المسير الطويل
غربت الشمس خلف الجبال منذ نصف ساعة، وأخذ الظلام يزداد حلكةً دقيقة بعد أخرى على المعسكر في الممر الأجوف، وتناول الجند عشاءهم حول النيران، وجاء الحطابون بآخر حمولة من الحطب في ذلك المساء، وخلف النار المتوهجة — قريبًا من حافة الغابة — كنت تستطيع أن تستمع إلى تذمر حراس الفترة الأولى، وكان القائد إندوسيديس في ظنهم صارمًا في فرضه الحراسة الشديدة ذلك المساء، فهم على مسيرة أقل من يومين من أثينا وفوق أرض ميغارا الصديقة، وميغارا كأثينا تقيم فيها حامية أثينية.
وكانت تدور في رأس سقراط هذه الأفكار عينها وهو يستلقي على ردائه إلى جوار النار مع أقريطون وملسياس وجلوكن وأرستون ورفاقه في المخيم، وكانت أول حملة يقوم بها منذ أيام التدريب، وما زال يحس إحساس من يلعب دور الجندية.
ووجَّه سؤالًا إلى أقريطون قائلًا: «هل تحسب أن هناك ما يدعو إلى ذلك كله؟ إن الشغب الذي أثارته يوبيا في الشمال لا يكفي وحده سببًا لإرسالنا إلى الغرب خلف ميغارا إلى هذا الجحر الجبلي المنكود، وددت لو أن بركليز قد أخذ قبيلتنا معه إلى يوبيا، إذن لاستطعنا أن نقاتل وأن نبلغ بالأمر غايته، إن القائد أندوسيديس قد استقرَّ في هذا المكان كأنه يتوقع أن يلبث هنا شهرًا.»
وتمطَّى أقريطون واسترخى إلى جوار النار وخاطب الآخرين قائلًا: «انظروا إلى سقراط عاشق المدينة، لم يغب عن أثينا سوى خمسة أيام حتى جُنَّ بالعودة إليها، أما أنا فلست آبه قط، وكنت أزمع أن أهبط إلى المزرعة هذا الأسبوع لكي أعد الكروم للصيف، ولكن الملاحظ سوف يؤدي هذه المهمة خير الأداء، ويبدو أن الصيد سيكون حسنًا فوق هذه التلال، هل رأيتم الغزال الذي جاء به ليسكليز إلى خيمته بالأمس؟»
وقال ملسياس: «إنكم لا تعرفون الإسبرطيين قط، إنني لا أستبعد أن يتسللوا خلال هذه الممرات لكي يضربوا أثينا في غيبة بركليز، هذا ما فكر فيه قومنا في المجلس.»
قال سقراط: «هذا إذا كان القوم يفكرون في المجلس.» وضحك الجميع، وطلب الاستماع إلى النكات القديمة في ذلك المساء وبالجو دخان الحطب ورائحة العشاء، وقمر الربيع يعلو في السماء، ودائرة التلال السوداء تجتذب الجماعة إلى الالتفاف سويًّا حول النار.
وقال أقريطون مفكرًا: «انقضت ست سنوات منذ دُعِيَت جماعتنا للتدريب، وكنا آنذاك ثمانية عشر، أفتذكر يا سقراط؟»
وأومأ سقراط قائلًا: «نعم أذكر، وأذكر قولنا في القسم: ولن ألطخ بالعار أسلحتي المقدسة، أو أترك في صفوف المعركة الرجل الذي يقف إلى جانبي.» وكان في هذه العبارة يستشهد بقسم الجنود، ثم استمر: «وسوف أقاتل من أجل ما يتعلق بالآلهة والناس سواء كنت وحيدًا أو مع كثيرين آخرين، وسوف أخلف موطن آبائي أعظم وأحسن مما وجدته، ولن يكون أسوأ مما كان.»
ثم توقَّف عن الكلام ثم عاد واشترك معه الآخرون: «وسوف أُحْسِن الإصغاء للقرارات الحكيمة التي يُصدرها القضاة وأطيع القوانين القائمة، وما يوضع منها مستقبلًا باتفاق الشعب، سوف لا أخضع لأيِّ إنسان ينبذ القوانين أو يعصاها، ولكني سوف أوقفه سواء كنت وحيدًا أو مع الآخرين جميعًا، وسوف أقدس معابد آبائي، ولتشهد الآلهة على ما أقول!»
