الآلهة تُكلِّفه بالرسالة
ولما تحدَّث سقراط فيما بعد عن كتاب أنكسجوراس، روى القصة كأنها حدثت كلها في بضع لحظات، في حين أن مجرد قراءة الكتاب كانت عملًا طويل الأجل في تلك الأيام، والقرارات بعيدة الغور تقتضي نموًّا بعيد الغور كذلك، ولا بُدَّ أن يكون سقراط قد أخذ في النمو — لسنوات عدة — نحو إدراك عمله الحقيقي، وربما سار في صمت عدة أشهر أخرى قبل أن يتخلى عن نحت الحجارة، ويُكرِّس كلَّ وقته للفلسفة.
ولا بُدَّ أن يكون ثبات الغرض — الذي تعشقه أصدقاء مثل أفلاطون — قد أخذت جذوره تمتد خلال تلك الفترة، وكذلك التأكد من أن الآلهة كانت تؤيده؛ لأن شيئًا لم يكن أشد ثبوتًا في ذهنه فيما بعد من الاعتقاد بأن الآلهة قد كلَّفته برسالة، فقد أمرته الآلهة الحكيمة أن يبحث عن الحكمة — كما قال — وذكر قصة كاهنه شيرفون دليلًا على ذلك.
وكان شيرفون — كما عرف كل إنسان — أحد الشبان المتحمسين الذين بدءوا يلتفون حول سقراط، وهو ذلك الشاب الذي لقبه أحدهم «بالوطواط» لنحول جسمه واصفرار بشرته، وقد بلغت بشيرفون هذا الجرأة أن يقول: إن سقراط كان أحكم الناس جميعًا، بل أكثر من ذلك ناشد الآلهة أن تبرهن على ذلك، فذهب إلى دلفي لكي يسأل كاهنه أبولو.
وكان دلفي، مكان معبد أبولو وكاهنته المعروفة من قديم، يقع في أعلى التلال شمالي وغربي أثينا، وكان مكانًا عظيم التقديس، وتروي القصص أن زيوس والدنيا في حداثتها أرسل ذات مرة نسرين من طرفين متقابلين في السماء لكي يقيسا الأرض، والتقى النسران في دلفي، وكان الحجر الذي يتوسط الأرض لا يزال هناك، وتردد على وادي الجبل فيما بعد وحش غريب: هو أفعوان الأرض، وقتل أبولو الأفعوان بقوسه الفضية، وأحل كاهنته ومائدته المقدسة ذات القوائم الثلاث محل حجر الأفعوان، وجاء الرجال من جميع أنحاء اليونان يوجهون إلى الكاهنة الأسئلة؛ لأن أبولو كان إلهًا يقول الصدق ويعرف الماضي والحاضر والمستقبل، وكل ما تفوهت به الكاهنة كان صدقًا مؤكدًا.
وكانت توجه إلى أبولو في دلفي كل أنواع الأسئلة، وكانت المدن ترسل سفراءها ليعرفوا لها كيف تتخلص من الطاعون، أو أين تؤسس لها مستعمرة، ووفد كذلك الرجال البارزون ليسألوا إن كانوا سيُرزقون أبناء يحملون من بعدهم أسماءهم، وتساءلت المدن الإغريقية — كما تساءل كذلك ملوك الشرق في الزمان القديم — هل تشن الحروب؟ ومَنْ ذا تختار حليفًا لها؟
وبالطبع لم تكن الكاهنة دائمًا على صواب، وذلك إذا طالعت السجل قبل أن يتوافر للكهان الوقت للتصحيح والتفسير ومع ذلك فما أكثر ما صدقت! وما دام الإغريق يعتقدون في الآلهة، فإن أكثرهم كان يعتقد في كاهنة دلفي، وحتى بعد أن بلغ سقراط شيخوخته تراه ينصح صديقًا شابًّا أن يستشير أبولو قبل أن يشرع في حملة محفوفة بالمخاطر، وأثبت سوفوكليز صديق بركليز، الذي كان قائدًا وسياسيًّا وأمينًا على أموال الإمبراطورية، كما كان شاعرًا معروفًا، أثبت في مسرحياته أن كلمات أبولو لا بُدَّ أن تصدق، ومن الإثم أن يشك المرء فيها.
