الشعر الديني
تكلمنا في الفصل السابق للأغاني والأناشيد عن الشعر الدراماتيكي والدراما، وقلنا: إن أقدم وثيقة وصلت إلينا عن التفكير الإنساني هي الدراما المنفية؛ إذ يرجع عهدها إلى (سنة ٣٤٠٠ق.م)؛ أي في باكورة الاتحاد الثاني الذي شاهدته البلاد؛ والوثيقة الثانية التي تتلو هذه الدراما في القدم هي «متون الأهرام»، التي تعدُّ بحق أهم مصدر يضع أمامنا صورة عن الحالة الدينية والعقلية والاجتماعية في تلك الأزمان السحيقة. وسنضع هنا أمام القارئ لمحة عن تاريخ كشف هذه النقوش، ومحتوياتها، والغرض الذي من أجله نُقشت، ومقدار أهميتها في الأدب الديني المصري والحياة المصرية، ثم نورد بعض أمثلة منها بوصفها أقدم نوع من الشعر الديني:
إن أول ما عُرف من الأهرام — بلا شك — هي الأهرام الثلاثة: «خوفو» و«خفرع» و«منكاورع». وقد اقتحمها الباحثون عن الكنوز والعلماء، ولم يجدوا فيها ما يَشفي الغلة، وكان الظن السائد أن كل الأهرام كانت عارية عن النقوش إلى أن اقتحم العمال المصريون الذين كانوا يعملون في الحفائر تحت إشراف «مريت» في سنة ١٨٨٠ ميلادية هرم «بيبي الأول»، ثم دخلوا هرم الملك «مرنرع»، وقد وجدوا جدران أروقة هذين الهرمين وممراتهما وحجراتهما مغطَّاةً بآلاف الأسطر من النقوش الهيروغليفية، وهذه النقوش هي التي يطلق عليها الآن اسم «متون الأهرام».
ويظهر لنا على أية حال أن محتويات هذه المتون تشتمل على مادة أقدم من مادة عصور النسخ التي وصلت إلينا، وتشير ثماني النسخ التي بأيدينا إلى مادة كانت موجودة فيما مضى، ولكنها لم تكن مستمرة الاستعمال بعد؛ فإنك تقرأ فيها عن «فصل أولئك الذين يصعدون» و«الفصل الخاص بأولئك الذين يرفعون أنفسهم»، وذلك يدل على أن هذين الفصلين كانا مستعملين قديمًا في مناسبات لحوادث مختلفة في أساطير ذلك العهد القومية، وبذلك يعتبر هذان الفصلان أقدم عهدًا من متون الأهرام التي بأيدينا.
وكذلك توجد في هذه المتون إشارات إلى الخصومات التي كانت قائمة بين ملوك الشمال (الوجه البحري) وبين ملوك الجنوب (الوجه القبلي)؛ مما يدل على أنها كتبت قبل عهد الاتحاد الثاني؛ أي قبل القرن الرابع والثلاثين قبل الميلاد، هذا إلى أنه توجد فقرات غير هذه الإشارات يرجع تاريخها إلى باكورة عهد الاتحاد الثاني؛ أي في الوقت الذي كانت فيه تلك الخصومات مستمرة، وكان فيه ملوك الجنوب بالرغم من تلك الخصومات لا يزالون قابضين على زمام الحكم في الشمال ومحافظين على وحدة الدولة؛ وقد كتبت كل هذه الفقرات بوجهة نظر صعيدية.
على أننا نرى من ناحية أخرى أن بعض متون الأهرام قد ألفت في زمان متأخر معاصر لنفس الدولة القديمة؛ وذلك لأن الصيغ التي وضعت لحماية الهرم لم تكن بطبيعة الحال أقدم من الاهتداء إلى الشكل الهرمي الذي بدأ في القرن الثلاثين قبل الميلاد، ويوجد كذلك في خلال مدة القرن ونصف القرن المذكور التي كتبت في أزمنتها متون الأهرام الثمانية اختلاف جدير بالاعتبار. فإن لدينا حججًا قاطعة تدل على إدخال تنقيح ظاهر على النسخ المتأخرة العهد منها ليس لها نظير في النسخ القديمة، وبخاصة نقوش «بيبي الثاني وزوجه نيت»، وذلك يدل أيضًا على أن مراحل التفكير ونمو العادة والاعتقادات التي أخرجت هذه المتون إلى حيِّز الوجود، كانت لا تزال مستمرة في سيرها حتى ظهرت النسخة الأخيرة منها في باكورة القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد.
