أنكسجوراس الملحد
ولما تقشَّع الخطر الإسبرطي؛ سرَّ المدينة أن تستقر وأن تعود إلى شئونها السلمية، وامتلأ الملعب مرة أخرى بالرياضيين، وجلس الشيوخ يتبادلون الحديث في أبهاء الأعمدة وهم ينتظرون دورهم لأداء واجبهم كمحلفين، وكانت تنبعث رائحة الخبز الطازج المألوفة يشمها مَن يمرُّ بمحلات الخبازين، وكذلك كنت تسمع طرق السندان المعروف يصدر عن حي الحدَّادين، وطقطقة المطارق في الحجارة في الشارع الذي كان يقطنه سقراط، وإن أنت دخلت بيت سفرونسكس، فالراجح أنك لن تجد سقراط وأباه فيه، ونستطيع أن نتصور أنهما كالكثيرين من أصدقائهما يقومان بأداء عُهِد عليهما للشعب، وربما كانا يعملان في عمود في معبد أثينا الجديد الذي كان يشيد في الجهة الجنوبية من الأكروبول.
ووجد سقراط أن إقامة عمود للمعبد الجديد كان أشق عمل أداه حتى ذلك اليوم، فالكتل الرخامية — التي تمَّ من قبل تشكيلها في المحاجر على صورة خشنة، كانت تُسْحَب فوق الطريق الوعر من جبل بنتليكوس في عربات ضخمة تجرها الثيران، ثم تفرغها عصابات من العُمَّال غير المدربين يبذلون الجهد وينضحون العرق، ثم يتولَّى العمل سفرونسكس وسقراط وأعوانهما من الرقيق الماهرين، ويتعاون على العمل الأحرار والعبيد، يقطعون كل حجر على شكل قطاع عمود يشبه الطبلة، يكبر قليلًا ما سوف يصير إليه بعد الفراغ منه، وبه أربعة مقابض بارزة تُرِكَت دون تهذيب لكي تمسك بها الحبال عند رفعه، وكلَّما أعدوا طبلة رفعوها بالبكر ووضعوها فوق سالفتها، وركزت في دقة بحيث يلتئم وتد خشبي بالطبلة السفلى في جيب بالطبلة العليا، وكان يلزم لجذع العمود اثنتا عشرة طبلة، ولا بُدَّ من إعداد أعلى كل عمود وأسفله في عناية تامة، حتى إذا ما تمَّ العمل ارتفع العمود كأنه حجر واحد، لا ترى فيه سوى خط رفيع عند كل التحام.
وحتى بهذا لم ينتهِ كل شيء، فإن العمود لا ينبغي أن يعتدل إلى أعلى وإلى أسفل على خيط البناء، بل لا بُدَّ أن ينحني إلى الداخل قليلًا، كما ينبغي أن تتقوَّس واجهته الجانبية ويُدَق طرفها، أقل ما يمكن من تقوس، بحيث لا تمكن رؤيته، مثله مثل التقوس العلوي الذي لا يكاد يُرَى والذي تم بناؤه في أرض المعبد كلها، ولا يعرف الفارق حقًّا بعد الانتهاء من البناء سوى مهندسي المباني والعمال، أما مَنْ عداهم من الناس فإنهم يكونون أكثر اقتناعًا على أية صورة من الصور، ويحسون أن السقف والأرض كلاهما لا يتقوس — كما يبدوان لو أن خطوطهما قد صُنِعَت في استقامة تامة — وأن الأعمدة متينة تحمل العبء في يسر وخفة.
وبعدما يُقام العمود، يتسلق سقراط الهيكل الخشبي لكي يبتر الغطاء الحجري الخارجي الواقي، ويتم التخطيط الذي بدئ من قبل في الطبلة السفلى، وكان لا بُدَّ من تخطيط عشرين قناة دقيقة التقوس على طول الجذع حتى تاج العمود في أعلاه، وبين القنوات حافات حادة كأنها سكاكين من الحجر.