ولذا ذهب شيرفون إلى دلفي ليلقي هناك سؤاله، وسافر على ظهر سفينة من كورنث مع الحُجاج الآخرين، وربما سافر برًّا بالطريق الذي يتلوَّى خلال الممرات الجبلية المقفرة من بوتيا، وكان شابًّا سمع بالكاهنة منذ طفولته، ولما بلغ مطلع الجبل ووقعت عيناه على المكان المقدس لأول مرة تقطعت أنفاسه عجبًا، كانت دلفي، باستشرافها عالية في حضن الجبل الأجرد العاري، وهي ترن بأصداء أصوات الحجاج، مكانًا من اليسير أن تحس فيه بعظمة أبولو.
وحتى في ذلك الحين كان لا بُدَّ لشيرفون أن ينتظر أيامًا قبل أن يستطيع ولوج المعبد، وعلى كلِّ حاج أنْ يَمثُل أمام الإله في دوره الصحيح، وعليه أن يقدم سؤاله للكهان قبل موعد المثول بوقت طويل، وأخيرًا جاء دور شيرفون، وقدَّم الضحايا اللازمة ودخل خلال بهو الأعمدة الرخامية حتى بلغ الحرم المظلم حيث يقوم الحجر المقدس — مركز الأرض — إلى جوار مائدة أبولو المقدسة ذات القوائم الثلاث.
وألقى بسؤاله، وأجابت الكاهنة في صيحات بدت كأن لا معنى لها، إن أبولو كان يتكلم عن طريقها، غير أن الكهان وحدهم هم الذين يستطيعون الإدراك، ولما خرج في النهاية شيرفون إلى ضوء الشمس كان يحمل في يده الجواب الذي دوَّنه الكهان، وكان سؤاله: «هل هناك مَنْ هو أحكم من سقراط الأثيني؟» فكان الجواب: «ليس أحكم منه إنسان.» ولم تكن هذه الإجابة في غموض الألغاز — كما كان يحدث في أغلب الأحيان — وإنما كانت في عبارة واضحة لا لبس فيها، وأسرع إلى بلده يحمل هذا النبأ.
ولما عاد إلى أثينا وتحدَّث عما أجاب به أبولو، كان لكلِّ امرئ على الأمر تعليق، فقال التقاة خاشعين: إن كلمة الإله لا تؤخذ مأخذًا هينًا، وتحاشى أكثرهم بعد ذلك الحديث مع سقراط ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وزعم المتشككون أن الكاهنة لم تصدق دائمًا، فهناك تلك النبوءات المشئومة خلال الحرب الفارسية لا بُدَّ من تعليلها، ويبدو اليوم أن الإسبرطيين في حظوة عند دلفي، ومهما يكن من شيء فإن الكاهنة تمكن رشوتها، وليس الكهان إلا رجالًا.
أما سقراط فلم يتحدَّث إلا قليلًا، واعتقد أن هذه العناية الشخصية التي أخذ يظفر بها لم تكن البتة ما أراد أبولو، ولما سأله الناس قال: «لا بُدَّ أن يكون الإله قد اتخذ من اسمي مثالًا، وليس من شك في أن الكاهنة تعني أن الرجل يكون حكيمًا عندما يدرك جهل نفسه.»
قال سقراط: إن الكاهنة اتخذت اسمه مثالًا فحسب، ومع ذلك فإنها قد استخدمت اسمه، وأحس أن هناك رسالة سيقع عليه أداؤها، وكما بحث في طفولته عن معنى «للشارة المقدسة» فسر الآن رسالة الآلهة — دون أن يفخر بذلك أو يعتقد في خرافة — على أنها نداء للعمل طائعًا، وهذه الإجابة التي أتت علنًا دون سؤال منه — على مسمع من المدينة بأسرها — اتخذها سقراط دليلًا على أن عليه واجبًا عامًّا، وأن الآلهة قد بعثت به ليبحث وأخطرته بأن البحث لا يكون لنفسه فقط.
