أناشيد الدولة الحديثة١
(١) قصيدة في انتصارات «تحتمس الثالث»
مقدمة
وفي خلال الدولة الحديثة نجد قصائد المديح في الملوك قد زاد عددها، واتسع مجالها، ولا غرابة في ذلك؛ فإن أملاك مصر قد امتدت حدودها من الشلال الرابع إلى أعالي نهر دجلة والفرات؛ فأصبح خيال الشاعر لا يقف عند الحدود المصرية، بل صار يسبح في أرجاء تلك الإمبراطورية الفسيحة، فنشاهده يضع أمامنا صورًا خلابة لما أتاه هؤلاء الملوك من جلائل الأعمال، وما وهبهم الإله الأعظم من القوة التي بها قضوا على الأعداء، وكذلك يصف لنا أحوال الأقوام المغلوبين، وما صاروا إليه من الذِّلة والمسكنة، وما يقدمونه للفرعون من الهدايا والجزية المضروبة عليهم؛ مما يدلنا على منزلة البلاد في هذا العصر.
وسيرى القارئ ما في هذه القصائد من النمو والتقدم في خيال الشاعر، واتساع أفقه بتقدُّم المدنية. ولكن برغم ما نشاهده من كثرة هذه الأناشيد وعقود المدح في هذا العصر، فإننا نلحظ أنها ترتكز في أصل تركيبها على أصول قديمة؛ ولذلك كان من أصعب الأمور أن يفصل الإنسان عناصر الأناشيد القديمة من الحديثة، فلا مناص من أن نعتبر ما لدينا من هذه القصائد نماذج تمثِّل الشعر الغنائي أو المديح في عصر الدولة الحديثة.
وسنبتدئ هنا بالقصيدة التي وضعت حوالي ١٤٧٠ق.م باللغة القديمة، وهي التي أُنشدت مديحًا في «تحتمس الثالث» مؤسس الإمبراطورية المصرية في سوريا. وتدل شواهد الأمور على أنها كانت نموذجًا إنشائيًّا؛ لأن كلًّا من «سيتي الأول» و«رعمسيس الثاني» قد نقلها على آثاره ونسبها لنفسه. وقد نقشت على لوحة جميلة من الحجر أقيمت في معبد «آمون» بالكرنك، وتحتوي على مديح وجَّهه الإله نفسه لابنه الفرعون الذي كان يدخل المعبد منتصرًا بعد غزوة مظفرة. وتشتمل على مقدمة وخاتمة مكتوبتين بلغة شعرية، أما الجزء الأوسط من القصيدة فإنه بلا نزاع شعر مقفًّى. وسنورد القصيدة هنا بأكملها:
المتن
إن قلبي ينشرح بمجيئك الميمون إلى معبدي، ويداي تمنحان أعضاءك الحماية والحياة.
إني أجعل أعداءك يسقطون تحت نعليك فتطأ … الثائرين، كما أني أمنحك الأرض طولًا وعرضًا، فأهالي المغرب وأهالي المشرق تحت سلطتك.
ولأجعلك تشتت شملهم تحت قدميك في ممالكهم.
عندما تضيء في وجوههم بوصفك صورتي.
لقد حضرت:
لأمكنك من أن تطأ أولئك الذين في آسية.
أجعلهم يشاهدون جلالتك مدججًا بدرعك.
حينما تقبض على آلات الحرب في عربتك.
لقد حضرت:
لأتمكن من أن أجعلك تطأ بالقدم الأرض الشرقية.
لقد حضرت:
لأجعلك تتمكَّن من أن تطأ الأرض الغربية.
ولأجعلهم يشاهدون جلالتك مثل الثور الصغير.
ثابت القلب، حاد القرن، لا تُمكن مهاجمته.
لقد حضرت:
لأمكنك من أن تطأ هؤلاء الذين في مستنقعاتهم (؟).
ولأجعلهم يشاهدون جلالتك كالتمساح.
رب الرعب في الماء لا يمكن الاقتراب منه.
لقد حضرت:
لأمكنك من أن تطأ هؤلاء الذين في الجزائر.
قد ظهر منتصرًا على ظهر فريسة.
لقد حضرت:
لأمكنك من أن تطأ اللوبيين.
ولأجعلهم ينظرون إلى جلالتك كالأسد المفترس.
حينما تجعلهم أكوامًا من الجثث في وديانهم.
لقد حضرت:
لأمكنك من أن تطأ أقصى حدود الأراضي، في حين أن ما يحيط به الأقيانوس يكون في قبضتك.
الذي يقبض على ما يرى كما يشتهي.
لقد حضرت:
لأمكنك من أن تطأ هؤلاء الذين في البلاد الغربية.
وتربط سكان البدو أسرى.
لأجعلهم ينظرون إلى جلالتك كابن آوى الوجه القبلي (وهو أشد ما يكون افتراسًا)، وهو رب السرعة سباقًا مخترقًا الأرضين.
لقد حضرت:
واللذين ضممت أيديهما لك في النصر.
ولا شك في أن القارئ قد لاحظ في هذه القصيدة مبالغات خارجة عن حد المألوف كما هي العادة في المدائح التي نقرؤها في أشعار المدائح في الشرق عامة. وهي تعتبر من الشعر الرسمي الذي ينقصه التنويع في التعبير والخيال السامي؛ ولذلك فهي لا تعد في نظرنا من الأدب الراقي، غير أنها كانت في نظر المصري من الشعر النموذجي، وإلا لما نسبها بعض الملوك لأنفسهم كما ذكرنا.
(٢) أنشودة لرعمسيس الثاني
ألقاب الملك
ملك الوجه القبلي والبحري، رب الأرضين «وسيمارع»: المختار من «رع».
القصيدة الحقيقية
وهو الذي يحضر العاصي أسيرًا إلى مصر والأمراء بهداياهم إلى قصره، والخوف منه يسري في أبدانهم، وأعضاؤهم ترتعد منه عند غضبه، رب الأرضين، وهو الملك «رعمسيس».
وأمراؤهم يرتعدون حينما يشاهدونه؛ لأنه مثل الإله «منتو» سلطانًا وقوةً؛ لأنه يقطع رءوسهم مثل ابن «نوت». وإنه كَثَوْرٍ حادِّ القرنين عظيم الاستيلاء (؟) … ولا يطلق سراح أحد إلا بعد أن يقضي على أعدائه: ملك الوجه القبلي والوجه البحري «رعمسيس».
الأسد القوي المخالب، العالي الزئير، والمرسل صوته في وادي الفرائس الوحشية: ملك الوجهين القبلي والبحري «رعمسيس».