وقال أرستون: «أجل، ظننا أننا سنؤدي عملًا عظيمًا في تلك الأيام، وكان ذلك قبل أن يسيرونا نحو الثكنات عند الميناء ونبدأ تدريبنا، كان يسرني أن «ألطخ شرف أسلحتي المقدسة» باستخدامها في أستاذ التدريب الصغير الأحول — ولست أذكر اسمه — قبل أن ننتهي من عامنا الأول.»
وقال أقريطون: «لم يكن الأمر سيئًا جدًّا، فقد ظفرنا على الأقل بمقاعد أمامية في المسرح، وأذكر أن ذلك كان في العام الثاني، حينما كُلِّفنا بالعمل في الحامية، وقضيت الأسابيع المتتالية في تلك القلعة الجبلية الصغيرة عند فايل، محبوسًا هناك مع سقراط وأسئلته الخالدة.»
وضحكوا جميعًا مرةً أخرى، وكان وفاء أقريطون لسقراط معروفًا، وكانت رفقة عجيبة كذلك، أقريطون ابن مالك الأرض، الثري، المتأني، الثقيل، العملي، وسقراط النحات الذي كان … حقًّا إن أحدًا لم يستطع أن يضعه موضعه تمامًا، ولكنه بالتأكيد لم يكن متأنيًا ولا ثقيلًا.
ولم يُخجل الضحك سقراط، وقال: «كنت أحاول أن أتعلم شيئًا، وكنت أحسب في تلك الأيام أن الحكمة أمر هين، لو قضيت بضع سنوات باحثًا عنها وجدتها، ولكن ها أنا ذا بلغت الرابعة والعشرين من عمري، قضيت منها ستًّا في الجيش، وصار لي حق الانتخاب منذ أربع سنوات، وإنه ليبدو لي أنني الآن أقل علمًا مما كنت عليه حينما أقسمت يمين الجندية وأنا في العقد الثاني من العمر، وعلى سبيل المثال حين قلت هذه الكلمات: «سوف أخلف موطن آبائي أحسن مما وجدته» حسبت في ذلك الحين أني أدركت معناها كل الإدراك.»
ووخز أقريطون ملسياس بمرفقه منبهًا إياه، وأما أريستون — وكان أقل الأربعة معرفة بسقراط — فوقع في الفخ، وتساءل قائلًا: «حسنًا، وما وجه الصعوبة في ذلك؟»
فأجاب سقراط: «هو في تلك الكلمة الصغيرة «أحسن»، إنني كلَّما أنعمت فيها النظر، تبيَّن لي أنها أكثر حاجة إلى التعريف، ماذا تعني هذه الكلمة في رأيك؟»
فقال أريستون: «الأمر هين جدًّا، معناها … أكبر، زيادة في الفن وزيادة في المباني وفي المال وما إلى ذلك.»
(وهمس أقريطون لملسياس قائلًا: «لقد تورط.») وأجاب سقراط جادًّا: «دعنا ننظر إذا كنت قد أصبت فهمك، لا بُدَّ أنك قد رأيت كليونيمس، إن المرء كثيرًا ما يلقاه في السوق في خيام باعة الحلوى.»
فضحك أريستون من الصورة التي في ذهنه عن أضخم شاب في أثينا وقال: «إن المرء لا يسعه إلا أن يراه، فلديه الكثير مما يرى، ولكن ما شأن ذلك؟»
– وأفاجون؟
– الظافر في الأولمبياد؟ قطعًا.
– أيهما أكبر؟
– كليمونيمس طبعًا.
– وأيهما رياضي «أحسن»؟
وقد أدرك أريستون هزيمته منذ ورد ذكر أفاجون وقال: «ولكن لا ينبغي أن تؤاخذني هكذا حرفيًّا، لقد عنيت طبعًا أن المدينة أحسن إذا كانت أقوى وأقدر على أداء الأشياء، حينما تستطيع أن تؤدي كل ما يعنُّ لها أن تؤديه.»
وقال سقراط معتذرًا: «فهمت الآن، إذن دعنا ننظر في هذا كذلك … ولنبدأ أولًا بالسؤال: مَنْ ذا تفضل أن يكون زميلًا لك، الرجل الشجاع أم الرجل الجبان؟»
– الشجاع طبعًا.
– إذن فالشجاع أحسن من الجبان.
– قطعًا.
– وأين يتميز الشجاع من الجبان؟
فقال أريستون وقد تنبه الآن: «في ساحة الوغى بالتأكيد.» ولكنه لم يستطع أن يدرك إلى أين يؤدي كل ذلك.
