخذ يصورها، وكانت الضربة في أول الأمر تغوص في الحجر إلى عمق نصف بوصة، ثم أخذ يتناول الآلات الأدق فالأدق، واستخدم المثقب المربع والمثقب الحاد والأزميل المخلبي، وأخذت تظهر تدريجًا تفصيلات الرأس؛ الفم ومن فوقه الأنف الأفطس والعينان المفترستان والمعرفة المتشابكة، واستطاع سقراط الآن أن يقدر المهارة والمعرفة المُودَعتَين في هذا العمل، إن أباه قد استغرق السنوات الطوال لكي يحذق الضرب بالمطرقة ويحسن تناول الآلات، ولما سأل سقراط أباه كيف عرف الطريقة التي يضع بها أزميله وإلى أيِّ عمق يضربه، حاول سفرونسكس جاهدًا أن يُبيِّن له الجواب.
قال: «عليك بادئ ذي بدء أن ترى الأسد كامنًا في الحجر، وتحس كأنه رابض هناك تحت السطح، وعليك أن تطلق سراحه، وكلَّما أحسنت رؤية الأسد، أحسنت معرفة أين وإلى أي عمق تشق الحجر، والعماد بعد ذلك بطبيعة الحال، على التمرين والتدريب.»
وأنعم سقراط الفكر في هذا القول، وذكَّره بحديث حدثته به أمه ذات مرة، وكانت الأم تشتهر بين جاراتها بمهارتها في توليد الحبالى من الأمهات، وسألها سقراط مرة كيف تقوم بهذا العمل فأجابته قائلة: «إنني في الواقع لا أفعل شيئًا، وإنما أكتفي بأن أُعِين الطفل على الانطلاق.»
وظنَّ سقراط أن هذا ما حدث أيضًا يوم كان في مصنع ماوس، فإن ماوس لم يكوِّن فكرته عن النماذج ويحشرها في ذهن سقراط حشرًا، إنما كانا يتبادلان الحديث، يسألان ويجيبان، ونبتت الفكرة فجأة، وأحسَّ سقراطُ أنها كانت كل الوقت تكمن هناك على صورة من الصور، وإن يكن إدراكه لمعرفته إياها إدراكًا ناقصًا، ولم يفعل ماوس شيئًا سوى أنه أعان الفكرة على الانطلاق.
وأثار سقراط مجرد التفكير في هذا، فمَنْ ذا الذي يعرف كم فكرة هناك تنتظر الانطلاق، ولو تعلمت أن تسأل السؤال الصحيح لاستطعت أن تحررها.
بيد أن الأفكار شيء — وكان سقراط يكتشف منها الجديد دائمًا — ورؤية الأسد أو أي مخلوق آخر من هذا القبيل تحت سطح الحجر شيء آخر، ولم يتجاوز سقراط العام عاملًا في المصنع حتى بدأ أبوه يدرك أنه لا يحتمل قط أن يصبح سقراط نحاتًا فائق المهارة، لا لأن الصبي كان خاملًا أو ضعيفًا، فقد كان يفيض قوة ونشاطًا، بل إن الخطر قد ينشأ من ضربه المطرقة في الحجر بحدة زائدة فيفتته شظايا متناثرة، إذ لم تكن له بطبيعته أصابع رقيقة حساسة كأمه وأبيه، وكانت مهاراته مع الناس لا مع الحجارة.
وعرف سقراط ذلك بنفسه وإن لم يتحدث عنه، وفي تلك الأيام لم يفكر أحد في تغيير عمله، وكان الطفل يأخذ عن أبيه مهنته وينتهي بذلك الأمر، ومع ذلك فقد كان يُسَر للقاء الزبائن الوافدين، وحينما يخرج إلى المدينة بنفسه، وكان يحب الخروج ومشاهدة ما كان يدور في المدينة.
وإن أردت أن تدرك ما كان يحدث لسقراط في تلك الأيام فلا يكفي أن تذكر المصنع الذي كان يعمل فيه فحسب، بل يجب أن تذكر كذلك المدينة التي كان يعيش فيها، ولم تكن أثينا بالمدينة الكبرى في عداد المدائن، وتمكَّن سقراط أن يعرف أكثر من فيها من الناس أو يعرف عنهم شيئًا، ولكنها كانت مدينة مثيرة، فقد كانت تُجْرَى فيها التجارب وتُصاغ فيها الآراء، وتُصْنَع فيها التُّحَف الجميلة، أيام كان يعيش فيها سقراط، أكثر — على الأرجح — مما حدث في أي مكان آخر في تاريخ العالم حين ذاك.
وكانت تعلو أثينا، وتميزها في عيني كل إنسان وفي ذهنه، صخرة الأكروبول أو «قمة المدينة» وهي قلعة ومعبد في آنٍ واحد، وكان كل طفل يعلم أن إله البحر بوزيدون والإلهة أثينا تنافسا في هذا المكان، كل منهما يحاول أن يبزَّ الآخر في الهدايا القيمة لكي يظفر برعاية المدينة، وقدم بوزيدون جواد الحرب، وضرب الصخرة بصولجان متشعب فتفجر منها ينبوع من الماء، وما عتم الينبوع هناك، ولكنه لملوحته كماء البحر لم يبلغ في قيمته مبلغ هدية أثينا — شجرة الزيتون المقدسة التي ترعرعت إلى جوار الينبوع.