الفهد الذي يعدو سريعًا حينما يبحث عن منازله، مخترقًا دائرة الأرض في لحظة. الصقر الإلهي العظيم المزود بجناحين، والمنقضُّ على الصغير والكبير؛ حتى لا يجعلهم يعرفون أنفسهم أبدًا: ملك الوجهين القبلي والبحري «رعمسيس».
الحاكم الشديد القوي في ذبح الذين لا يعرفون اسمه؛ وهو مثل العاصفة التي تدوي بعنف على البحر؛ فأمواجه كالجبال، ولا أحد يمكنه أن يقترب منه، وكل فرد فيه يغوص إلى العالم السفلي: ملك الوجهين القبلي والبحري «رعمسيس».
وهو الملك المنير في التاج الأبيض، وهو قوة مصر، ماهر في فنون الحرب، في ساحة القتال، بطل في المعمعة؛ محارب جبار، شجاع القلب، الواضع ذراعيه كجدار حول جنوده، ملك الوجهين القبلي والبحري «رعمسيس» معطي الحياة كالإله «رع».
ولا نزاع في أن هذه الأنشودة تُعدُّ من الشعر الجميل؛ فهي بحق تمتاز عن قصيدة النصر التي قيلت في «تحتمس الثالث» من كل الوجوه؛ فالصور التي تحتويها بارزة، وليست مقصورة على مجرد ذكر نعوت الملك وأوصافه، بل نجد تلك النعوت مفصلة بشروح موفقة. والقصيدة من هذه الناحية تشبه بعض المزامير العبرية، حتى إنها إذا ترجمت على طريقة التوراة، كان من الصعب على الإنسان أن يستخرجها من بينها بسهولة.
على أن هذه الأنشودة ليست الوحيدة من نوعها في الدولة الحديثة، بل لدينا ما يضارعها أو يفوقها مما سنورده هنا بعدُ، وبخاصة قصيدة «مرنبتاح» المشهورة بلوحة بني إسرائيل، وسنذكرها في موضعها بعد الكلام عن ملحمة «قادش» والقصائد الجميلة الأخرى التي قيلت في «رعمسيس الثاني».
(٣) ملحمة قادش المسماة خطأً قصيدة «بنتاور»
في سياق الكلام عن قصة المخاصمة بين «حور» و«ست» عرَّفنا معنى كلمة ملحمة في الأدب عامة. وإذا كان المصريون القُدامى قد تركوا لنا لونًا من الأدب يطلق عليه بحق اسم ملحمة، فإن القصيدة التي قيلت في انتصار «رعمسيس الثاني» على الخيتا وحلفائها جديرة بهذه التسمية؛ لما توافر فيها من الخصائص والميزات التي ينفرد بها هذا اللون من الأدب.
والظاهر أن هذه القصيدة قد بلغت من الأهمية مكانةً تفوق كل وصف في نظر «رعمسيس الثاني»، ولا أدل على ذلك من أنه نقشها على معظم المعابد في أمهات البلاد المصرية. وقد بالغ في حب بقائها لدرجة أنه نقشها على معبد الأقصر أكثر من مرتين، موضحًا المتن بالرسوم التي تصور لنا سير المعركة ومراكز تنقل الجيوش؛ مما سهَّل علينا فهم الحركات العسكرية التي قام بها كل من الفريقين المتحاربين. وقد كانت نهاية هذه المعركة على ما يظهر انتصار «رعمسيس الثاني» على أعدائه الخيتا وحلفائهم. غير أن هذا النصر لم يكن حاسمًا كما برهن على ذلك استمرار الحرب فيما بعد بينه وبين دولة الخيتا.
وإذا أردنا أن نعرف الأسباب التي أدت إلى تلك الحرب الطاحنة بين «رعمسيس الثاني» والخيتا، فلا بد أن نرجع إلى الوراء عدة أجيال في تاريخ العاهلية المصرية؛ فقد أسَّس «تحتمس الثالث» ومن سبقه عاهلية مترامية الأطراف تمتد من أعالي نهر دجلة والفرات إلى الشلال الرابع، وقد حافظ عليها أخلافه من بعده بحد السيف تارة وبالسياسة الحكيمة تارة أخرى.
وقد بقيت العاهلية متماسكة الأطراف، عزيزة الجانب، إلى أن تولَّى «إخناتون» الملك، فشغله أمر دينه الجديد عن المحافظة على عاهلية أجداده، وبخاصة أملاكه في آسية، وقد كانت مقسَّمة وقتئذٍ ولايات صغيرة، فاستقلَّت كل واحدة منها. هذا فضلًا عن أنه قد قامت في تلك العهود مملكة جديدة في هذا الجزء من آسية أسَّسها قوم يقال لهم الخيتا.
وقد بقيت الحال على هذا المنوال من الفوضى في تلك الأصقاع إلى أن أصبحوا شبه مستقلين عن مصر، وأصبحت العلاقات بينهم وبينها اسمية. وأول من حاول استرجاع مجد مصر في هذه الأصقاع هو «سيتي» الأول. غير أنه في هذه المرة لم يكن يحارب مع ولايات صغيرة متفرقة الكلمة كما فعل أخلافه من قبل، بل كان ينازل دولة قوية فتية، وهي دولة الخيتا، التي كانت تشمل آسية الصغرى، وكذلك قد انضمَّت إليها بلاد أخرى من آسية؛ ولم يوفَّق «سيتي» في حملته هذه إلا بعض التوفيق.
وقد كان لزامًا على ابنه «رعمسيس الثاني» أن يستمر في حمل السلاح لإعادة هذه الأملاك التي أضاعها أجداده بتراخيهم وإهمالهم. ولقد أشار لنا هذا الفرعون في قصيدته التي نحن بصددها الآن إلى إهمال آباء والده، وتقاعُدهم في مصر يلهون ويلعبون؛ مما أدى إلى ضياع ممتلكات مصر. ولا غرابة إذا كانت هذه الإشارة في القصيدة يقصد بها «إخناتون» عندما كان لاهيًا عن أملاك مصر بدينه الجديد، ثم تبعه في ذلك من جاء بعده.
