ألقبيادس
لو استثنينا أفلاطون الذي جاء إلى سقراط متأخرًا كان أشهر أصدقائه ألقبيادس، حارس بركليز ومدلل أثينا العجيب إلى أهلها، ولم يخبرنا أحد كيف تقابلا أو ماذا قال أحدهما للآخر، ولكنا نستطيع الحدس مما نعرفه عن كليهما.
ويجب أن نعود بضع سنوات إلى الوقت الذي كان سقراط فيه في أوائل عقده الرابع، لا يزال مشتغلًا بالنحت في الأغلب، ولكن عقله قد أخذ يتنبه إلى بحوثه، وكان معبد أثينا أو البارثنون يسير في البناء منذ عشر سنوات، وكان الإفريز الطويل بما يحمل من جياد وثابة وآلهة متعالية حديث عهد بالنحت حول سور المعبد، وتمثال الآلهة الذهبي العاجي يقف بالداخل وقد تمَّ تدشينه من قبل، ولم يبق ناقصًا سوى أطراف السقف الهرمي، وأعمال النحت الحجري الدقيق كانت تنتظر أيدي أكبر النحاتين في المدينة، وقد انتقل النحاتون من أمثال سقراط من قبل إلى العمل ببوابة الأكروبول الرسمية إلى بروبيليا، التي بدأ بناؤها منذ وقت قريب عند حافة التل الغربية.
وقد أَلِفَت يد سقراط الآن المطرقة والأزميل، فكان يستطيع — وهو يؤدي عمله — أن يرقب ضجيج البناء الجديد كله، جماعات الرقيق وهي ترفع الكتب الرخامية، والنجارين وهم يقيمون الهياكل الخشبية، والنحاتين وهم منكبُّون على الرصف أو التأسيس، فتمكن من رؤية صبي يتسلق منحدرًا حادًّا، يتلمس طريقه وسط جماعات العمال، متجاهلًا — لسبب عرفه سقراط فيما بعد — عبدًا كان يتبعه على مسافة كبيرة منه، وكان للصبي وجه صبوح، يسير وكأنه يعلم أن الناس يَشْخَصُون بأبصارهم إليه، وقد تقدَّم إلى سقراط ونظر إليه فاحصًا دون اضطراب.
قال الصبي: «أهلًا.»
وأجابه سقراط في أدب: «أهلًا وسهلًا» ثم استمر في عمله، وحاول الصبي مرة أخرى.
وقال وعلى فمه ابتسامة حلوة أشرقت على وجهه كله: «أنت تعرف من أنا، أليس كذلك؟ أنا ألقبيادس.»
وأومأ سقراط برأسه ثم تناول أزميلًا آخر.
وواصل الصبي حديثه قائلًا: «أنت سقراط الحكيم أليس كذلك؟ كان بركليز يتحدث عنك في الليلة الماضية، وليس مفروضًا أن أمثل هنا ساعة الغداء بطبيعة الحال، ولكن ها أنا ذا قد أتيت، إنهم لا يستطيعون الوقوف في سبيلي إن أنا أردت ذلك.» وكف عن الكلام فجأة، ثم تناول حجرًا، وشَخَصَ سقراط ببصره إلى أعلى، واستمع إلى عويل، ثم رأى رأس شيخ تختفي خلف كتلة من المرمر، إذ إن الحجر قد أصابه في أذنه.
ووضح ألقبيادس الموقف مسرورًا، وقال: «هذا زوبيرس إنه من عبيدي، وقد اختاره بركليز ليكون مربيًا لي ولكي يتابعني حيثما ذهبت، ولست أريد أن يتابعني أحد من العبيد.»
وسأله سقراط في شغف إلى المعرفة: «وكيف عرفت أنه من العبيد؟»
فنظر إليه ألقبيادس في دهشة وقال: «لأن بركليز أعطاه إياي، إنه يفعل ما آمره به أو ما يأمره به بركليز، وهو لا يستطيع أن يقوم بالعمل الذي يريده لنفسه.»