لذلك تمثل لنا هذه المتون حال عصر لا يقل عن ألف سنة. ولا يغرب عن الذهن أن ألف السنة هذه قد انتهت بالنسبة إلينا من نحو أربعة آلاف وخمسمائة سنة. والواقع أن مثل هذا القدر العظيم من الوثائق الباقية لنا عن العالم القديم ليس له مثيل في أي مكان آخر في العالم، وهذه المتون تؤلف خزانة من التجارب التي كانت تدور في حياة الإنسان القديم، ومعظمها مما لا يزال ينتظر دوره تحت محك البحث والدرس.
ولقد كانت الغاية المطلوبة من وضع متون الأهرام على وجه عام هي ضمان السعادة في الحياة الأخروية، ولكنها مع ذلك تصور لنا دائمًا جزر الحياة المحيطة بها ومدها، وشأنها في ذلك شأن كل أدب قومي؛ فإنها تنطق بعبارات تدل على سعة علم القوم الذين أخرجوها، وهذه العبارات متداولة في الحياة القومية التي نجدها في القصور والطرق والأسواق، أو هي عبارات أنشأتها العزلة والعكوف في المعابد المقدسة، وإن صاحب الخيال السريع يجد في هذه العبارات صورًا كثيرةً عن ذلك العالم الذي تقادمت عليه الدهور؛ فهي لذلك مرآته.
ومع أن هذه الصور تهتم بوجه خاص بذكر أحوال «الملك»؛ فإنها لم تُوصِدْ في وجوهنا باب العالم الذي كان حولها؛ فمثلًا عندما يعبر عن سعادة الملك في الحياة الأخروية، يقول: إن هذا الذي سمعته في البيوت وتعلمته في الطرقات في هذا اليوم حينما طُلب الملك بيبي للحياة (أي الموت).
ونلتقط لمحات عاجلة عن تلك الحياة في البيوت وفي الطرقات التي مضى عليها خمسة آلاف سنة: فالعصافير تشقشق على الجدران، والراعي يعبر الترعة خائضًا في الماء حتى الحزام حاملًا عبر الماء رضيع قطيعه الضعيف، والأم تدلل رضيعها عند الغسق، ويشاهد الصقر عند الغروب مخترقًا السماء، وتشاهد البطة البرية مخلصة قدميها فارَّة من يد الصياد الذي فشل في اقتناصها في المستنقع، وعابر النهر واقفًا عند زورق العبور ولا مال معه يقدمه للنوتي مقابل مقعد في الزورق المزدحم بالمسافرين، ولكن سمح له أخيرًا بالنزول إلى الزورق على أن يعمل مقابل نقله في نزح الماء من الزورق المثقوب؛ ويشاهد الشريف جالسًا عند حافة بركته في حديقته تحت ظلال نزله المصنوع من سيقان الغاب، وهذه الصور وكثير غيرها هي مما تزخر به الحياة الدنيوية عند سكان وادي النيل.
أما الحياة في القصور فقد انعكست صورتها في تلك المتون بشكل أتمَّ وأبهجَ من حياة العالم البعيد عنها وعما يحيط بها؛ فإن الملك يشاهَد في بعض الأوقات مثقلًا بأعباء مهام الدولة، وبجانبه أمين سره يحمل محبرة وقلمين؛ أحدهما للمداد الأسود والآخر للمداد الأحمر؛ لكتابة العناوين، وكذلك نراه في أوقات فراغه متكئًا بدون كُلفة على صديقه الحميم أو مستشاره، أو يشاهَدان يستحمَّان معًا في بركة قصره، والحاجب الملكي يقترب حتى يجفف جسميهما. وكثيرًا ما يشاهَد سائرًا على رأس موكب باهر مارًّا بطرقات مدينته يتقدمه السُّعاة مفسحين أمامه الطريق، وعندما يعبر إلى الشاطئ الثاني وينزل من الزورق الملكي الوهَّاج يشاهد عامة الشعب ملقين أحذيتهم وملابسهم راقصين أمامه رافعين أصواتهم بتهليلات الفرح عند رؤيتهم طلعته. أو يرى عند باب قصره وقد أحاطت به فخامة البلاط وبهاؤه، أو يشاهَد مرتقيًا عرشه العظيم المزين برءوس الأسود وحوافر الثيران، ويشاهَد كذلك في قاعة قصره وهو يجلس على عرشه العجيب وصولجانه المدهش في قبضته، ثم يرفع يده نحو أولاده؛ فيقومون أمام هذا الملك، ثم يُنزل يده مشيرًا نحوهم فيقعدون ثانية.
