الدراما اليونانية
ولنضرب لذلك مثلًا: نفرض أنه أراد أن يتغنى باسم إلهه العظيم من ناحية أنه الحامي الرءوف بالضعفاء ومن لا صديق لهم. فلكي يصل إلى هذا الغرض يتخذ أسطورة من التقاليد الدينية لقومه، ولتكن مثلًا خرافة بنات الملك «دانوس» اللائي هربن حينما أجبرن على زواج أولاد عمهن، وارتمين في أحضان ملك «أرجيف» طالبات رحمته، وناشدت حمايته، فكان على قائد الفرقة أن يؤلف أغنية التيس وفقًا لهذا الموضوع واضعًا في أفواه المغنيات كلمات توسل وابتهال موجهة إلى ذلك الإله الحامي القوي الكريم. وعندما كانت هذه الأغنية تنشد وتتبعها الحركات الموافقة لموضوعها، فإنها كانت تُصَيِّر الفرقة إلى خمسين أختًا في صورة تمثل الحزن والاكتئاب، وبذلك تصبح الأنشودة البسيطة أغنية ممثلة.
ونلاحظ أنه ليس لأحد من هؤلاء الأشخاص الذين أضيفوا أي تأثير على النقطة الأساسية في إنتاج هذه التمثيلية، ونعني بذلك الخمسين بنتًا اللائي تتألف منهن الفرقة الغنائية التي تغني أنشودة التوسل المحزنة. ويقال: إن «إيسكلس» نفسه قد أضاف شخصين لتلك الفرقة، وإن «سوفوكليس» الكاتب التمثيلي الشهير الذي جاء بعد «إيسكلس» قد أضاف شخصًا ثالثًا، وذلك حسبما ذكره «داجونيز لارتيس» نقلًا عن «ثسبيس» الذي ذكرناه آنفًا.
غير أننا نلاحظ أن كل تمثيليات «إيسكلس» لا تحتوي على أقل من ثلاثة أشخاص، وفي معظم الأحيان تحتوي على خمسة أو ستة. فإذا أردنا إذن أن نؤمن بما ذكره ثسبيس فلا بد أن نعتبر الشخصيتين الزائدتين كانتا تمثلان أدوارًا مزدوجة؛ أعني أن الشخصية الواحدة تقوم بتمثيل دورين في الدراما.
فنرى مما سبق أن الأغنية البسيطة التي كانت تنشدها الفرقة الغنائية قد أصبحت «دراما غنائية»، وأن مديح الإله العام في تلك الأغنية قد أخذ الآن يقص علينا قصة معينة من تقاليد القوم المقدسة، وهي «الدراما». ولكن قد يتساءل الإنسان: لماذا تنقلب الأغنية التي كانت في أصلها تعبر عن الفرح والابتهاج والمرح وامتداح إله الخمر، إلى موضوع جدي خلقي عظيم، قد لا ينتمي أصلًا إلى تاريخ إله الخمر الذي كانت تنشد له الأغنية أول الأمر وتكتب للإشادة بصفاته؟
وتسمية هذه الدراما الغنائية مأساة (تراجدي) بمعنى الكلمة الحديث تسمية مضللة؛ لأنها وإن كانت في الواقع تحتوي على وقائع تثير الفزع وتبعث الشفقة، إلا أن نهاية القصة تكون دائمًا سارة للنفس منطوية على العدالة والطمأنينة والمؤاخاة وارتياح الضمير. يضاف إلى ذلك أن النقطتين الأساسيتين في الدراما الإغريقية قد بقيتا ثابتتين لم يطرأ عليهما أي تغيير: فنجد أن فرقة المغنين كانت من البداية إلى النهاية أهم وحدة في القصة، وأن الأغنية التي كان يتغنى بها كانت هي موضوع الجاذبية في التمثيلية؛ لذلك نجد أن أهم الكلمات وأكثرها تأثيرًا كانت توضع في أفواه فرقة المغنين، على حين أن الممثلين الآخرين كان وجودهم هناك ليجعل لكلمات الفرقة معنًى وليكمل الموضوع الدراماتيكي، وبعبارة أخرى نجد في الدراما الإغريقية نقيض ما نجده من الاصطلاحات والقواعد المرعية في الدراما الحديثة.
