الآلهة
في تلك الأيام كان سقراط يُمارس ويُحس بعمل المصنع وحديث المدينة، وبالألعاب في الطرقات وبمواكب الأعياد والمسرحيات، شأنه في ذلك شأن الصبية الآخرين من زمرته، ومع ذلك فقد بدأ بينه وبينهم الخلاف بعدما شبَّ عن طوقه، فمتى بدأ هذا الخلاف؟
لا بُدَّ أن يكون قد نشأ قبل أن يلحظه أكثر الناس بوقت طويل، وربما لحظوا أنه كان أشد رغبة في معرفة الأشياء، ومعرفة الأفكار خاصة، من أغلب أصدقائه، وربما أدركوا أنه أكثر دقة في تفكيره من معظمهم، لم يقنع بشتات من الأفكار المتناثرة، كالطير يسبح في الجو هنا وهناك، وإنما كان يحتاج إلى أن يضم فكرةً إلى أخرى ثم يرى الفكرتين تسيران في اتجاه واحد، وربما لحظ ذلك قلة من الناس، ولكن ربما لم يلحظ أحد لفترة طويلة من الزمن ما كان في نظر الأثيني أعجب الفروق جميعًا، وهو ما يتعلق بالآلهة.
لما شرع سقراط في وقت باكر جدًّا يفكر ويسأل الأسئلة عن الآلهة، ألفى خليطًا عجيبًا من الآراء لا بُدَّ من طَرْقِها، كان صديقه ماوس — مثلًا — واحدًا من خيار الصناع في المدينة، كان يستطيع أن يصنع الجرار والأواني الجميلة البسيطة المتناسقة، وأن يعمل بدقة، وعلى مستوًى واضحٍ في ذهنه، حتى لا يتعارض جانب من التصميم مع جانب آخر، ولكنه إذا ما احتاج إلى التفكير في الآلهة، ظهر أنه لا يسير البتة على أيِّ مستوًى من المستويات، ولم يكن التصميم واضحًا أو متناسقًا في ذهنه.
ولما شبَّ سقراط، واتَّسعت دائرة كشوفه، وجد أن أكثر من لاقى من الناس يضطرب هذا الاضطراب عينه بشأن الآلهة، وكأن طبقات عديدة من الأفكار قد انضم بعضها إلى بعض في وقت من الأوقات، ولكن الصورة لم تُرْسَم طبقًا لمستوًى معين، وأسوأ من هذا كله أن قليلًا جدًّا منهم من أدرك إلى أيِّ مدًى كان الاضطراب مشوشًا، أو مَنْ حاول أن يبذل جهدًا فيه.
ولذا فلما ألقى سقراط أسئلته عن الآلهة، أجيب بمختلف الأقاصيص، منها الجيد ومنها الرديء، كان الناس في الزمن القديم يحسبون أن للآلهة بهم شأنًا أكبر مما لهم بنا اليوم، وكان للآلهة من بين الناس من يخصونهم بفضلهم ويُقدِّمون لهم المعونة، ذلك ما حدث لأوديسيس — مثلًا — في القصص القديم، فقد وقفت أثينا الحكيمة إلى جواره تعينه في محنته، مختفية حينًا، ظاهرة حينًا آخر في صورة امرأة جميلة فارعة، وحينًا كإلهة ذات عينين رماديتين براقتين ودرع تتلوى على أطرافه الأفاعي، تستطيع أن تستمع إلى دعواته إن أرادت حيثما كانت، وإن كانت تشغل عنه أحيانًا، أو يعوقها إله آخر ممن يمقتونه، وعلى أوديسيس حينئذٍ أن يشق طريقه وحده، وقد فعل ذلك بشكلٍ يدعو إلى الإعجاب نظرًا إلى ما كان أمامه من صعاب حتى استعدت أثينا أن تعينه مرة أخرى.