والحقيقة أن هذه المشاهد قد صورت على أنها حوادث حدثت في الحياة الأخروية. غير أن الحوادث والألوان التي صورت بها تلك الحياة مأخوذة من الحياة الدنيا والتجارب الدنيوية؛ لأن أولئك الذين مرَّ وصفُهم بأنهم كانوا يلقون نعالهم وملابسهم ليرقصوا أمامه فرحًا عند وصول الملك حينما يعبر النيل السماوي هم الآلهة. ولكنهم قد مثلوا طبعًا كأنهم كانوا يفعلون في المساء ما اعتاد رعاياهم فعله فوق النيل الأرضي، وهم إذن الآلهة الذين كانوا يجففون أعضاء الفرعون عندما يستحم مع إله الشمس في «بحيرة البردي»، وكذلك تفعل الآلهة هنا للفرعون ما كان قد تعوَّد أن يفعله له حاجبه على الأرض.
ولكن بالرغم من أن هذه المتون العتيقة كانت في الواقع متأثرة جدًّا بالحياة الدنيوية التي نقلت عنها، فإنها كانت في مجموعها تصور أرضًا غير معروفة لنا تقريبًا، وعندما يحاول الإنسان ارتياد مجاهل تلك الأرض فإنه يحسُّ كأنه يرود غابة فطرية شاسعة الأرجاء، أو كأنها غياض مسحورة مفعمة بأشكال غريبة وأشباح مخيفة تتراءى كأنها تقطن في تيه لا منفذ منه. فإننا نجد فيها كتابة عتيقة تُخفي في ثناياها كلمات ذات معنًى غامض، وقد يجوز أن نعرف تلك الكلمات تمام المعرفة لو أنها كانت مرتدية لباسها المعتاد الذي لبسته فيما بعد، وكذلك كانت تستعمل تلك الكلمات العتيقة في مواقف ومعانٍ غريبة عن القارئ الحديث، فكانت في تلك الحالة غامضة كهجايتها.
ويوجد في هذه المتون مجموعة أخرى كبيرة من الكلمات البالغة حد الغرابة، المخالفة لتلك الكلمات المعروفة المنكرة، وأعني بذلك طائفة من الكلمات العتيقة المهجورة التي قد عاشت حياة طويلة شائعة الاستعمال في دنيا قد مُحيت وصارت نسيًا منسيًّا، فهي بعد أن وخطها المشيب كانت كالعدَّاء المنهوك القوى، تترنح على مرأًى منا مدة قصيرة في أقدم أفق معروف لدينا؛ فقد ظهرت فقط في هذه المتون العتيقة، ثم اختفت اختفاءً أبديًّا بعد عصر تلك المتون؛ ومن ثم لا نصادفها مرة ثانية في متون مصرية أخرى.
وهذه المتون تكشف لنا مع شيء من الإبهام عن دنيا من التفكير والكلام كانت قد اختفت من الوجود؛ ويعتبر هذا العصر آخر العصور التي لا تحصى، والتي مرت بها حياة عصر ما قبل التاريخ حتى صار قابَ قوسين أو أدنى من الدخول في عصر حياة الإنسان التاريخية المعروفة لنا في ذلك الحين. ولكن هذه الكلمات الغريبة التي وَخَطَها المشيب، وهي البقية الباقية لنا من عصر منسيٍّ مهجور استمرت مستعملة فيه مدة جيل أو جيلين في متون الأهرام، وكثيرًا ما تستمر غرابتها بالنسبة إلينا حتى يزول استعمالها نهائيًّا.
وليس لدينا من الوسائل ما نعرف به معناها أو توجيهها حتى تبوح لنا عن أسرارها أو عن الرسالة التي كانت تحملها في غضونها، وليس لدينا من فنون اللغات القديمة ما نحاول به معرفة ما تُكنُّه من الأسرار. ويوجد بجانب تلك الكلمات أيضًا طائفة أخرى من التراكيب العويصة التي زاد في صعوبتها طبيعة ما تحويه من المعاني المبهمة الغامضة.