وإذا نظرنا إلى أغنية التيس في صورتها الأخيرة؛ أي «دراما غنائية» أو «أوبرا دينية»، رأيناها على طرفي نقيض مع الدراما الحديثة؛ ففي الدراما الإغريقية نجد أن مركز الجاذبية والاهتمام في القصة هو فرقة المغنين الذين كانوا يحتلون وسط المسرح وهو موضع اتجاه كل الأنظار. وكانوا في التمثيل الإغريقي يلبسون وجوهًا مستعارة ويحتذون أحذية سميكة ذات كعوب عالية لأجل أن يزيدوا في أطوالهم حتى يصلوا إلى طول الآلهة والأبطال كما كانوا يتوهمونهم، وبذلك لم يكونوا في حاجة إلى التعبير في تمثيلهم بحركات عضلات وجوههم والإشارة بها، وهو ما نسميه الآن في عرفنا بالتمثيل. يضاف إلى ذلك أن مسارحهم الفسيحة التي كانت تقام في الهواء الطلق ليمثلوا فيها كانت تحتم عليهم الغناء بأصوات عالية، وبذلك لا نجد فيها تلك الأغاني التي تهيئ جوًّا للموسيقى صالحًا لإظهار مختلف العواطف والمعاني بما يناسبه من الألحان والنغمات.
هذا إلى أن جعل الصدارة في التمثيلية لفرقة المغنين وظهورها باستمرار على المسرح، كان من الأسباب التي تعوق سير التمثيلية إلى الغرض الذي ترمي إليه، كما أن وضع الممثلين في المكان الثاني بالنسبة لفرقة المغنين كان من أكبر العوائق التي تحول بينهم وبين تمثيل حادثة من الحوادث الجسام على المسرح.
من أجل ذلك كانت كل الحوادث الخطيرة كالقتل والحرب وغيرهما توصف فقط على ألسنة فرقة المغنين بدلًا من أن يمثلها في حقيقتها أمام الجمهور أشخاص يجيدون أداءها على المسرح. وذلك كما قلت يناقض كل المناقضة ما نراه في مصطلحات المسرح الحديث وقواعده حيث نجد أن نقطة الجاذبية في الدراما الأشخاص الذين يمثلون فيها. أما فرقة المغنين فلا تأتي إلا في مناسبات خاصة لأجل أن تهيئ جوًّا مناسبًا لما يقوم به بطل الممثلين في القصة.
وقصارى القول أن «التراجدي» اليونانية كانت في عصرها والجو الذي نشأت فيه حلوة لذيذة يتذوقها القوم وتحرك مشاعرهم رغم ما نرى نحن فيها من النقائص؛ فلو قسنا «تراجدي» كتبها «شكسبير» أو غيره من عظماء كتاب الدراما في العصر الحديث ومثلت بمهارة بإحدى درامات كتاب الإغريق مثل «إيسكلس» أو «سوفوكليس» أو «يوروبيديز»، وهم أساطين هذا النوع التمثيلي، وجدنا الدراما اليونانية رغم ما فيها من حسن السبك وطلاوة التعبير وقوة الشاعرية، تقصر عن الدراما الحديثة في كل النواحي، فنراها ضيقة في فكرتها، هزيلة في مادتها، متشابهة في شخصياتها، سقيمة في إخراجها ضعيفة في مجهودها، وبعبارة أخرى نرى الفرق بين الدرامتين كالفرق بين الطفل الذي يحبو وبين الرجل في شرخ شبابه وعنفوان قوته، ومع هذا فإن الفضل للدراما اليونانية؛ إذ هي الأصل والطفل الذي أصبح بعد رجلًا ناميًا.
ولقد كانت الفكرة السائدة إلى عهد قريب عند السواد الأعظم أن الإغريق هم الذين اخترعوا «الدراما» وأن «إيسكلس» هو أبو «التراجيدي الغنائية» (وإن كان ما كتبه لا يمكن أن ينطبق عليه هذا الاسم كما نفهمه نحن الآن). ولكنا سنرى أن ميزة السبق والاختراع لمصر بلا منازع في القدم كما أشرنا إلى ذلك من قبل؛ إذ إن «إيسكلس» بدأت تظهر كتاباته في عالم التأليف التمثيلي سنة (٤٩٩ق.م) على حين أننا نجد في مصر «دراما تمثيلية» ظهرت حوالي عام (٣٤٠٠ق.م)، وأعني بذلك «الدراما المنفية»، ثم كتب بعدها على ما يقال «الدراما» المسماة «انتصار حور على أعدائه» في الأسرة الثالثة، وأخيرًا «دراما التتويج» التي كتبت في أوائل عهد الدولة الوسطى؛ أي نحو (٢٠٠٠ سنة ق.م).
فلا غرابة إذن إذا كان هذا الطفل الذي شبهنا به الدراما اليونانية، والذي نما وترعرع حتى أصبح شابًّا بوجود الدراما الحديثة، قد ولد في مصر، هذا إذا سلمنا بأن الدراما اليونانية قد أخذت عن مصر كغيرها من العلوم التي أخذتها اليونان عنها.
وسنتكلم على كل من هذه الدرامات بوجه الاختصار، ثم نفرق بينها وبين الدراما الإغريقية والدراما الحديثة، لنصل إلى وجوه الشبه والاختلاف في كل منها.