وكان للآلهة كذلك أعداؤهم الذين يمقتونهم، ونجمت عن ذلك الصعاب الجمة للأبطال، فقد أعمى أوديسيس مرة سيكلوبس، ابن إله البحر بوزيدون، ذا العين الواحدة الذي عُرِفَ بالعنف، وفعل ذلك دفاعًا عن نفسه، ولكنه أخطأ إذ تفاخر بذلك وأفصح عن اسمه فيما بعد؛ ولذا توجه سيكلوبس بالدعاء إلى أبيه لكي ينتقم له، وكان كلما شهد بوزيدون أوديسيس بعد ذلك على متن البحر أثار في وجهه عاصفة، وإذا لم يستطع أن يقبض على أوديسيس نفسه، استطاع أن ينزل العقوبة بربان السفينة وملاحيها الذين تفضلوا عليه وحملوه على سفينتهم، ومن أجل ذلك حوَّل بوزيدون مرة إحدى السفن إلى حجر بعد ما خرج منها أوديسيس، واستقرت السفينة وصارت جزيرة تذكِّر الأحياء بألا يعينوا عدوًّا من أعداء إله البحر.
هكذا كان الناس يعتقدون في مسلك الآلهة فيما مضى، يتصرَّفون كما تتصرف الكائنات البشرية في قوة وعناد، ويعيشون إلى الأبد، يقيمون الولائم ويتشاجرون من أجل محسوبيهم من البشر فوق جبل أولمبس الذي يرتفع في أجواز الفضاء، أما الآن فقد أدرك الناس أن الأمر لم يَعُد كما كان من قبل تمامًا، فقد بعد موطن الآلهة ولم يَعُد لهم — فيما يبدو — محسوبون من عامة الناس، ومع ذلك فلربما كانت أحسن الوسائل لوصف الشعور العجيب الذي ينتاب الظافر في المباريات الرياضية أن تستخدم الألفاظ القديمة فنقول: إن إلهًا من الآلهة يرعاه.
ولا بأس — بطبيعة الحال — من التوجه إلى الآلهة بالدعاء، بل لقد كان المرء حقًّا يتوسل إليهم ويُقدِّم إليهم العطايا الملائمة في هدوء وبطريقة طبيعية كأنه يتناول وجبة من وجبات الطعام، ولكلِّ عيد موكب وضحية لإله من الآلهة، وكانت المباريات الرياضية والمسرحيات وحفلات الموسيقى من الشعائر المقدسة، وكانوا يُضحون بالحيوان، لا يقتلونه فحسب، قبل أن يُطهَى للغذاء، وكلما وُلِدَ طفل أو بلغ سن الرشد أو تزوَّج أو مات، أو خرج إلى قتال، أو أقلع على ظهر سفينة، أو تولَّى وظيفة عامة، قدمت الضحايا التي تليق بالمناسبة، وقد أعطى هذا الأسلوب من العيش أسرة سقراط وأصدقاءه شعورًا مريحًا بأنهم على صلات طيبة بالآلهة وكذلك بعضهم ببعض؛ لأن هذه الحفلات جميعًا كانت مناسبات اجتماعية، تختلف عن طريقة الانزواء في ركنٍ من الأركان للصلاة، وكلما شبَّ امرؤ تحدد له في الموكب أو في الضحية مكان، كما تحدد له دور خاص يؤديه، وليس أثينيًّا البتة مَنْ لم يأخذ في عبادة المدينة بنصيب.
وإذا كانت الآلهة الآن آلهة المدينة، وقد تخلَّت عن أن تخص بالرعاية قومًا دون الآخرين، إلا أنها ما زالت تملك أن تنزل العقوبة بمن تشاء، كانت الآلهة في الزمن القديم تعاقب في أغلب الأحيان مَنْ يسيء إليها إساءة شخصية، وبرغم زيادة اهتمامها بالعدالة عامة، فما برحت تعبأ كثيرًا بشرفها وكرامتها، وكان ذلك من الأسباب الهامة جدًّا التي تدعو المرء إلى عدم الحنث بيمينٍ مُقدَّسةٍ، إذا أقسم المرء أن يؤدي عملًا، وأشهد زيوس أو أبولو على صحة ما اعتزم، فإنه يُقحم بذلك في الأمر كرامة الآلهة.
وكانت الآلهة بالطبع تمقت القتل كذلك، وبخاصة إذا ارتُكِبَ في معبد أو عند موقد بيتك؛ لأن الموقد كان كذلك مذبحًا، وحتى إن قتلت عن غير قصد فإن الدماء تبقى لطخة تصعب إزالتها، وأهم من ذلك كله كانت الآلهة تمقت الكبرياء؛ لأن المتكبر يرتفع إلى مكانة عليا فوق المستوى الذي يحق له أن يحل فيه.
