الدراما «المنفية» أو تمثيلية بدء الخليقة
قد وصل إلينا المتن الحقيقي لوثيقة دونت في بداية عهد الاتحاد الثاني. ولدينا منه نسخة أخرى منقوشة على حجر أسود محفوظ الآن بالمتحف البريطاني، وكان من أمر ذلك الحجر أخيرًا أن استعمله القرويون المصريون قاعدة لطاحون تطحن عليها غلالهم، وقد استمروا في إدارة حجر الطاحون الأعلى على هذا الحجر مدة من الزمان دون أن يفقهوا شيئًا مما كانوا يمحونه بذلك من النقوش. على أن الذي بقي مقروءًا على ذلك الحجر الهام من الفقرات الممزقة له أهمية لا تقدر بثمن.
ومن يقرأ السطر المنقوش على قمته باللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) الفاخرة يعرف شيئًا عن أصله؛ إذ يجد فيه اسم «شبكا»، وهو الفرعون الذي حكم مصر في خلال القرن الثامن قبل الميلاد، ويلي اسم ذلك الفرعون نقوش تقول: «إن جلالته (يعني نفسه) نقل تلك الكتابات من جديد في بيت والده «بتاح» جنوبي جداره.» وقد وجدها جلالته بمثابة تأليف للأجداد قد أكله الدود حتى أصبح لا يمكن قراءته من البداية للنهاية، وإذ ذاك قام جلالته بكتابته من جديد حتى أصبح أكثر جمالًا مما كان عليه من قبل؛ فعلى ذلك كان ملك مصر الأثيوبي الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد مهتمًّا بالمحافظة على الكتابة القديمة التي كتبها الأجداد، ولا بد أنها كانت مدونة على بردية، وإلا لما استطاع الدود أن يأكلها.
وقد نقل «شبكا» لحسن حظنا نسخته الجديدة على حجر لتبقى محفوظة على الدوام، ولكن مع ذلك لو بقي هذا الحجر يطحن عليه بضع سنين أخرى لقضي على بقاء أقدم مسرحية في العالم وعلى أول بحث فلسفي عرف لنا.
وقد سمي هذا المتن «شبكا» الأثيوبي في القرن الثامن قبل الميلاد «تأليف الأجداد»، وهو تعبير مبهم يوحي إلينا بأن كتاب هذا الملك فاتهم أن الكتابة التي كانوا ينسخونها عمرها إذ ذاك يزيد عن ٢٥٠٠ سنة. ولكن لغة هذه الكتابة ومحتوياتها القديمة لم تدع مجالًا لأي شك عن أصلها العظيم القدم؛ لأن لغة الوثيقة تحتوي على اصطلاحات تدل على أنها قديمة جدًّا. كما أن المتن يكشف لنا عن موقف تاريخي يدل بداهة على أن وقوعه لا يمكن إلا في بداية الاتحاد الثاني (أي في عهد تأسيس الأسرة الأولى على يد «مينا» حوالي سنة ٣٤٠٠ قبل الميلاد)، وعلى ذلك يكون هذا المتن من إنتاج الحضارة المصرية في منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد؛ أي إنه قد ظهر لنا أقدم أفكار وصلت إلينا مدونة في تاريخ العالم لأقدم أقوام.
وقد تركت لنا الفجوة المؤلمة التي في وسط ذلك الحجر — كما أشرنا إلى ذلك سابقًا — جزءًا من المتن على اليسار وجزءًا على اليمين وخاتمة. وينفصل المتن الذي في البداية بفواصل متكررة على صورة فصول صغيرة معظمها في شكل صيغ يخاطب بها بعض الآلهة البعض الآخر.
وقد محيت خاتمة هذه المسرحية من جراء الثقب الذي حفر في وسط حجر الطاحون المذكور. وهذه المسرحية تعد بلا شك أقدم ما عرف من نوعها.