وقد ذكرت لنا نقوش القصيدة التي تعتبر بمثابة تقرير رسمي أن حملة «رعمسيس الثاني» قد خرجت للغزو في السنة الخامسة من حكمه، وكان لا يزال في ريعان الشباب غضَّ الإهاب ممتلئًا حماسًا وقوة. فسار على رأس جيش عرمرم لمقابلة العدو. ولم يكن يدور بخلده في هذه الآونة أن يخضع بلاد «فلسطين» في طريقه؛ ليأمن شرَّ قيام أهلها من خلفه، بل فضَّل مهاجمة العدو الجبار الذي قضى على سلطان مصر في آسية، وقد كان تصميمه أن يوقع العدو في أحبولة، فاندفع بجيشه وعبر نهر الأرنت (العاصي) في حين كان جيش ملك الخيتا وحلفائه معسكرًا في شمالي بلدة «قادش»، ولما فطن إلى ذلك علم أنه قد وقع هو في الفخ، وانقضَّ فعلًا ملك الخيتا على جناحي الجيش المصري الذي كان يسير في أربع فرق منعزل بعضها عن بعض، فشتَّت شمل الجيشين المصريين المتقدمين، وهما جيش «آمون» وجيش «رع». وبذلك أصبح «رعمسيس» محاصَرًا بالعدو، ولم يبقَ معه إلا حاشيته وقليل من جنوده المخلصين.
وقد قيل إن الملك «رعمسيس» هزم، وأنه أراد أن يسدل الستار على الهزيمة أمام بلاده بغزو فلسطين في عودته وقهرها. ولكن هذا الرأي لا أساس له من الصحة، والواقع أنه خلَّص نفسه من مأزقه الحرج باختراق صفوف الخيتا، وبقي يناضل ويظهر من ضروب الشجاعة لصد العدو حتى أتته النجدة، وبذلك انقلبت تدابير الخيتا إلى خزي واندحار. وما ظهر بادئ الأمر هزيمةً منكرة للمصريين قد صار فوزًا مبينًا، وعلى إثر ذلك طلب العدو من «رعمسيس» أن يهادنه.
أما طبقة علماء الآثار المعاصرين الذين تناولوا موضوع هذه القصيدة بالبحث والنقد والتحليل، فإن معظمهم قد غرق في بحر المبالغات التي نسجها «رعمسيس» حول نفسه، فلم يتركوا ناحية من نواحي القصيدة دون أن يقتلوها فحصًا ونقدًا، حتى انتهى بهم المطاف إلى أن المصريين قد هزموا، وأن «رعمسيس» أخفى تلك الهزيمة تحت ستار البلاغة والمبالغات التي حلَّى بها هذه القصيدة.
والواقع أن هذا الرأي لا يرتكز على برهان متين، وربما يجود الحظ يومًا ما بالعثور على تقرير عن الموقعة من جانب الخيتا، فيضع الأمور في نصابها بعد موازنته بما جاء في قصيدتنا، أو إخراج حكم سليم منها.
وإلى أن نسعد بمثل هذا التقرير، نرى فيما جاء عن الموقعة أنه ليس فيه ما يبعث على أي شك في أن المصريين قد انتصروا في هذه الملحمة. حقًّا إن التدابير الحربية والخطط التي استعملها ملك «الخيتا» هي من الحيل التي تُستعمل كثيرًا في الحروب، وتؤدي عادة إلى النصر، وبخاصة عندما يكون المهاجم لا يملك في يده قيادة جنوده تمامًا، ولكنا قد شاهدنا أن الملك الشاب قد ترك العدو يهاجمه على حين غفلة، ولم يلبث أن أفاق من تلك الصدمة المفاجئة، وأخذ يجمع زمام القيادة في يده إلى أن صار في مقدوره أن يحمل حملةً صادقة على العدو ردَّته على أعقابه خاسرًا.
وليس لدينا ما يدعو إلى الشك في أن العدو عندما رأى تخاذل جنوده طلب الهدنة. وأن «الخيتا» وحلفاءهم هزموا، ولكن موقعة «قادش» لم تكن من الملاحم الفاصلة؛ ولا أدلَّ على ذلك من أن خلف عاهل «الخيتا» لم يكفوا عن محاربة أعدائهم المصريين، بل شنوا عليهم الغارة ثانية عندما لاحت لهم الفرصة.
وبدهي أن الشاعر الذي يريد أن يرسم لنا حوادث في صورة ملحمة لا يقتصر على صياغتها في أسلوب خلاب وألفاظ عذبة، بل من واجبه أن يقصَّ علينا طرفًا غير الحقائق العارية التي يحتوي عليها التقرير الرسمي؛ أي يجب عليه أن يكسوَ عظام تلك الحقائق الجافة لحمًا ودمًا، وينفخ فيها من روحه وخياله؛ وذلك لأن الملحمة لا بد أن تصف لنا موقعة حدثت في منازلة واحدة، فلا بد من أن تأخذ صورة رائعة كما نشاهد ذلك كثيرًا في ملاحم كل الأمم، ومن خصائص الشاعر الذي يصور لنا ملحمة أن يكون عنده المهارة الفنية في صياغتها بحيث يظهر بطلها ممتازًا على كل الأبطال الآخرين الذين حوله في الملحمة، ويخرج لنا قطعة فنية متماسكة الأطراف محبوكة الحواشي سهلة المأخذ.
وقد وُجِّه نقد إلى ما جاء في القصيدة مكررًا: «إن الملك كان فريدًا، ولم يكن معه أحد آخر بجانبه» خلال المعركة. وهذه العبارة لو أخذت بمعناها الحرفي لا تنطبق على الواقع، وليس لها نصيب من الصحة؛ فإن الملك كان يقصُّ تلك العبارة لسائق عربته. وفي الحق يمكن تحديد معنى العبارة بأنه لم يكن أحد غير الملك قد شاهد ما تملَّكه من اليأس حين كان يشرف على فقدان المعركة.
والمبالغة حق مباح لكل أمة، وبخاصة في تقاريرها عن المواقع الحربية؛ لأنها تُذكي نار الوطنية والفخار في نفوس أفراد الشعب، وتلك سجية متأصلة في أخلاق الشعوب حديثها وقديمها؛ للفخر بمناقب بلادهم وما أتته من جلائل الأعمال والتغلُّب على الأعداء.
ولما كان من المحتَّم أن يمثِّل الفرعون في هذه الملحمة بطلَها الفذ؛ فقد كان لزامًا على الشاعر أن ينتهج إحدى طريقتين في صياغتها: فإما أن يقصَّ علينا ما قام به الفرعون من ضروب الشجاعة والبطولة في صيغة الغائب، وإما أن يجعل الفرعون يقصُّ الحوادث الجسام التي قام بها في صيغة المتكلم عن نفسه. ولا نزاع في أن الطريقة الثانية لها ميزتها وخطرها إلى حد لايُدانَى؛ فالقارئ في هذه الحالة يسمع من فم المتكلم وصفًا مباشرًا للحوادث يخرج من أعماق نفس إلى أعماق نفس أخرى؛ فيُحدث تأثيره المنشود. ولدينا مثال لذلك في التاريخ المصري من عهد الدولة الوسطى، وذلك عندما جعل «خيتي» مؤلف تعاليم «أمنمحات الأول» الملك يتكلم عن نفسه ويصف لابنه ما لاقاه من نكران الجميل، وما حاق به ممن أحسن إليهم وأسدى لهم الجميل وقرَّبهم إليه؛ وهذا الخطاب يعدُّ من روائع الأدب المصري (راجع ص٢٠٢).