وواصل سقراط حديثه قائلًا: «أليس في ساحة الوغى كثير من الأشياء التي يستطيع أداءها الجندي عندما يتقدم العدو؟ ألا يستطيع مثلًا أن يخر على ركبتيه ويطلب الرأفة، أو يلقي عنه درعه ويعدو في أيِّ اتجاه يشاء؟»
فانفجر أرستون قائلًا: «أجل، ولكن الجبان وحده هو الذي يفعل ذلك!»
وقال سقراط: «بالضبط، الجبان وحده، وإذن فكم عملًا يؤديه الرجل الشجاع أو يستطيع أن يؤديه باعتباره رجلًا شجاعًا؟ أليس من الحق أنه لا يستطيع أن يؤدي إلا عملًا واحدًا، وذلك أن يطيع أوامر ضباطه ويتقدم؟»
فقال أرستون: «حقًّا.» وقد سار رأسًا إلى الفخ، ولم يكن له اتجاه آخر يسير فيه.
– إذن فالجبان دون الشجاع في المعركة هو الذي يستطيع أن يؤدي أيَّ عمل يريد.
قال أرستون: «أجل.»
– ولكنا قلنا: إن الجبان «أسوأ» والشجاع «أحسن».
فأومأ أستون واعترف بأنه هُزِمَ مرة أخرى.
وأنهى سقراط الحديث بقوله: «إذن فإن القدرة على أن «يفعل المرء ما يشاء» ليست دليلًا على الحسن، يجب أن نحاول مرة أخرى يا أرستون، فإن هذا المعيار لا يفي!»
وقهقه أقريطون وملسياس وجلوكن بالضحك عاليًا، وشاركهم أرستون، وكان رياضيًّا طيبًا.
وقال أقريطون: «ينبغي أن أحذرك يا أرستون، إنك لا تستطيع أن تهزم سقراط في المساجلة.»
وتبسم سقراط، ولكنه هز رأسه وقال: «لست أنا الذي هزمت أرستون، وإنما هزمه الجدل نفسه، ولم تكن مساجلة يا أقريطون.» وأضاف إلى ذلك وقد ازداد جدًّا: «وأظنك تعرف أنها لم تكن مساجلة.» إن طبقة جديدة منا ممن تبلغ السن تقسم هذه اليمين كل عام، وقد نمزح بشأن «أسلحتنا المقدسة» في مسير طويل حار، ولكنا نقصد كذلك ما نقول، مَنْ منا لا يريد أن يترك أثينا خيرًا مما وجدها؟ إذن فكيف ننفذ ما نريد؟ إننا نُعْنَى بالأشياء التي تتعلق بالمدينة ولكنا لا نُعْنَى بالمدينة ذاتها، نبني السفن والمواني والترسانات، كأننا نجعل المدينة أحسن مما كانت بجعلها كبيرة قوية وقادرة على أن تفعل «ما تشاء» بجهلها الأحمق، يا كلب مصر! متى يتيقظ الأثينيون ويدركون مقدار ما علينا أن نتعلمه!
ألقى سقراط هذا الحديث الطويل، وحدَّق فيه الأربعة الآخرون لحظة في صمت، وكاد أقريطون أن يعود إلى الكلام حينما جاء من الظلام إلى دائرتهم متثاقلًا أحد الأشخاص، ذلك هو ليسيكليز من الخيمة المجاورة.
وقال: «لقد حضرت لتوي من لدن القائد أندوسيديز أحمل نبأً، لقد ثار حزب الأرستقراط في ميغارا في وجه حاميتنا هناك، وذبحوا أفرادها، والبلاد كلها في هياج، واشتركت في المؤامرة كورنث وأبيدورس وسيكيون، وفرَّ من الرجال رجل يحذرنا، بَيْدَ أن الثوار يستولون على طريق أثينا، ولسنا ندري إن كان قد استطاع أحد الأفراد أن يتسلل إلى بركليز أو لم يستطع، وإنا الآن نتوقع الإسبرطيين من خلفنا في أية لحظة، تأهبوا للمسير عند الفجر.»
وهكذا بدأت مغامرة سقراط العسكرية الأولى، تيقظ مع غيره قبل الفجر، وسار في الظلام يتعثر ويتحسس، وعندما بزغ الخيط الأول من خيوط النهار صدر الأمر، وابتعدوا عن المكان سائرين في أشد ما يكون الصمت، وهبطوا خلال الغابات الندية، مترقبين أن يقابلهم في الطريق كمين، ولكنهم لم يجدوه، وما إن هبط الأثينيون من التلال المرتفعة، حتى كانوا في بقعة لا بُدَّ أن يقرر فيها قرار، حيث يتشعب الطريق يمينًا ويسارًا، يمينًا إلى ميغارا ومنها إلى أثينا، وهو الطريق إلى الوطن، الذي يسده جنود العدو، ويسارًا إلى الشمال وإلى جبال بيوتيا، جارة أثينا من الشمال، وأصدر أندوسيديز أمره بالاتجاه يسارًا.