ونجد بعد أن نترك الفجوة التي تجاه الطرف الأيمن من الحجر بحثًا فلسفيًّا يبدو من الصعب أن نربطه بالمسرحية. وقد اقترح «زيته» علينا ضرورة تصور أحد رجال الدين المشهورين، أو كاهن مرتل كان يلقي جزءًا كبيرًا من رواية تمثيلية في شكل خطبة مطولة يظهر الآلهة المقصودون خلال إلقائها عند قص حادثة في الأسطورة فيلقون المحادثة في شكل محاورة، وذلك هو السبب الذي من أجله نجد محاورات الآلهة الذين أسهموا في التمثيل منتشرة في أجزاء المسرحية، وذلك هو السبب الذي جعل هذه الوثيقة تعتبر عند إلقاء أمثال هذه المحاورات تمثيلية في شكلها.
والوثيقة تشبه كل الشبه — بحالة تجذب النظر — القصص المقدسة التي مثلت في المسرحيات المسيحية الرمزية في القرون الوسطى، والمسرحية المنفية تعد أقدم سلف لها.
وقد وجدنا أن «بتاح» إله منف يقوم في كل من الجزء المسرحي والجزء الفلسفي «بدور إله الشمس» الذي يعتبر إله مصر الأسمى. وذلك يفسر لنا العادة التي كان يسعى بها هذا الإله المحلي للحصول على عظمة إله الشمس وبهائه، وذلك بأن يتقلد سلطته ويستولي على الدور الذي لعبه في تاريخ مصر الخرافي.
وتدل بوضوح سيادة «بتاح» في تلك المسرحية على تزعمه «منف» مدينته الأصلية تزعمًا سياسيًّا، وتلك الزعامة ترجع في هذه الحالة إلى انتصارات «مينا»، مؤسس الأسرة الأولى، وذلك الملك هو الذي أسَّس «منف» لتكون عاصمته ومقرًّا لملكه. وبالرغم من وجود أصل تلك المسرحية المنفيِّ فإن المنبع الأصلي لمحتوياته العجيبة كان بلا شك بلدة «هليوبوليس»، وبذلك نجد فيها أصل لاهوت كهنة عين شمس الفلسفي كما تطور في عهد الاتحاد الأول (أي عندما وصل إلى المرحلة التي نجد فيها كهنة «منف» يخصون به إلههم «بتاح»).
فهذه المسرحية تبرز لنا إذن إله الطبيعة القديم، وهو «إله الشمس رع» متحولًا تمامًا إلى قاضٍ يحكم في شئون البشر، تلك الشئون التي قد أصبحت محدودة من الناحية الخلقية. فهو يحكم عالمًا كان من الواجب عليه أن تسير فيه حياة البشر طبقًا لقواعد تفصل بين الحق والباطل، والمدهش جدًّا في ذلك أننا نجد أمثال هذه الأفكار كانت قد ظهرت في منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد.
ويمكن تلخيص محتويات هذه المسرحية بأنها محاولة لتفسير أصل الأشياء، ويدخل في ذلك نظام العالم الخلقي، وكذلك تدل على أن أصلها يرجع إلى «بتاح» إله «منف». أما كل العوامل التي ساعدت على خلق العالم أو المخلوقات التي كان لها نصيب في ذلك، فلم تكن إلا مجرد صور أو مظاهر «لبتاح» إله «منف» المحلي المسيطر على أصحاب الحرف والصناعات، والذي يعتبر إله كل الحرف.
ولم يكن فتح «مينا» مصر واتخاذ «منف» الواقعة بين الوجه القبلي والوجه البحري عاصمة ومقرًّا لملكه إلا خطوة نحو الاعتقاد بأن «بتاح» هو الصانع الأعظم الذي خلق العالم. على أن المجهود الذي بذل لينال به الإله «بتاح» هذه المكانة قد ساعده مساعدة جدية على استيلائه على السلطة والسيادة الفريدة التي كان يتمتع بها الإله «رع» الذي كان يتزعم آمادًا طويلة آلهة مصر بما كان له من المكانة الممتازة في «هليوبوليس». وتبرز لنا المسرحية المنفية المكانة السامية التي احتلها «بتاح» في الفقرات الختامية التي يجب علينا فحصها الآن. فنعلم أولًا أن «بتاح العظيم هو قلب الآلهة ولسانهم.» وهذا التفسير الخارق للمألوف يصير أكثر وضوحًا لنا عندما نعلم أن «القلب» معناه «العقل» أو «الفهم». أما اللسان فهو تعريف للكلمة التي قد لفظت؛ فهو الشيء الذي يجعل أفكار العقل ظاهرة، ويخرجها إلى حيز الوجود حقيقة بارزة. وبذلك نصبح الآن في مركز يمكننا من تعقب معنى القصة القديمة عندما نشرع في التحدث عن أصل الأشياء:
(١) الفكر
والتعبير عنه بصفته الأصل والقوة المساعدة لكل من الأمر الإلهي والأمر الدنيوي. «حدث أن القلب واللسان تغلَّبا على كل عضو في الجسم وعلما الإنسان أن «بتاح» كان في كل صدر على هيئة القلب، وعلى هيئة اللسان في كل فم عند جميع الآلهة وجميع الناس وجميع الزواحف وجميع الأحياء. على أن «بتاح» كان يفكر ويأمر بكل شيء يرغب فيه.»