وهذا الإحساس بالقربى من الآلهة الذي جاء مع كاهنة أبولو قد يُفسِّر لنا الحدث الثاني الغريب الذي وقع في ذلك الحين.
التحق سقراط بالجيش مرة أخرى في حملة على الشمال لحصار بوتيديا، وفي هذه السنوات المتوسطة من حياته كانت هناك عدة حملات، وبدأ القواد أنفسهم يلحظون أنه كان جنديًّا بالغ الشجاعة، كما لحظ مرافقوه أنه لم يكترث قط ببرد أو جوع أو طول مسير، وإذا لزم غيره من الناس دورهم أو لفُّوا أقدامهم بالجلد والفلين فلقد ذهب بأقدام عارية وبزيه العادي لا يبالي إن كان صيفًا أو شتاءً، وفي هذه الحملة بالذات اتخذ مكانًا له في مقدمة الجيش؛ لكي يحمي صديقًا جريحًا مخاطرًا بحياته، والصديق هو ذلك الشاب الذي يُدْعَى إلقبيادس الذي لعب دورًا هامًّا جدًّا فيما بعد في حياة سقراط، ولكن تلك قصة أخرى، أما الأمر العجيب الذي حدث في ذلك الحين فلم تكن له صلة بالسير أو القتال أو حتى الأصدقاء، إنما حدث بين سقراط وبين عقله.
كان بالمعسكر ذات صباح في الصيف، وقد انقضى فصل الشتاء بما يتطلبه من عملٍ لتوفير الدفء والغذاء، وكان العدو ساكنًا، ولم يكن لدى أي فرد ما يعمله — اللهم إلا إن كان مكلفًا بحراسة — سوى النوم، أو التقاعد للحديث عن الوطن أو اللعب لقتل الوقت.
ولأول مرة لم يكن سقراط بين المتحدثين، وربما تساءلوا ما دهاه، غير أن أحدًا منهم لم يلحظ سببًا خاصًّا حتى قارب النهار أن ينتصف، عندئذٍ سَرَتْ بينهم إشاعة، وأخذ حشد من الجنود المتطلعين يتجمع حول خيمته، وكان سقراط واقفًا هناك كما كان منذ الفجر بشهادة الناس، قدماه العاريتان ثابتتان في الأرض، ورداؤه مدلى على كتفه في استرخاء، وعلى وجهه القبيح نظرة ساكنة بعيدة، كأن نفسه كلها قد تركَّزت فيما كان يفكر فيه.
ولجأ الجند إلى مختلف الحيل لكي يجتذبوا التفاته، فجذبوا رداءه ونادوه باسمه، بَيْدَ أنه لم يتحرَّك أو يتنبه، وبعد فترة من الزمن ملوا انتظار شيء يحدث وتشتتت كثرتهم، وبقيت قلة طيلة العصر قابعة ترقب في انتظار سقراط أن يتنبه.
وكان سقراط في ذلك الحين معروفًا لأكثر الأثينيين، وربما شهدوه من قبل مغرقًا في التفكير كما يفعل الآن، وإن لم يمتد به التفكير إلى هذا المدى الطويل، وكانت تلك ناحية من غرابة أطواره التي ألفوها، بيد أن إغريق الجزر الملتحقين بالجيش كانوا شديدي الاهتمام، وبعد العشاء أخرج بعضهم حصير نومهم وافترشوه قريبًا من موقفه كي يقضوا ليلتهم هناك.
وكانت ليلة هادئة، وبزغت النجوم وأخذت تنتشر تدريجًا في السماء، وأخذت الأصوات المضطربة في المعسكر تتلاشى شيئًا فشيئًا، وشهد المراقبون سقراط كأنه شبح مظلم ساكن، كأنه صخرة أو جذع شجرة يفصل بينهم وبين نجوم السماء، وأخذ الكرى بمعاقد أجفانهم، واستغرقوا في النوم، بينما لبث سقراط واقفًا يفكر طول الليل حتى تساقط الندى وتنفَّس الصباح.