وأمست أثينا الإلهة الملكة على المدينة، وعاشت مدينة أثينا أمدًا طويلًا على الزيتون، وانتشرت أشجار الزيتون الخضراء القاتمة متكاثفة في السهل المحيط بها، وصدر الأثينيون زيت الزيتون، وقدَّموه جوائز في المباريات واغتسلوا به وطهوا طعامهم به، وأحرقوه في المصابيح، وكنت تُشاهد الشاب الأثيني المهذب وهو في طريقه إلى الملعب حاملًا زجاجة من الزيت يتدلك به معلقة بمشبك فوق ذراعه، والأرجح أن يتناول الصانع من أمثال سفرونسكس حفنة من الزيتون مع طعامه في الغداء ظهرًا.
وفي عام ٤٨٠ق.م؛ أي قبل مولد سقراط بنحو عشر سنوات، أحرق الفرس أكروبول أثينا في غزوتهم الكبرى، وشهد سقراط وهو في العقد الثاني من عمره بقايا جذوع الأعمدة التي سوَّدها الدخان قائمة في مكانها، ولما كان في العقد الثالث بدأ برنامج المنشآت الكبرى، وأخذت ترتفع المعابد الرخامية كأنها تنطح السماء، وهي المعابد التي ما فتئت حديث العالم حتى اليوم.
والرجل الذي رسم مشروع المباني هو بركليز، وقد أضحى آنئذٍ من زعماء السياسة في أثينا، وكان يزمع أن يسدَّ نفقات المعابد من الأموال التي تبرع بها الإغريق في المدن الجزرية وعلى السواحل الشرقية لحمايتها من عودة الفرس، وبدأت أثينا تتزعم هذه الجامعة الدفاعية، فأخذت تتطور شيئًا فشيئًا إلى أن صارت المدينة ذات السيادة في إمبراطورية بحرية، وكانت جاراتها من المدن ترقبها وقتئذٍ في غيرة وخشية، هذه المدن المنتشرة فوق بلاد اليونان الأصيلة، وخاصة في الجنوب في شبه الجزيرة الكبرى المعروفة باسم بلبونيسس، وما كانت أسبرطة (مدينة الجند) لتسمح للقوة الأثينية باطراد النمو.
ولا بُدَّ أن تؤدي الغيرة والخوف إلى القلاقل إلى اشتعال الحروب فورًا، وإلى القتال الطويل المريع فيما يقبل من الأيام، بيد أن القوة الأثينية في عين سقراط، وهو في العقد الثاني من عمره، كانت مثيرة ولم تكن مخيفة، وكانت إصبع المجلس — وهو اجتماع المدينة الأثيني — الذي ينعقد فوق التل الذي لا يبعد كثيرًا عن السوق، تلعب دورها في أمور صقلية ومصر وآسيا الصغرى والبحر الأسود، وتهيَّأت لسقراط وصحبه الفرصة لكي يشهدوا قومًا جذابين من أقاصي البلاد، من فرس شامخي الأنوف متراخين في حركاتهم يعتقدون — كما يقال — في صراحة القول قبل كلِّ شيء، إلى ملاحين من الجزر يعرفون ساحل روسيا الجنوبي كما يعرفون مرافئ بلادهم، وقد قاموا بعشرين رحلة بحرية إلى النيل، إلى فنانين وصُنَّاع من جميع أصقاع البحر الأبيض وفدوا إلى أثينا — ولا نذكر الفنانين والصناع الذين أنجبتهم أثينا بنفسها — إلى شعراء وموسيقيين ومخططي المدن ومهندسي المباني ومؤرخين وتجار ومبعوثين دبلوماسيين وأرستقراط مبعدين عن بلادهم، إن سقراط لم يكن بحاجة إلى أن يتطلع بعينيه إلى أبعد من مدينته لكي يرى قومًا من أكثر الناس إثارة للاهتمام في العالم.
ولم يكن عجبًا في هذه الظروف أن يهوى رجل كسقراط — بما لديه من خيالٍ وتطلُّع إلى المعرفة — الاستماع إلى الناس والتوجه إليهم بالسؤال، وكان كل فردٍ في أثينا محدثًا، كانوا يتحدَّثون في السوق صباحًا، وفي الملعب بعد الظهر، وفي حفلات العشاء وفي النوادي مساءً، كانوا يتحدَّثون عن الرياضة («من ذا تظن ستكون له الغلبة في المصارعة في الألعاب الأولمبية في هذا الموسم؟») ويتحدثون عن السياسة («قلت في ذلك الحين: إن مشروع بركليز الذي يقضي بدفع الأجور للمحلفين سيكون فيه خراب المدينة!») ويتحدَّثون عن الحرب والسِّلم («لماذا لا تبلغنا أي أنباء عن أسطولنا في مصر؟») وكانوا يُديرون حكومتهم بالكلام، وهي أول ديمقراطية في العالم، وكان لكلِّ مواطنٍ من الذكور الحق في التعبير عما يدور في نفسه قبل أن يُدلي بصوته في المجلس، وربما صاح الأعضاء في وجهه مطالبين إياه بالصمت إذا لم يُحسن الحديث.