وقضى سقراط هنا عدة ساعات، على منصته الخشبية عاليًا فوق المدينة، وكان يستطيع أن يرى في أسفله المسرح الذي تمثل فيه المسرحيات، خاليًا في ضوء الشمس، وإلى يمينه الأسوار الطويلة تؤدي إلى الميناء بمياهه الزرقاء المتلألئة، تنتشر فيه الأشرعة اللامعة، ويستطيع كذلك أن يتطلع إلى الجبال، فهناك تل ليسابتس القريب، وبنتليكوس الذي تقع إلى جانبه محاجر الرخام، وهيمتس موطن نحل العسل، وهيمتس هو الجبل الذي كان وميضه القرنفلي الأرجواني يُعطي لأثينا في المساء الصفة التي يحبها أهلها أكثر من سواها؛ «أثينا البراقة المتوجة بالبنفسج»، هذا ما قاله شاعر معروف، ولكنه كان صدقًا كما كان شعرًا فيما ظنَّ سقراط، وحتى قبل مغيب الشمس في ضوء الأصيل الذهبي، كان من اليسير أن تشاهد المدينة وكأنها المركز البرَّاق لتاجٍ بنفسجي من التلال.
بَيْدَ أن منظر الطبيعة بغير سكان كان كأنه الصحراء في عين سقراط، فكان يسره أن يعمل مع أصدقائه في أرض المعبد، وكان الأكروبول في تلك الأيام يزخر بالحياة، وعصابات العمال تنتشر في كل مكان، فها هنا الرخام الجديد يصل من المحاجر، وهناك الطبلة الكبرى ومختلف المواد من المعبد القديم الذي لم يتم بناؤه والذي أحرقه الفُرْس، كلها تسوى حتى تصبح ملساء بيضاء كي يمكن استخدامها في جذع عمود رقيق في الدهليز الجديد، وأقيمت الهياكل الخشبية، وأخذ أحد المفتشين يراجع تخطيط قاعدة الأعمدة، وكثيرًا ما مرَّ الرجل الأول في أثينا — القائد بركليز بنفسه — يصحبه أحد مهندسي البناء، أو مع فدياس كبير النحاتين في هذا العمل.
وأحب بركليز أن يحضر إلى الأكروبول، فلقد كانت المعابد الجديدة مفخرته الخاصة، كافح من أجلها في الجمعية، وهو الآن يكاد يمر كل يوم ليشهد مسير العمل، وكان برنامج البناء — بطبيعة الحال — مطلوبًا لرعاية المتعطلين، ولم يستطع أحد أن ينسى السنوات الشاقة، التي أعقبت إبرام الصلح مع الفرس مباشرة، حينما عاد الأسطول إلى الوطن ليستقر فيه، وكان سقراط في ذلك الحين قد بلغ سن الرشد حديثًا، فذكر ذلك جيدًا، وكان هناك قوم كثيرون في ذلك الحين وعمل قليل، أما الآن فقد أوجدت المباني الكبيرة عملًا كثيرًا لكلِّ إنسان، رغم أن مدن الاتحاد قد تذمرت من اضطرارها إلى دفع النفقات، وكانت تحب أن تخصص أموالها في الإنفاق على السفن والملاحين ومقاتلة الفرس، ولا تنفق على المباني.