وهذه الطريقة هي التي اختارها الشاعر لنفسه، ولا نشك في أنه حينما كان يؤلف قصيدته كان أمامه نموذج يحتذيه؛ ولذلك يصعب علينا أن نحدِّد ما أتى به من جديد في عالم الأدب في هذه القصيدة. ولكن على الرغم من ذلك نجد في فن صياغة هذا الشعر ما يجعل الإنسان يعتقد أن الشاعر كان يحلل نفسية بطله، وبخاصة إذا عرفنا أن «رعمسيس الثاني» كان يفوق كل الفراعنة في المبالغة والفخر وحب الظهور والعظمة؛ مما جعله منقطع النظير في هذا المضمار. من أجل ذلك نجد أن شاعرنا قد أرخى العنان للفرعون يتكلم، ولكنه لم يجعله يتكلم وصفه قاصًّا، بل كان ينقله إلى معمعة القتال، فنرى الفرعون يتوسل إلى والده «آمون» ويدعوه إلى نصرته ونار الحرب مستعرة، ثم هو يفكر في الوقت نفسه فيما يجب عليه أن يقوم به لإلهه من الخدمات؛ ولا شك في أن ذلك كان له أثره المباشر على سير الموقعة. هذا إلى أن الفرعون قد عدد أشياء أخرى كثيرة عن مخازي جنوده وعن سير القتال.
ومن كل هذا تألفت أمامنا صورة طريفة لم يكن مألوفًا لنا سماعها من قبل؛ فنقرأ ملحمة كُتِبَ نصفها شعرًا منثورًا والنصف الآخر شعرًا منظومًا. والواقع أن مقدمة هذه القصيدة قد كتبت نثرًا، بينما نهايتها قد نظمت شعرًا. وكذلك نجد في وسطها تعابير نثرية، ويسهل على القارئ الفطن معرفتها؛ لأنها وضعت في صيغة الغائب.
والقصيدة الأصلية تبتدئ عندما يشتِّت العدو شملَ جيش الفرعون، ويضرب نطاقًا حول الفرعون ومَنْ معه من خيرة جنوده وعرباته الكثيرة؛ وعندئذ نرى الفرعون يتوسل لإلهه آمون قائلًا: «ماذا جرى يا والدي آمون؟ هل نسي الأب حق ابنه؟ وهل عملت شيئًا من دونك؟» ثم يذكر له ما قام به من أعمال الخير وبناء المعابد وتقديم القرابين، ويرجوه أن يخلِّصه من ذلك المأزِق الذي وقع فيه.
وعلى إثر ذلك نشاهد أن «آمون» قد أتى لنجدته، وأنه لن يتخلَّى عنه في محنته فيقول له: «إلى الأمام! إلى الأمام! أنا والدك، وإني أكثر نفعًا من مائة ألف رجل. أنا رب النصر الذي يحب القوة!» وينتهي النضال بنصر «رعمسيس» مؤقتًا تمده روح إلهه «آمون».
ولكن ملك «الخيتا» يقف ثانية في وسط جنوده ويشرف على القتال ويعيد الكرة على جيش «رعمسيس»، فيقابله الأخير بعزم وحزم، وفي ذلك يقول: «وقد أوسعت لهم، وكنت مثل «منتو» (إله الحرب)، وجعلتهم يذوقون طعم يدي في لمح البصر. وقد قتلتهم وذبحتهم حيث كانوا واقفين، وقد نادى الواحد منهم الآخر … أن ينجو بنفسه … إلخ.»
وبعد ذلك التفت «رعمسيس» إلى جنوده، وأمرهم أن يتذرَّعوا بالشجاعة، وأن يثبتوا في أماكنهم، وأن يحذوا حذوه، ثم نجده يؤنِّبهم بقارص الألفاظ قائلًا: «ما أشد تخاذل قلوبكم يا فرساني، وإنه لمن العبث الاعتماد عليكم … إلخ.»
وقد أطال الشاعر في التوبيخ الذي جاء على لسان الملك بصورة غير مألوفة، وكذلك أخذ يعدد ما أسداه لهم من المعروف وأعمال الخير كما كان قد عدَّد من قبل ما قام به لإلهه «آمون» من الخدمات وما قدمه من القرابين.
وبعد أن تمَّ النصر للفرعون هُرِعَت إليه الجنود في معسكره، وأخذوا يكيلون له المدائح ويفاخرون بشجاعته، على أن الملك لم ينخدع بذلك، بل أراد أن يوبخهم كرة أخرى ويعدِّد لهم ما قام به لهم من جليل الأعمال والخدمات في داخل البلاد أثناء السلم. وإلى هنا ينتهي ما جاء به على لسان الفرعون من الخطب في القصيدة.
نقرأ بعد ذلك أن ملك «الخيتا» قد طلب الهدنة، غير أننا لم نسمع بإلقاء السلاح وإعلان الهدنة؛ لأن ذلك كان مفهومًا ضمنًا.
ثم يتكلم «رعمسيس» للمرة الأخيرة قائلًا إنه قد سمح لنفسه بالراحة بعد أن نال الحظ السعيد، وعرض على قوَّاده ما التمسه ملك «الخيتا» ثم صالحهم. وهنا تختم الملحمة بعودة الفرعون السعيدة إلى بلاده ظافرًا منتصرًا.
ولا بد أن القارئ قد لاحظ بعض التحريف في تعابير هذه القصيدة، فكثيرًا ما نرى الملك يتكلم، ثم ينتقل الكلام إلى صيغة الغائب، فنجد «جلالته» بدلًا من «جلالتي»، وقد يجوز أن تلك هفوة من الكاتب أو الحفار الذي ينقل عادة من ورقة بردية قد لا يمكنه قراءتها قراءة صحيحة. وسيجد القارئ في النسخة التي طبعت من عدة سنوات أن النقوش التي على جدران المعابد فيها بعض اختلاف ظاهر في كثير من الأحيان عن نسخة البردية.
أما من جهة الأسلوب الذي صيغت فيه الملحمة فيمكننا الحكم من غير إجهاد الفكر بأن كلام الملك كان شعرًا موزونًا، اللهم إلا في المواطن التي كان يتحدث فيها من غير انفعالات نفسية؛ مما لا يحتاج إلى إظهار عواطفه ووجداناته.