ومِن ثَمَّ فقد أصغى سقراط إلى كثيرٍ من الأحاديث، أصغى وفكر فيما كان يقال، ووفق بين مختلف الأحاديث في ذهنه، وأدرك أن كثيرًا من الكلام كان يتعلق بأشياء لم يعرف عنها المتكلمون في حقيقة الأمر إلا قليلًا، واتضح ذلك من الطريقة التي كان المتكلم يناقض بها نفسه دون أن يدرك هذا التناقض، ومن المؤسف أنهم لم يفكروا في أمورهم تفكيرًا كاملًا.
ولما شبَّ سقراط واشترك في الحديث لحظ الناس أن له طريقة خاصة به، كان يحب أن يوجه الأسئلة، وينتقل من سؤال إلى آخر، حتى يظهر جليًّا ما بعقل محدثه من اضطراب، وكانت هذه الطريقة تربك المسئول، ولكنها تسر السامعين وتسرِّي عن نفوسهم، وكان كثير من الناس يحسب سؤال سقراط ضربًا من ضروب اللعب تداخله الحيلة ويدعو إلى القلق، وربما كان كذلك بادئ الأمر.
ولم تكن الحياة كلها في أثينا كلامًا، وكان لسقراط أصدقاء من سِنِّه، هم جيرانه من الصبية، تتفق أوقاتهم في العمل مع أوقاته، ويتعلَّمون مهنتهم نحَّاتين أو نجارين، وكانوا يلعبون في الطرقات معًا بعد ساعات العمل، أو وقت الظهيرة حينما كان الشيوخ يخلدون إلى الراحة، وكان أصدقاء سقراط يتبارون ويتصارعون ويتقاتلون مع صبية الأحياء الأخرى، شأنهم في ذلك شأن جميع الصبية في أثينا، كانوا يلعبون بعظام الكعوب ويستخدمونها زهرًا، وكوَّنوا النوادي والصداقات الوثيقة ثم فضوها، وكان سقراط فردًا في جماعة، ولما شبُّوا فيما بعد وأصبحوا أساتذة في حِرَفهم، واهتدى إلى حرفته الحقيقية، رحبت به كلُّ مصانع المدينة.
ولم يَعُد سقراط يلتقي كثيرًا بزملائه الذين تعرَّف إليهم أيام الطلب، من أبناء الطبقة العليا الذين لا يحترفون سوى السياسة والخدمة العامة، ولم يرافقهم إلَّا في أيام الأعياد، كانوا يصعدون التل معًا مقتفين الموكب العظيم ليشهدوا حفل أثينا الجليل، وكانوا يحشرون في الحشد الذي يشهد سباق الزوارق وسباق الشعلة والمباريات الرياضية والاستعراضات العسكرية، كانوا يجلسون على سفح التل — في الشتاء والربيع — يشهدون سويًّا حفلات التمثيل، مآسي الأبطال والملاهي الصاخبة، وفي كلِّ حفل خمس عشرة مسرحية جديدة، مليئة بالحِكَم والخيال والفكاهة التي يضعها أحذق المفكرين في أثينا.
ولذا فقد كانت مدينة أثينا بأسرها في أيام الحفلات شخصًا واحدًا، لا يحول حائل بين سقراط النحات وأقريطون الشاب الرياضي المهذب، ولكنه في الأيام الأخرى كان لا بُدَّ له أن يتوجَّه إلى الملعب لكي يلاقي هؤلاء الأصدقاء، فقد كانوا ينفقون طيلة النهار وجميع الأيام هناك، يعملون جادين في الألعاب الرياضية والتمرينات الخلوية التي تلقوا في المدرسة مبادئها، وكان كثير من حديثهم يدور حول الخيل، وكانت تقوم بينهم صداقاتهم الخاصة الوثيقة التي تبعد عنهم سقراط.
وبرغم ذلك كان يحب أن يشاهدهم، وما كان أروعهم وهم يتألَّقون على طول طريق السباق في الشمس، يكسبهم الزيت لونًا بنيًّا لامعًا، أو حين يقذفون الأقراص في رشاقة واتزان وسيطرة تدل على الساعات الطوال التي أنفقوها في التدريب، وكانوا كذلك مهرة كما كان ماوس وسفرونسكس، ولم تكن مهارتهم في الأداء بالنسبة لسقراط أكثر من مهارة الصناع، بَيْدَ أنه أحبها كما أحب كل ما هو جميل وحي.