وكان بركليز يحب أن ينفق أموال الاتحاد — وأمواله أيضًا إن كانت إليها حاجة — على المباني؛ لأن هذه المباني كان لها عنده معنًى مختلف، لم يكن معناها فقط توفير العمل يشغل به مئات الرجال: من نجارين ونقاشين وعُمَّال في الرخام والبرنز وخشب السرو والعاج والذهب، ولم يكن معناها فقط أن تصبح المدينة قانعة مرتاحة يتوافر فيها الطعام للزوجات والأطفال، وإنما كان بركليز يحلم لأثينا حلمًا بدا إمكان تحقيقه في فترة وجيزة من الزمن، كان يريد لها أن تمسي مكانًا يؤدي فيه الناس خير ما عندهم وأجمل ما لديهم، ويعتقد بركليز أنْ ليس هناك شيء تقريبًا يعجز عنه الإنسان، لا يعز على الإنسان جمال أو مهارة، ومن واجب أثينا أن تثبت ذلك للعالم أجمع، وأن تثبته في كلِّ ما تعمل، على أثينا أن تكون مدرسة اليونان: بحياة أهلها النشيطة المتنوعة الألوان، وبحرية حكومتها، التي يحس فيها كل امرئ أنه جزء مما يحدث، وببهجة حفلاتها وحكمة مسرحياتها، والآن بجمال الأكروبول الذي تتوج به المدينة.
ولم يكن معبد أثينا كل ما بها، فقد بدأ برنامج المنشآت بمعبد هفيستس إله النار عند سوق المدينة. وتضمن البرنامج ثاني الأسوار الطويلة التي تصل أثينا بمينائها بيريس، كما تضمن إنشاء مدينة حديثة التخطيط بدلًا من بيريس ذاتها، وأقيمت فوق الأكروبول سلسلة بأسرها من المباني، يبلغ كل منها أقصى ما يمكن تحقيقه في ضرب من ضروب الجمال.
وأروع هذه المنشآت الجميلة جميعًا معبد أثينا، الذي أُطْلِقَ عليه فيما بعد بيت العذراء أو البارثنون، وقد قامت من حوله مجموعة كبيرة من الأعمدة الرخامية، تتصف بتلك الاختلافات والمنحنيات السرية التي أمكن لسقراط وصحبه أن يروها ويشهدوا بصحتها، أما أكثر الناس فقد أحسوا بها وإن لم يروها، وفي القمة فوق الطنف كان من المزمع أن توضع ألواح منقوشة تُصْنَع في مصنع فدياس، وسيظهر بريق لونها بعد الفراغ منها متباينًا مع بياض الأعمدة، وكان في التصميم كذلك حزام من النقوش يمر داخل الصف الأول من الأعمدة، وقد أُعِدَّت الرسوم وشهدها سقراط، وفي التصميم أيضًا عرض الحياة الجميلة للمدينة وهي تتجمع عند نقطة واحدة في موكب أثينا السنوي، وذلك على هذا الحائط الداخلي، ومن بين مواطني المدينة الفرسان وراكبو العربات والمشاة من الرجال والفتيات يحملن السلال، والكهنة وضباط المدينة بل والآلهة، وستأتي — فيما بعد — مجموعات كبرى من التماثيل الرخامية في أطراف السقف الهرمي الأمامي منها والخلفي، وسيُبْنَى السقف بألواح من المرمر، ويزين داخله الأجوف بزخرفة كأنها خلايا النحل، وفي الداخل — كما كان يعلم كل إنسان — في الظل الرطب للمحراب الداخلي، أزمعت إقامة التمثال الجديد الذي صنعه فدياس للآلهة الواقية من العاج والذهب.
وبطريقة ما انتقلت أحلام بركليز وصحبه الذين كانوا يصممون البناء إلى الرجال الذين كانوا يؤدون العمل بأيديهم، وأعجب نحاتو الحجارة أيما إعجاب بالكمال الذي بلغوه في أدائهم لتفصيلات النقوش في جوٍّ مرتفع، وحتى الرقيق والأجانب من العُمَّال الذين كانوا ينحتون وينقلون ويرفعون إلى جانب المواطنين الأحرار أصابتهم نشوة الفرح، وكان بركليز يُسر كثيرًا كلما مرَّ كل يوم وشهد العمل كما شهد الملامح التي بدت على وجوه العمال.