ويرى كُتَّاب التاريخ المتأخرون أن هذا المسير لم تكن له أهمية تُذْكَر، فما هو إلا مسير القائد أندوسيديز وثلاث فصائل قبلية تشق طريقها إلى الوطن متخذين دروب البغال ومسالك الغنم خلال الجبال الشمالية المقفرة، ولكنه لم يخل من الأهمية بالنسبة لسقراط وصحبه، فلقد قاتل سقراط في معارك شهيرة فيما بعد، في المعارك التي تحدث عنها الناس الآخرون، وإن كان سقراط لم يذكر قط رأيه فيها، إلا أن الجندي ينبغي أن يلزم مكانه، كان جنديًّا شجاعًا، بل شجاعًا يُشار إليه بالبنان فيما بعد، ولا بُدَّ أنه كان زميلًا طيبًا لأقريطون ولغيره في هذه الحملة الأولى.
وقد اتخذوا الطريق الشمالي إلى باجي، وهي القرية التي تقع على البحر حيث ينتهي الطريق، ثم تابعوا مسيرهم على دروب البغال إزاء الساحل، ودرب البغال معناه أن يكون الطريق وعرًا حجريًّا غير مستوٍ، وكثيرًا ما تنزلق فوقه الأقدام، وساروا هنا في صف واحد، يسير كل منهم على هواه، ولا يوحدون الخطى، وفي أسفل، في السهول المنزرعة الصغيرة التي عبروها مرة أو مرتين، كان الطريق عبارة عن وحل جاف متخلف من فصل الربيع، ولا يقل عن الطريق السابق سوءًا، ومروا بقريتين متزاحمتين، وانتهوا عند قلعة رمادية اللون بالقرب من البحر، وكان ذلك عندما كادوا يتأهبون للتوغل داخل البلاد.
وكان لا بُدَّ أن يتوغلوا في الداخل، وقد فقدوا الأمل في أن يجدوا هنا سفنًا أثينية تنقذهم في الوقت الملائم حتى لو عرف مواطنوهم مكانهم، ولما كانوا جميعًا قد وُلِدُوا ونشئوا على شاطئ البحر كان شعورهم إزاءه وديًّا، يمقتون أن يهجروه إلى الجبال.
وكانت جبالًا حقيقية، فمن فوقهم السلسلة الكبرى لجبال سثيرون شامخة تناطح السماء، وقد عرفوا أن الميناد، عبدة ديونيسس إله الخمر أنصاف المجانين قد رقصن فوقها، وهُنَّ نساء يستطعن تمزيق الحيوانات الكاسرة إربًا إربًا بأصابعهن البيضاء، وكان من السهل أن يتصوروا حدوث ذلك فوق هذا الجبل ذي القمم الرمادية، والذي تكسوه أشجار الصنوبر المتشابكة النحيلة، وكذلك كانت الدروب سيئة ومحيرة، وقد يضل الأثيني طريقه إذا لم يرشده مرشد.
ومن حسن الطالع في ذلك الحين أن كان من بينهم بثيون، وقد ضموه إليهم عند باجي في نهاية الطريق، وربما كان راعيًا أو حارق فحم؛ لأنه كان يعرف دروب الجبال النائية عن موطنه، وكان بثيون زميلًا ودودًا ومرشدًا مخلصًا، وكانت هذه الرحلة المغامرة الكبرى في حياته، وهو الذي رواها فيما بعد، وأمدنا بالطريق وبأسماء أندوسيديز وفصائله الثلاث، وربما بولغ في القصة أثناء روايتها، وكان بثيون يفخر كثيرًا «بتحطيم رمحه في أجساد سبعة من الرجال»، وكان القتال عنيفًا فيما يبدو بعد التحاقه بالجيش بفترة ما.
بيد أن كثيرًا مما يذكره سقراط من تلك الأيام التي قضاها فوق التلال لا يحسب بثيون — وهو الخبير بالجبال — أنها تستحق الذكر، مثل الساعات التي أنفقها في تسلق الجبال وفي الهبوط منها خلال الأعشاب الشائكة التي تخز الأعقاب، والسير المضطرب وقطع الحجارة التي تترامى عليك ممن يسبقك، وعطش الظهيرة على سفوح الجبال مع ظهور وادٍ صغيرٍ في أسفل الجبل كأنه شريط براق، ونسور سوداء تحوم فوق رءوسهم وتتطلع إليهم، وثعالب تصيح في جوف الليل في غابة الصنوبر.
