الأناشيد الدينية في عهد الدولتين الوسطى والحديثة
ذكرنا عند الكلام على «متون الأهرام» أن هذه المتون كانت خاصة بالملوك دون سواهم في بادئ الأمر، وأن ما جاء فيها من الأناشيد كان خاصًّا بإله الشمس «رع»، وأنه من الجائز استعمالها للملك بوصفه ابن الشمس. وكذلك ذكرنا بعض الأناشيد التي كانت تنشد تمجيدًا للتيجان التي كان يلبسها الملوك بوصفها حامية لهم. ورغم أن الإله «أوزير» قد ذكر في «متون الأهرام» ووُحد الملك به باعتباره إله الموتى، فإن الديانة التي سادت هذه المتون كانت الديانة الشمسية؛ أي عبادة الإله «رع»، كما ذكرنا من قبل، ولم نجد لعبادة أفراد الشعب في هذه المتون أثرًا، وقد ظلت الحال كذلك إلى أن أخذت ديانة الإله «أوزير» تظهر في عالم الوجود. والواقع أن اسم «أوزير» لم يظهر في صلوات القوم الدينية إلا في عهد الأسرة الخامسة، وهو — كما ذكرنا — العهد الذي بدأ الملك المتوفى يؤحد نفسه به؛ غير أننا من جهة أخرى نعلم أن «أوزير» — منذ أزمان سحيقة قد ترجع إلى الأسرة الأولى من التاريخ المصري — كان قد أصبح نموذجًا للملك «حور» الذي على العرش؛ يحتذي حذوه كما احتذى حور حذو والده «أوزير».
والمعترف به الآن أن «أوزير» كان يعد في بادئ الأمر ملكًا عاش حقيقة على الأرض ثم قتل، ومن ثم كان يرمز به للقوى التي كانت تموت في زمنه ثم تحيا ثانية؛ كالنبات والنيل مثلًا، وهكذا يفسر العلماء أسطورته التي تمثل الحياة والموت ثم القيامة، ثم الحرب التي قام بها ابنه «حور» ضد عدوه «ست»، والمساعدة التي قامت بها كلتا أختيه «إزيس» و«نفتيس»، وقام بها «تحوت» و«أنوبيس» وغيرهم من الآلهة، وسنرى الإشارة إلى هذه الحقائق في المتون التي سنوردها هنا.
وقد كان «أوزير» بوصفه ملكًا على الأرض، في بادئ الأمر، إلهًا محليًّا في مدينة «بوصير» (الواقعة في مركز سمنود الآن)، ثم أُحِّد فيما بعد بإله محلي في صورة آدمية واسمه «عنزتي» في المقاطعة التاسعة من الوجه البحري، وقد أخذ «أوزير» فيما بعد محله كما تدل على ذلك «متون الأهرام»، والظاهر أن عبادة «أوزير» قد امتدت جنوبًا حتى بلغت أسيوط، وقد أُحِّد «أوزير» مع الإله «وبوات» (ابن آوى) كما سنشاهد ذلك في أنشودة «أوزير» الكبرى. ومن جهة أخرى نعرف أن عبادة «أوزير» كانت قد وطدت في العرابة المدفونة منذ العهود السحيقة؛ حيث كان يعبد قبله إله يدعى «خنتامنتي» (أول أهل الغرب). والظاهر أن «أوزير» قد أُحِّد مع هذا الإله الأخير منذ ظهور «متون الأهرام»، وهو يمثَّل في صورة ابن آوى أيضًا.
ورغم أن «أوزير» يرجع في أصل نشأته إلى بلدة «بوصير»، فإن عبادته فيها كانت ثانوية بالنسبة لعبادته في العرابة المدفونة، وذلك منذ عهد ظهور «متون الأهرام» حتى نهاية العهد الفرعوني. ومما تجب الإشارة إليه هنا أننا نشاهد في كل مكان تتغلغل فيه عبادة «أوزير» أنه يصبح فيه ملك الموتى وإله العالم السفلي والغرب، أو بعبارة أخرى «إله الجبانات». وقد كان الملك الذي يموت يحنط على غرار «أوزير»، وتتبع معه كل الشعائر والمراسيم التي أقيمت له، وقد كان ذلك وقفًا على الملك في بادئ الأمر. وفيما بعد أصبح رجال الحاشية يتمتعون بهذه الميزة فيؤحد كل منهم «بأوزير»، ولكن أتباع الإله «رع» كانوا يعتبرون «أوزير» إلهًا حقيرًا، بل خطرًا، كما يدل على ذلك فقرات عدة من «متون الأهرام».
ولما كان الملك المتوفى لا بد أن ينتقل من عالم الجبانة إلى عالم السماء — وتلك ظاهرة تصفها لنا «متون الأهرام» — كان يقوم برحلته هذه طبعًا تحت حماية الإله «أوزير» الذي كان في الوقت نفسه يعتبر حامي الملك في الجنة السماوية بالقرب من «رع»، وبهذا انتزع «أوزير» من بين الآلهة الأرضية، وأصبح في عداد الآلهة السماوية.
وكانت نتيجة ذلك أن أدخل «أوزير» في مذهب عبادة الشمس؛ فصار بهذا مؤحدًا مع «رع»، وأصبح من الصعب فصل الواحد منهما عن الآخر؛ إذ كان «أوزير» يعتبر «روح» «رع» وجسمه نفسه، كما سنرى بعد.
وعلى أثر سقوط الدولة المنفية وقيام الثورة الاجتماعية والدينية التي أدت إلى قلب نظام الحكم، أخذ كل متوفى يؤحد بالإله «أوزير». فكان في بادئ الأمر الملك وحده هو الذي يؤحد «بأوزير» بعد موته كما ذكرنا، ولكن عقب هذا الانقلاب اضطر الملك إلى منح هذا الامتياز أولًا حاشيته، ثم كبار الموظفين، وأخيرًا أصبح إرثًا مشاعًا يتمتع به كل فرد في الدولة المصرية.
ومنذ ذلك العهد أصبحت الشعائر الدينية التي كانت وقفًا على الملك أولًا ثم حاشيته ثانيًا مشاعةً بين أفراد الشعب، فكان في مقدور كل فرد في أوائل الدولة الوسطى أن يصبح «أوزيرًا» ويستعمل في قبره المتون والرسوم التي كانت من قبل لا تستعمل إلا في الأهرام الملكية، وكذلك الصيغة الدينية (قربان ملكي) التي كان لا يتمتع باستعمالها إلا عظماء رجال البلاط الملكي قد أصبح ينقشها كل من هب ودبَّ من عامة الشعب على لوحاتهم الجنازية. وأخيرًا يمكننا أن نقرر هنا أن المساواة التامة، أو بعبارة أخرى الديمقراطية الصحيحة، بين كل أفراد الشعب في الديانة المصرية، كانت منذ بداية الأسرة الثانية عشرة هي المثل الأعلى الذي يتطلع إلى مثله الآن في حكومة البشر.
وهذا التوسع في عبادة «أوزير» وانتشار شعائره هو الذي يفسر لنا نمو الأدب الديني الذي بدأ يظهر في خلال الدولة الوسطى، وجعل الأناشيد الدينية لا يقتصر في إنشادها على الكهنة، بل قد تخطاهم إلى أتباع الإله الورعين، وإلى أفراد عامة الشعب، وسنورد هنا بعض الأناشيد الخاصة بالإله «أوزير» بعد أن نتكلم عن عبادة إله آخر كانت له علاقة وثيقة بالإله «أوزير»، وهو الإله «مين» الذي أصبح يلعب الدور الذي لعبه من قبل «حور» بن «أوزير». وقد وجدنا له أناشيد يرجع عهدها بالتحقيق إلى الدولة الوسطى.
(١) الإله «مين»
وهذه التماثيل الثلاثة وجدت بدون رءوس وأجسامها آدمية، وتدل الظواهر على أنها كانت ممثلة بالوضع الخاص بهذا الملك، فكان لكل منها عضو تذكير منتصب. وقد وجد على أجسامها بعض أشكال حيوانات وسمك وعلامة دالة على اسم الإله «مين» بالمصرية القديمة.
ويشترك الإله «مين» مع الإله «أوزير» في أن كلًّا منهما كان يصوَّر في صورة إنسان، وكذلك يرجع عهد كل منهما إلى أقدم عهود الاتحاد الثاني.
وقد كانت عبادة «مين» في فجر التاريخ في بلدة قفط، وقد بقيت أهم مكان لعبادته طوال عهود التاريخ المصري.
وفي خلال العهد الذي يلي ذلك — أي في الدولة القديمة — نجد أن الإله «مين» قد ظهر في صورة صقر متوج بريشتين عاليتين مربوطتين بشريط متدلٍّ خلف رأسه واسمه «منو».
والظاهر أن عبادته كانت منتشرة خارج قفط؛ وذلك لأنه يحمل لقب «الذي يسيطر على القصرين» أو على «إقليمي الجنوب والشمال»، وفي مراسيم قفط نجد أن عبادته كانت في مقاطعة الصقرين وعاصمتها «قفط»، وقد بقيت مكان عبادته المختار خلال الدولة القديمة.
ونشاهد كذلك أن عبادته كانت تمتد شمالي قفط نحو مقاطعة «طيبة»؛ وذلك لأن اندماج الإله «مين» مع الإله «آمون» الذي يشبهه في التسمية كان أمرًا واقعًا منذ الدولة الوسطى، ولكن من جهة أخرى قد وجدنا أن سطوة الإله «مين» قد ظهرت تمامًا في الأقاليم الواقعة خلف «قفط»؛ إذ قد عثر على لوحة تذكارية في «وادي حمامات» نقرأ فيها أن «منتحتب» الثاني — أحد ملوك الأسرة الحادية عشرة — قد أقام لوحة في هذا الطريق التجاري الهام الذي كان يطرق بكثرة في كل العصور رابطًا ميناء «القصير» بمدينة «قفط»، وكان يستخدم لمرور التجارات التي كانت تجلب من «بُنت» وبلاد العرب، وبخاصة الروائح العطرية والأفاويه.