وتلفَّت سقراط وجابه ألقبيادس لأول مرة وقال: «وإذن فكيف تعرف «أنك» لست عبدًا؟» أما زوبيرس فقد قبع في مخبئه وكادت أنفاسه أن تتقطع، ولسببٍ ما لم ينفجر ألقبيادس غاضبًا، وحدَّق في سقراط وقال متثاقلًا:
«إنك تعرف أنني ابن كلينياس ودينوماك، وقد فاز عم أبي بجائزة الشجاعة في القتال البحري ضد الفرس، ومات أبي وهو يقود رجاله عند كورنيا، وأمي ابنة عم بركليز، وأنا أقيم في بيت بركليز، فكيف أكون عبدًا؟ ولكنك لم تقصد ذلك.»
قال سقراط: «كلا، لم أقصد ذلك.»
وفكَّر ألقبيادس برهة ثم قال: «أنت تعني أن العبد هو من لا يستطيع أن يفعل ما يريد، وأنت تسألني إن كنت عبدًا بهذا المعنى؟»
فأومأ سقراط برأسه.
فضحك ألقبيادس وقال: «ذلك أمر هين، لقد شهدتني أضرب زوبيرس، إني أفعل ذلك كلما أردت، وإني أقوم بكلِّ ما أريد في أي وقت، ولا أقوم بشيء غير ما أريد.»
قال سقراط: «إني لأعجب.»
وأجاب ألقبيادس: «نعم، هذا عين الحق، سل زوبيرس إني أحيانًا أعتقد أني أكثر الناس حرية في أثينا، إذ إن بركليز نفسه عليه أن يتلقَّى الأمر من المجلس، ولكني أفعل ما أشاء، كنت أعلم كلينياس — وهو أخي كما تعرف — أن يفعل كذلك ما يشاء عندما أبعدوه، وقال بركليز: إن لي على كلينياس أثرًا سيئًا، ولكني لا أعتقد ذلك، إنما كنت أعلمه كيف يعيش، ولما ابتعد دبرت إضرابًا ناجحًا جدًّا ضد دروس المزمار في المدرسة، وربما ترامى إليك ذلك، وأخيرًا استسلم لي المعلمون، أجل، إني لأعمل ما أشاء.»
ولم يَبْدُ على سقراط أنه تأثر بما سمع، وعاد إلى عمله قليلًا، ثم قال: إني لأعجب إذا كنت تفعل ما تريد «حقًّا» يا ألقبيادس، خذ مثلًا هذا الأمر اليسير، أمر إلقاء الحجارة، هب أني ذهبت إلى بركليز وقلت له: «إن ألقبيادس لا يريد يا بركليز أن يكون في الفرسان، كما رسم ورسمت معه، إنه يحب أن يخدم مع الفرق الأجنبية ويستعمل المقلاع؛ لأن إلقاء الحجارة هو ما يحب أن يقوم به، فهل توافقني لو أنا قلت له ذلك؟»
فقال ألقبيادس: «بالطبع لا أوافقك، إنني لا أريد أن ألقي الحجارة فحسب، إنني ألقي الحجارة على زوبيرس؛ لأنني أريد شيئًا آخر، أريد أن أظهر لزوبيرس أنني خير منه.»
فردَّ سقراط قائلًا: «فهمت، ولكن فيم تفضله؟»
ولم يفهم ألقبيادس ما أراد سقراط.
فقال سقراط: «دعني أقدم إليك بعض الأمثلة، ألسنا نقول: إن صانعًا من صناع الأحذية يفضل الآخر؟»
– «أجل.»
– «فيم يُفضله؟»
– «في صناعة الأحذية بالتأكيد.»
– «وإن ملاحًا يُفضِّل الآخر في توجيه السفينة، وإن خبازًا يُفضِّل الآخر في عمل الخبز.»