ولما أشرقت الشمس اهتز سقراط، ورأت القلة التي كانت إلى جواره متيقظة ترقبه أنه التفت صوب الشرق، وقد رفع يديه نحو الشمس في صلاة ودعاء، ثم انطلق من مكانه كي يقضي يومه كما اعتاد.
فيم كان يفكر سقراط؟ لم يكن لأحد علم بذلك؛ لأنه لم يخبر به أحدًا، وبعد ذلك بفترة طويلة لوحظ أن سقراط كلَّما تحدث عن حياته كرسالة كلفته بها الآلهة، حلا له أن يقارن نفسه بالجندي الخاضع لأمر قائده، وربما تم وثوق سقراط من رسالته بينما كان في خدمة الجيش، أو خلال هذا اليوم وتلك الليلة اللذين قضاهما في تفكير هادئ، وربما أحس القربى من الآلهة خاصة في تلك اللحظة التي كان من الطبيعي له فيها أن يؤدي صلاته عند يقظته.
ولم يَعْتد الأثينيون أن يؤدوا الصلوات في أوقات معينة أو يقدموا التضحيات للشمس، وليس هناك ما يدل على أن سقراط قد فعل ذلك، ولكنا نعلم أنه كان يمقت ظلام الجهل كما كان يحب إدراك الخير إدراكًا واضحًا جليًّا، ولما حاول تلميذه أفلاطون، الذي لم يولد بعد حتى ذلك الحين، ولكنه عرف سقراط فيما بعد أكثر مما عرفه أي من أصدقائه الآخرين، لما حاول أفلاطون أن يصور فكرة الخير التي أحبها سقراط وبحث عنها، استخدم لذلك صورة الشمس.
وقد تحدثنا صورة أفلاطون عن سقراط أكثر من أيِّ شيءٍ آخر نستطيع أن نتخيله لأنفسنا.
قال أفلاطون: تخيل كائنات بشرية تعيش في كهف تحت الأرض، وقد عاشت هناك مكبلة في السلاسل محجوبة في الظلام منذ طفولتها، لا تعرف من الضوء إلا ضياء النار الذي يلقي على الجدار الذي يقابلهم ظلالًا متحركة، تنفق كل أيامها في مراقبة الظلال، تلاحظ ماذا تشبه وكيف تتحرك، وأبرعها في الحكم على الظلال وفي الحدس أكثرها نيلًا للإعجاب.
ولنفرض أن واحدًا من هؤلاء السجناء قد تحرَّر بطريقة ما وتسلل خارج الكهف وشهد ضوء الشمس، لا شك في أن الضوء المفاجئ يُعشي بصره، ولربما بدت له الحقائق التي يراها حوله أول الأمر أقل صحة من الظلال التي ألف رؤيتها وكلما اعتادت عيناه ضوء الشمس تدريجًا استطاع أن يتلفت حواليه، إنه ينظر إلى صور الرجال في الماء، ثم إلى الرجال أنفسهم، وإلى القمر والنجوم، وأخيرًا ينظر إلى الشمس واهبة الحياة والضياء، إنه لا يخشى الضوء بعد ذلك وإنما يعشقه، ولا تبدو له الآن حياة الجهل في الكهف حياة خير.
ماذا يحدث للرجل المتحرر لو عاد إلى الكهف مع السجناء، إن عينيه سوف تظلان مفعمتين بالضياء، ولن يكون حكمًا طيبًا على الظلال، وسوف يضحك منه السجناء، سوف يقولون: إنه خرج مبصرًا وعاد كفيفًا، سوف يقولون: إن من الواضح أنه خير للمرء ألا يخرج من الكهف، وسوف يقررون أن كلَّ مَنْ يحاول أن يطلق سجينًا ويقوده إلى الضياء يجب أن يُعْدَمَ، أما الرجل الذي شاهد الشمس، فلو أنه دافع عن نفسه في ساحة القضاء أو في أيِّ مكان آخر؛ لكان عمله أمرًا غريبًا وداعيًا للضحك والسخرية؛ لأنه — برغم امتلاء عينيه بالضياء — إنما يتعامل مع الذين لا يعرفون سوى الظلال.