والواقع أن «مين» كان ينعت «بسيد الجبال والصحاري»، وكذلك كان ينعت «بالرئيس الأعلى للترجلديت»؛ أي سكان الصحراء الغربية، وتؤكد لنا بعض المصادر أن «الجبال هي إقليم والدمين». والواقع أننا نشاهد في هذا الإقليم جبلًا مقدسًا أزليًّا وهو الأول في أهميته في «تا آخو» (أي قصر الإله)، وهذا الإله يقال إنه «منح حياة حور»، وهذا القصر هو «عش مقدس ينعم فيه هذا الإله الصقر»؛ ومن ثم نصل إلى حقيقة ثانية؛ وذلك أنه منذ بداية الدولة الوسطى أو قبلها نجد الإله «مين» تحت سيادة «أوزير» الذي كان يعتبر المتسلط العالمي في ذلك الوقت، ومن هذا نستنتج أن «مين» قد أصبح صورة من ابن «أوزير»؛ أي «حور» المنتصر الذي خرج من «خميس» (كوم الخبيزة الحالي في شمالي الدلتا)، ومنذ ذلك العهد سنجد أن «مين» كان يسمى «مين-حور نخت» أو «مين حور بن إزيس»، وبخاصة في «العرابة»؛ عاصمة عبادة «أوزير» في هذا العهد.
ومنذ بداية الأسرة الثامنة عشرة، وفي خلال الدولة الحديثة كلها يلاحظ أن أهم حادث في عبادة «مين» هو توغل عبادته توغلًا عميقًا ثابتًا في طيبة، وأنه كان يؤحَّد مع الإله «آمون» وبالعكس. فكان إله قفط يمثل باسم «آمون»، وكان يسمى كذلك «مين-آمون». وفي الصور التي على معبد الأقصر يلاحظ أن المتن يتكلم عن الإله بأنه «آمون»، ولكن الصور تظهره لنا في صورة «مين» بخاصيته التي تميزه (عضو التذكير المنتصب)، وهذا يفسر لنا ما وجدناه منقوشًا على تمثال في المتحف البريطاني يُعزَى إلى بداية الدولة الحديثة، أو قبل ذلك بقليل؛ وهو أنشودة لا نشك في أنها رواية أخرى لأنشودة «آمون-رع» المحفوظة على بردية بولاق، وفي الجزء الذي بقي لنا من هذه الأنشودة المهشمة نجد أن الإله الذي ذكر عليها هو «مين-آمون» وحسب، وسنتكلم عن نتائج هذا الكشف فيما بعد.
فمما سبق نرى أن عبادة كل من «أوزير» و«مين» كانت منتشرة في خلال الدولة الوسطى ثم الدولة الحديثة، غير أن الإله «مين» في عهد الدولة الحديثة قد حل محله «آمون» الذي كانت مدينته «طيبة» التي أصبحت عاصمة الملك، فارتفع معها إلى مرتبة «ملك الآلهة» كما كانت عاصمته سيدة بلاد العالم في ذلك الوقت.
هذا فضلًا عن أنه قد أخذ لنفسه كل الصفات والنعوت التي كان يتحلى بها الآلهة الآخرون؛ ولذلك سنجد فيما بعد أن معظم الأناشيد الدينية كانت تؤلف له للإشادة بذكره، وقد أضاف الكهنة لاسمه لفظة «رع»، وهو إله الشمس الذي كان يعتبر في كل العصور أعظم الآلهة المصرية. وبذلك أصبح «آمون-رع» هو الإله الذي يسيطر على كل العالم من مدينته طيبة، كما كان يسيطر الفرعون على كل الأقطار التي فتحها بحد السيف من هذه العاصمة.
وقد بقي «آمون-رع» المهيمن على كل الأصقاع التي فتحها الفرعون طوال عهد الدولة الحديثة، اللهم إلا فترة واحدة اختفى فيها اسمه وامَّحت ديانته؛ وذلك حينما قام «إخناتون» (أمنحوتب الرابع) ونشر مذهبه الجديد القائل بوحدانية الله، وأكبر مظهر لهذه الوحدانية هو قرص الشمس «آتون»، أو بعبارة أخرى هو الرجوع إلى عبادة الإله «رع» ولكن في صورة مهذبة. على أن انتشار عبادة «آمون» في عهد الدولة الحديثة لا يعني أن الآلهة الأخرى كان لا يشاد باسمها، بل سنجد فيما يأتي أنها كانت تعبد وتقدَّس وتؤلَّف لها الأناشيد، وبخاصة للإله «تحوت» و«رع» وغيرهما من الآلهة، وسنورد هنا طائفة من هذه الأناشيد مبتدئين أولًا بأناشيد الدولة الوسطى، ثم أناشيد الدولة الحديثة، مؤثرين عهد الأسرة الثامنة عشرة حتى ظهور مذهب «إخناتون» الجديد.
(٢) أناشيد «أوزير»
كان «أوزير» — الذي كانت عبادته منتشرة انتشارًا عظيمًا أكثر من عبادة أي إله آخر، كما ذكرنا في الأصل — إلهَ الزرع الذي يموت ولكنه يحيا ثانية بالفيضان، ويعتبر في عامة أمره أنه آدمي، وقد ظهر كثيرًا في الأناشيد، وكان أبوه «جب» إله الأرض وأمه «نوت» إلهة السماء. وقد خلف والده ملكًا على مصر، وكان حكمه متوجًا بالفلاح ومظفرًا في الحرب، وقد قتله غيلة أخوه «ست» وألقى بجثته في الماء.
فبحثت عنها أخته وزوجه «إزيس» مدة طويلة، وبعد أن عثرت عليها في النهاية وأحضرتها إلى الأرض روحت عليها؛ فعاد «أوزير» إلى الحياة نوعًا ما. ثم اجتمعت به؛ فحملت منه ولدًا هو «حور»، الذي ربته في مكان خفي في مناقع الدلتا؛ ليفلت من اضطهاد «ست» الذي طعن في شرعية ولادته … ولكن الآلهة حكموا في صالحه، وأقروا له بملك والده. ومنذ ذلك الحين حكم «أوزير» في العالم السفلي بوصفه ملك الأموات، وكانت له عدة أضرحة على الأرض أهمها: «بوصير» في الدلتا، والعرابة المدفونة (البلينا) في الوجه القبلي.
(٢-١) أنشودة صغرى «لأوزير»٤
الحمد لك يا «أوزير» يا ابن «نوت»! يا رب القرنين، صاحب التاج «آتف» الرفيع. والذي أُعطي التاج والابتهاج أمام تاسوع الآلهة.
وهو الذي خلق «آتوم» خوفه في قلوب الناس، والآلهة المبجلين والأموات.
والمحبوب كثيرًا على الأرض، وصاحب الذكرى الحسنة في القصر المقدس، والعظيم الطلعة في «العرابة».
ومن يرتعد منه أصحاب القوى العظمى، ومن يقوم وقوفًا أمامه العظماء الذين على بسطهم، ومن بث الإله «شو» الخوف الذي يبعثه، ومن أوجدت الإلهة «تفنوت» قوته.
ومن يأتي إليه محرابا الوجه القبلي والبحري في خضوع؛ لعظم الخوف منه ولشدة بأسه.
هذا هو «أوزير» بن «نوت»، ملك الآلهة المسيطر في السماء، وحاكم الأحياء (الأموات).
ومن ذبحت له الذبائح في «منف»، ومن أقيم له عيد اليوم السادس من الشهر وعيد اليوم السابع منه.
(٢-٢) أنشودة كبرى «لأوزير»
يرجع تاريخ هذه الأنشودة إلى النصف الأول من الأسرة الثامنة عشرة، وهي تعتبر بحق أهم متن يكشف لنا عن نواحٍ عدة في أسطورة «أوزير».
حقًّا قد وجدنا مجموعة المذاهب الدينية العظيمة في «متون الأهرام» في الكتابات التي على توابيت الدولة الوسطى و«كتاب الموتى»، وفي «أوراق البردي» الخاصة بالشعائر الدينية، وكلها تحتوي على إشارات وتلميحات للإله أوزير وخرافته، غير أننا في كل هذه المتون الضخمة لم نجد عرضًا لقصة «أوزير» مثل الذي وصفه أمامنا كاتب هذه اللوحة.
ومع أنه لم يقص في بياناته الأدوار التي مرَّ بها هذا الإله، فإن العرض الذي بسطه أمامنا يجعلنا لأول مرة نفهم بعض الشيء قصة هذا الإله المحزنة. ولعل الاقتصاد في التعبير وحذف بعض الحوادث التي نلحظها في القصة التي رويت في هذه الأنشودة كان مقصودًا. وأعني أن الذي وصل إلينا فعلًا مدونًا كان في نظر الكهنة ما يجب أن يعرفه عامة الشعب عن مأساة هذا الإله الغامض. أما ما خفي فكان سرًّا موقوفًا على الكهنة. فإذا صح ذلك كان كتَّاب اليونان صادقين في قولهم إن المصريين كانوا يحتفظون بأسرارهم الدينية، وبخاصة مأساة الإله «أوزير».
الأنشودة٩
العظيم البأس عندما يقهر الخصم، والقوي الساعد عندما يذبح عدوه. وهو الذي يبث خوفه في أعدائه، والذي يصل إلى حدود من يدبرون له السوء، ثابت الجنان عندما يطأ العدوَّ بقدمه، وارث «جب» في ملك الأرضين؛ لأنه [جب] رأى فضائله ووثق فيه ليقود الأرضين إلى الفَلَاح. ووضع هذه الأرض في يده، وكذلك ماءها، وهواءها، ونباتها، وماشيتها. وكل ما يطير، وكل ما يرفرف بجناحه، وديدانها، وحيوانها الضاري، قد صار إلى ابن «نوت»، والأرضان كانتا مرتاحتين لذلك.