وجاء إلى الأكروبول كذلك قوم آخرون غير بركليز، وأصبح المعبد مفخرة كل إنسان، ولا تكاد تجد مواطنًا لا يأتي في وقت من الأوقات ليرى كيف كان يسير البناء، وحتى النساء أتين — النساء كريمات المولد اللائي قلَّ ما كنت تشاهدهن في الأماكن العامة — يتخطرن بين العمال الذين يتصببون عرقًا كي يلقاهن فدياس بحفاوة في مصنعه، وكثيرًا ما دار اللغط حول هذه الزيارات، غير أن إحدى النساء الزائرات كانت مثار الحديث بين كل مَنْ كان فوق الجبل، تلك هي إسبسيا الأجنبية الشابة الحسناء التي جاءت من مَلَطية بآسيا الصغرى، والتي أشيع عن القائد بركليز — ذلك الرجل الصلب صاحب الذهن الصافي — أنه هام بها حبًّا، ولم تكن لإسبسيا مكانة البتة في أثينا، ولا يمكن — طبقًا للقانون الذي وضعه بركليز نفسه ضد الزواج من الأجنبيات — أن يعترف بها شرعًا زوجًا له، ولا بُدَّ من صوت خاص من أعضاء الجمعية لكي يكون ابنهما مواطنًا، ولبثت جماعة من أصدقاء سقراط مذعورة من حب بركليز لهذه الفتاة الأجنبية، ولكن سقراط مال إليها عندما لاقاها فيما بعد، فإن بركليز وجد امرأة تستطيع أن تفكر.
وكان لبركليز صديق آخر، زميل لا يكاد يفارقه، وهو أنكسجوراس العالِم، وقد جاء كذلك من آسيا الصغرى عندما دعاه بركليز إلى أثينا، وقال عنه الناس: إنه رجل من العالم الآخر، أضاع ثروته في بلاده بينما كان يدرس السماء، وكان يكنى «بالعقل» في أثينا، وقاسى كثيرًا من مضايقة الناس، ولم تتهيأ لسقراط الفرصة لكي يتحدَّث إلى أنكسجوراس، ولكنه أثار اهتمامه كلما رآه، وحاول أن يستنبط من أفكار الرجل ما استطاع، وحدَّثه الناس عنه كثيرًا، وأكثر حديثهم هراء واضح، ولكنه عندما كان يصفي حديث الناس كان يظهر له أن وراءه كلامًا معقولًا يُثير التفكير.
وقد حفز أنكسجوراس على التفكير حجر ضخم أسود هبط من السماء عند مكان يُسمَّى نهر الماعز منذ سنوات عدة مضت، وقد رأى بعينيه الحجر ولمسه فألفاه مختلفًا كل الاختلاف عن الصخور المحيطة به، وإذا كان قد هبط من السماء، فمن الواضح أنه لا بُدَّ أن تكون بها حجارة، ولم تقذف به الآلهة كما تروي القصص القديمة، وفكر أنكسجوراس طويلًا في الأمر بعد ذلك، وخرج أخيرًا بالنظرية التي أخذ يتحدَّث عنها كلُّ امرئ في أثينا، ولم يأبهوا كثيرًا لقوله بأن الأرض دائرة مسطحة، تسبح في الهواء كورقة الشجر فوق الماء، تدور حولها النجوم، فإن كثيرًا غيره من العلماء قد اعتقد ذلك من قبل، ولو أن الأثينيين لم يكن من بينهم عالم حي حقًّا يعيش في أثينا ويؤمن بهذا القول، وإنما كان فيما قاله أنكسجوراس عن الشمس والقمر شيء يشين كرامة الآلهة خاصة.
قال أنكسجوراس: إن الشمس ليست بإله، وإنما هي كتلة متوهجة من المعدن، أكبر من بلبونيز كلها، وهي شبه الجزيرة التي يقطنها الإسبرطيون وستة شعوب أخرى غيرهم، وكأن هذا لم يكفه فتعرض للقمر وقال: إنه من التراب، وليس له ضوء خاص، وإنما هو يعكس ضوء الشمس، وبالقمر تلال ووديان وربما كان مسكونًا، وعندما يقع في دورته بيننا وبين الشمس، تبدو الشمس مظلمة في رابعة النهار، وعندما تحجب الأرض ضوء الشمس عن القمر، يظلم كذلك القمر.
