عندما كان أهل المتوفى يولمون وليمة له في قبره كانوا يجهِّزون وجبة أكله، ويعتقدون
أنه سيشهد الوليمة معهم، وكانت هذه الوليمة لا ينقصها شيء مما يحتاج إليه في مثل هذه
المناسبة، فكان يقدم فيها الخمر والموسيقى والغناء والأزهار والطيور.
وقد حفظ لنا لوح قبرٍ من الدولة الوسطى بداية إحدى هذه الأغاني التي كانت تطرب بها
الضيفان أثناء هذه الولائم. وقد مثل عليه عواد بدين يغني:
[أغنية الضارب على العود]
آه يا أيها القبر لقد أقمت للأفراح
ولدينا أغنية كاملة تلفت النظر كانت تغنَّى
في مثل هذه المناسبات. وهي تصف زوال كل الأشياء الدنيوية لتحث السامعين على التمتع
بأكبر قسط ممكن مدة حياتهم. والدولة الحديثة التي قد حفظتها لنا
٢ عَرفَت أنها مأخوذة من بيت الملك «أنتف»؛
٣ أي من قبره، وقد كتبت أمام العواد أيضًا. وتوجد صورة كاملة منها بين
أغاني الدولة الحديثة:
إن الأمور تسير سيرًا حسنًا مع هذا الأمير الطيب، وإن المقدر الجميل قد وقع.
٤
فتذهب أجسام وتبقى
٥ أخرى منذ عهد الذين سبقونا.
والآلهة
٦ الغابرون راقدون في أهرامهم، وكذلك الأشراف والمعظَّمون قد دفنوا في
أهرامهم.
والذين بنوا بيوتًا قد أصبحت مساكنهم كأن لم تكن. فماذا جرى لهم؟
لقد سمعت أحاديث «إمحوتب» و«حردادف»
٧ اللذين يتحدث بكلماتهما في كل مكان؛ فأين مساكنهم (الآن)؟ جدرانهم
دمرت، ومساكنهم لا وجود لها، كأنْ لم تكن قط.
ولم يأت أحد من هناك ليحدثنا عن حالهم، ويخبرنا عما يحتاجون إليه؛ لتطمئن قلوبنا
(؟) قبل أن نذهب نحن كذلك إلى المكان الذي ذهبوا إليه.
٨
كن فرحًا حتى تجعل قلبك ينسى أن القوم سيحتفلون يومًا ما بموتك؛ فمتع نفسك ما دمت
حيًّا، وضع العطر على رأسك، والبَس الكتان الجميل، ودلِّك نفسك بالروائح الذكية
المقدسة.
وزد كثيرًا في المسرَّات التي تملكها، ولا تجعلنَّ قلبك يكتئب! اتبع رغباتك وافعل
الخير لنفسك (؟). افعل ما تميل إليه على الأرض، ولا تغضبنَّ قلبك حتى يأتي يوم
نعيك. ومع ذلك فإن صاحب القلب الساكن
٩ لا يسمع عويله، وإن الصياح لا ينجي إنسانًا من العالم السفلي.
[وفي أسفل مكتوب هذا الحداء]:
اقضِ اليوم في سعادة، ولا تجهدنَّ نفسك! أصغِ، لا يستطيع أحد أن يأخذ متاعه معه.
أصغِ، وليس في قدرة إنسان ولَّى أن يعود ثانية.
أغاني الولائم
هذه الأغنية الرشيقة التي تحض الإنسان على التمتع بهذه الحياة الفانية قد وصلت
إلينا من عصر أقدم مما نحن بصدده، وقد وجدت منها رواية تامة في قبر أحد كهنة طيبة
١٤ القديمة وهي:
ما أهدأ هذا الأمير الصالح! إن مصيره الطيب قد حان حينه.
إن الأجسام ينتهي أجلها منذ وقت الإله، ويحل محلها جيل آخر.
والإله «رع» يشرق في الصباح ويغيث «آتوم» في «مانوم»،
١٥ والرجال تلقح والنساء يحملنَ، وكل أنف يتنسَّم الهواء. ويطلع النهار
وأطفالهم يذهبون فرادى وجماعات إلى أماكنهم.