وليس لدينا شك في أن بداية القصيدة ونهايتها قد كتبتا شعرًا منثورًا؛ فمثلًا لا نتردد في أن نقرر أن قوله: «وقد جهَّز جلالته مشاته وفرسانه والشردانيين، وهم من سبي جلالته، وقد أحضرهم من انتصاراته بحد سيفه.» ليس بالشعر الموزون، وكذلك قوله: «ولما رأى مشاتي وفرساني بأني مثل «منتو» في قوته وبطشه، وأن إلهي «آمون» قد انضمَّ إليَّ، وجعل كل بلد كأنه الهشيم أمامي، اقتربوا واحدًا فواحدًا ليتسللوا وقت الغروب.» فإنه ليس بالشعر المنظوم.
أما ما ينطبق عليه اسم الشعر المنظوم بالمعنى الحقيقي فنجده في الخطب التي ألقاها الفرعون وسائق عربته، والخطاب الذي أرسله ملك «الخيتا» للفرعون طالبًا الصفح. ولا نزاعَ في أن القصيدة في مجموعها توحي بفكرة أنها خطاب شعري يُلقيه فرد واحد يتخلَّله فقرات من الكلام المنثور متمِّم له، ويتألف من الكل وحدة متماسكة الأطراف. ولا يسع الإنسان إلا أن يفكر عفوَ الخاطر أنه يقرأ موضوعًا تمثيليًّا، غير أنه قد أنشئ في حياة الملك، وقد يصعُب على الإنسان أن يتصور مصريًّا يواجه فرعونه الحي على المسرح، ولكن ذلك ليس بالأمر الضروري؛ إذ إنه من الممكن أن يقصَّ المنتصر الخطابات المنفردة على صورة أبيات شعر (وربما كان يحدث ذلك بمصاحبة آلة موسيقية)، أما الباقي فكان يتلى في صورة قصص، ولكن من أراد أن يتأكَّد من هذا الوضع فلا بد له من أن يتعمَّق في درس هذه الملحمة وتراكيبها حتى يصل إلى كنهها الحقيقي.
ومما هو جدير بالملاحظة أن الشاعر قد بذل مجهودًا جبارًا في إبراز مؤلفه في صورة فنية بقدر المستطاع. أما أحاديث الفرعون، وبخاصة الأول منها، فيذكرنا بنغمة تلك الألفاظ التي جاءت على لسان «أمنمحات الأول» في تعاليمه؛ إذ بين الحديثين وجه شبه كبير. حقًّا أن «أمنمحات» كان يلقن ابنه درسًا عن الحياة وما فيها من آلام، ولكننا لا نشك في أنه أثَّر على ذهن شاعرنا، فاندفع يقلدها بحق وخلق لها الموقف الملائم. هذا فضلًا عن أن تعاليم «أمنمحات» من النماذج التي كان يصبو إلى تقليدها الكتاب في عصر الرعامسة؛ ولذلك لا نشك في أن القارئ يلمس تمامًا المجهود الذي بذله الشاعر في إخراج ملحمته البارعة؛ إذ لا نجد في أي خطبة من التي ألقاها الفرعون انحرافًا عن الغرض الذي من أجله ألقيت، كما لا نجد في حديث من بين أحاديثها شيئًا لا يتصل بالموضوع الذي من أجله قيل.
ويمكننا أن نشبه طموح الشاعر ليضع قصيدته في صورة فنية رائعة بما لمسناه في فصل القصص من طموح القاصِّ الناجح إلى صياغة قصته في صورة فنية دقيقة؛ ولذلك يمكننا أن نستنتج بحق أن إخراج الخطب السهلة والقصص المنسجمة كان هدفًا فنيًّا يرمي إليه المؤلف في عصر الرعامسة.
ولا يخالجنا أي شك في أن هذه القصيدة كانت تقريرًا عن هذه الحروب؛ إذ يلحظ الإنسان ذلك لأول وهلة بعد قراءتها. فأمثال كلمات التحذير والتوبيخ التي تفوَّه بها الملك كانت لازمة لملقي القصيدة، وإلا ضاع الجزء الأكبر من التأثير الذي يجب أن تُحدثه في ذهن القارئ.
والظاهر أن مثل هذا التقرير كان يلقى في الاحتفالات الرسمية أو في الأعياد التي تقام للنصر، كما نشاهد في أيامنا هذه؛ إذ نجد التقارير الرسمية تصاغ في صورة أدبية لتترك أثرها في النفس.
وخلاصة القول أنه يمكننا أن نعد «رعمسيس» الثاني من أعظم الفاتحين في التاريخ المصري رغم ما قيل عنه من أنه يحب الظهور والأبهة، وأن معظم ما حكي عنه مبالغ فيه بدرجة عظيمة. فيكفيه فخرًا أنه قد نال بعض الفَلاح في استرجاع ملك أجداده في آسية بعد أن كان قد ضاع جملة. وعظمته في ذلك أنه انتزعه من بين مخالب دولة قوية الأركان عزيزة السلطان قد جمعت حولها حلفاء أقوياء.
وفي الحق لقد حاول استرجاع تلك الممتلكات في حملة واحدة، على حين أن أجداده قد اكتسبوها في حملات عظيمة العدد استغرقت زمنًا طويلًا، ولم يكن أمامهم إذ ذاك إلا دويلات صغيرة متفرقة الكلمة هزيلة القوة. وقد كان أكبر عامل أدى إلى النجاح الذي أحرزه هو دم الشباب الذي كان يجري في عروقه من جهة ورغبته في إنجاز العمل العظيم الذي شرع في القيام به والده ولم يوفق فيه كلَّ التوفيق من جهة أخرى.
وهكذا سيبقى اسمه يضيء في عالم الفتوح والحروب كما سيخلد في عالم الأدب والشعر بقصائده التي أراد لها الخلود بنقشها على جدران معابده الأبدية، وتحبيرها على الأوراق البردية. ولا غرابة إذن في أن يسمَّى «ابن الشمس»؛ فهو مثلها في خلوده في عالم التاريخ وضيائها في عالم الأدب.