والظاهر على عرش والده مثل «رع» حينما يشرق في الأفق؛ ليمنح من كان في الظلمة النور، ومن غمر بالنور الأرضين مثل الشمس عند انبثاق النهار.
«إزيس» فاعلة الخير التي حمت أخاها، والتي بحثت عنه من غير ملل، والتي اخترقت هذه الأرض حزينة، ولم تذق طعم الراحة حتى عثرت عليه.
وهي التي أمدته بالظل بريشها، وبأجنحتها أوجدت الهواء. وهي التي صاحت عاليًا من الفرح، وجاءت بأخيها إلى الأرض.
وهي التي أنعشت ما كان هامدًا في الواحد صاحب القلب المتعب، والتي قد أخذت نطفته، وولدت له وارثًا. والتي أرضعت الطفل في عزلة في مكان لم يكن معروفًا «لأحد». وهي التي أحضرته إلى قاعة «جب» حينما اشتد ساعده.
وقد ابتهج التاسوع بذلك:
تعال تعال يا «حور» بن «أوزير».
يا ثابت القلب ويا منتصر!
يا ابن «إزيس» ووارث «أوزير»!
واجتمعت من أجله محكمة العدالة التي احتشد فيها التاسوع ورب العالمين نفسه وأرباب الحق، وهم الذين ولوا ظهورهم للباطل.
وقد جلسوا في قاعة «جب»؛ ليعطوا المنصب الملكي صاحبه، والمملكة من يجب أن تُسلم إليه. وقد وجدوا أن كلمة «حور» كانت كلمة صدق فأعطوه وظيفة والده، فخرج وهو متوج بأمر «جب»، وتسلم سيادة شاطئ النهر، وبقي التاج على رأسه في أمان.
وهو الذي أحضر الرخاء ووضعه في كل الأراضي، وكل الناس سعداء وقلوبهم مبتهجة وأفئدتهم مسرورة، وكل القوم فرحون، وكل الناس يتعبدون لطيبته.
ما أكثر ارتياح الأرضين! فالشر قد اختفى والخبث قد ولَّى، والأرض أصبحت سعيدة تحت ربها، والحق ثبت لربه، ووُلِّي الظهر للباطن.
(٣) أناشيد دينية٤٠
(٣-١) [إلى «مين-حور»]
إني أعبد «مين»، وأمتدح «حور» الرافع ساعده.
الثناء لك يا «مين» في طلعاته! أنت يا صاحب الريشتين الساميتين؛ يا ابن «أوزير»، ومَنْ وضعته إزيس المقدسة، العظيم في معبد «سنوت» (معبد في إخميم)، وصاحب السلطان في «إبو» (إخميم)، أنت يا قفطي! يا «حور» الشجاع، يا رب القوة الذي يفرض الصمت على الأقوياء وملك كل الآلهة! الكثير العطور حينما ينزل من بلاد «ماتوي» القوي في «نوبيا» والونتني (إقليم بالقرب من بلاد «تنت» بالقرب من بلاد «بنت»).
(٣-٢) أنشودة إلى «مين-آمون»٤١
(وهي رواية أخرى من أنشودة «آمون-رع» العظمى).
هذه الأنشودة وجدت منقوشة على قاعدة تمثال عثر عليه في الدير البحري، وقد برهنت في كتابي «الأناشيد الدينية في عهد الدولة الوسطى» على أنها رواية قديمة لأنشودة «آمون-رع» العظمى المكتوبة على بردية بولاق. ويرجع عهدها إلى عصر الأسرة السابعة عشرة أو باكورة الدولة الحديثة. وبداية أنشودتنا تقابل نهاية اللوحة الأولى من ورقة بولاق.
وقد نجد بعض الاختلاف في الرواية في كل من الأنشودتين، غير أن وجه التشابه بينهما يكاد يكون تامًّا، وبخاصة في الكلمات القليلة التي بقيت لنا من رواية متن المتحف البريطاني، فنجد أن الجملة الأخيرة تبين لنا السبب في إنشاء هذه الأناشيد: وهو أن المدائح التي توجه للإله من عابديه تجعله يستجيب دعاءهم إذا دعوا عند الحاجة الماسة.
وفي هذه الجملة الأخيرة من الأنشودتين نجد تعابير قد ظهرت في الأناشيد التي ألفها «إخناتون» لربه «آتون» في تل العمارنة: «آتوم خالق الإنسانية والذي يميز أخلاقهم، وبارئ الحياة، والذي فصل الألوان الواحد عن الآخر.»
ففي هذه العبارات نجد ما يقابلها في أنشودة «إخناتون»، ويعتبرها العلماء تجديدًا لم يعرف قبل عهد هذا الملك الزائغ. فإذا كانت أنشودة «مين آمون» التي عثرنا عليها، وهي كما قلنا رواية أخرى لأنشودة «آمون» العظمى، ترجع إلى عهد الأسرة السابعة عشرة، فإن فكرة إدخال «إخناتون» التوحيد العالمي لم تكن وليدة فكره هو، بل كانت موجودة من قبله، غير أنه وضعها في صورة بارزة جلية.
وقد تكلم الأستاذ «إرمان» ببعض التفصيل على أنشودة «آمون رع» بما يتفق مع ما قررناه هنا؛ إذ قال: «إن قطعًا فردية في هذه الأنشودة تذكرنا حقيقة بالأناشيد التي نشأت في هذا العصر، وبخاصة أنشودة الشمس التي ألفها «إخناتون» بما تعبر عنه من التمتع بالطبيعة وحرارة الشعور الإنساني. على أنه ليست هناك حجة قائمة ضد هذه الفكرة؛ لأن أنشودتنا قد ألفت باللغة القديمة، وكانت لا تزال لغة الأدب في عصر الأسرة الثامنة عشرة، وهو العصر الذي كتبت فيه ورقة البردي التي نحن بصددها الآن. غير أن الموضوع ليس من السهولة التي نتصورها؛ إذ الواقع أن الأنشودة على العكس من ذلك مكونة من مادة قديمة، يدل على ذلك ألقاب الإله وصفاته المذكورة هنا بالتطويل؛ وما ذلك إلا مظهر واضح للطريقة القديمة العقيمة التي كان يكتب بها المديح للآلهة.
على أن كل أنواع المميزات الأخرى التي تظهر بنفس الألفاظ تقريبًا في الأناشيد الدينية القديمة توجد كذلك في أنشودتنا، فإذا قابلت مثلًا أناشيد الشمس وأنشودة «مين حور» ظهر لك أن الأناشيد لهذين الإلهين — وهما اللذان يكوِّنان معًا إلهًا واحدًا هو «آمون رع» — كأنها قد مزجت ببعضها ثم أضيف إليها بعض أشياء حديثة؛ لتتفق مع ذوق العصر، والطريقة التي ألفت بها الأنشودة قد جعلتها غير مرتبة بالمرة في إنشائها. وقد نبعد كثيرًا عن موضوعنا إذا تكلمنا بإسهاب عن التفاصيل الخاصة بالعبادة التي وردت بكثرة في هذه الأنشودة. وزيادة على ذلك فإن موضوع التيجان والألقاب الخاصة بالإله أمر لا يهمنا قط؛ إذ لسنا بكهنة مصريين. وعلى أية حال لا بد لي من الكلام باختصار عن هذا الإله المركب.
(٣-٣) متن الأنشودة
«آمون رع»
-
المقطوعة الأولى: الحمد لك يا «آمون رع» رب «الكرنك» الذي يسيطر على «طيبة»! ثور
أمه، والأول في حقله.٤٣واسع الخطا، والأول في مصر العليا، رب أرض «الماتوي»٤٤ وأمير «بنت».
أكبر الأجسام السماوية، وأسن من في الأرض، رب الكائنات، الذي يسكن في كل شيء.
والوحيد في طبيعته … بين الآلهة، وثور تسعة الآلهة الطيب،٤٥ رئيس كل الآلهة.رب الصدق، ووالد الآلهة، الذي خلق بني الإنسان، وسوَّى الحيوان.
رب كل الكائنات، الذي يخلق شجرة الفاكهة، والذي من عينه خرجت الأعشاب التي تزود الماشية.
وهو الصورة الجميلة التي سوَّاها «بتاح»،٤٦ والشاب الجميل المحبوب الذي تُثني عليه الآلهة.وهو الذي خلق من (هم أسفل ومن هم أعلى).٤٧والذي يضيء الأرضين، وهو الذي يخترق القبة الزرقاء في سلام، ملك الوجه القبلي والبحري، «رع» المنتصر.٤٨رئيس رؤساء الأرضين، عظيم القوة، الرئيس الذي يبعث على الاحترام، والرئيس الذي برأ الأرض قاطبة.
والذي يحسب الخطط أكثر من أي إله آخر، ومن يبتهج الآلهة بجماله، وهو الذي يقدَّم له الثناء في «البيت العظيم»، والذي ظهر في «بيت النار»٤٩ (أو التقديس).ومن يحب الآلهة شذاه حينما يأتي من بلاد «بنت»، الأمير العظيم الشذي، حينما ينزل من بلاد «ماتو»٥٠ الحسن الوجه حينما يأتي من أرض الإله (بلاد بنت).ومن يسجد عند قدميه الآلهة حينما يعرفون أن جلالته هو سيدهم، وهو رب الخوف، العظيم الإرادة، القوي الطلعة، النضر القرابين، وخالق الطعام عندما تهلل لك الناس.
يا خالق الآلهة، ورافع السموات، وباسط الأرض.
-
المقطوعة الثانية: أنت يا من استيقظ معًا! يا «مين آمون»، يا رب الأزلية وخالق
الأبدية! ورب المديح الذي يسيطر على تاسوع الآلهة.