قال ألقبيادس: «بالتأكيد، ولكن ما شأن ذلك بي؛ لست خبازًا.»
واستمرَّ سقراط يقول: «وإن رامي حجارة يفضل الآخر في رمي الحجارة، ولكنك بالتأكيد لا تعني أن تقول: إنك تتبارى مع زوبيرس في رمي الحجارة، وإنك تريد أن تدل على أنك خير منه في إلقاء الحجارة!»
فأجاب ألقبيادس وقد ضرب الأرض بقدميه: «إنك تعرف حق المعرفة أنني لا أعني يا سقراط بلفظة «أفضل» الأفضلية في عمل الخبز أو صناعة الأحذية أو أية مهنة من مهن الرقيق، بل ولا أعني الأفضلية في إلقاء الحجارة، إنما أعني أنني أفضله كرجل ولا شك!»
وأشرق وجه سقراط القبيح كأنه عثر على كنز غير منظور، وألقى مطرقته ومدَّ يده وقال في صيغة الجد:
«ينبغي لي ولك يا ألقبيادس يا ابن كلينياس أن نكون أصدقاء، إن الخير الذي يجعل الرجل أفضل من غيره «كرجل» هو ما يريده كلانا، وإن أنت وافقتني — ورغبت في ذلك — بحثنا معًا عنه حتى نلقاه»، ثم عاد إلى عمله، وافترَّ ثغره عن ابتسامة ماكرة تجعدت منها أركان عينيه وقال: «أشك في أننا سوف نجده بإلقاء الحجارة!»
ولما رأى الناس ألقبيادس يطوف مع سقراط بعد هذا — يتبعه في الملعب، ويدعوه للغداء — ضحكوا وقالوا: إن ألقبيادس يتعلم طريقة جديدة يظهر بها نفسه، وحسبوا أن التلاعب بالسؤال والجواب لن يلبث معه طويلًا، ولكنهم أخطئوا فيما حسبوا.
وكان ألقبيادس يقصد سقراط لأول الأمر؛ لأنه كان شغوفًا بالمعرفة، ثم انصرف عنه ليحاكيه، وحاكاه في النظرة الجانبية من العينين الجاحظتين وفي مشية البجعة وفي الحديث عن الخبازين والملَّاحين وصانعي الأحذية، واختنق أصحابه من الضحك وقالوا: إن ألقبيادس لم يكن من قبل أكثر من ذلك مدعاة للسخرية، غير أن شيئًا آخر بدأ يحدث لألقبيادس منذ ذلك اللقاء الأول، شيئًا لم يتوقعه، ولم يكن يدركه في ذلك لحين.
إن ألقبيادس لم يتخلف في أمر من الأمور قط في حياته: منذ طفولته حينما فقد أباه وتعلم أن يكيف حياته بغير بيت حقيقي، ومهما حدث — إذا لم يكن ألقبيادس هو البادئ فيه — كان يعرف كيف يشق طريقه ويأخذ مكان الصدارة فيه، كان غنيًّا وكان أنيقًا ومحببًا إلى الناس، وكان يهمه أن يكون أكثر من يتحدث الناس عنه في المدينة من الشبان، وظنَّ أنه يعرف كل ما يستحق المعرفة، وأنه يعمل كل ما يستحق العمل حتى التقى بسقراط.
وكان عند سقراط سر من الأسرار، وأحس ذلك ألقبيادس منذ البداية، وشرع في الكشف عنه، وكأن سقراط كان يعيش في مدينة أخرى، كل ما يملك ألقبيادس وكل ما يقيم له وزنًا لا يساوي فيها شيئًا، وكان سقراط يطوف بشوارع أثينا، يحيا حياتها في عزم وقوة كما يحياها أي إنسان، يتفكه ويداعب ويستمتع، ويتعرف إلى اسم كل مَنْ فيها، شغوفًا بكل أخبارها وأبنائها، في حين أنه كان خلال ذلك كله يسكن مدينته الأخرى.