كل هذا أثار حديث الناس في أثينا، وجرى الحديث في شدة ولم يكن دائمًا حديثًا وديًّا، واهتم الناس فجأة أشد الاهتمام بما عسى أن يكون لكلِّ هذا الحديث عن الحجارة والمعدن الذي ابيضَّ من الحرارة من أثر على الدين، وهم أولئك الذين لم يَبد منهم من قبل أي اهتمام بالآلهة (اللهم إلَّا أن يقدموا إليها الضحايا المألوفة بطبيعة الحال)، ولحظ سقراط أن بعضًا من مؤيدي الآلهة المتحمسين كانوا كذلك أعداء سياسيين لبركليز، وكان خصوم بركليز يسمون أنفسهم «السادة»، أما بركليز نفسه (الذي انحدر من أعلى الأسر في أثينا، وإن كان يعضد لديمقراطية الناشئة) فكان يحلو له أن يطلق عليهم «القلة»، وسواء كانوا سادة أو غير سادة فقد اتضح لسقراط أنهم كانوا يجرون أنكسجوراس ونظرياته العلمية إلى نزاع سياسي، أما ديوبيثس الكاهن العجوز المتعصب، الذي كان يكسب العيش عن طريق تفسير أسرار السموات وعجائبها، فله شأن آخر، وليس من شكٍّ في أنه كان يهتم في إخلاص بقداسة السموات ولو لأسباب عملية فحسب، أما ديون ابن عم ديوبيثس، الذي كان يعمل إلى جوار سقراط في بهو الأعمدة، فقد اعتاد أن يقول صراحة: إن المدينة لا يمكن أن تأمل في الظفر برضا الآلهة حتى يقتل أنكسجوراس.
وألف سقراط الحديث الخشن من مواطنيه، ومن الجائز أن يؤدي حديثهم إلى القيام بعمل ما؛ لأن الشعب هو الحكومة ولكنه قلَّما كان يؤدي إلى ذلك في تلك الأيام؛ ولذا فقد ذهل ذات مساء حينما جاءه ديون يقرع بابه ويحمل إليه نبأ جديًّا.
قال ديون في رزانة تامة وقد ولج الحجرة التي كان يجلس فيها سفرونسكس وسقراط وقلة من أصحابهم: «يجب على كل أثيني مخلص لبلاده أن يبتهج؛ لأنه يشهد هذا اليوم، فقد عاد إلى أثينا رضا الآلهة، فقد أُدِين الملحد!»
ولم يكن سقراط بحاجة إلى أن يسأل مَن هو ذلك «الملحد»، وإن كان هو نفسه لم يجد مبررًا يدعو هذا العالم المشرد الذهن لكي لا يعتقد في الآلهة كما يعتقد فيهم سواه، واستطاع هو والآخرون — بشق الأنفس — أن يعرفوا من ديون ماذا كان يجري تمامًا، والأمر في عبارة واضحة هو هذا: لقد اتفق ديوبيثس وصحبه المتعصبون مع «السادة» الذين كانوا يمقتون بركليز، وظفروا بوعود التأييد من كثير من أصحاب الأصوات المحافظين في المدينة، وكان المزارعون — الذين كان ينتظر أن يفدوا إلى أثينا في الغد في جموع حاشدة — ينفرون من أيِّ حديث خطر عن الدين، فقد كانوا يعتمدون على الآلهة في محصولهم، ومن المؤكد أنهم سيصوتون مع جانب الحق.