صاحب الذيل المستعار،٥١ الحسن الوجه، رب التاج «وررت» (أي العظيم)، طويل الريشتين، ومن له شريط جميل وتاج أبيض عالٍ، ومن على جبينه الصل «محنت» وثعبانا «بوتو»، ومن شعره ذكي العطر، ومن يجعل التاج المزدوج، ولباس الرأس، والتاج الأزرق قوية، الحسن الوجه الذي يتسلم التاج «آتف»، ومن يحبه تاج الوجه القبلي وتاج الوجه البحري، رب التاج المزدوج الذي يتسلَّم الصولجان «آمس». رب جعبة الوثائق ومالك السوط «نخخ».الأمير الجميل الذي يظهر بالتاج الأبيض، رب الأشعة، خالق النور، الذي يقدم له الآلهة الثناء، والذي يمد يده (أشعة الشمس) لمن يحبه، ومن يحرق أعداءه بالنار، ومن عينُه٥٢ تقهر الثائرين، وترشق حربتها في من ابتلع المحيط السماوي، وتجعل الثعبان (نيك)٥٣ يلفظ ما ابتلعه.
الحمد لك يا «رع»! يا رب إلهة الصدق (ماعت) يا من مقصورته خفية، يا رب الآلهة.
يا أيها الإله «خبر»٥٤ في سفينته، والذي يلفظ الكلام، وبه يخلق الإله، أنت يا «آتوم» خالق الإنسانية ومميز أخلاقهم، وبارئ الحياة، والذي فصل الألوان الواحد عن الآخر.٥٥وسامع تضرعات من في السجن، الشفيق القلب عندما يناديه إنسان.
ومن ينجي الخائف من الظالم، والقاضي بين التعس والقوي.
رب العظمة، ومن فمه السلطة، ومن يأتي النيل الحلو حبًّا فيه، والمحبوب كثيرًا، وعندما يأتي تحيا الناس.
هو الذي يجعل كل العيون تفتح … وكرمه يخلق النور. الآلهة يبتهجون بجماله وقلوبهم تحيا حينما يشاهدونه.
-
المقطوعة الثالثة: إيه يا «رع» المبجل في الكرنك، ومن يظهر عظيمًا في بيت
«البِنْبِن»! يا صاحب «عين شمس»، يا رب اليوم التاسع من الشهر، ومن
يحتفل الناس إكرامًا له باليوم السادس واليوم السابع «من
الشهر».
أيها الملك، رب كل الآلهة، والصقر في وسط الأفق، سيِّد بني الإنسان … اسمه مخفي عن أولاده. باسمه آمون.٥٦
الحمد لك، يا حسن الحظ … يا رب السرور القوي في طلعته، رب التاج، السامي الريش، ذا الإكليل الجميل، والتاج الأبيض الطويل.
الآلهة يعشقون التأمل فيك، حينما يكون التاج المزدوج على جبهتك.
حبك منتشر في كل الأرضين، وأشعتك تضيء في العيون.
إنها نفحة للإنسانية عندما تشرق، والوحوش تتباطأ حينما تضيء.٥٧إنك محبوب في السماء الجنوبية، ولطيف في السماء الشمالية،٥٨ جمالك يأسر القلوب، وحبك يجعل الأذرع متباطئة، وشكلك الجميل يجعل الأيدي ضعيفة، والقلب ينسى حينما ينظر الإنسان إليك.إنك أنت الواحد الأحد الذي خلق كل الكائنات، وإنك الواحد الأحد الذي صنع كل ما يوجد. الناس خلقوا (خرجوا) من عينه، ومن فمه أتت الآلهة إلى الوجود.٥٩بارئ الكلأ للماشية، وشجر الفاكهة للإنسان. خالق ما يعيش عليه السمك في النهر والطيور في القبة الزرقاء، مانح النفس من في البيضة ومغذي ابن الدودة.
صانع ما يحيا به النمل، والدود والذباب أيضًا. صانع ما تحتاج إليه الفيران في أجحارها، ومغذي الطيور على كل شجرة.
الحمد لك يا صانع كل هذا، الواحد الأحد فحسب، والممتاز بالأيدي العديدة. الذي يقضي الليل ساهرًا باحثًا عن أحسن الأشياء لماشيته٦٠ حينما يكون كل الناس نيامًا.يا «آمون» الذي يسكن في جميع الأشياء! يا «أتوم»! يا «حارأختي»!
احترام لك في كل ما يلفظون به، ابتهالًا لك لأنك تتعب نفسك معنا!
وخشوع لك لأنك خلقتنا، وكل وحش يقول (؟) الثناء عليك. وكل قفر ارتفاعه السماء وعرضه الأرض وعمقه البحر يقول: ابتهالًا بك.
الآلهة يخشعون طوعًا لجلالتك، ويتمدحون بقوة خالقهم، ويفرحون حينما يقترب منهم خالقهم. وهم يقولون لك: مرحبًا في سلام.
يا والد آباء كل الآلهة، يا من رفعت السموات، وبسطت الأرض، وصنعت كل كائن، وخالق كل ما يوجد.
يا أيها الملك، رئيس الآلهة! إنَّا نحترم قوتك لأنك خلقتنا. إننا نصيح فرحًا بك لأنك سويتنا. إنَّا نقدم لك الحمد لأنك أجهدت نفسك معنا.
الحمد لك يا خالق كل كائن، يا رب الصدق٦١ ووالد الآلهة، بارئ الإنسان، وخالق الحيوان، رب الحب وموجد زاد وحوش الصحراء.يا آمون! أيها الثور ذو المحيا الجميل، العزيز في الكرنك، وعظيم الطلعة في بيت «البنبن» المتوج ثانية في عين شمس! والذي قد حكم بين الاثنين٦٢ في القاعة العظمى، ورئيس التاسوع الأعظم.الواحد الأحد الذي لا غيره، المنقطع النظير، المتربع في «طيبة» و«الهليوبوليتي» وأول تاسوعه، والذي يعيش يوميًّا على الصدق.٦٣يا ساكن الأفق ويا «حور» الشرق!٦٤ والصحراء تخلق له (تخرج له) الفضة والذهب واللازورد الحقيقي حبًّا فيه، وكذلك العطر والبخور المخلوطين من بلاد «ماتوي» والعطر الجديد لأنفك، يا حسن الوجه حينما يأتي من بلاد «الماتوي»!يا «آمون رع» يا رب الكرنك المتربع في طيبة، الهليوبوليتي المترئس في حريمه (؟)!
-
المقطوعة الرابعة: أنت أيها الملك الأحد … بين الآلهة، المتعددة أسماؤه التي لا
يُعرف لها عدد، المشرق في الأفق الشرقي والغائب في الأفق الغربي،
المولود مبكرًا كل صباح، القاهر أعداءه كل يوم.
رب سفينة وسفينة الصباح٦٧ اللتين تسبحان في «نون» من أجلك في سلام.بحارتك تفرح حينما يرون كيف هزم عدوك،٦٨ وكيف قطعت أوصاله بالمدية، وقد التهمته النار وعذبت روحه أكثر من جسمه.
وهذا المارد قد قضى على ذهابه، والآلهة تصيح فرحًا، وبحارة «رع» مرتاحة «من أجل ذلك».
إن «عين شمس» منشرحة؛ لأن عدو «آتوم» هزم، و«طيبة» مسرورة، و«عين شمس» مبتهجة لذلك أيضًا؛ و«سيدة الحياة»٦٩ مرحة؛ لأن عدو سيدها قد هزم. وآلهة «بابليون»٧٠ في ابتهاج، وآلهة «ليتوبوليس» يقبلون الأرض حينما يرونه. وإنه قوي في سلطانه وأعظم الآلهة بطشًا، الواحد العادل (؟) رب طيبة. باسمك يا من خلقت العدل (أو الحق).يا رب الزاد، وثور الأرزاق، باسمك هذا «ثور أمه».
خالق جميع الناس الكائنين وبارئ كل كائن، باسمك «آتون خبر» يا أيها الصقر العظيم الذي يجعل الجسم مبتهجًا!٧١ الحسن الوجه، والمُدخِل الفرح على الصدر، ذو الشكل اللطيف والريش السامي … الصلان على جبهته.ومن تعشش قلوب الناس حوله، والذي أذن لبني الإنسان أن يخرجوا منه، ومن يسرُّ الأرضين بطلعته.
الحمد لك يا «آمون رع» يا رب «الكرنك» الذي تحب مدينته إشراقه.
(٤) أنشودة النيل
كان النيل يعدُّ إلهًا عند قدماء المصريين، غير أنه يختلف عن الآلهة الأخرى في أنه لم يكن له عبادة منظمة متبعة؛ ولذلك نجد أن هذه الأنشودة في «عبادة النيل» تختلف في تركيبها عن الأناشيد القديمة للآلهة الأخرى، ولا بد أنها أنشئت للاحتفال بالفيضان الذي كان يقام (حسبما جاء في الأنشودة) في وقت كانت فيه مدينة «طيبة» يحكمها حاكم لا فرعون؛ فمن المحتمل إذن أن ذلك قد حدث في أواخر عهد الهكسوس حيث كانت البلاد مقسمة بين الهكسوس والمصريين، ولم تتألَّف منها وحدة تدير شئون البلاد.
(٤-١) المتن
الحمد لك يا أيها النيل الذي ينبع من الأرض، والذي يأتي ليطعم مصر، صاحب الطبيعة الخفية، ظلام في رابعة النهار …
الذي يروي المراعي، والذي خلقه «رع» ليغذِّي كل الماشية.
صانع الشعير، وخالق القمح؛ حتى يجعل المعابد تقيم الأعياد.
وقلت مؤن الآلهة، ومات آلاف الآلاف من الناس.
وإذا كان شحيحًا (؟) ذُعرت البلاد كلها، والصغار والكبار أصبحوا صفر الأيدي، والناس تتغير حينما يهجم سواه «خنوم».
وحينما يرتفع تبتهج البلاد، وكل فرد في حبور، وكل الفكوك تأخذ في الضحك، وكل سن تنكشف عنه «بالضحك».
وهو الذي يحضر المؤن، وهو الغني في الطعام، وخالق كل شيء حسن.