ولما تحدَّث ألقبيادس إلى سقراط رأى في المدينة التي كان يعيش فيها الرجل لمحات غريبة أخاذة أوضح مما رأى غيره من الناس، كان المرء في مدينة سقراط حرًّا، كان حرًّا بمعنى جديد لم يدركه ألقبيادس من قبل، كان حرًّا في أن يعمل كل شيء في اتجاه واحد واضح، لا تتجاذبه مئات الاتجاهات من الدوافع والمخاوف والمكاره، وكأنها مائة أستاذ مختف يجذبونه في هذه الناحية وفي تلك، وبمقياس مدينة سقراط وجد ألقبيادس نفسه عبدًا.
كل شيءٍ آخر كان مقلوب الوضع في مدينة سقراط، وربما كانت مدينة سقراط صحيحة الوضع، وغيرها من مدائن الناس مقلوبًا، وما أَلِفَ ألقبيادس أن يلقى في أثينا من استحسان وإعجاب، يحسهما على كتفيه كالرداء الأرجواني، انكمش حتى تلاشى في الجو الثاقب الذي كان يسود مدينة سقراط، وحتى جسم الرياضي لم يشاهد هناك، ووقف ألقبيادس في روح عارية ضعيفة صغيرة عندما نظر إليه سقراط وأحس بالبرودة؛ لأن المواطنين في مدينة سقراط كانوا يرتدون ثيابًا أخرى كالحق والاستقامة، لا تقليد الحق والاستقامة الذي كان يسود أثينا، ذلك الثوب الكئيب الضيق الذي يخجل المرء أن يرتديه أمام الجمهور، وللحق والاستقامة في مدينة سقراط كل ما للشر في مدائن الناس الأخرى من قوة وحرية.
وكم كان ألقبيادس يود أن ينتمي إلى مدينة سقراط، وكان يعرف أن سقراط يسره أن ينضم إليه، إلا أنه كانت عليه ضريبة لا بُدَّ أن يؤديها قبل أن يدخل المدينة، وكان في ذلك برهان آخر على غرابة المدينة، فلقد كان ألقبيادس غنيًّا، وكان سقراط فقيرًا، ومع ذلك فإن ضريبة الدخول في مدينة سقراط كادت أن تربو على ما يستطيع ألقبيادس أن يؤديه، وأسوأ من ذلك أنه بدا لألقبيادس كأن الإقامة في المدينة تقتضيه أن يدفع الثمن عدة مرات حتى يصبح بالنسبة إليه لا شيء كما هو لسقراط.
وقلَّ في أثينا مَنْ كان يدرك شيئًا مما كان يجري بين سقراط وألقبيادس، وما كان يجري بين ألقبيادس ونفسه، إنهم كانوا يلمسون ما كان يحدث في الظاهر تمامًا، يشهدونهما متلازمين في أغلب الأحيان حتى باتت صداقتهما الوثيقة حديث العامة، ثم أصبحت أمرًا مألوفًا، كما كانوا يشهدون ألقبيادس في الوقت ذاته يتطور من طفل مدلل إلى شاب مندفع خطر، وقد أُعْجِبوا بذكاء ألقبيادس في ذلك الحين ودللوه من أجلها، وحمَّلوا سقراط فيما بعد تبعة الضرر.
تلك كانت أعنف ما عقد سقراط من صداقات وأكثرها إثارة للمشاعر، وهي دليل على مقدار ما رأى في ألقبيادس من مكانة حتى آثر أن يتريث وأن يصبر، فإن ألقبيادس سوف يتبع سقراط في لحظة من اللحظات كما يتبعه الكلب المربوط بالحبال، وفي لحظة أخرى سوف ينطلق في مغامرة وحشية فينطق أثينا كلها بالكلام، وكان سقراط ومدينته في ذهنه شيئًا واحدًا، فإذا فرَّ من أحدهما فر من الآخر.