(٢) الأمر الدنيوي
«أما من جهة» الذي يفعل ما يحب، والذي يفعل ما يكره، فإن الحياة يُعطاها المسالم، والموت يحيق بالمجرم. وبذلك يسيَّر كل عمل وكل حرفة، فنشاط الذراعين وسير الساقين وحركة كل عضو تكون حسب هذا الأمر الذي يدبره القلب، والذي يخرج من اللسان، وهو الذي يجعل لكل شيء قيمة.
(٣) الأمر الإلهي
وحدث أنه قيل عن «بتاح» الذي خلق «آتوم» (إله الشمس في هليوبوليس) وأوجد الآلهة، وهو «تاتنن» (اسم قديم لبتاح) مصور الآلهة ومصور كل ما خرج منه، سواء أكان طعامًا أم غذاءً أم مئونة الآلهة أم أي شيء طيب. وبذلك أصبح من الظاهر المفهوم أن قوته (بتاح) كانت أعظم من قوة كل الآلهة، وبذلك اطمأن «بتاح» بعد أن خلق كل شيء وكل كلمة مقدسة، وهو الذي ذرأ الآلهة وأقام المدن، وأسس المقاطعات، ووضع الآلهة في أماكنهم المقدسة وثبت دخلهم المقدس، وأعد محاريبهم ونحت تماثيل لأجسامهم كما تحب قلوبهم، وبذلك حلت الآلهة في أجسامها المصنوعة من كل نوع من الخشب ومن كل صنف من المعادن، ومن كل نوع من الطين، ومن كل ماء ينمو عليه (على بتاح بصفته إله الأرض) من الأشياء التي مثلت «هذه التماثيل».
وبذلك أصبحت في قبضة «بتاح» المحب للسلام والمصلح للآلهة ووظائفها بصفته رب الأرضين (مصر)، وكانت المخزن المقدس (هي العرش العظيم) «منف» التي تدخل السرور على قلوب الآلهة الذين في بيت «بتاح»، وهي سيدة كل الحياة ومنها تستمد الأرض حياتها (مصر). وعند هذه النقطة تنتقل بنا القصة إلى أسطورة «أوزير» لتفسر لنا السبب الذي من أجله أصبحت «منف» مخزنًا لغلال مصر. غير أننا سنضطر لإرجاء فحص موضوع «أوزير» في المسرحية المنفية إلى أن نتم فحص وظائف إله الشمس التي شاهدنا أن «بتاح» قد انتحلها لنفسه، وإذا أنعمنا النظر في محتويات موضوع بحث «بتاح» الذي سبق ذكره اتضح لنا أن نفس الأفكار قد تكررت مرات عدة، وعلى ذلك نجد أن الموضوعات الثلاثة التي حاولت فيما سلف أن أفصل بعضها من البعض الآخر، وأميزها بعناوين فرعية، ليست بحال ما مستقلة عن بعضها، بل يلتحم بعضها بالبعض الآخر بشكل واضح.