وتذكر الناس ما حدث منذ أقل من اثني عشر عامًا قبل مولد سقراط، حينما غزت بلاد اليونان جيوش أجزرسيس — ملك الفرس — الجرارة، كانت هذه الجيوش الفارسية كأنها الجراد في عددها، شربت من الأنهار حتى جففتها، وظلَّلت سهامها الشمس، وكان أجزرسيس بقوته مزهوًّا، وشيَّد من الزوارق قنطرة عبر هلسبنت، ولما حطمت العاصفة القنطرة، ألهب المياه بالسياط ووسمها بالعار كأنها رقيق عصي.
ولم تنس الآلهة كبرياء أجزرسيس، ولا كيف أحرق المعابد فوق الأكروبول في أثينا، وكانت الآلهة ترقب سير المعركة من خليج سلامس المجاور، حيث التقى أسطول الفرس بأسطول الإغريق، وإلا فكيف استطاع الإغريق أن ينتصروا؟ وجلس أجزرسيس موشَّى بالذهب ومحلَّى باللون الأرجواني على عرشه فوق الخليج يشهد القتال، ووقف إلى جواره كُتَّابه يحملون الألواح يُدوِّنون عليها أسماء القادة — طبقًا لأدائهم — للثواب أو العقاب، وكان الفُرْس أكثر عددًا، كما كانوا من الفوز واثقين، وبرغم ذلك اندحروا، وتحطَّمت سفنهم وغرقت، وقُتِلَ جندهم المسلحون، الذين كانوا يحسبون أنهم لا يُقْهَرون، عند الساحل وفي المعركة البرية فيما بعد، وهرع أجزرسيس نفسه عائدًا إلى بلاده، حيث قابلته إمبراطوريته بالعصيان، ومَنْ ذا الذي يشك في أن الآلهة أذلَّت الغزاة المتكبرين، فالكبرياء إساءة للآلهة؟
ومن الخطر كذلك أن يتوافر للمرء مزيد من الحظ السعيد، وقد رويت لسقراط قصة ما حدث لبوليكراتس من أبناء ساموس برهانًا على ذلك، كان بوليكراتس حاكمًا قويًّا على الجزر الشرقية منذ سنوات عديدة، وكان ثريًّا موفقًا في كلِّ ما أدَّى من عمل حتى استرعى التفات فرعون مصر، وعقد معه حلفًا، بَيْدَ أن فرعون كان يخشى أن تغار الآلهة مما أصاب بوليكراتس من حظ سعيد، فنصحه أن يستخرج أثمن ما يملك ويُلقي به بعيدًا؛ لكي يصيب قسطًا من سوء الحظ فيتجنَّب بذلك غضب الآلهة.
وظنَّ بوليكراتس أن هذه النصيحة فكرة طيبة، وبعدما بحث في كلِّ كنوزه استخرج خاتمًا، صاغه من الذهب صانع ماهر معروف وأودعه فصًّا من الزمرد، وكان ذلك أغلى ما يملك، وفي سفينة من سفن الدولة يدفعها خمسون مجدافًا أقلع إلى مسافة بعيدة عن الساحل وألقى بالخاتم في أعماق المياه، وخُيِّلَ له أنه بات من بعد ذلك في أمان.
وجاء ذات يوم إلى باب القصر صائد سمك يحمل سمكة جميلة صادها ذلك الصباح، وكانت من الجمال — كما يقول — بحيث لم يرضَ أن يبيعها لرجل من عامة الناس، وأتى بها هدية لبوليكراتس، وسُرَّ بوليكراتس بالهدية وبالثناء، ودعا الصائد للغداء، وأمر أن تُعَدَّ السمكة للطهو، ولكن ما إن فتحها الطهاة حتى أذهلهم أن يجدوا بداخلها الخاتم عينه الذي حاول بوليكراتس أن يُلقي به في اليم.
ولما سمع فرعون مصر بعودة الخاتم فصم في الحال صداقته مع بوليكراتس؛ إذ إنه بات من الجلي أنه رجل تُعِد له الآلهة مصيرًا مريعًا، وكان ذلك ما حدث، فسرعان ما قُتِلَ بوليكراتس بقسوة وتمزَّقت إمبراطوريته، إن الآلهة لم تَعْفُ عنه لوفرة ما أصابه من حظٍّ سعيد.