سواء أكان ذلك في العالم السفلي، أم على الأرض …
وهو الذي يملأ المخازن، ويوسع الجرين الذي يعطي الفقراء الأرزاق.
(يجوز أن ما يأتي بعد ذلك يشبه النيل بملك خفي لا يجبي ضرائب، ولكن أين هو؟ لا أحد يعرف ذلك. وكل ما هو مفهوم هو):
أنت يا من تتقيَّأ معطيًا الحقول الشراب، وجاعلًا الناس أشداء. وهو الذي يجعل واحدًا غنيًّا ويحب الآخر. ولا محاباة عنده، ولم تخلق الحدود من أجله.
أنت أيها النور الآتي من الظلام! أنت يا سمن ماشيته! وإنه واحد قوي يخلق … [كل الباقي مبهم].
[بداية الفقرة التالية مبهمة جدًّا، ومن المحتمل أن الشعر يستمر في الكلام عن ذهاب إلى العمل في الحقل]:
وهو الذي يثبت العدل، ومن يحبه الناس … وإنه لكذب أن نقرنك بالبحر الذي لا يجلب غلة … ولا طائر يحط في الصحراء.
[وبعد ذلك ذكر الذهب وسبائك الفضة التي التي لا تفيد شيئًا]؛ فالناس لا يأكلون اللازورد الحقيقي؛ فالشعير أحسن.
وهو الذي يأتي بالخيرات العظيمة، ويزين الأرض! وهو الذي يجعل السفينة تسعد أمام الناس (؟)، ومن يُنعش القلوب في الذين معهم طفل، ومن يشتهي أن يكون له فوج من كل أنواع الماشية.
(٥) إلى الشمس
كانت العادة في قبور الدولة الحديثة أن توضع مع الموتى أغنيتان، إما على شكل نقوش أو على بردي، فيما يسمى «كتاب الموتى»؛ وفي هاتين الأغنيتين كان يمتدح المتوفى الشمس عند الشروق وعند الغروب؛ لأن جل مناه أن يتمكن من رؤية الشمس في هاتين الحالتين. وليس هناك شك في أن هذه الأغاني المنوعة الصور قديمة، وإن لم يصل إلينا منها مثال إلى الآن من الدولة الوسطى.
(٥-١) إلى الشمس المشرقة٩١
الصلاة «لرع» حينما يشرق في أفق السماء الشرقي
امنحني نورًا حتى أشاهد جمالك.
(٥-٢) إلى الشمس الغاربة٩٨
الصلاة (لرع حور-أختي) حينما يغيب في أفق السماء الغربي.
الثناء لك يا «رع» حينما تغرب، يا «آتوم» ويا «حور أختي»! أيها الإله المقدس الذي جاء إلى الوجود بنفسه، الإله الأزلي الذي وجد في البدء.
أنت جميل يا «رع»، كل يوم وأمك «نوت» تضمك إليها.
أنت جميل يا «رع» كل يوم، وأمك «نوت» تضمك إليها.
(٦) [أنشودة إلى الإله تحوت]١٠٤
عُثِرَ على هذه الأنشودة على لوح طالب كان يتمرَّن على كتابتها من الأسرة الثامنة عشرة، ولكن من المحتمل أنها ترجع في الأصل إلى عصر أقدم:
صلاة يومية إلى «تحوت»
(٧) ديانة إخناتون وأناشيدها
لما كانت ديانة إخناتون أول ديانة توحيد بالمعنى الصريح في عقائد العالم، وجدنا من الضروري أن نتتبع فكرة التوحيد في الدين المصري القديم؛ حتى يتمكن القارئ من أن يوازن هذه الفكرة بالأديان الأخرى ويستخلص لنفسه رأيًا. وسيرى أوجه شبه كثيرة بين العقيدة المصرية والأديان الأخرى.
تدل البحوث العميقة التي قام بها علماء الآثار على أن فكرة التوحيد كانت متغلغلة في التفكير الديني المصري منذ أقدم العهود. وهذا الإله الواحد كان يمثل عند المصريين في أعظم الأجرام السماوية حجمًا وأهمها نفعًا، وأعني بذلك إله الشمس «رع»، وقد كان يعبر عنه بصفة مبهمة منذ عهد بناة الأهرام بلقب «غير المحدود». وقد بدأت فكرة الوحدانية تأخذ شكلًا أوضح في نصائح «مريكارع» كما أوضحنا من قبل، وقد وصف بأنه الإله العادل، وأنه يحكم مصر وحسب. وقد شاهدنا أن ملوكًا قد اندمجوا في إله الشمس؛ لأنهم كانوا يدعون أولاده.
وقد كان حكم إله الشمس مقصورًا على مصر — فلم يكن لذلك إلهًا عالميًّا — إلى أن امتدت فتوحات مصر، وبخاصة على يد «تحتمس الثالث»، من الشلال الرابع إلى أعالي نهر دجلة والفرات وجزر البحر الأبيض المتوسط، فامتد تبعًا لذلك سلطان الإله الأعظم على هذه البقاع؛ لأن الدولة المصرية كانت مصبوغة بطابع ديني، وقد ذكر لنا هذا القائد العظيم نفسه ما يدل على امتداد سلطان إلهه على تلك الأملاك الشاسعة بقوله عنه: إنه يرى جميع العالم في كل ساعة، وما ذلك إلا لأن سيف هذا «الفرعون» قد مدَّ سلطان إلهه حتى نهاية حدود الدولة المصرية.
فمن ذلك يتضح أن «التوحيد» لم يكن إلا السلطان الإمبراطوري في التدين؛ ولهذا نجد أن أول تأثير من هذا النوع كان في عهد «تحتمس» الرابع؛ إذ قد عثرنا على لوحة أقامها هذا الملك تذكارًا لوالده، وفيها نشاهد قرصًا مجنحًا تتدلى منه ذراعا آدمي تحميان خرطوش الملك، أو بعبارة أخرى: الملك وأملاكه. ولا شك في أن هذا الرسم هو الأول من نوعه الذي يشير إلى عبادة آتون. هذا من جهة الرسوم، أما من جهة النقوش فلدينا لوحتان من عهد «أمنحوتب» الثالث — أعظم أباطرة مصر في الدولة الحديثة — وهما ينسبان إلى «سوتي» و«حور» وقد كانا يعملان في طيبة في فن العمارة، ولا شك في أنهما كانا يعيشان في بلاط هذا الملك، وكانا على اتصال بابنه الذي سمي فيما بعد «إخناتون» (أمنحوتب الرابع). وقد تركا لنا أنشودة للشمس فوق لوحة موجودة الآن في المتحف البريطاني، وهي توضح لنا مدى ميل ذلك العصر والمجال الفسيح الذي كان ينظر به رجال الإمبراطورية إلى العالم مدركين مبلغ امتداد مملكة إله الشمس التي لا حد لها.
وهذه الأنشودة الشمسية تحتوي على أسطر خطيرة المعنى، وهي:
ومن الواضح في مثل تلك الأنشودة أن مدى إله الشمس الشاسع الممتد على كل البلاد وفوق كل الأرض قد لقي في النهاية اهتمامًا … ولذلك اتخذت الخطوة الخطيرة لمد سلطان إله الشمس فوق كل الأراضي والشعوب.
ولم تصل إلينا وثيقة أقدم من هذه عن التفكير المصري، تضم تعبيرات صريحة عن ذلك التفكير، كما نجدها هنا في قوله: «السيد الأحد، الذي يأخذ جميع من في الأراضي أسرى كل يوم بصفته واحدًا يشاهد من يمشون عليها.»
ومن الأمور الهامة ملاحظة أن ذلك الاتجاه كان له علاقة مباشرة بالحركة الاجتماعية في العصر الإقطاعي المصري؛ إذ نجد أن النعوت التي كان ينعت بها إله الشمس نحو قوله «الراعي الشجاع الذي يسوق ماشيته، وهو ملجؤها ومانحها قوتها» ترجع بنا إلى الوراء إلى عهد النصائح التي وجهت إلى «مريكارع» فيما تقدم ذكره، وهي التي سميت فيها الناس «قطعان الإله»، وترجع بنا أيضًا إلى أفكار «إبور» فيما تقدم ذكره، حيث يقول: «إنه راعٍ لجميع الناس.» وكذلك مما يلفت النظر النعت الآخر وهو قوله: «أم نافعة للإله والبشر»؛ لأنه يحمل في ثناياه فكرة مشابهة تشعر بالاهتمام ببني البشر. على أن النواحي الإنسانية في سلطان «إله الشمس» التي اشترك في إيجادها بوجه خاص رجال الفكر في العهد الإقطاعي لم تختفِ بين العوامل السياسية القوية لذلك التسلط العالمي الجديد؛ إذ عندما خَلَف «أمنحوتب» الرابع والده «أمنحوتب» الثالث قام نزاع شديد بشأن العرش حوالي سنة ١٣٧٥ق.م، بين البيت المالك من جهة وبين نظام الكهانة الذي كان على رأسه الإله «آمون» من الجهة الأخرى.
وقد كان من الواضح أن ذلك الملك الشاب ينحاز إلى معاضدة حقوق «إله الشمس» القديم ضد ما كان يدعيه الإله «آمون» الذي أخذ رجال كهانته الطيِّبون الأقوياء يدعون إلههم المحلي الخامل الذكر باسم مركَّب هو «آمون رع»؛ مدللين بذلك على أنه صار مُوحَّدًا مع إله الشمس «رع».
ولكنا نجد أن «أمنحوتب» الرابع في باكورة حكمه كان يناصر في حماسة فكرة جديدة للمذهب الشمسي، وربما كانت تلك الفكرة نتيجة أريد بها التوفيق بين المذهبين.