ولما كانت هذه التراكيب مفعمة بتلميحات عن حوادث أساطير ضاعت معالمها عنا وعادات ومعاملات قد فات زمنها منذ عهد بعيد؛ فهي إذن بتلك الحالة الغامضة تعد لغزًا لا يوضح لنا حياة ولا فكرًا ولا تجربة، بل ضاعت معالم كل ذلك في بيداء الجهالة التامة. وقد ذكرنا فيما سلف أن الغاية المهمة من «متون الأهرام» في الأصل هي ضمان سعادة الملك في الحياة الأخروية؛ لذلك نجد أبرز شيء في هذه المتون الاحتجاج الملحَّ، بل الاحتجاج الحماسي، ضد الموت، ويمكن أن نعبر عن هذا الاحتجاج بأنه صورة لأقدم ثورة عظيمة قام بها الإنسان ضد الظلمة والسكون العظيمين اللذين لم يُفلت منهما أحد (القبر).
وكلمة الموت لم تذكر قط في «متون الأهرام» إلا بصيغة النفي أو مستعملة للعدو، فترى التأكيد القاطع بحياة المتوفى: «الملك «بيبي» لم يمت بل جاء معظمًا في الأفق؛ هيا أيها الملك «وناس»! إنك لم تسافر ميتًا بل سافرتَ حيًّا، لقد سافرت لكي يمكنك أن تعيش، وإنك لم تسافر لكي تموت.» «إنك لن تموت، هذا الملك «بيبي» لن يموت» «الملك «بيبي» لا يموت بسبب أي ملك … ولا بسبب أي ميت، هذا الملك «بيبي» يعيش أبدًا، عش! إنك لن تموت، وإذا رسوت [استعارة للموت] فإنك تحيا [ثانية]، هذا الملك «بيبي» قد فر من موته.»
وهكذا تجد تجنب ذكر الموت باستمرار في هذه المتون. وكثيرًا ما تختم صيغة تجنب الموت بالتأكيد الآتي: «إنك تعيش، إنك تعيش، ارفع نفسك، إنك لن تموت، فقم، ارفع نفسك.» أو «ارفع نفسك أيها الملك السامي بين النجوم التي لا تفنى [وهي النجوم الثوابت]، إنك لن تفنى أبدًا.» وإذا لم يكن بدٌّ من الإشارة إلى حقيقة الموت المرة، فإنه يسمى «النزول على الأرض» أو ربط حبال السفينة في المرساة — كما سبق ذكر ذلك — أو كان يفضل في مثل هذه الحالة ذكر كلمة «الحياة المنفية»؛ ولذلك كان يستحب قول «ليس حيًّا» بدلًا من النطق بالكلمة المشئومة، أو كانت هذه المتون القديمة تعيد إلى الذاكرة ذكريات شائقة لسعادة مفقودة قد تمتع بها الناس ذات مرة «قبل أن يأتي الموت». ومع أن أسمى موضوع في «متون الأهرام» كان الحياة (أي حياة الملك الأبدية)، فإن هذه المتون كانت تتألف من مصادر متنوعةً جدًّا.
ولما كانت كل طريقة وكل نفوذ يستعمل للوصول للغرض المقصود (الحياة بعد الموت)؛ فإن الكهنة الذين وضعوا تلك المجموعة الباقية لنا من الأدب القديم — وهي أقدم ما وصل إلينا للآن — كانوا يستعملون كل أنواع العقائد القديمة التي تعدُّ في نظرهم مرعية مستجابة، أو التي وجدوا أنها تفيد لذلك الغرض. ويمكن القول بأن «متون الأهرام» تحتوي بوجه خاص على ستة موضوعات: (١) شعائر جنازية. (٢) وشعائر خاصة بالقرب المأتمية عند القبور وتعاويذ سحرية. (٣) وشعائر قديمة خاصة بالعبادة. (٤) وأناشيد دينية قديمة. (٥) وأجزاء من أساطير قديمة. (٦) وصلوات وتضرعات لفائدة الملك المتوفى.
وهذا الأدب لا ينحصر في الأناشيد المذكورة فقط، بل يوجد كذلك في نبذ أخرى من «متون الأهرام»، ولكنها على أية حال لم تصل إلى درجة الكمال الذي نلمسه في تلك الأناشيد.