فلم يكن في مقدور فكر الكهانة العتيق أن يعدل عن الاستمرار في ذكر إنتاج الطعام في أية مناسبة تمس الأمر الإلهي؛ وسبب ذلك يرجع إلى أنه بالرغم من أن الموضوع الأصلي كان خاصًّا بالأمر الدنيوي فإنه مع ذلك كان إجراءً متعلقًا بقوة الآلهة. ويرجع الأساس المدهش لهذا النظام الأرضي المبكر إلى الغرض الأصلي الذي يُرجعُ منبعَ كل شيء إلى العقل أو الفكر؛ وذلك أن جميع الأشياء ظهرت إلى حيز الوجود بما فكره القلب (العقل) وأمر به اللسان (الكلام)، وقد استعمل المصري كلمة «قلب» لتدل على «العقل» أو «الفهم»؛ وذلك أنه لم يكن معتادًا استعمال المعنويات، فكان يعتقد أن القلب هو مركز الفهم. أما الأداة التي أصبح بها العقل قوة منشئة فهي الكلمة التي لفظت، إذ أعلنت الفكرة وألبستها ثوب الحقيقة، وبذلك ظهرت الفكرة إلى حيز الوجود في عالم الكون المحس، وتوحد الإله نفسه مع القلب الذي يفكر واللسان الذي يتكلم. فهل بعد ذلك يمكننا أن نتعرف الأساس التاريخي السحيق في القدم لعقيدة «الكلمة» في أيام كتاب الإنجيل (العهد الجديد)؟ «في البدء كانت الكلمة، وكانت الكلمة مع الله، والكلمة كانت الله.»
وهل نجد هنا صدًى لتجارب إنسانية عتيقة على شاطئ النيل؟
ومن البديهي أن هذه الفكرة الهائلة التي ظهرت في عصر مبكر هكذا في تاريخ البشر، أو بتعبير أحسن في عصر ما قبل التاريخ، هي في حد ذاتها برهان على تقدم ناضج بدرجة مدهشة للعقل الإنساني في مثل هذا التاريخ البعيد، إذ تنتقل فجأة وبدون وجود مراحل انتقال تدريجية من عالم آلهة الطبيعة إلى عهد حضارة ناضجة نامية أنتج فيها منظمو الديانة والحكومة تفكيرًا معنويًّا ناضجًا. فرأوا أن العالم الذي يحيط بهم يعمل بعقل، وعلى ذلك فهو مخلوق ومحميٌّ الآن بعقل عظيم محيط بكل شيء، وأنه قد صبغ بالعقيدة القائلة بحلول الإله في كل شيء؛ ولذلك كانوا يعتقدون أن هذا الإله لا يزال يعمل عمله في كل صدر وفي كل فم في جميع الكائنات الحية. وهذه الفكرة قد استمرت مدة طويلة؛ ولذلك نجد أن المصري الذي عاش بعد ذلك العهد بألفي سنة كان يعتقد في «وحي الإله الذي في كل الناس»، أو يشير مخاطبًا غيره إلى «الإله الذي فيك»، وكان من الظاهر جدًّا أن الجماعة المنسقة والحكومة المنظمة لهما أثر عظيم على عقول هؤلاء المفكرين القدامى؛ إذ كان الاعتقاد بأن المركز السامي والمرتبة الرسمية والوظائف الحكومية التي يسير بمقتضاها المجتمع الإنساني هي من وضع عقل سامٍ، وأنها برزت إلى الوجود بكلمة هذا العقل السامي، ولذلك كانت الشئون العملية في الحياة العامة والحرف الصناعية تسير حسب «الأمر الذي يفكره القلب ويخرج من اللسان».
والواقع أنه يظهر في هذه المرحلة السحيقة من التقدم البشري اعتراف بالحقيقة القائلة:
«إن بعض السلوك ممدوح وبعضه مذموم، وإن كل إنسان يعامل بحسب ذلك، فالحياة يُمنحها المسالم (الذي يحمل السلام) ويحيق الموت بالمجرم (الذي يحمل الجريمة). على أنه مما يجذب النظر هنا أن هؤلاء المفكرين القدامى لم يستعملوا في هذا المقام الكلمتين «طيب» و«خبيث»؛ «فالمسالم» في نظرهم الذي يفعل ما يُحَب و«المجرم» هو الذي يفعل ما يُكرَه. وهاتان الكلمتان في نظرهم هما الحكمتان الاجتماعيتان اللتان تدلان على ما هو ممدوح «محبوب» وما هو مذموم «مكروه». ويؤلف هذان التعبيران «ما هو محبوب» و«ما هو مذموم» أقدم برهان على اقتدار الإنسان على التمييز بين الخلق الحسن والخلق الشرير، وقد ذكر هنا لأول مرة في تاريخ البشر.»