وقد حدث في الوقت الذي كان فيه موقف البلاد المصرية السياسي قديمًا في آسيا في غاية الحرج، أن كان الملك منهمكًا بكل حماسة في تعضيد التسلط العالمي لإله الشمس الذي أدركنا كنهه في أيام والده، فأعطى هذا الملك إله الشمس اسمًا جديدًا خلَّص به المذهب الجديد من التقليد المحفوف بخطر الشرك في اللاهوت الشمسي القديم، فصار إله الشمس يسمى آنئذٍ «آتون»، وهو اسم قديم يطلق على الشمس المجسمة.
ومن المحتمل أن هذه التسمية كانت لا تدل إلا على قرص الشمس فقط، وهذا الاسم الجديد ذكر مرتين في أنشودة رجال عمارة «أمنحوتب» الثالث التي اقتبسنا منها جزءًا فيما تقدم.
وكأن هذا الاسم قد لاقى بعض الإقبال في عهد ذلك الملك الذي سمى به أحد قواربه الملكية «آتون يسطع»، ولم يقتصر الحال على إعطاء إله الشمس اسمًا جديدًا، بل منحه ذلك الملك الشاب كذلك رمزًا جديدًا؛ فقد ذكرنا فيما مرَّ سابقًا أن أقدم رمز لإله الشمس كان هو الشكل الهرمي، كما كان يُرمز له كذلك بالصقر؛ لأن صورة ذلك الطائر كانت تدل عليه.
وعلى أية حال فإن هذين الرمزين كانا مفهومين بين سكان وادي النيل فقط، ولكن «أمنحوتب» الرابع كان في مخيلته وقتئذٍ مسرح أفسح وأوسع من القطر المصري؛ إذ إن الرمز الجديد قد مثَّل لنا الشمس بقرص تخرج منه أشعة متفرقة تنتشر فوق الأرض، كما كان كل شعاع من أشعته ينتهي بهيئة يد بشرية. وقد كان ذلك الرمز يدل على السيطرة القوية الخارجة من منبعها السماوي، وهي تضع أيديها تلك فوق العالم وعلى شئون البشر الأرضية.
وأشعة إله الشمس منذ عصر «متون الأهرام» قد شبِّهت بذراعين له. وظن الناس إذ ذاك أنها نائبة عنه في الأرض: «إن ذراعي أشعة الشمس قد رفعت مع الملك «وناس» صاعدة به إلى السموات.»
وقد كان ذلك الرمز سهل الفهم لكل البشر الذين يسيطر عليهم «الفرعون»، كما كان معناه واضحًا كل الوضوح، حتى إنه كان في استطاعة سكان نهر الفرات أو رجال بلاد النوبة على النيل السوداني أن يدركوا معناه على الفور. على أن ذلك الرمز لم تقتصر دلالته على السيطرة العالمية فحسب، بل صار خليقًا بأن يكون رمزًا عالميًّا إلى أقصى حد.
وكذلك قد بذلت بعض الجهود لتعريف تلك القوة الشمسية التي رمز لها بتلك الصورة، فقد كان اسم إله الشمس الكامل «حور أختي» (حور الأفق) فَرِحًا في الأفق.
باسمه الحرارة التي في «آتون».
وكان ذلك الاسم يوضع في طغراءين ملكيين مثل اسم الفرعون المزدوج (يعني اسمه ولقبه). وهذا الوضع مأخوذ من مشابهة سلطان «آتون» لسلطان الفرعون.
وذلك برهان آخر يدل بوضوح على التأثير الذي أوجدته الإمبراطورية المصرية بصفتها الحكومية في مذهب اللاهوت الشمسي. ولكن الاسم الموضوع في الطغراءين حدَّد لنا بوجه عام مقدار القوة الجثمانية الحقيقية للشمس في العالم المحس، ولم يكن في الوقت نفسه يمثل شخصية سياسية قط.
والكلمة المصرية القديمة التي ترجمتها في اسم ذلك الملك «حرارة»، قد يكون معناها أحيانًا «نورًا» أيضًا. ومن الواضح أن ما كان الملك يعبده هو القوة الدالة على وجود الشمس فوق الأرض، وكل الأدلة العديدة التي نجدها في أناشيد «آتون» منسجمة مع تلك النتيجة كما هي منسجمة في الأناشيد الآتية بُعَيْد هذا. وهي التي نرى فيها «آتون» نشطًا باسطًا أشعته على كل مكان فوق الأرض.
ومع أنه كان من الواضح أن ذلك المذهب الجديد قد استقى وحيه من مدينة «هليوبوليس»؛ حتى إن الملك الذي كان يحمل لقب الكاهن العظيم للإله «آتون» سمى نفسه «الرائي العظيم»، وهو نفس كاهن «هليوبوليس» العظيم؛ فإنه بالرغم من كل ذلك كان قد أزال معظم سقط المتاع القديم من الشعائر الدينية التي كان يتألف منها ظواهر اللاهوت التقليدية.
ولذلك ترانا نبحث عبثًا في ذلك اللاهوت الجديد عن القوارب الشمسية، كما ترانا نبحث عبثًا عن باقي الإضافات التي أدخلت فيما بعد على المذهب الشمسي في مثل السياحة في كهوف الأموات السفلية وغير ذلك؛ إذ قد محيت منه جملة. فإذا كان الغرض الذي رمت إليه حركة مذهب «آتون» هو التوفيق بينها وبين كهنة «آمون» فإنها قد فشلت وقام بينهما ألد الخصام، الذي اشتد وبلغ الذروة عندما صمم الملك على أن يتخذ من «آتون» إلهًا واحدًا للإمبراطورية المصرية ويقضي على عبادة «آمون». وقد نتج عن ذلك المجهود الذي بذل لمحو كل الآثار الدالة على وجود «آمون»، أن اتخذت جميع الإجراءات الممكنة المؤدية إلى ذلك الغرض. فنجد أن الملك قد غير اسمه من «أمنحوتب» (يعني آمون راضٍ) إلى إخناتون (يعني آتون راضٍ). وذلك الاسم الجديد الذي اتخذه لنفسه الملك هو ترجمة للاسم القديم للملك بفكرة مماثلة لما كانت عليه، غير أنه حول إلى مذهب «آتون».
هذا من جهة، وكان اسم «آمون» من الجهة الأخرى يمحى أينما وجد فوق آثار «طيبة» العظيمة. على أن ذلك الملك تنفيذًا لفكرته لم يحترم في ذلك حتى اسم والده الملك «أمنحوتب» الثالث، مع أن الأمر لم يكن مقصورًا على محو اسم «آمون» فحسب، بل تعداه حتى لكلمة الآلهة بصفتها جمعًا حيث كان يأمر بمحوها أيضًا أينما وجدت، كأنه رأى أن الجمع مظنة لتعدد الآلهة فمحاه، وكذلك عوملت أسماء سائر أفراد الآلهة الآخرين معاملة «آمون» بالمحو.
وقد هجر الملك «إخناتون» طيبة، برغم ما كان لها من السيادة والأبهة، عندما وجد ارتباكها بالتقاليد اللاهوتية القديمة الكثيرة، وأقام لنفسه حاضرة جديدة في منتصف الطريق بين طيبة والبحر، تقريبًا في بقعة تعرف في وقتنا هذا باسم «تل العمارنة»، وسماها «إخناتون» (أفق آتون)، كما أسَّس في بلاد النوبة مدينة «لآتون» مشابهة لها. ومن المحتمل جدًّا أنه أقام مدينة أخرى لذلك الإله في آسيا. وبذلك صار لكل من الثلاثة الأجزاء العظيمة التي تتألف منها الدولة، وهي: «مصر» و«النوبة» و«سوريا»، مقر لمذهب «آتون»، وقد بنيت كذلك معابد أخرى «لآتون» في أماكن مختلفة في مصر غير المعابد المبنية في تلك الحواضر. ولم يتم ذلك طبعًا دون تأليف حزب قوي من رجال البلاط الملكي يمكن للملك به أن يناهض أولئك الكهنة المنبوذين، وبخاصة كهنة «آمون».
وقد أثرت تلك الفتنة التي نتجت عن ذلك الانقلاب بلا شك تأثيرًا خطيرًا في قوة البيت المالك؛ إذ كان حزب ذلك البلاط الذي نما إذ ذاك في ظل «إخناتون» يعمل معه، متضامنَيْن على نشر ذلك المذهب الديني الجديد الذي يصح أن يعد أهم دور وأبهجه في تاريخ ذلك الشرق القديم، يدلنا على ذلك ما بقي من نقوشه الباقية فوق جدران تلك المقابر التي نحتها الملك في الصخر لأشراف رجاله قبالة الجبال المنخفضة التي تقع في الهضبة الشرقية القائمة خلف تلك المدينة الجديدة.
والواقع أننا مدينون لمقابر أتباع ذلك الملك بمعلوماتنا هذه التي تتضمن تلك «التعاليم» الهامة التي كانت تنشر في تلك الآونة، وهي تحتوي على سلسلة أناشيد في مدح إله الشمس كما تحتوي على مديح إله الشمس والملك بالتبادل. وتلك «التعاليم» تمدنا على الأقل بلمحة من عالم الفكر الذي نشاهد فيه ذلك الملك الشاب وأتباعه رافعين أعينهم نحو السماء، محاولين بذلك إدراك مجالي الذات الإلهية في بهائها الأبدي الذي لا حدَّ له ولا نهاية، وهي الإلهية التي لم ينحصر سلطانها بعد في وادي النيل، بل امتد بين جميع البشر في العالم كله.
ولا يمكننا الآن أن نأتي بشيء عند هذه السانحة أفصح من تلك الأناشيد التي تقص علينا بنفسها شيئًا، وأطول أنشودة بينها وأهمها هي الآتية بعد:
بهاء «آتون» وقوته العالمية
(٨) الليل والإنسان
(٨-١) الأنشودة
(٨-٢) المزامير
تجعل ظلمة فيكون ليل فيه يدب كل حيوان الوعر (المزمور ١٠٤: ٢٥).
ونظمها بعض النصارى فقال:
(٩) الليل والحيوان
(٩-١) الأنشودة
(٩-٢) المزامير
الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها (المزمور ١٠٤: ٢١).