وأذكر على سبيل المثال أنه ذاع بين الناس ذات يوم أن ألقبيادس قد سار نحو هبونكس — ذلك الرجل الصلب الواسع الثراء، الذي تزوَّج من ابنته فيما بعد — وصفعه على وجهه، أتدرون لماذا؟ «أوه، إنكم تعرفون ألقبيادس، ربما كان رهانًا أو كان مزاحًا!» وذاعت عنه في اليوم التالي قصة أخرى أشد من ذلك رعبًا، فلقد تقدم ألقبيادس بالاعتذار فعلًا.
وعفا عنه هبونكس بطبيعة الحال، وكان الناس دائمًا يعفون عن ألقبيادس بقلوبهم، وإن كانوا قد تعلموا ألا يثقوا فيه بعقولهم، وعفا عنه أيضًا صديق آخر من أصدقائه يُدْعَى أنتيس، وذلك عندما سطا ألقبيادس على منزله وانتشل نصف ما أعده أنيتس لحفل من الأطباق الموشاة بالذهب والفضة، وقال أنيتس لضيوفه: «نستطيع أن نشكره؛ لأنه ترك لنا نصف الأطباق.»
وظنَّ الناس أن هذه قصة مثيرة سارة، وأرادوا أن يعرفوا كيف أغلق على المصور أجاثاركس بيته حتى غطَّى جدران البيت كلها بالصور، وكيف حمل زوجه على كتفه وعاد بها إلى بيته، وذلك عندما ذهبت إلى المحكمة تطلب الطلاق منه كما استحق، وربما كان سقراط وحده في المدينة كلها هو الرجل الذي راقب ألقبيادس دون أدنى إعجاب خاص بخروجه على القانون، وكان ذلك مما يدعو إلى الحسرة؛ لأن ألقبيادس كان سريع الإدراك لما يعجب به الناس، سريع الأداء له، ولو أن أحدًا غير ألقبيادس نفسه كان يحمل وزر الضرر فيما بعد، فذلكم هم أهل أثينا الذين ظنوا أن شيئًا من فعل الشر يثير المشاعر ويجذب الأنظار.
ولما صحب ألقبيادس سقراط استطاع أن يقوم بعمل غير هذا، وقد قضيا خير أوقاتهما في حملة بوتديا، وكان ذلك أول عهد ألقبيادس بالقتال، وقد أذهل أصدقاءه بخدمته في سلاح المشاة، إذ إن كل الشباب من طبقته وثرائه كانت لهم الجياد، وتدرَّبوا لسلاح الفرسان بطبيعة الحال، وقد صار ألقبيادس نفسه من ضباط الفرسان فيما بعد، ولكنه الآن كان يخدم في المشاة ويقاسم سقراط خيمته، والظاهر أنه تخلى عن كبريائه لكي يصحب زميله.
وفي هذه الحملة رفع ألقبيادس سمعته كجندي، وقد وقع عليه الاختيار من بين صفوف الجيش كله لكي يتسلم جائزة الشجاعة، ولو أنه أصر على أنها من حق سقراط الذي وقف إلى جواره وأنقذه عندما أصيب بالجراح، وكانت الجائزة شرفًا عظيمًا، وكانت أثينا لا تزال تذكر قريبًا له لشيء مثل هذا يعود إلى حروب الفرس، ومما زاد من دهشة الناس الذين عرفوا ألقبيادس في وطنه الطريقة التي سلكها في الخضوع لنظم الجيش، فقد كان يسير ويجوع ويُقاسي زمهرير البرد ويقف في حراسته كغيره من الجند، دون أن يكون في ذلك متكلفًا ودون أن يتوقع الجزاء، وربما كان يعرف ما يدعو إلى الإعجاب في الجيش، أو ربما استطاع أن يأخذ نفسه بالطاعة بمعونة سقراط.