والآن نعود إلى تلخيص قصة الدراما الخاصة بأوزير كما وجدناها في الدراما المنفية؛ فنجد في البداية قطعًا مبعثرة على الحجر من التي لم يمحها دوران حجر الطاحون خاصة بخلق مصر بوساطة الإله «بتاح»، وأنه هو الذي خلق العالم بوساطة الإله «آتوم»، ثم نجد متنا سليمًا يبتدئ بسرد حادثة تقسيم مصر على يد الإله «جب» بين «حور» و«ست» لحسم النزاع القائم بينهما، ثم يحاور الإله «جب» كلًّا من «حور» و«ست» فيخبر «ست» أن يذهب إلى الوجه القبلي حيث ولد ويتولى حكمه، ثم يخاطب «حور» مخبرًا إياه أن يذهب إلى الوجه البحري حيث ولد هو الآخر ويتولى عرشه، وبعد ذلك يخاطب «جب» كلًّا من «حور» و«ست» قائلًا لهما: لقد فصلت بينكما؛ أي فصلت بين الوجه القبلي والبحري، وبعد ذلك يأتي متن كان يلقيه المرتل غالبًا في المسرحية يقول فيه: لقد تألم قلب «جب» عندما فطن أن نصيب «حور» في ملك مصر كان يعادل نصيب «ست»، وعلى ذلك خص الإله «جب» كل إرثه ﺑ «حور»؛ أي ابن ابنه بكر أولاده، ثم يعقب ذلك متن يخاطب فيه الإله «جب» تاسوع الآلهة قائلًا لهم: إنه قرَّر أن حور هو الوارث الوحيد له بوصفه ابنه الأكبر ووريثه الوحيد، «حور» ابن ابنه ابن آوى الجنوب، وغير ذلك من الألقاب التي كان يلقب بها «حور».
بعد هذه المحاورة يلقي الكاهن المرتل على ما يظهر خطابًا قائلًا: إن حور قد نصب ملكًا على البلاد كلها. وظهر لابسًا التاج المزدوج، وقد ذُكرتْ هنا «منف» بوجه خاص أنها هي المكان الذي وحَّد فيه الأرضين، وبذلك تكون لدينا إشارة صريحة إلى توحيد مصر تاريخيًّا، وتأسيس مدينة «منف»، وهو حادث يظهر أن المسرحية قد كتبت للاحتفال به، وقد وضع النباتان الرمزيان للوجه القبلي والبحري وهما القصب والبردي في معبد الإله «بتاح»، وهذا يمثل تصالح «حور» و«ست»، وهذا الحادث يقال إنه وقع في معبد الإله «بتاح».
والمنظر التالي يبين كيف أن أوزير كان قد أغرق، وكيف أن جسمه انتشل من الماء بمعونة أختيه «إزيس» و«نفتيس» بأمر الإله «حور»، ثم يتلو ذلك حوار بين «حور» من جهة و«إزيس» و«نفتيس» من جهة أخرى، فيطلب إليهما «حور» أن يذهبا لتخليص جسم «أوزير»، وعندئذ تقول الإلهتان لأوزير: إنهما قد أتتا لتأخذاه راجيتين أن يفتح عينيه (أي يعود إلى الحياة). والمنظر التالي يقص علينا كيف أنهما أحضرا جثة «أوزير» إلى الأرض ودفناها في قصر الملك في الجهة الشمالية من الأرض، وهي المكان الذي وصل فيه إلى الشاطئ. وبقية المتن في هذا المنظر المهشم يظهر أنه يتكلم عن كيفية بناء قصر الملك في «منف» (يقصد بذلك قبر أوزير)، ثم يتبع ذلك محاورة بين «جب» و«تحوت» وأشخاص آخرين خاصة ببناء الجدار الأبيض (منف). والمنظر التالي يبتدئ بقص متن قصير خاص بالإلهة «إزيس» ولم نفهم منه شيئًا كثيرًا لتهشُّمه. ويعقب ذلك خطاب دراماتيكي تحض فيه «إزيس» كلًّا من «حور» و«ست» على ترك الشجار وأن يتآخيا سويًّا. ويعقب ذلك متن مهشم يشير إلى قصر الملك وأخيرًا إلى سيد عظيم قوي قد قام بتوحيد شيء لا نعرفه؛ لأن المتن مهشم. ثم تأتي بعد ذلك قائمة بالنعوت المختلفة التي يحملها الإله «بتاح».