وقد نظمها بعض النصارى فقال:
(١٠) النهار والإنسان
(١٠-١) الأنشودة
(١٠-٢) المزامير
(١١) النهار والحيوان والنبات
(١٢) النهار والمياه
(١٢-١) الأنشودة
(١٢-٢) المزامير
ونظمها بعض النصارى فقال:
•••
•••
(١٣) خلق الإنسان
(١٤) خلق الحيوان
(١٥) الخلق العالمي
(١٥-١) الأنشودة
•••
•••
•••
(١٥-٢) المزامير
ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت
ملآنة الأرض من غناك.
•••
(١٦) ري الأراضي في مصر وفي خارجها
•••
•••
(١٦-١) فصول السنة
(١٧) السيطرة العالمية
(١٨) وحي الملك
(١٩) الوقاية العالمية
ويحتمل ألا تمثل هذه الأنشودة الملكية إلا قطعة منتخبة أو سلسلة منتخبة من شعائر «آتون» كما كان يحتفل بها من يوم لآخر في معبد آتون بتل العمارنة.
ومما يؤسف له أن هذه الأنشودة لم تدون إلا في مقبرة واحدة فقط من تلك الجبانة، وقد فقد منها نحو ثلثها من جراء تعدي المخربين من الأهالي الحاليين؛ ولذلك لم يصلنا من الجزء المفقود إلا نسخة نُقلت من غير اعتناء وعلى عَجَل منذ خمسين سنة (أي سنة ١٨٨٣م).
وأما المقابر الأخرى فقد كتبت نقوشها الدينية بالنقل عن الفقرات التي كانت شائعة الاستعمال وقتئذٍ، وعن الجمل التي كان علمها مفروضًا، وهي التي عرفنا منها مذهب «آتون» كما فهمه الكتاب والرسامون الذين قاموا بزخرفة تلك المقابر.
ويجب علينا ألا ننسى أن المنتخبات التي بقيت لنا في جبانة «تل العمارنة» من مذهب «آتون» — وهو مصدرنا الرئيسي — قد وصلت بشكل آليٍّ إلى فئة قليلة من الكتبة المهملين غير المدققين ذوي العقول الخاوية الفاترة، وهؤلاء كانوا لا يعتبرون إلا أذنابًا لحركة عقلية دينية عظيمة.
وغير هذه الأنشودة الملكية نجد أن أولئك الرسامين كانوا قانعين في كل مكان بالقِطَع والنُّتَف التي نقلت في بعض الأحوال من تلك الأنشودة الملكية نفسها أو بقطع أخرى مرقعة وضعت بهيئة أنشودة قصيرة، حيث ينقشونها كلها أو بعضًا منها على هذا القبر أو ذاك، وهم في ذلك ليسوا إلا مسخرين فيما يعملون. ولما كانت المواد التي في متناولنا عن ذلك المذهب ضئيلة إلى هذا الحد، مع أهمية الحركة التي أماطت لنا عنها اللثام؛ فإن تلك المعلومات الجديدة القليلة — التي تمدنا بها تلك الأنشودة القصيرة — صارت لها قيمة عظيمة.
وقد عزيت تلك الأنشودة في أربع حالات إلى الملك نفسه — إي إن الملك يشاهَد وهو ينشدها أمام «آتون».
وهاك نصها كما جاءت:
•••
ففي هذه الأناشيد توجد قوة عالمية ملهمة لم توجد من قبل لا في الفكر المصري القديم ولا في فكر أية مملكة أخرى، فهي تشمل في مداها العالم كله، كما يدعي الملك أن الاعتراف بسيادة إله الشمس العالمية كان كذلك شاملًا، وأن جميع البشر يعترفون بسلطانه، وكذلك قال الملك عنهم في لوحة الحدود العظيمة:
ومن الواضح أن «إخناتون» كان يبرز بذلك دينًا عالميًّا يحاول أن يحله محل القومية المصرية التي سبقته وسارت عليها البلاد خلال عشرين قرنًا مضت. وبجانب تلك القوة العالمية نجد كذلك أن «إخناتون» كان يتأثر تأثرًا عميقًا بأزلية إلهه. وكان الملك نفسه يتقبل — بسكينة واطمئنان — فناء نفسه؛ فنراه في باكورة حكمه في «تل العمارنة» يعلن التعليمات الدقيقة الخاصة بدفنه فيما بعد الموت، ويسجِّلها باستمرار فوق اللوحات التي أقامها على الحدود المصرية، ولكنه مع ذلك كان يعتمد على علاقته الوثيقة «بآتون» حتى يضمن له شيئًا من خلود إله الشمس؛ ومن أجل ذلك كان يحتوي لقبه الرسمي دائمًا بعد ذكر اسمه على النعت الآتي «الذي مدة حياته طويلة».
ولكن في بداية كل شيء برَّأ «آتون» نفسه من الوحدة الأزلية؛ أي إنه الخالق لكينونة نفسه؛ إذ نجد في إحدى لوحات «تل العمارنة» العظيمة أن الملك يسميه هكذا:
ونجد أن الأناشيد تميل في انسجام مع هذه الفكرة إلى أن تردد تلك الحقيقة القائلة: إن خلق العالم الذي يلي ذلك قد حدث حينما كان الإله لا يزال وحيدًا «لا شيء غيره».
وتكاد الكلمات «حينما كنت لا تزال وحيدًا لا شيء غيرك» تكون نداءً يردد في تلك الأناشيد. وهو الخالق العالمي الذي ذرأ كل أجناس البشر وميَّز بعضهم عن بعض في اللغة واللون والجلد، ولا تزال قوته المنشئة مستمرة تأمر بالخروج من العدم إلى الحياة حتى من البيضة الجامدة.
ولم يظهر عجب الملك بشكل بارز في أي مكان آخر أكثر مما نجده مذكورًا بسذاجة في تعبيره عن قوة إله الشمس المانحة الحياة في تلك المعجزة التي تتمثل في أنه داخل لحاء البيضة التي يسميها الملك «حجر البيضة»؛ أي في هذا الحجر الذي لا حياة فيه تجيب أصوات الحياة نداء أمر «آتون»، فيخرج مخلوق حي بعد أن أنعشه النفس الذي يمنحه إياه «ذلك الإله».
وتلك القوة المانحة الحياة هي مصدر الحياة الدائمة والزاد، والوساطة المباشرة لها هي أشعة الشمس التي تجلب النور والحرارة إلى الناس.
وذلك الاعتراف المدهش بنشاط الشمس بصفتها منبع الحياة فوق الأرض يردد باستمرار دائم.
فالأناشيد تميل إلى الإمعان في ذكر أنها قوة عالمية عتيدة على الدوام:
واعتماد مصر في حياتها على «النيل» جعل من المستحيل تجاهل ذلك المنبع الحيوي في عقيدة الملك «إخناتون»؛ إذ الواقع أنه لا شيء يكشف لنا بوضوح عقيدة «إخناتون» وقوة عقله أكثر من أنه محا طائفة الأساطير التي كانت محترمة والتقاليد التي جعلت «النيل» الإله «أوزير» عدة أزمان. ثم نسب الفيضان في الحال إلى قوى طبيعية يسيطر عليها ذلك الإله. وهو الذي خلق — بمثل ذلك الاهتمام — للبلاد الأخرى نيلًا آخر في السماء.
وقد تجوهل كلية الإله «أوزير»؛ فلم يُذكر قط في كل «الوثائق الإخناتونية»، بل ولا في أي قبر من قبور «تل العمارنة».
ثم ينتقل عند هذه النقطة تفكير «إخناتون» إلى ما وراء الاعتراف المادي المحض عن نشاط الشمس فوق الأرض؛ إذ يدرك اهتمام «آتون» الأبوي بجميع المخلوقات.
وذلك التفكير هو الذي رفع من شأن الحركة التي قام بها «إخناتون» إلى حد بعيد فوق ما كانت قد وصلت إليه ديانة قدماء المصريين أو ديانات الشرق بأجمعه قبل ذلك الوقت، حيث كان إله الشمس في نظر «إبور» راعيًا شفيعًا كما تقدم ذكره فيما سبق كما كان الناس في نظر «مريكارع»، كذلك — كما سبق ذكره أيضًا — «قطعانه» التي من أجلها صنع الهواء والماء والطعام.
ولكنا نجد أن «إخناتون» يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يقول لإله الشمس: «أنت أب وأم لكل ما صنعت.»
وذلك «التعليم» هو الذي ينبئ عن كثير من التطور المقبل في «دين القوم» حتى إلى عصرنا الحالي، فكان جميع العالم الحي في نظر تلك الروح الحساسة التي كانت تدب في نفس ذلك الخيالي المصري يملؤه شعور قوي بوجود «آتون»، وبالاعتراف بشفقته الأبوية، فمستنقعات السوسن «النشوي» تينع أزهارها بإشعاع «آتون» الأخَّاذ الذي تنشر الطيور أجنحتها فيه «تعبدًا لآتون الحي»، وفيه تطفر الماشية فرحة في ضوء الشمس ويثب السمك في النهر مرحبًا بالنور العالمي الذي تنفذ أشعته حتى في «وسط البحر الأخضر العظيم».