المتن
وكان جلالته سيدًا غضَّ الشباب، مفتول الساعد، منقطع القرين، قوي الذراعين، شجاع القلب، يماثل الإله «منتو» في وقته (أي في قوة غضبه)، جميل الطلعة مثل الإله «آتوم»؛ يعمُّ السرور الناس عند مشاهدة بهائه، عظيم الانتصارات على كل البلاد الأجنبية، ولا يقدر أسره في الحرب، وإنه جدار قوي لجنوده، ودرعهم في يوم الواقعة، ولا مثيل له في الرماية، وقوته تفوق مئات الألوف مجتمعين، وهو الزاحف قدمًا، متوغلًا في المعمعة، لبه مفعم شجاعة، قوي القلب حين منازلة القِرن للقِرن، كالنار عندما تلتهم، ثابت القلب كالثور المتأهِّب لساحة القتال، لا يجهله أحد في كل الأرض قاطبة، ولا يمكن لواحد من بين ألف أن يثبت أمامه، ومئات الألوف يتخاذلون عند رؤيته، وهو رب الخوف، عظيم الصوت في قلوب كل الأرض، عظيم البطش … في قلوب الأجانب، كالأسد الضاري في وادي غزلان، يغزو مظفَّرًا، ويعود مبتهجًا أمام الناس من غير مفاخرة، متفوق في تدابيره، حسن في أوامره، وهو الذي قد وجد أن إجابته ممتازة، وهو الحامي جنوده يوم النزال … الفرسان، والقائد لحرسه والحامي مشاته، وقلبه كجبل من البرنز، وهو السيد ملك الوجهين القبلي والبحري «رعمسيس» مُعطي الحياة.
وكان معه كل الأمراء، ومع كل أمير مشاته وفرسانه، وكانوا عددًا عظيمًا يُخطئه العد، وقد غطوا لكثرتهم الجبال والوديان مثل الجراد، ولم يترك فيها ذهبًا ولا فضة، وكذلك جرَّدها من كل متاعها؛ إذ أعطاها البلاد الأجنبية حتى يغريها على الزحف معه للقتال؛ ولكن لما عسكر كان كبير «الخيتا» الخاسئ ومعه البلاد الكثيرة مختبئًا وعلى أهبة القتال في الشمال الشرقي من قادش.
وبعد ذلك عسكر جلالته شمالي قادش في الجهة الغربية من نهر «الأرنت»، فجاء إنسان وأخبر جلالته بذلك.
ولم أترك شيئًا جميلًا لم يفعل في محرابك، وأقمتُ لك أبوابًا عظيمة، ونصبت فيها عمد الأعلام بنفسي. وإني آتي لك بمسلات من «الفنتين»، وإني أنا الذي أحمل الأحجار، وأجعل السفن تسافر لك على البحر لتحضر لك جزية البلاد الأجنبية، فالخيبة لمن يخالف نصائحك، والنجاح لمن يفهمك. ويجب على الإنسان أن يعمل لك بقلب محب.
إني أدعوك يا إلهي «آمون»، وإني في وسط أعداء لا أعرفهم، وكل البلاد قد تضافرت عليَّ، وإني وحيد وليس أحد آخر معي، وإن جنودي قد هجروني ولم يلتفت أحد من فرساني حوله إليَّ، وإذا ناديت عليهم فلا يسمع لي أحد.
ولكن أُنادي فأجِد أن «آمون» خير لي من آلاف آلاف الجنود المشاة، وأحسن من مئات الألوف من فرسان العربات، وأحسن من عشرة آلاف أخ وابن متحدين معًا. على أن عَمَل رجال عديدين لا قيمة له؛ إذ إن «آمون» يفوقهم. ولقد جئت إلى هنا تبعًا لنصائح فمك، يا «آمون» لم أتحول عن إشاراتك.
وبحياة روح والدي «آمون»، إني كنت أتمنى أن أكون في مصر ألعب مثل والد أجدادي الذين لم يروا سوريا ولم يحاربوا معه ولم يأتِ واحد منهم لينشر أخباره في أرض مصر. ما أجمل حياته ذلك الذي يقيم آثارًا في «طيبة» مدينة «آمون»!
على أن الجريمة التي ارتكبها مشاتي وفرسان عرباتي أكبر من أن تذكر. ولكن تأمل! فإن «آمون» قد وهبني النصر وإن لم يكن معي مشاة ولا فرسان، ولقد جعلت كل بلاد قاصية تشاهد ظفري وقوتي، على حين أني كنت وحدي دون أن يتبعني أي عظيم، وبدون أي فارس أو ضابط أو جندي أو عربة، والممالك الأجنبية التي تراني ستتكلم باسمي إلى أقاصي الأراضي المجهولة، وكل من يفر من يدي يقف متلفتًا وراءه لينظر ما أفعل، وعندما أهاجم آلاف الآلاف منهم تخور أقدامهم ويفرُّون، وكل من يصوب سهمه إليَّ تطيش سهامه وتتفرق عندما تصل إليَّ، ولكن عندما رأى «منَّا» سائق عربتي أن جمًّا غفيرًا من الفرسان قد أحاطوا بى فإنه تخاذل وخار قلبه، وسرى رعب عظيم في جسمه.
ثم قال لجلالته: «يا سيدي الطيب، يا أيها الأمير الشجاع، يا حامي مصر العظيم في يوم الواقعة، إننا نقف وحدنا وسط العدو. تأمل فإن المشاة والفرسان قد ولوا عنا، فلماذا ننتظر حتى يحرمونا النفس؟ فلنبقَ طاهرين، خلِّصنا يا «رعمسيس» (انج من هذا المكان).
وعندئذ قال جلالته لسائق عربته: «الثبات! ثبِّت قلبك يا سائق عربتي؛ فإني سأدخل بينهم كما ينقضُّ الصقر، وأقتل وأقطع إربًا إربًا، ثم ألقي على الأرض. ما قيمة هؤلاء الجبناء عندك؟ إن وجهي لا يشحب من آلاف الآلاف منهم.»
ثم أسرع جلالته إلى الأمام وهاجم العدو، ثم هاجمهم للمرة السادسة، وكنت وراءهم مثل «بعل» في وقت قوته، وقد أعملت القتل فيهم ولم أتراخَ.
ثم قال جلالته لمشاته وكبار ضباطه وفرسانه:
«ما أعظم الجريمة التي ارتكبتموها يا كبار ضباطي ويا مشاتي ويا فرساني، أنتم يا من لم تحاربوا! ألم يتفاخر الواحد في مدينته بأنه كان شجاعًا أمام سيده الطيب؟ ألم أقدم إحسانًا لأحد منكم؟ كيف تهجرونني وسط الأعداء ما أجمل ذلك فيكم! وتتنفسوا الهواء وحدكم؟ ألم تذكروا في قلوبكم بأني حصنكم «المصنوع من حديد السماء»؟ وسيسمع القول بأنكم تركتموني من غير أحد، وأنه ليس هناك واحد من كبار القواد ولا من الضباط — سواء أكان من الفرسان أم من المشاة — قد أتى ليأخذ بيدي.