ولما رسم أفلاطون هذه الصورة عن الشمس والكهف، لم يذكر صراحة أنه عَنَى سقراط بالرجل الذي شهد الشمس، ولم يقل سقراط نفسه إلا أنه كان يبحث عن المعرفة الحقيقية للخير، ولم يقل: إنه وجدها، وما نعرفه على وجه التحقيق هو أن أصدقاء سقراط — شيرفون وأفلاطون وكثيرون غيرهما — قد أحسوا أنه كان أكثر تحررًا من ظلام الكهف من أيِّ رجل آخر عرفوه، وأنه كان أقدر على تحرير غيره من أي فردٍ آخر، وربما كان ذلك النهار وتلك الليلة التي أطال فيها الوقوف متأملًا ومفكرًا، هو الوقت الذي شهد فيه الشمس بأجلى وضوح: شمس الخير التي كانت بالنسبة إليه وثيقة الصلة بالآلهة.
ونستطيع أن نتصور أن سقراط بعد عودته من حملة الشمال بفترة ما قد أدخل في حياته التحول الذي ظلَّ يُفكر فيه سنوات طوالًا، فقد كفَّ عن عمله كنحات، ومن الطبيعي أن تنزعج زوجته زانثب، وقد أرغت في ذلك وأزبدت لجيرانها، ولم يكن موقف سقراط مما يدعو إلى اليأس، إذ كان لديه ما أمهرته به زوجته عند قرانها به، كما خلَّف له أبواه البيت الذي يقطنه ومبلغًا يسيرًا من المال، وقد حول سقراط هذا المبلغ إلى أقريطون يستغله له، فاستطاع أن يعيش على دخله عيشًا بسيطًا، غير أن زانثب اعتقدت أن العيش كان يمكن أن يكون أرغد وأكثر ضمانًا لو أن زوجها كان بطبيعته عاقلًا كغيره من الناس.
وقد لحظ أقريطون شيئًا آخر دفع سقراط إلى التفكير، وكان أطول معرفة به من زانثب، كان سقراط يتأهب لنوع من أنواع النضال، ولم يكن في ذلك شك، وكان أقريطون في زمانه رياضيًّا، يلمح الدلائل على ذلك، فإن التدريب الذي أخذ سقراط به نفسه قد أثر على مأكله ومشربه ومضجعه، وكما أن العدَّاء يرسم حياته بحيث لا تتدخل هذه الأمور في حذقه العَدْو، فكذلك كان الأمر مع سقراط، فقد تحاشى النوم الثقيل الذي يعقب الإكثار من الطعام، كما تحاشى النشوة النزقة التي تُصاحب الشراب.
ومع ذلك فمن الواضح أن نضاله لم يكن من النوع المألوف، وإن كنت تستطيع أن تلقى سقراط في الملعب في عصر أيِّ يوم من الأيام، إلا أنك تلقاه مُتحدِّثًا، ولا تلقاه عاديًا أو مصارعًا، وكان دائمًا يحب الحديث، ولكنه الآن يتابع حديثه جادًّا كما يتابع غيره من الناس أعمالهم، فيخرج من بيته عند شروق الشمس، ويقضي النهار في السوق أو الملعب، فما معنى كل هذا؟
وسُرَّ أقريطون لحقيقة لمسها آنذاك، وتلك هي أنه مهما حدث لسقراط الآن فإنه لم يُصَبْ بأي ضرر فلا زال يدرك النكتة كما كان، ولم يداخله الغرور، ولو كان هناك خطر من ذلك في أيام حياته العلمية، فقد قضى عليه الآن، واشتد إخلاصه لأصدقائه عن ذي قبل، وكان زميلًا طيبًا، وقلَّما تشهد فيه ذلك الغضب المفاجئ الجامح الذي كان ينفجر به فيما مضى من الزمان، وكذلك تخلص من بعض ما كان يساوره من قلق، وفي الحق لقد بدا لأقريطون أن سقراط تحل به أحيانًا طمأنينة عجيبة، وكأنه من بين الأثينيين جميعًا يعرف إلى أين يسير، وقد أعدَّ نفسه وتأهب للرحيل.