وهكذا قضى ألقبيادس وسقراط عامهما معًا، وكان ذلك هو الوقت الذي توثقت بينهما فيه الصداقة إلى أقصى حدودها، ولما تصرَّم العام عادا إلى أثينا، حيث يمارس سقراط عمله العام مطيعًا في ذلك ربه، وحيث يرتد ألقبيادس إلى السياسة، وبرغم سمعة ألقبيادس الطيبة في الجيش، فإن الفارق بينهما الآن أمسى أكبر من أيِّ عهد مضى، ولما عاد ألقبيادس إلى السياسة بدأ يتأكد بينه وبين نفسه مما كان يتوقعه طوال الوقت الماضي، وذلك أنه لن ينتسب إلى مدينة سقراط، غير أنه ما لبث يحبها كلما أدركها خلال صديقه، أما عن نفسه فإنه في الواقع لم يرد أن يدفع الثمن.
وبعد نحو خمسة عشر عامًا — كما يحدثنا أفلاطون — أقيم في أثينا بمنزل الشاعر أجاثون حفل عشاء كبير، وكان أجاثون قد ظفر من عهد قريب بجائزة على أولى مسرحياته، وأقام العشاء احتفالًا بفوزه، وكان الحافلون من الممتازين، من بينهم: أرستوفان كاتب المسرحيات الهزلية، وأرستوديمس صديق سقراط، الذي روى القصة فيما بعد وسقراط ذاته، ولم يدع للحفل ألقبيادس، وكان قائدًا في الجيش وسياسيًّا متزعمًا، ولم يكن عنده أقل من سبع مجموعات من خيل السباق، كل مجموعة منها تتألف من أربعة جياد، يدربها للألعاب الأولمبية القادمة، غير أنه تحاشى الالتقاء بسقراط.
ولم يغن الضيوف أو يلعبوا أو يشهدوا العبيد في تمثيلهم بعد حفل العشاء عند أجاثون، كما لو فعلوا في منزل آخر، إنما كانت تلك وليمة لرجال الأدب والمفكرين، فانصرف لاعبو المزامير ودار بين المجتمعين حديث رفيع، وكان الحب موضوع المساء، وألقى كلٌّ منهم حديثه بشأنه، فكهًا كان أو علميًّا أو شاعريًّا وفقًا لمهنته وأسلوبه في التفكير.
ولم يكد سقراط ينتهي من حديثه عن الحب كما عرفه — الحب بين الأصدقاء الذي يؤدي كدرجات السلم إلى نظرات جديدة في الخير — حتى سمع فجأة صوت المزامير وقرع شديد على الباب، وبعث أجاثون بالعبيد للاستطلاع، وبعد برهة كان صوت ألقبيادس مسموعًا في الفناء، وكان ثملًا جدًّا وأخذ يصيح قائلًا: «أين أجاثون؟ خذوني إليه!» وأخيرًا تمكن من التماس الطريق إلى الداخل ومعه فتاة تعزف على المزمار وبعض الرفاق يساندونه.
وكان قادمًا لتوِّه من حفل آخر، ودخل مدخلًا بارعًا، حيث ظهر عند الباب متأبطًا الفتاة العازفة على المزمار، ويتحوطه رجاله جميعًا، ورأسه مُتوَّج بإكليل ضخم من اللبلاب وزهر البنفسج والشرطان.
وقال: «عموا مساءً أيها الخلَّان، هلا سمحتم لرجل ثمل جدًّا أن ينضم إلى حفلكم؟ أم هل أكتفي بتتويج أجاثون بهذه الأشرطة كما اعتزمت ثم أنصرف؟»
وصاح الضيوف جميعًا يطلبون إليه البقاء، وقد سُرَّ أجاثون لدعوته، فقاده رجاله إلى الداخل وأجلسوه بين أجاثون وسقراط.
وصاح أجاثون بخدمه قائلًا لهم: «اخلعوا نعليه، وأريحوه هنا فوق الأريكة بيننا.»
ورد ألقبيادس قائلًا: «أجل، حقًّا، ولكن مَنْ هذا الرجل الآخر؟» وقد شغله تتويج أجاثون بالأشرطة عن الملاحظة، ولما تلفت ووقعت عيناه على سقراط هب مذعورًا.