[اليوم الثاني في الموقعة وانهزام الأعداء]
وبعد ذلك أخذوا يقبلون الأرض أمامي، أما جلالتي فكانت قوية خلفهم؛ إذ أعملت القتل فيهم ولم أكن متراخيًا، وقد مُزِّقوا إربًا إربًا أمام جيادي، وقد طرحوا أرضًا مضرجين بدمائهم.
وعندئذٍ أرسل خاسئ «الخيتا» المغلوب، وعظم اسم جلالته الكبير قائلًا: «إنك «رع حور أختي» وأنت «سوتخ» العظيم البطش بن «نوت»، و«بعل» في أوصالك، والفزع منك سرى إلى أرض الخيتا، وقد كسر إلى الأبد ظهر أمير الخيتا.»
(٤) قصيدتان قيلتا في مدينة «رعمسيس»
غير أن الأستاذ حمزة في بحث له يقول: إنها بلدة «قنتير» الحالية، وعلى أية حال فقد سمى «رعمسيس» بلدته «بيت رعمسيس العظيم الانتصارات». ولا نزاع في أن مركز هذه المدينة الجغرافي قد ساعد هذا الفرعون على الإشراف على ممتلكاته في آسية وتسهيل القيام بغزواته ضد الخيتا.
والظاهر أن هاتين القصيدتين كانتا من النماذج الإنشائية التي تتمرن عليها التلاميذ لحلاوة ألفاظهما وحسن تعابيرهما.
ومن الطريف أننا لم نجد في هاتين القصيدتين اسم الملك «رعمسيس» الثاني، بل جاء فيها اسم ابنه «مرنبتاح»، ولا شك في أن الأخير قد قلَّد والده في انتحال أعمال من سبقه من الملوك من تماثيل وآثار أخرى.
القصيدة الكبرى٩١
ما أقوى «بنرع»! ما أثبت نصائحه! كلماته ممتازة مثل كلمات «تحوت»، وكل ما يقوله يحدث؛ وإنه كالذي يرشد إلى الطريق على رأس جيشه، وكلماته كحائط لهم.
ما أحبه ذلك الذي يحني ظهره لمحبوب-آمون.
القصيدة القصيرة١٠٨
يا «بنرع-محبوب-آمون»، أنت أيها السفينة الرئيسية، والعصا التي تهشم، والسيف الذي يذبح الشعوب الأجنبية، وحربة اليد!
إنه نزل من السماء وولد في «عين شمس»، وكتب له النصر في كل أرض.
يا «بنرع-محبوب-آمون» ستبقى ما بقيت الأبدية، وستبقى الأبدية ما بقيت، وستمكث على عرش والدك «رع حور أختي».
(٥) قصيدة عن انتصار مرنبتاح١١١
هذه القصيدة منقوشة على لوحة تذكارية من الجرانيت الأسود، وهي المسماة «لوحة إسرائيل»، وقد أقيمت في معبد الملك الجنازي، وكذلك على لوحة في معبد الكرنك كما يستدل على ذلك بقطعة وجدت هناك، وقد كانت بلا شك قصيدة ذات أهمية كبرى لدى الملك، وهي في مجموعها فخار بالنصر العظيم الذي أحرزه الملك على اللوبيين في السنة الخامسة من حكمه (١٢٣٠ق.م)، وبه نجت مصر من خطر عظيم.
والقصيدة تزخر بالاستعارات والتشبيهات المختارة؛ مما أسبغ عليها صورة أدبية. وقد وصف فيها الشاعر هزيمة الأعداء بمهارة تدعو إلى الدهشة، فكأنها صورة قد رسمها المثَّال أمامنا، غير أن هذه الصورة ناطقة. يضاف إلى ذلك أن الشاعر في وسط هذه المدائح وتلك الأعمال الجسام التي قام بها «مرنبتاح» للذود عن حياض بلاده وتخليصها من غارات اللوبيين وكسر شوكتهم، لم يَفُته أن يصف الفرعون بالاستقامة والعدل، فهو يعطي كل ذي حق حقه، «فالثروة تتدفق على الرجل الصالح، أما المجرم فلن يتمتع بغنيمة ما، وما أحرزه الإنسان من ثروة أتت عن طريق غير مشروع تقع في يد غيره لا في يد أطفاله.»
ثم نرى الشاعر ينتقل إلى وصف السلام والطمأنينة والرخاء التي سادت البلاد بعد هذا الانتصار بصورة هي المثل الأعلى لما يتطلبه الإنسان في الحياة الدنيا، فحتى «الحيوان قد ترك جائلًا بدون راعٍ»، في حين أن «أصحابهم يروحون ويغدون مغنين، وليس هناك صياح قوم متوجعين»، ولا شك في أن هذا هو عين السلام الذي يتطلبه الإنسان في كل زمان ومكان.
وفي ختام هذه القصيدة الرائعة يعدِّد لنا الشاعر القبائل أو الأقاليم التي أخضعها «مرنبتاح»، ومن بينها قبيلة بني إسرائيل، وهذه أول مرة ذكر فيها هؤلاء القوم في المتون المصرية؛ ولذلك سميت هذه اللوحة باسمهم، وكذلك قيل عن «مرنبتاح» إنه فرعون موسى الذي ذكر في القرآن وغيره من الكتب المقدسة، وهذا طبعًا لا يرتكز على حقائق تاريخية.
المتن
التحدث عن انتصاراته في جميع الأراضي، وكل الأراضي جميعًا قد أخبرت بذلك وصارت تشاهد جمال أعمال الفروسية.
الملك «مرنبتاح»، الثور القوي، الذي يذبح أعداءه، جميل الطلعة في ميدان الشجاعة حينما يُهاجم.
وهو الذي أزاح تلًّا من النحاس من فوق ظهور الشعب حتى يتمكن من منح من كانوا في الأسر الهواء.
وإنه الملك «مرنبتاح» الواحد الفرد، الذي يبعث القوة في قلوب مئات الألوف، ويدخل نفس الحياة في أنوفهم عند رؤيته.
وكان مُحيَّا إخوانه يبدو مفترسًا يريد الفتك به، وقد تحارب ضباطه فيما بينهم، وحرقت خيامهم وتحولت إلى رماد، وكل متاعه صار طعامًا للجنود.
وقد وصل إلى بلاده محزونًا، وكل فرد كان قد تخلف في أرضه كان يستشيط غضبًا (؟) … الذي عاقبه القدر هو الذي يحمل الريشة الحقيرة!
إنه رب مصر العظيم، والقوة والشجاعة متاعٌ له. فمن يجسر على الحرب الآن وهو يعلم كيف يخطو قدمًا؟
إن من ينتظر هجومه لغبي أحمق، ومن يتعدى على حدوده لا يعلم ما يخبئه له الغد.