وأخيرًا يقص علينا المتن ذلك المقال الفلسفي الطويل عن اللاهوت المصري وكيفية نشوء العالم وهو ما شرحناه فيما سبق. ولا بد أن القارئ قد لاحظ أن تتابع حوادث هذه الدراما ليس بمنطقى! إذ نجد المؤلف يتكلم عن تقسيم الأرضين بين «حور» و«ست» ثم بعد ذلك يتكلم لنا عن موت «أوزير» وانتشاله من الماء ودفنه، وهذا ما لا يطابق سير قصة «أوزير»؛ إذ العكس هو الرواية المشهورة، ولكن ربما كانت هناك رواية أخرى لهذه الأسطورة بهذا الوضع ولم تصل إلينا بعد. غير أننا لا يمكننا أن نسلم بذلك؛ لأن متن الدراما قد وصل إلينا منه طرفاه، أما الجزء الأوسط منه فقد وجد ممحوًّا تمامًا.
وسنورد هنا بعض المناظر التي بقيت لنا من هذه الدراما حتى يتمكن القارئ من قرنها بما سنورده بعد من كل من «دراما التتويج» و«دراما انتصار حور على ست». وسنقتفي في ذلك الترتيب الذي وضعه الأستاذ «زيته».
تقسيم الأرضين بين «حور» و«ست»: (المناظر من ٧ إلى ٩)
محاورة بين «جب» و«حور» و«ست» عن تقسيم البلاد: (المناظر من ١٠ إلى ١٢)
إعطاء «حور» الملك كله: (المناظر من ١٠ إلى ١٢)
ولقد كان مؤلمًا لقلب «جب» أن يكون نصيب «حور» مساويًا نصيب «ست»، وعلى ذلك أعطى «جب» «حور» كل الأرض؛ أعني أعطاها ابن ابنه بكر أولاده.
خطاب «جب» أمام التاسوع معلنًا أن «حور» الوارث الوحيد لكل البلاد (المناظر من ١٣ إلى ١٨)
تتويج «حور» ملكًا منفردًا في منف: (المناظر من ١٣ إلى ١٤)
لقد نصب «حور» «بمثابة ملك» على الأرض، وبذلك توحدت هذه الأرض، وسميت بالاسم العظيم «تاتنن» (أي أرض تنن) الذي يقطن جنوبي جداره، رب الأبدية (أي بتاح)، وقد نما على جبينه الساحرتان (أي تاجا الوجهين القبلي والبحري)؛ من أجل ذلك ظهر «حور» ملكًا على الوجهين القبلي والبحري ووحد الأرضين في مقاطعة الجدار (أي مقاطعة منف) في المكان الذي وُحدَ فيه الأرضان.
إيضاح
(٧–٩) يلاحظ في المتن الأول أن الإله «جب» عقد اجتماعًا، وأحضر فيه تاسوع الآلهة، وفصل في النزاع القائم بين «حور» و«ست» وأرسل كل واحد منهما إلى عاصمة ملكه. وهذا المتن يغلب أن المرتل كان يلقيه، وهو تفسير للمحاورة التي تأتي بعده مباشرة، وهو ما نسميه المتن التمثيلي، وسنرى أنه يشبه كل الشبه في تركيبه متن دراما التتويج. فإن المتن الأول يخبرنا عن الإلهين اللذين سيدور بينهما الحوار، ثم يأتي بعد ذلك الخطاب الذي يراد توجيهه، ثم يذكر بعد ذلك اسم الإله المخاطب، وذلك بين فاصلين كهذين || || ثم يأتي بعد ذلك اسم المكان أو الشيء الذي دار عليه الحديث في فاصل آخر هكذا || || وبعد الانتهاء من الحوار — أو بعبارة أخرى من المتن التمثيلي — يبتدئ الكاهن المرتل متنًا آخر يسرد فيه الحوادث التي ستكون موضع حوار أو تمثيل آخر، وهكذا على النحو الذي شرحناه، وهو الذي سنراه في تمثيلية التتويج.