وقال: «أسقراط هنا وحق هرقل! إنها حيلته القديمة، يرقد في انتظاري في مكان هو أبعد ما أتوقع وجوده فيه، أعد إليَّ بعض أشرطتك يا أجاثون، يجب أن أتوج هذا الرأس العجيب لهذا الرجل، الذي لم ينتصر مرة — كما أنتم الآن — وإنما هو في نصر دائم.» ونزع بعض الأشرطة من رأس أجاثون ووضعها في وقار على رأس سقراط.
وواصل حديثه قائلًا: «كنتم أيها القوم تتبادلون الحديث في الثناء على الحب، وأنا ثمل إلى حد لا يمكنني من ذلك، ولكني أستطيع أن أثني على سقراط.»
وسأله سقراط قائلًا: «ماذا تحاول أن تفعل؟ أتهزأ بي؟»
وأجابه ألقبيادس متشاجرًا: «الزم الصمت، لن أثني على أحد آخر ما دمت في هذا المكان، وسوف أقول الصدق لو سمحت لي.»
فقال سقراط: «إنما الحق هو ما أريدك أن تقول.»
وأجاب ألقبيادس: «وإذن فلأبدأ، هل رأيتم تلك الأشكال الممسوخة، التي نصفها إنسان، ونصفها الآخر حيوان، التي تُباع في محلات التجارة؟ أقصد ذلك النوع الذي يُصْنَع على شكل صندوق؛ مسخ قبيح عجوز يضرب على المزمار من الخارج، وتماثيل جميلة صغيرة للآلهة من الداخل عندما تفتح الصندوق، إن سقراط شبيه بذلك، إلا أنه لا يحتاج إلى مزمار لكي يسحر العالم، ففي كلماته الكفاية.»
وقطَّب ألقبيادس جبينه وتكلم بجهد كأنه يحاول أن يجمع شتات أفكاره، ولم يكن متحدثًا طلق اللسان حتى في أحسن حالاته.
واستمرَّ يقول: «إني أحاول أن أكون في وعيي وأنا أذكر ذلك، ولو أني تكلمت كما أحب عما تفعله بي كلمات سقراط، قلتم: إني فاقد الوعي من الشراب، إن كلماته تثير فؤادي، وتدفعني إلى الرغبة في الصياح.
إنه إحساس عجيب، وقد كان بركليز خطيبًا مصقعًا، ولكنه لم يفعل بي مثل ذلك قط، لم يجعلني أسخط على نفسي لأني أعيش عيشة العبد، أو أخجل، أجل، أخجل! وهل تظنون أنني كنت أعرف ما الخجل؟ إن سقراط يجعلني أخجل، وهو وحده الذي استطاع ذلك.
إن ما يقوله حق بالطبع، ولا أستطيع إجابته، ولكنه لا يكاد يختفي عن ناظري حتى يغلبني حب الثناء؛ ولذا فإني أفر وأهرب، وعندما أراه مرة أخرى أشعر بالخجل كما ترونني هذا المساء، كم وددت لو مات، ومع ذلك فلو أنه مات لازددت بؤسًا، لست أدري ماذا أفعل بهذا الرجل.»
واستلقى ألقبيادس على الأريكة بين سقراط وأجاثون، يتفوه بألفاظ ما كان ليتفوه بها نهارًا، وعيناه بالدمع مبتلتان، ويتدلى على جبهته في سخف شديد إكليل ثقيل من اللبلاب والبنفسج، وأخذ يتحدث كيف اقتفى أثر سقراط كي يتعلم سره، وعن العام الذي قضياه معًا في بوتديا، ولكنه كان يعود دائمًا إلى القوة العجيبة التي كانت تكمن في كلمات سقراط.