وزيادة على ما ذكر من التركيب الشعري الذي يرتفع بهذه النبذ إلى مرتبة الأدب المعروف لدينا الآن ما نجده كثيرًا في بعض كتابات مبعثرة تحمل في مظهرها صفات الأدب من الوجهة الفكرية واللغوية، فمثلًا نجد أثرًا دقيقًا من مجال الخيال في أحد الأوصاف التي ذكرت عن بعث «أوزير» جاء فيه: «فك لفائفك، إنها ليست لفائف بل خصلات شعر «نفتيس».» (و«نفتيس» هي الإلهة المنتحبة التي انعطفت على جسم أخيها المتوفى). فالكاهن القديم الذي كتب ذلك السطر قد رأى في اللفائف التي تزمل الصورة الجامدة خصلات الشعر الغزيرة التي تتدلى من شعر الإلهة وتختلط باللفائف، ونجد كذلك قوة عنصرية لذلك الخيال الوثاب الذي يدرك العواطف الودية لكل العالم عندما تشعر العناصر الطبيعية بالنازلة الرهيبة التي تتمثل في موت الملك، ونجد كذلك القوة الخطيرة التي تتمثل في موت الملك وفي حلوله بين آلهة السماء فيما يقوله المحزونون على الملك: «السماء تبكي من أجلك، والأرض تزلزل من أجلك.» وفيما يقوله الناس عندما يرونه في الخيال صاعدًا إلى القبة السماوية: «إن السماء محجبة بالغيوم، والنجوم مطموسة، والقبة الزرقاء (الأقواس) تهتز، وعظام «رب» الأرض تزلزل، وهبوب الريح سكن عندما رأت الملك مشرقًا قوي البطش.»
وليس لدينا شك في أن الغرض من تلك المتون الجنازية كلها لم يكن لمصلحة الملك فحسب، بل هي بوجه عام تحتوي على معتقدات لا تنطبق إلا عليه، وخاصة عندما تذكر أنها لم تكتب إلا في المقابر الملكية فقط، فمن الحقائق الهامة التي يجب التنبيه عليها إذن أن رجال أشراف ذلك العصر لم يستعملوا أبدًا متون الأهرام في نقوش مقابرهم.
ولما لم يكن في مقدور متون الأهرام زعزعة الرأي القائل بوجود الحياة في القبور، فإنها لم تعر هذا الرأي اهتمامًا كبيرًا، بل وجهت جميع همتها تقريبًا إلى حياة في نعيم يقع في مملكة بعيدة.
ومما تستحق معرفته والاهتمام به أن تلك المملكة البعيدة لا يزاد بها إلا «السماء»، وأن متون الأهرام لا تعرف شيئًا تقريبًا عن الحياة الأخروية المظلمة التي توجد في العالم السفلي؛ ولذلك فإن عالم الأموات عندهم لا يراد به إلا «العالم السماوي» بهذه الصيغة.
وقد اختلط في تلك الآخرة السماوية المذكورة في متون الأهرام مذهبان قديمان:
أولهما يمثِّل المتوفى بصورة نجمة. والثاني يصور المتوفى حالًّا في إله الشمس، أو بعبارة أخرى: يصور ذات المتوفى بأنه نفس إله الشمس.
وبديهي أن هذين المذهبين اللذين يمكن تسميتهما «بآخرة نجمية، وآخرة شمسية» على التوالي كانا في وقت ما مستقليين، ثم دخل كل منهما في شكل آخرة سماوية هي التي نجدها في متون الأهرام. فقد كان من التصورات الطبيعية عند ساكن وادي النيل أن يرى في بهاء سماء مصر الصافية ليلًا جموع هؤلاء الناس الذين سبقوه إلى الحياة الأخروية؛ فقد طاروا إلى السماء كالطيور مرتفعين فوق كل أعداء الهواء، فكانوا عند حلول الظلام في كل ليلة يجتازون أقطار السماء بصفتهم نجومًا أبدية.
وقد رأى المصري أن جمهور الموتى خاصة في تلك النجوم التي تسمى «غير الفانية»، ويقال إن تلك النجوم تقع في الجهة الشمالية من السماء. ولذلك صار مما لا شك فيه أن النجوم المقصودة بالذكر هي النجوم القطبية التي لا تغرب ولا تغيب.
وقد قام جدال كبير بين علماء التاريخ القديم عن سر اتجاه ممر مدخل الهرم المنحدر شطر النجمة القطبية.
وقد بينت نقوش متون الأهرام السر في هذا الاتجاه الذي لم يهتد إليه أحد إلى الآن، وهو أن روح الملك عندما تخرج من ذلك الممر يحملها هذا الاتجاه على الصعود فورًا إلى النجوم القطبية، ومع أن المذهبين المذكورين: النجمي والشمسي، يوجدان معًا جنبًا لجنب في متون الأهرام، فإننا نجد أن المذهب الشمسي هو السائد بدرجة عظيمة حتى يصح لنا بوجه عام أن نصف متون الأهرام بأنها شمسية الأصل.