تلك كانت الأقاصيص التي ترامت إلى سقراط عن الآلهة وهو في سن الطفولة، آلهة كانت في قديم الزمان تتشاجر وتكذب وتسرق وتهبط في صورة الناس تحمي أصدقاءها أو تؤذي أعداءها، أما الآلهة في زمانه فقد بعدت مكانتها ولكنها ما برحت جبارة لا تتسامح في نقمتها من السوء والكبرياء أو وفرة الحظ السعيد.
وفي غضون ذلك، وبرغم الأقاصيص المقبضة، كانت تُقام الحفلات بما فيها من مواكب وضحايا وولائم، وكان تمثال أثينا الخشبي القديم الذي يُشبه جذع الشجرة يؤخذ لحمام سنوي في مياه البحر، كما كانت تُقدَّم للأفعى المقدسة كعكتها في المعبد، وكان الناس يقسمون بالآلهة إيمانًا مقدسة، ثم يحنثون في أيمانهم، فينجون برغم ما تروي الأقاصيص، وكان من دواعي الاجتماع ومن الحكمة أن تضحي للآلهة في الأوقات الملائمة، غير أن قلة من شواذ الناس — ممن «تمتلئ قلوبهم بخشية الآلهة» كما كانوا يقولون — كانوا يذهبون في تفكيرهم إلى أبعد من ذلك، ولم ينزعج حقًّا في تلك الأيام من نقمة الآلهة على السرقات والأكاذيب إلا الشيوخ الذين كانوا يخافون مما عساه يحدث بعد موتهم، ومهما يكن من شيءٍ فإن القوم لم يكونوا ليعبئوا إلا بما يحدث في المحاكم.
تلك كانت الآلهة، وهكذا كان الناس يعبدونهم! فماذا كان رأي سقراط؟
لحظ في وقتٍ مبكرٍ أن أصدقاءه لم يهتموا ولم يضطربوا، ربما أزعجتهم القصص التي تُروَى عن حسد الآلهة، ولكنهم يحلمون بالثراء والحظ السعيد لأنفسهم، وربما تندَّروا بمهارة الآلهة في السرقة والكذب، يحسون مع ذلك بالأسى العميق حين يشهدون المسرحيات التي تعرض عقاب الآلهة للآثام، يستطيعون أن يخدعوا غيرهم في اللعب ومع ذلك يشعرون بالارتياح إلى الصلاة أو تقديم الضحايا، أما سقراط فقد خُلِقَ على غرار آخر، كان يتعجب ويُطابق بين الأمرين في ذهنه.
وهناك فارق آخر، فإن الناس قد يذكرون عن الآلهة ما يشاءون، ولكن سقراط يضع لنفسه حدًّا من الخبرة العملية يسير وفقًا له، وكان لديه منذ طفولته ما كان يُسميه «الإشارة المقدسة».
وكان ينتابه من آنٍ لآخر شعور يحول دون ما كان يوشك أن يؤديه؛ لأنه — كما قال — ليس من الخير له أن يؤديه، وقد كان في مبدأ الأمر يحس بما تعنيه كلمة «الخير» هذه ولكنه لم يستطع تفسيرها، لا بُدَّ أن يكون لها شأن بالسعادة؛ لأنه وجد أنه إذا فعل كما أوحت إليه الإشارة كانت عواقب الأمور جميعها طيبة، ثم عرف أنه يستطيع أن يعتمد عليها، وأن يطيعها دون سؤال، حتى إن لم يدرك لذلك سببًا، وجلي أن الإشارة كانت أكثر منه حكمة، وإذن فلا بُدَّ أنها هابطة من الآلهة الذين يعرفون كلَّ شيء.
ولم يتحدث سقراط كثيرًا عن الإشارة حتى بعد أن صار رجلًا، وربما لم يذكرها البتة وهو في عهد الطفولة، فإن الناس ما كانوا ليفهموه آنئذٍ كما لم يفهموه فيما بعد، لم تكن الإشارة إلهًا خاصًّا صغيرًا بداخله كما ظنَّ بعض الناس، ولم تكن ضميرًا يخبره بما كان قاسيًا وما كان رحيمًا، وما كان صادقًا وما كان كاذبًا، أحس هذه الفروق كما نحسها، ولكنه لم يذكر قط أن الإشارة بذلك قد خبَّرته.