١٦
أَمضِ اليوم في متاع أيها الكاهن! ضع العطر والزيت الجميل في خياشيمك، وتيجان
الأزهار وأزهار البشنين حول عنق أختك
١٧ التي تحبها الجالسة بجانبك! وليكن الغناء والموسيقى أمامك! واطرح كل
الآلام وراء ظهرك، وفكر في السرور إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تصل فيه إلى الميناء
في الأرض التي تحب الصمت …
اقضِ يومك في سرور يا «نفر حتب»، أنت أيها الكاهن ذو اليدين الطاهرتين، لقد سمعت
ما جرى …
١٨ جدرانهم قد خربت، وبيوتهم كأن لم تغنَ بالأمس، كأنهم لم يكونوا منذ وقت
الإله …
١٩
[وفي هذا كفاية لأول قسم من أقسام الشعر الثلاثة. وما حفظ من الأقسام الباقية يدل
على أن المغني قد تكلَّم عن احتفال الدفن والحياة كما هو في الآخرة، وأعمال الخير
التي من أجلها تُبقِي ذكرى المتوفى محترمة، ولكن نجد من بين سطورها: «اذكر اليوم
الذي تنزل فيه إلى أرض الموتى، ولم يعد أحد منها بعد.»، ثم يعاد الحداء بالتوالي:
«اقضِ يومك في سرور.»
وتوجد من وقت لآخر قطع من أغانٍ كان يُطرب بها الموسيقار الضيفان مكتوبة بجوار
صور أخرى تمثل وليمة أقيمت في القبر؛ فمثلًا يوجد في المتحف البريطاني
٢٠ النقش المعروف الذي يمثل ثلاث بنات يغنين، ورابعة تلعب معهن على
القيثارة، واثنتين أخريين ترقصان، والألفاظ التي كُنَّ يغنِّينَها تُشِيد بنعمة
الفيضان الجديد.
لقد غرس حب
٢١ جماله في كل جسم، وقد صنع ذلك «بتاح» بيديه ليكون عطرًا لقلبه، فالترع
ملأى بالماء من جديد،
٢٢ والأرض قد غمرت بحبه.
حسن حظ الموتى
مما لا ريب فيه أن أغنية الشراب القديمة التي تنصح الإنسان بأن يتمتع بالحياة على
قدر ما يستطيع؛ إذ لا يعرف أحد حال الموتى، قد أثَّرت تأثيرًا مؤلمًا في نفس المصري
التقي؛ ولهذا ألَّف أغنية احتجاجًا على أغنية الشراب، فإذا غنَّى الضارب على العود
في الولائم هذه الأغاني الدنيوية أردفها بالأغنية التالية،
٢٣ كأنه يعتذر عن الأولى، وهي تبتدئ بخطاب للنوتي ولآلهة جبانة طيبة؛
لأنهم في قبورهم يسمعون ما يتغنَّى به في الولائم: «اسمعوا جميعًا يا أيها النبلاء
الممتازون، وأنتم يا أيها الآلهة التابعون «لربة الحياة»
٢٤ كيف تؤدَّى المدائح إلى هذا الكاهن، وكيف يقدم الاحترام إلى الروح
السامي لهذا النبيل، وقد أصبح الآن إلهًا يعيش خالدًا معظمًا في الغرب. فلتكن هذه المدائح
٢٥ ذكرى له في الأيام المقبلة، ولكل فرد يزور «قبره».
٢٦
لقد سمعت
٢٧ هذه الأغاني التي في قبور الأزمان الغابرة. ماذا يقولون حينما يمتدحون
الحياة الدنيا ويحقرون من شأن عالم الموتى، ولِمَ يقفون هذا الموقف من أرض الخلود،
وهي العادلة الحقة التي لا أهوال فيها؟ إنها تمقت الشجار، وليس هناك إنسان يحذر
زميله.
هذه الأرض التي لا عدو فيها،
٢٨ وكل أقاربنا ما كثون فيها منذ أول يوم في الدهر. وهؤلاء الذين سيعيشون
آلاف آلاف السنين سيأتون هم جميعهم هناك، ولا أحد يبقى في أرض مصر، وليس هناك من لا
يرد حوضها.
إن بقاء ما على الأرض حلمٌ لن يتحقق، والذي يصل إلى الغرب يقال له: «أهلًا بك
سالمًا معافًى.»
ويلاحظ كما نوهنا بذلك من قبل أن الشاعر الحديث يدافع عن آخرته، فلم يعد يتحدث عن
أطايب مأكولاتها وما فيها من لذة ونعيم، ولم يعد يذكر لنا حتى «أوزير» — ملك الموتى
وإله الآخرة الشقيق — بل كان كل ما في جعبته أن يتحدث إلينا مادحًا في آخرته أنها
مقام الراحة والاستقرار في آخر المطاف بعد انتهاء حلم الحياة الغامض المبهم الذي
مرَّ فيه الإنسان سراعًا، ثم أفاق منه. ولا نزاع في أن هذه هي نفس روح التشاؤم التي
قرأناها في أغنية الضارب على العود، مع الفارق أن مؤلفها كان يؤمن بالآخرة
ظاهرًا.