ولذا فسوف يبدأ الهجوم في الجمعية في اليوم التالي ديوبيثس بنفسه، ولن تكون به حاجة إلى أن يقول شيئًا عن أنكسجوراس، وإنما يكتفي بأن يقترح قانونًا جديدًا ضد الأفراد الذين لا يمارسون الدين، وينشرون النظريات عن «الأشياء العليا»، ومن المؤكد أن يوافق المجلس على القانون، كم من الأعضاء يود أن يُعارضه ويُسمَّى بالملحد كذلك؟ وعندئذٍ يستطيع رجال السياسة أن ينقذوا في المحاكم ما يبقى بعد ذلك، وسيكون هذا كله عملًا مشروعًا.
ولما فرغ ديون من الإفضاء بهذه الخطة ثارت مناقشة حادة، ودافع عن أنكسجوراس بشدة — أحد رفاق سقراط — وهو أجنبي يُدْعَى فيلينس طوَّف كثيرًا وآمن بالآراء المتقدمة، ووجَّه خطابه إلى ديون قائلًا: «مهما يكن من شيء، فإن ما يقال عن الشمس والقمر قد يكون صادقًا إذا لم تكن هناك حجارة في العلا، فمن أين إذن جاء الحجر الأسود عند نهر الماعز؟»
وقال ديون غاضبًا: «ليس من شأننا أن نبحث في مثل هذه الأمور، أنصحك أن تترك الآلهة وشأنها، وليس للناس أن يتساءلوا، سواء كانت هناك حجارة أو لم تكن، هل تريد أن تُغضب الآلهة وتجلب للمدينة الطاعون والخراب؟»
وأجاب فيلينس في هدوء: «سل أيَّ طبيبٍ حاذق يُنبئك أن الطاعون إنما يأتي إذا فسد الماء أو الهواء، أما عن «الخراب» فأيًّا كان ما تعني به، ألم يكن حكيمكم الخاص سولون هو الذي قال بأن مدينتكم لن تفنى بإرادة الآلهة، وإنما تفنى بحماقة مواطنيها وشراهتهم؟»
وكان هذا الكلام شديدًا على نفس ديون، ثم أطلق على كل كافر فيضًا من اللعنات المقدسة، وكان فيلينس بانتظاره عندما أفرغ ما بجعبته من ألفاظ.
فقال: «إنك تتحدَّث كأنك تألف الآلهة ألفة كبرى، هل رأيت إلهًا قبل اليوم؟ هل لمست إلهًا؟ هل تستطيع أن تخبرني بحادث واحد في الحاضر ولا أقول في الماضي، لا يمكن أن تعلله بالأسباب الطبيعية؟»
وكان أكثر الحاضرين معارضين لديون ومبالغته في التقوى، غير أن فيلينس قد غالى كثيرًا هذه المرة، وعَلَتْ بالاحتجاج الصيحات، وبدءوا جميعًا يتكلمون في صوتٍ واحد، وأخيرًا رفع سفرونسكس يده يطلب الصمت، وكان رجلًا مسنًّا يحب أن يسود بيته السلام.
وتبسم قائلًا: «ربما كان كلا الجانبين مصيبًا من ناحية، وربما عرف أنكسجوراس حقيقة الشمس كما يقول فيلينس، وأذكر أنني سمعت بشيءٍ من هذا في شبابي، قد لا يكون حجارة أو ترابًا، ولكنه بخار ملتهب، وهو ما لا يقل مروقًا على الدين عما زعم أنكسجوراس، غير أنا لم نحسب الموضوع في ذلك الحين مما يعرض على محاكم القضاء.»
ورد عليه ديون محتجًّا.