ومن المحتمل أن يكون الاعتقاد بالمصير الشمسي قد نشأ في عقيدة قدماء المصريين عن طريق شروق الشمس ثانية كل يوم بعد غروبها، فكان يحدث بذلك الموت على الأرض، وأما الحياة فكانت تكتسب في السماء فقط، وهو المكان الأعلى الذي يرفع إليه الملك فوق المصير المحتوم الذي يذهب إليه عامة الناس؛ «الناس يفنون وأسماؤهم تمحى، فأمسك أنت بذراع الملك «بيبي»، وخذ أنت الملك «بيبي» إلى السماء حتى لا يموت على الأرض بين الناس.»
وتلك الفكرة القائلة بأن الحياة توجد في السماء هي الرأي السائد. وهي أقدم كثيرًا من المذهب «الأوزيري» في متون الأهرام. وقد بلغ هذا الرأي درجة من القوة جعلت نفس «أوزير» يمنح بضرورة الحال آخرة سماوية شمسية، وكان ذلك في المرحلة الثانية التي دخلت فيها أسطورته في متون الأهرام.
والموضوع الهام في متون الأهرام هي تطلع المتوفى لحياة أخروية فاخرة في أبهة حضرة إله الشمس، حتى إن نفس القبر الملكي قد اتخذ من أقدس شكل يرمز به إلى الشمس، وهو الشكل الهرمي.
وقد عمد لاهوت الحكومة الذي جعل الملك الابن المجسم والممثل للإله «رع» على الأرض إلى تصوير الملك يسيح في السماء بعد الموت ليسكن مع والده إلى الأبد، أو أنه يحل محله ويكون خلفه في السماء كما كان خلفه في الأرض. وعلى ذلك نجد أن الآخرة الشمسية هي في الواقع المصير الملكي، ولا يبعد أن ذلك المصير كان خاصًّا «بالفرعون» فقط، ثم صار ذلك المصير فيما بعد بالتدريج حقًّا لجميع البشر يشاركونه فيه. ولم يكن في الإمكان إعطاء ذلك الحق لهم إلا بعد أن كان كل مطالِب بذلك المصير يتصف بالصفة الملكية أيضًا.
(١) أمثلة من متون الأهرام
(١-١) من فصل ٤٦٧
(١-٢) ومنها فصل ٣٣٥ سطر ٥٤٦
(١-٣) ومنها فصل ٢٦٧ سطر ٣٦٤
(١-٤) ومنها فصل ٢١٠ سطر ١٣٦
(١-٥) ومنها فصل ٤٣٩ سطر ٨١٢
(١-٦) المتوفى يظفر على السماء (فصل ٢٥٧ سطر ٣٠٤)
(١-٧) أنشودة آكلي لحوم البشر (فصل ٢٧٣-٢٧٤ سطر ٣٩٣ إلخ)
(١-٨) «حور» المسيطر على حربة الصدق يعلن وصول المتوفى إلى السماء٢٦ (فصل ٤٤٠ سطر ٨١٥ إلخ)
(١-٩) المتوفى يأتي كرسول إلى «أوزير» (فصل ٥١٨ سطر ١١٩٣)
(١-١٠) الإلهتان ترضعان المتوفى٢٩ (فصل ٥٠٨ سطر ١١٠٧)
[وبعد أسطر من هذه الفقرة نقرأ]:
(١-١١) مصير أعداء المتوفى (من فصل ٢٥٤ سطر ٢٨٩)
(١-١٢) الفرح بالفيضان (من فصل ٥٨١ سطر ١٥٥١)
(١-١٣) إلى التيجان (فصل ٢٢١ سطر ١٩٦)
كانت تيجان الملك المختلفة والصل الذي يلبسه إكليلًا له تعتبر بمثابة إلهات تحارب له. وقد كانت منذ أقدم عصور التاريخ يطلب إليها أن تأخذ بناصر الملك في حروبه الكثيرة.
(أ) إلى تاج الوجه البحري
(ب) إلى تاج الوجه القبلي٣٤
(ﺟ) نفس الموضوع٣٨
(د) أناشيد الصباح٤٧
إلى إله الشمس٤٨
إلى الصل الملكي٥٠
المصادر
- (1) Altaegyptischen pyramidentexte I. II.
- (2) Ubersetzung und Kommentar zu den Altägyptischen Pyramidentexten B. I–IV.
- (3) The Dawn of Conscience, Breasted p. 65 etc.
- (4) Erman, The Literature of the Ancient Egyptians p. 2, etc.