وكانوا دائمًا في شكٍّ مما كان يحدث بأثينا، فيدفعهم الشك إلى الإسراع في الخطى، فكل خطوة تقربهم من الوطن، وفي المساء يحسبون ويعيدون الحساب حول النار الموقدة، كم يستغرق الإسبرطيون ليأتوا خلال الممرات، وإلى أيِّ مدًى يسيرون حتى يبلغوا ميغارا ثم إليوسس ثم أثينا؟ ومتى يستطيع الرسول — إن حالفه الحظ — أن يبلغ بركليز في الشمال؟ وكم يستغرق حتى يعود؟ وكل منهم يحسب فرص بركليز حسابًا مختلفًا، وقلَّ منهم مَنْ جرؤ على الاعتقاد بأنهم سيصلون في الميعاد.
وهكذا بلغوا أخيرًا القلعة الرمادية عند فايل وأول مشارف الوطن، وبلغت صيحتهم: «هذه أثينا!» آخر الصف وهم يسيرون حول منحنى الجبل، فقد بدت لهم أثينا بعد كل هذه الأيام التي كانت لا تغيب عن مخيلتهم خلالها، ذلك هو الأكروبول بأسواره، وتلك هي السوق في أسفلهم وإلى جوارها مكان الجمعية، ومنازل المدينة المتقاربة، وذلك هو البحر الذي عاشت عليه المدينة، وسلامس حيث دارت المعركة البحرية الكبرى مع الفرس، وهناك في السهل الغربي — كما أشار إليه أحدهم في انفعال نفسي — تستطيع أن تتبين بريق الحراب والتراب الذي يثيره الجيش السائر.
وتبعد فايل عن أثينا نحو أربعة عشر ميلًا، ولكن العشرة الأخيرة منها على الطريق المُعبَّد فقطعوها في سرعة فائقة، وقبل أن يرخي الظلام سدوله كانوا واقفين إلى جوار زملائهم من الفصائل السبع الأخرى، بينما كان العدو ينصُب خيامه قريبًا جدًّا من مدخل أثينا الأمامي، واستطاع سقراط في ذلك المساء أن يشهد نيران المعسكر من مقر حراسته فوق سور المدينة، وتوقع أن يكون الغد يومًا مشئومًا، فالكل يعرف أن العدو يتفوق على الأثينيين في العدد بدرجة كبرى.
ولم يحدث قتال في الغد، ولا في اليوم الذي يليه، بل لم يحدث البتة قتال، ولبث الإسبرطيون يومًا أو يومين، ثم جمعوا خيامهم وانصرفوا، وتم الأمر في هذه البساطة، وتجمَّع الأثينيون فوق مرتفع الأكروبول ليرقبوا، وشقَّ عليهم أن يصدقوا ما وقعت عليه أعينهم، ماذا حدث؟
لم ترَ المدينة يومًا كهذا كثُر فيه الحديث، وهي المدينة التي تخصَّصت في الحديث، غير أن بركليز لم ينبس ببنت شفة، وإن لم تبد عليه الدهشة لما حدث، ولم يمض وقت طويل حتى أشيع أن الملك الإسبرطي الذي قاد الجيش قد حوكم في مدينته وحُكِمَ عليه بغرامة كبيرة، وأُرْسِلَ مع قواده إلى المنفى، أما بركليز فقد عرض في نهاية العام — حينما قدَّم حسابه ليصادق عليه الشعب — بندًا كبيرًا بغير تعليق نصه: «للنفقات الضرورية عشرة تلنتات (التالنت يساوي ٢٥٠ جنيهًا تقريبًا).»
وكانت نكتة أثينا عدة سنوات، وبدأ الحديث مرة أخرى، وذكر كل امرئ لأخيه: «إن هذا هو شأن الإسبرطيين، إنهم لا يستطيعون أن يقاوموا الرشوة قط.»
ولبث بثيون في أثينا، واعتاد سقراط أن يلقاه بين الحين والحين، ويروي للمستمعين المعجبين قصة مسير الفصائل الثلاث، القصة التي لم يكن بُدٌّ من زيادة المبالغة فيها كلما تجددت روايتها، ولما مات فيما بعد (ودُفِنَ إلى جوار بوابة حارقي الفحم) نُقِشَت القصة على شاهد مقبرته، وتستطيع اليوم أن تطالعها.