وواصل سفرونسكس حديثه مشيرًا بإصبع طويلة وقال: «تمهل قليلًا، قلت: إننا لم نحسب الموضوع مما يعرض على محاكم القضاء «في ذلك الحين»، وقد يكون الأمر على خلاف ذلك اليوم، ولست أحب الطريقة التي يتحدث بها فيلينس، وعندما أتلفت حولي إلى الشباب الناهض في هذه الأيام — وخذ على سبيل المثال كليون ابن الدباغ، بلسانه الحاذق اللاذع، وكراهيته لكل من يعلوه — أتساءل قائلًا: أليس قليل من خوف الآلهة القديم مدعاة للسلامة، ولكن الزمن قد تغير … أجل، لقد تغير الزمن»، ثم استمر في الكلام، وكأنما يتحدَّث إلى نفسه، وقال: «أذكر كيف كان إحساسنا بعد انتصارنا بحرًا في سلامس، عندما أبحر الفرس مبتعدين، وعرفنا أننا أصبحنا أحرارًا، «عرفنا» أن الآلهة كانت معنا آنئذ، وما كان لأحد أن يحدِّثنا بغير ذلك، وماذا كان يهمنا من الشمس والقمر وما إليهما؟ أما الآن أجل، قد يكون ديون على صواب، وربما كان ما زعم ضرورة لكي تحتفظ العقيدة القديمة بحياتنا، مَنْ يستطيع أن يحدثنا عما يمكن أن يكون لخير المدينة في مثل هذه الأوقات؟»
ولم يكن سقراط على اتفاق في هذا مع أبيه، بَيْدَ أنه لزم الصمت احترامًا له، ولم يشترك في الحديث إلا بعد أن أوى سفرونسكس إلى فراشه، واستمر الجدل إلى ساعة متأخرة من الليل، ولم ينته عند حد، وتشبث كل من ديون وفيلينس برأيه في عناد، غير أن سقراط خرج من النقاش وهو أشد إيمانًا من أي عهد مضى بأن ديون وإياه كان كلاهما على خطأ.
إن المهم هو الحقيقة كما عرف، إن الحقيقة لا تصيب الآلهة بأذًى، إنها تحب الحقيقة، ولكنك إن أردت أن تخفي الحقيقة فهناك خطر آخر، فقد تؤذي أعز ما لديك، وذلك هو نفسك — أيًّا كانت هذه النفس — وهي أقرب شيء إلى الآلهة، لا شك في أن ديون كان غافلًا، وسفرونسكس شيخ حكيم، ولكنه لم يُدرك أنه بخنق الحقيقة يؤذي أثينا ولا يعينها.
ولكن ما هي الحقيقة؟ هل كان فيلينس على صواب حينما قال بأن «الأسباب الطبيعية» تفعل كل شيء؟ لا شكَّ في أن فيما زعم صدى للصدق، وبرغم ذلك فإن به شيئًا لم يقتنع به سقراط، وأوى إلى فراشه متعجبًا.
وفي اليوم التالي فاز ديوبيثس بموافقة المجلس على مشروع قانونه كما توقَّع الناس جميعًا، وسيق أنكسجوراس إلى المحاكمة بناءً على ذلك وتهمته الكفر بالآلهة، وعقوبته المنتظرة هي الموت، وشغلت هذه القضية حديث الناس جميعًا في أثينا عدة أيام، ومن حسن حظ ضمائر أهل المدينة أن العالم لم يعدم، فقد أبعده بركليز عن المدينة، ولما عاد أنكسجوراس إلى آسيا الصغرى؛ وجد له حاميًا آخر في مدينة لمباسكي، وهنا تابع دراساته حتى نهاية حياته.
وافتقد بركليز وصحبه أنكسجوراس، ولما صدر كتابه في العلوم الطبيعية لقي رواجًا كبيرًا، بيد أنه قد تبين أن آراءه عن الشمس والقمر لم تكن جديدة كل الجدة أو مما يدعو البتة إلى الدهشة والذهول، وظهر فيما بعد غيره من الرجال ممن يفضلونه في علم الفلك وتابعوا جهوده وصححوا أخطاءه، وربما كان أطفال لمباسكي من بين الناس جميعًا خير من ذكره وأطال الاحتفاظ بذكراه، فقد طلب لهم عطلة مدرسية سنوية يوم مماته.