ثم قال: «إن كلماته قبيحة كذلك مثل الصندوق الممسوخ، هي كلمات عن الحدادين وصانعي الأحذية والصباغين، حتى إن الرجل الذي يجهلها قد يضحك منها، غير أنك لو فتحت الصندوق وجدت أنه ليست هناك كلمات أخرى لها معنى، إن كلماته مليئة بصور الخير، وهي كلمات ضخمة — ضخمة ضخامة الحياة بأسرها.»
وختم حديثه قائلًا: «والآن، هذا هو ثنائي على سقراط ولست وحدي الرجل الذي عانى من جرائه، خذ حذرك يا أجاثون وإلا وقعت أيضًا في حباله.»
وأعقب ذلك كثير من الضحك والدعابة، وبعد لحظة وجد بعض الماجنين في الطريق إلى الداخل، واضطرب نظام الوليمة وانحل عقدها، ولم يبق سوى سقراط مع أجاثون كاتب المآسي وأرستوفان كاتب المسرحيات الهزلية يتحدثون حتى مطلع الفجر، أما أرستوديمس الذي روى القصة فيما بعد فقد أخذته سنة من النوم خلال أكثرها، ولكنه ذكر أن سقراط قد أرغم الزميلين الآخرين على الاعتراف بأن المسرحية الهزلية والمأساة يتماثلان في أساسهما، وأن الشاعر التراجيدي يجب أن يكون شاعرًا كوميديًّا كذلك، ولم يستطيعا أن يتابعاه تمامًا؛ لأن رأسيهما أخذا يميلان، وأخيرًا استغرقا في النوم: أرستوفان أولًا، ثم أجاثون عند منبثق النهار، ثم نهض سقراط وهمَّ بالانصراف يتبعه أرستوديمس، وقصدا الملعب حيث اغتسل سقراط وقضى نهاره كما ألف، وفي المساء ذهب إلى بيته كي ينام في داره.
هذه هي نهاية قصة أفلاطون، وبعد عام اتهم ألقبيادس بمحاكاة «ألغاز اليوسس»، وهي أقدس الشعائر الدينية التي عرفها الأثينيون وأكثرها غموضًا، وقد أوشك ألقبيادس أن يفقد حياته من أجلها، كان يعمل كقائد حربي في صقلية في ذلك الحين، ولم يجرؤ أن يعود إلى الوطن ويقف أمام المحاكمة، وفرَّ إلى الأعداء، ولما وقع الجيش الأثيني في الفخ وهو يتقهقر في صقلية فيما بعد، وقتل ألوف الشبان من الأثينيين أو ماتوا في السجون، كان لنصح ألقبيادس الإسبرطيين شأن كبير بذلك، ولما تطلع الأثينيون من فوق أسوارهم لكي يشهدوا الغزاة الإسبرطيين وهم قادمون على ظهور الجياد من معسكرهم في حصن دسليا عند الحدود، عرفوا مرة أخرى أن على نصح ألقبيادس تعود اللائمة.
وعفا عنه الأثينيون كما كانوا يعفون عنه دائمًا، وقضى بعد ذلك أربعة أشهر في أثينا، ثم عاد إلى الخدمة في صفوف الأثينيين، وفاز ببعض الانتصارات الباهرة، غير أن كل تألقه تلاشى في النهاية؛ لأنه فقد ثقة القوم فيه، ولما هُزِمَ أسطوله في المعركة، ظن الأثينيون أنه تعمَّد الهزيمة.
ولذا قضى ألقبيادس نهاية الحرب منفيًّا في تراقية البربرية، وجلس على الشاطئ وشهد الأسطول الأثيني وهو يتحطم دون أن يستطيع حراكًا، ثم حاول أن يفرَّ للاحتماء في بلاد الفرس، وقُبِضَ عليه وقُتِلَ في الطريق، ومات دون صديق، ولم يخلف بعده شيئًا سوى قصة القدرات المضيعة.
كان عبدًا يمكن أن يتطور إلى رجل حر عظيم، لو اختار أن يكون حرًّا.