وكانت الأعمال التي تمنعه الإشارة من أدائها عادية مما نعمله كل يوم، كالذهاب إلى مكان معين أو الحديث مع شخص بذاته، ولربما ربط الأمر شخصًا آخر بالحظ، وجعل منه خرافة، كالامتناع عن الخطو فوق الشقوق أو السير تحت السلم الخشبي، غير أن الطريقة التي استخدم بها سقراط إشارته كانت تختلف عن ذلك كل الاختلاف، فقد اتخذها كمثال بسيط لما لا بُدَّ أن يكون قد أحسه قلبه من قبل، إنها تعني — فيما ظنَّ — أن الآلهة كانت تقود إلى طريق الخير، وليس عليه إلا أن يطيع.
كان ذلك أمرًا معرفته يسيرة، ولكن سقراط كان إذا عرف شيئًا عرفه بكل قلبه؛ ولذا فقد سارت مع الإشارة المقدسة طريقة جديدة بأسرها من طرق التفكير بشأن الآلهة، طريقة لو أخطر بها سقراط أكثر أهل المدينة ما فهموها.
إن الآلهة أولًا تُعْنَى بالناس، ولقد عرف سقراط ذلك لأنه أحسه، وهي لم تعن بالملوك أو بأبطال الماضي فحسب، وإنما عُنِيت به، بسقراط بن سفرونسكس النحات.
ثم كانت الآلهة طيبة كذلك، ولقد عاونته الإشارة على الإيمان بذلك أيضًا، كانت فيها كل صفات الخير التي تجدها عند الناس، وهي لم ترد للناس سوى الخير، أما القصص القديمة عن الآلهة التي تكذب وتسرق وتغار وتغضب فقد وضعها رجال هذا هو مدى ما يعلمون، إن الخير هو العلامة الخاصة التي تتميز بها الآلهة، وكل ما لا يتفق وما لديهم من خير فهو من نسج الخيال.
وقد تحدَّث بهذه الفكرة قوم آخرون في أثينا بعد ذلك بفترة وجيزة، وقالوا لا بُدَّ أن يكون صادقًا، وكان سقراط على يقين من صدقه، إن الآلهة طيبة، تتطلب الخير ممن يعبدونها أكثر مما تتطلب أي شيء آخر، والدليل على أن الشخص يعتقد في الآلهة هو طاعته لما تتطلبه من الخير، ولم يكن في حياة سقراط ما يجعله يعدل عن إيمانه بذلك بعدما أدركه، وكان لهذا الإيمان أثر في الطريقة التي أدَّى بها سقراط أعماله.
وهناك تفصيلات أخرى لم يعرفها سقراط ولم يتساءل عنها، لم يعرف أشكال الآلهة أو عددها، وكان يصلي لأي إله يطيب له، ويتحدث عن «الإله» (وربما كان يعني «الآلهة» عامة، فإن اليونانية لا تبيِّن عن ذلك) أو يتحدث عن الآلهة بغير اعتناء، لم يساوره القلق بشأن التماثيل القديمة أو الضحايا أو الشعائر، وإنما كان يستشعر اللذة في تمجيد الآلهة الطيبة بأية وسيلة من الوسائل.
وكان يقوم بكل ما كان مألوفًا في مدينته من جميع وسائل التقديس والعبادة المعروفة، إلا أنه كان أكثر تفكيرًا في معنى ما كان يقوم به، فقد لحظ أصدقاؤه مثلًا أنه لم يحب أن يستعمل باستخفاف اسم أي إله من الآلهة، وإن أراد أن يؤكد قولًا فمن المحتمل ألا يقول: «أقسم بزيوس» كما كان يفعل أكثر الناس، وإنما يقول: «أقسم بكلب مصر»؛ لأن إله مصر الذي يحمل رأس الكلب كان عنده وحشًا ولم يكن البتة إلهًا، وإن هو أقسم بالآلهة لم يكتفِ بأن يهتم بتنفيذ ما وعد، وإنما حاول كذلك أن ييسر لغيره من الناس أن يفوا بما وعدوا.
ومِن ثَمَّ ترى أن الفرق عند سقراط الذي نشأ عن طريقة إحساسه بالخير وبالآلهة بدأ يطفو على السطح بوسائل صغيرة في طفولته، ووسائل أكبر منها فيما بعد، وأخذ الناس بمرور الزمن يحسون الفرق إحساسًا قويًّا، ويحبونه أو يمقتونه من أجل ذلك، ولكن هذا الفارق كان لا يزال كامنًا عنده في سني صباه حينما كان يتعلم مهنته مع غيره من الصبية، ولم يتوقع أحد من ابن النحَّات شيئًا غير عادي.