وهذا ما يقوله أرباب «عين شمس» خاصًّا بابنهم «مرنبتاح-محبوب-آمون»: «سيكون له عمر كرع ليدافع عن الضعيف ضد كل أرض أجنبية. وجعل مصر فوق … للذي نصبه ليكون ممثله الدائم؛ ليتمكَّن من تقوية سكانها. انظر إن الإنسان يعيش «في أمان» في عصر «الملك» الشجاع، ونفس الحياة يأتي من يد الواحد القوي، والثروة تتدفَّق على الرجل الصالح، ولن يمتع مجرم بغنيمته (؟)، والثروة التي يحرزها الإنسان من طريق غير مشروع تقع في يد غيره لا في يد أطفاله.»
وقد أشرق السرور العظيم على مصر، وانبعث الفرح من بلدان «الدميرة (مصر)»، وتتحدث الناس عن الانتصارات التي أحرزها «مرنبتاح» على «التحنو» (اللوبيين). ما أعظم حبهم للأمير المظفر! وما أكثر تعظيمهم له بين الآلهة! ما أسعده حظًّا رب القيادة! آه إنه لحسن أن يجلس الإنسان ويتحدث! والناس تغدو وتروح ثانية دون أي نق في الطريق، وليس هناك أي خوف في قلوبهم.
ومعاقل الحوائط أصبحت هادئة، ولا يوقظ حراسها إلا الشمس.
وليس هناك نداء بالليل «قف. قف» (؟) بلغة الأجانب.
والناس يروحون ويغدون مغنين، وليس هناك صياح قوم يتوجعون.
والمدن أصبحت كرة أخرى معمورة، وذلك الذي زرع غلة سيأكل منها أيضًا.
لقد وجهه «رع» إلى مصر ثانية، وقد وُلد مقدرًا له حمايتها، هو الملك «مرنبتاح».
ويقول الرؤساء منطرحين أرضًا «السلام».
والتحنو قد خربت.
وبلاد خاتي أصبحت مسالمة.
وكنعان أسرت مع كل خبيث.
وأزيلت عسقلان.
و«جيزر» قبض عليها.
و«بنوام» أصبحت لا شيء.
وكل الأراضي قد وجدت السلم.
وكل من ذهب جائلًا أخضعه ملك الوجه القبلي والبحري «بنرع»-محبوب-«آمون».
ابن الشمس «مرنبتاح» منشرح بالصدق.
معطي الحياة مثل «رع» كل يوم.
(٦) قصيدة قصيرة عند تولية «مرنبتاح»١٣٧
(٧) قصيدة في تولية «رعمسيس» الرابع١٤٠
هذه الأغنية وُضِعت في مديح «رعمسيس» الرابع. وقد وجدت مكتوبة على قطعة من شظيات الحجر الجيري كَتَبَها «أمنحت»، وهو كاتب من كتَّاب جبانة طيبة، والشعر كتب في السنة الرابعة من حكم هذا الملك، ولا نزاع في أنها أغنية في مديح للملك لأنه أعاد النظام إلى البلاد بعد القضاء على القلاقل الداخلية بتولِّيه على عرش البلاد.
المتن
ما أسعده من يوم! فالسماء والأرض في فرح؛ لأنك أصبحت رب مصر العظيمة. وهؤلاء الذين قد ولَّوا الأدبار رجعوا ثانية إلى مدنهم، والذين كانوا قد اختبئوا عادوا كرة أخرى إلى الظهور.
والذين كانوا جياعًا أصبحوا بطانًا سعداء، والذين ظمئوا صاروا مرتوين.
والعراة أصبحوا يلبسون ملابس الكتان الجميلة، والقذرون صارت لهم ملابس بيضاء.
والسفن تنشرح على البحر؛ لأنه لا أمواج فيه (؟) … وترسو على البر بالهواء وبالمجاديف.
وإنها لمنشرحة حينما نقول: «الملك حك-معات-رع» المحبوب من «آمون» يلبس التاج الأبيض ثانية.
(٨) تمنيات طيبة للملك١٤٥
حوِّلي وجهك إليَّ أنت يا أيتها الشمس المشرقة، التي تضيء الأرضين بجمالها، أنت يا شمس الإنسانية التي تمحو الظلام من مصر. إنك في طبعك كوالدك «رع» الذي يشرق في القبة الزرقاء، أشعتك تنفذ إلى الكهوف، وليس هناك مكان يخلو من جمالك. إنك تخبر كيف تصير الأمور في كل أرض، على حين أنك ترتاح في قصرك وتسمع كلمات كل الأراضي؛ لأن لك عشرات الألوف من الآذان، وعينك أكثر لمعانًا من النجوم في السماء، ونظرك أحدُّ من نظر الشمس، وإذا تكلم إنسان وفمه في كهف فإن كلامه رغم هذا يأتي إلى أذنك، وإذا حدث شيء خفية رأته عينك رغم ذلك.
آه يا «نبرع» محبوب آمون، يا رب الرشاقة الذي يخلق نفس الحياة.
•••
إن من يُنعم النظر في محتويات القصيدة الأولى وما جاء فيها من وصف الرخاء والسعادة والنعيم التي عمت البلاد عند تولية هذا الفرعون لا يلبث أن يرجع بذاكرته إلى تلك الصورة المظلمة القاتمة الموئسة التي قرأناها في وصف الخراب والدمار وما آلت إليه حالة البلاد من البؤس والشقاء وانقلاب الأوضاع الاجتماعية في تحذيرات الحكيم «أبور». وهي قطعة أدبية تعتبر من النماذج التي كان يسير على نهجها الكتَّاب والتلاميذ في عهد الدولة الحديثة.
لذلك لا نشك كثيرًا في أنها كانت أمام شاعرنا عند كتابة هذه القصيدة، غير أنه قد نسج على منوالها بصورة معكوسة، فالتعابير في كل منهما تكاد تكون واحدة في أسلوبهما، غير أن الأولى تصف لنا بؤس عصرها، والثانية تصور لنا رخاء زمانها ونعيمه.
أما الأنشودة الثانية فنجد فيها تأثير عقيدة التوحيد التي سنها «إخناتون» وحارب من أجلها، مع فارق هو أنه في مذهب «إخناتون» كان الإله الذي يناجي هو «آتون»، أما في قصيدتنا فكان الإله الذي يتضرَّع إليه ويتمدح باسمه هو إله الشمس القديم «رع»، وابنه هو الفرعون الذي كان يعتبر خليفته على الأرض؛ ولذلك كان يضارعه في كل أحواله وصفاته.