مدائح الملوك
لا غرابة في أن نرى كل ما وصل إلينا من المدائح الشعرية مقتصرًا على الإشادة بصفات الإله وقدرته، أو على وصف الملوك وما أتوه من ضروب الشجاعة وجلائل الأعمال. وسنتكلم عن الناحية الثانية الآن بعد أن تحدثنا عن الناحية الأولى فيما سبق. والواقع أن الملوك كانوا في مرتبة الإله بوصفهم من سلالة الإله الأعظم «رع»، فقد كان المصريون يعتقدون أن الإله «رع» كان يحكم العالم في دنيا كلها آلهة. ولكنه في النهاية تخلَّى عن حكم العالم لما رأى من الغدر وعدم الوفاء، وصعد إلى السماء وتربع على عرشها، وترك الدنيا إلى ملوك من بني البشر يعتبرون أنفسهم خلفاء الإله على أرضه، فكان كل ملك يسمَّى «ابن الشمس»، من أجل ذلك كان الفرعون يعدُّ دائمًا من طينة غير طينة بني الإنسان الذين يحكمهم، فكان مقامه بينهم مقام إله بين رعاياه، ولهذا كان كل من سواه من بني البشر دونه في صفاته، فكل حسن وكل جميل وكل خير وكل أمر جليل ينسب إلى الفرعون، فأصبحت لذلك كل الشخصيات البارزة في مصر نكرات تخاطب الفرعون.
وإذا اتفق أن تم على يد أحد عظماء الدولة عمل عظيم فإن فضل الإيحاء والأمر والإرشاد للفرعون، ولا يعترف بفضل هذا العظيم إلا بعد مماته، كما يظهر لنا من اللوحات الجنازية التي تركها لنا عدد كبير منهم في قبورهم، ومن النقوش التي دونت على جدران حجرات دفنهم. وقد غالى القوم أحيانًا في تمجيد بعض هؤلاء العظماء؛ فرفعوهم إلى مرتبة التقديس، ووضعوهم في مصافِّ الآلهة، كما فعلوا مع الحكيم «أمنحوتب» الذي عاش في عهد «زوسر»، والعظيم «أمنحوتب» بن «حابو» في عهد «أمنحوتب» الثالث. ولكن جاء ذلك بعد الممات فقط، ولم يشذُّوا عن ذلك إلا في حالات قليلة جدًّا في تاريخ مصر، ونخصُّ بالذكر من بينها «سننموت» الذي كان يحتل المكانة الأولى في بلاط الملكة «حتشبسوت» بعد الوزير، فقد وجدناه قد صور نفسه مع إحدى الإلهات بحجمها، وكذلك الكاهن «حرحور» الذي وجدناه مصورًا على أحد جدران معبد الكرنك مع الفرعون «رعمسيس التاسع» بحجم يقرب من حجم الفرعون نفسه. غير أن هذه شواذُّ لها ظروفها وملابساتها؛ إذ إن الأول كان قد استهوى عقل مليكته والثاني جاء في عصر كانت البلاد تنحدر فيه إلى الدمار والانحلال.
وقد جرت العادة أن يذكر في مدائح الفرعون صفاته الحربية وشجاعته الخارقة للعادة، على غرار ما نقرؤه في مدائح المتنبي وأبي تمام والبحتري وغيرهم ممن يبالغون في صفات الممدوح حتى يجعلوه في مرتبة أخرى غير مرتبة البشر، هذا إلى ما يذكر من أعماله الجليلة للترفيه عن شعبه وحماية رعيته وما يقدمه له الإله من المساعدة في الأوقات العصيبة بوصفه ابنه الذي يحنو عليه.
وقد وصلت إلينا طائفة كبيرة من أناشيد المديح التي قيلت في الملوك، غير أن أقدم ما انحدر إلينا منها يرجع إلى عهد الدولة الوسطى، وهي قليلة جدًّا، أما في عهد الدولة الحديثة فقد وَصَلَنا منها عدد عظيم.