(٢٠) الأناشيد الدينية بعد عهد إخناتون
لا نزاع في أن الحركة التي قام بها إخناتون قد وقفت مجرى سير حياة الشعب المصري فجأة، وحوَّلته إلى اتجاه غريب بالرغم من قوة اندفاعه وشدة تمسُّكه بالعقائد القديمة؛ فرأينا أماكن الشعب الطاهرة تدنس، ومزاراته المقدسة المتوجة بهالات من القدم والخلود تُوصَد ويُطرد كهنتها، وامَّحى ذلك النظام العتيق جملةً من أقطار البلاد كلها، فكانت الجماعات إذا ذهبت مدفوعة بالغرائز المتغلغلة في نفوسها من قديم لتزور تلك الأماكن المقدسة وجدتها خاوية على عروشها كأن لم تغنَ بالأمس؛ فتقف هناك مسلوبة العقول أمام تلك المعابد القديمة الموصدة، وعند تلك القاعات المحترمة التي كانت تزخر بالناس في الأعياد المقدسة، فصارت مُوحشة واجمة ساكنة، لا تسمع فيها غير صفير الرياح تتجاوب في أنحائها، بل نُفِي من البلاد كل الآلهة، وحرم على كل إنسان أن ينطق باسم واحد منها؛ فساء ذلك الكهنة وغيرهم من أهل الحرف الذين كانوا يعيشون في كنف هؤلاء الآلهة من الحفارين والكتاب الذين كانوا ينسخون كتب الموتى، ورجال الكهانة المسرحيين الذين كانوا يعيشون من تمثيل مأساة «أوزير» في تلك الأماكن المقدسة، وكذلك الأطباء الذين حرموا تجارتهم الخاصة بالاحتفالات السحرية التي كانت تستعمل بنجاح منذ أقدم العهود … إلخ.
في هذا الوسط المظلم الملبَّد بسُحُب من التذمر الخانق، ضرب هذا الملك الشاب المدهش هو وأتباعه سرادق دينه في رابعة النهار، في هدوء لا شعور معه بذلك الظلام الدامس الذي شمل كل ما حوله، وقد كان يزداد ظلمة كل يوم منذرًا بخطر عظيم.
وإذا وضعنا حركة إخناتون على أساس ذلك التذمر الشعبي الذي سبق ذكره، ثم أضفنا إلى تلك الصورة معارضة رجال الدين القدامى السرية التي كانت خطرًا مباشرًا عظيمًا، ومعارضة حزب «آمون»، الذي لم يكن قد غُلب على أمره تمامًا، وطائفة الجنود الأقوياء الذين كانوا ساخطين على سياسة الملك السلمية في آسية، وزدنا على كل ما تقدم نفور الملك من إدارة أملاكه الدولية والمحافظة عليها؛ أدركنا شيئًا عن تلك الشخصية القوية التي كانت تتمثل في إخناتون، والتي كانت لا تحفل بغير ما تعتقد، حتى صار أول قائد فعلي في تاريخ العالم. ولا نزاع في أن حكمه يعد أقدم محاولة لسيطرة الآراء الفردية التي لا تقيم وزنًا لميول الشعب الذي فرضت عليه تلك الآراء ولا معرفة مدى استعداده لقبولها.
ولقد كان من سوء حظ «إخناتون» أن يفرض عقيدته في بلد لم يكن فيه رجل يستطيع نسيان الماضي غير «إخناتون» نفسه. ولقد ذكرنا خياله بآمال الإسكندر الذي جاء بعده بألف عام، ولكنه كان سابقًا لعهده بعدة قرون.
على أن الحقيقة التي كانت تحيط به، والمركز المهدد الذي دعا حزبه أن يتبصر فيه قد صوره لنا «توت عنخ آمون» عندما أخذ يعيد النظام القديم:
ولقد سقط ذلك الثوري العظيم في ظروف غامضة مبهمة، وكانت نتيجة سقوطه إعادة عبادة «آمون» والآلهة القدامى التي فرضها كهنة «آمون» على «توت عنخ آمون»، ذلك الشاب الضعيف زوج ابنة «إخناتون»، فرجع النظام القديم إلى ما كان عليه.
وقد أعاد «توت عنخ آمون» عبادة الآلهة القدامى. ويشير إلى نفسه بأنه «هو الحاكم الطيب الذي قام بأعمال عظيمة لوالد كل الآلهة (يعني آمون)، والذي أصلح له كل ما كان مخربًا حتى صار آثارًا خالدةً، ومحيت من أجله الخطيئة في الأرضين، وبذلك استمرت العدالة (ماعت) وجعل الظلم شيئًا تمقته البلاد كما كانت الحال في البداية.» ومن هذا نفهم أن سقوط «إخناتون» كان يعتبر في نظر أعدائه المنتصرين إعادة للنظام الخلقي القويم (ماعت) وإقصاءً للظلم. وبذلك مُحِيَ اسم «إخناتون»؛ ذلك الرجل الفذ في تاريخ العالم القديم، وأصبح يلقب «بمجرم أخيتاتون» (عاصمته في تل العمارنة).
وقد أنشدت الأغاني فرحًا برجوع عظمة «آمون» كما سنرى بعد. وقد كان حنق القوم على «إخناتون» شديدًا؛ فمحوا اسمه، وقضوا على آثاره أينما وجدت، ولكنا نتساءل الآن: هل تركت هذه الحركة الفكرية العظيمة أثرًا في عقول أهل الشعب المصري؟ وهل لأقدم ثورة للعقل البشري ما ينتظر لمثلها من نتيجة باقية؟ والجواب على ذلك ليس بالعسير؛ فالمذهب الجديد الذي وضعه «إخناتون» كان كشهاب لامع في وسط ظلام دامس؛ فجذب النظر، وترك بعض الأثر، يدلك على ذلك أنشودة الفوز بانتصار كهنة «آمون» على مذهب «إخناتون»؛ فهي نفسها تنم عن اتصالها بالمذهب الشمسي القديم، أو بعبارة أخرى مذهب التوحيد.
ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن عقيدة «إخناتون» قد تركت أثرًا كبيرًا في إنماء فكرة التوحيد عند أتباع آمون، حتى إن لفظة «آمون» يمكن أن تعتبر مرادفة للفظة «آتون»، وإن «آمون» أصبح بعد عهد «إخناتون» يعتبر الإله الواحد، يضاف إلى ذلك أن كثيرًا من الصفات التي تنطبق على الإله الواحد الذي كان يعبده «إخناتون» قد بقيت يتصف بها الإله «آمون».
ومن ذلك العهد أخذت تظهر في الديانة المصرية نزعة جديدة إلى التدين الشخصي واتصال الفرد بربه مباشرة، وكذلك أخذ المصري يعترف بذنوبه جهارًا ويطلب من الله الغفران، وكذلك أخذ الفقير والغني يخشيان على السواء أن يحيق بهما غضب الله إذا حصلت من أحدهما خطيئة، كما أخذ الورع الشخصي يظهر بين الأتقياء من الشعب.
وسنورد فيما يلي بعض الأمثلة من الأناشيد التي كانت تؤلف للإله «آمون» وغيره من الآلهة. وسيرى القارئ فيها أنها ليست بأناشيد توحيد أو استعطاف شخصي لهذا الإله أو ذاك؛ مما يدل على نمو الفكرة الدينية عند القوم، ولقد ساعدها نمو الضمير أو الوعي الإنساني الذي بلغ درجة عظيمة في مصر، ومنه أخذ العالم المحيط بها من كل الجهات، وبخاصة فلسطين معهد الرسل والأنبياء.
(٢٠-١) قصائد عن طيبة وإلهها١١٣
هذا المؤلف الذي قد ضاع أوله وآخره يحتمل أنه كان يحمل عنوان «الألف أنشودة»؛ لأنه خلافًا للتقاليد المتبعة كان لكل قسم من أقسامه رقم، ومن هذه الأرقام لا ينقص الألف إلا اثنين؛ لأنهما كانا في القطعة الناقصة في نهاية آخر صفحة. والحقيقة أن هذا المؤلف لم يكن يشمل ألف أنشودة، ولكنه وصل إلى هذا الرقم بحيلة؛ إذ لم يحسب غير الآحاد والعشرات والمئات؛ ولذلك كان عدد الألف في الحقيقة ثمانية وعشرين فقط. وقد كان يظهر أهمية كبرى لأرقامه، بدليل أنه كان يبتدئ القصيدة ويختمها بكلمة فيها تورية المقصود منها أن تدل السامع على العدد الذي هو بصدده، وقد أثَّر المجهود الذي كان يقوم به الكاتب لإيجاد التورية التي تشير إلى العدد المطلوب على ترتيب الموضوعات.
وتدل هذه القصائد من اختيارها ومحتوياتها على أن كاتبها كان شاعرًا عالمًا ولم يكن ضعيفًا في شاعريته ولا في معانيه. وقد كتبت هذه القصائد في أوائل الأسرة التاسعة عشرة، ولم تكن أنشودة «أمنحوتب الرابع» قد نسيت بعد.
-
الفصل السادس١١٤: كل إقليم يرهبك وسكانه خاضعون … واسمك سامٍ وعظيم وقوي،
والفرات والبحر في وجل منك. وسلطانك ذو وطأة على الأرض، وفي
الجزر التي في وسط البحر الأبيض …
وسكان «بنت» يأتون إليك، وأرض الإله١١٥ تصبح خضراء لأجلك حبًّا فيك، ويجلبون لك الروائح العطرية لتجعل معبدك في عيد بالروائح الذكية، والأشجار التي تحمل البخور تُسقط العطر من أجلك. وشذا رائحتك يتخلل أنفك، والنحل (؟) يُعَدُّ لجني الشهد … وكل الزيوت الغالية تجلب لك، وشجر الصنوبر يغرس لك … لتصنع قاربك الفاخر، و«سرحت»١١٦ والجبال تمدك بقطع من الحجر الضخم لتقيم بها «بوابات» «معبدك»، والسفن في البحر راسية بجانب الشاطئ تحمل وتسافر أمامك … والنهر ينساب مع التيار، وريح الشمال تهب على النهر جالبة القربان لك من كل ما …
- الفصل السابع: يبتدئ هكذا: «إن الأشرار قد طردوا من طيبة.»١١٧ وبعد ذلك يمدحها بوصفها سيدة المدن التي تعد أقوى من أية مدينة؛ فقد منحت الأرض ربًّا واحدًا بانتصاراتها، وهي التي قد أخذت القوس وقبضت على النشاب، ولا يجسر أحد أن يحارب على كثب منها؛ لأن قوتها غاية في العظم. وكل مدينة تفاخر بنفسها (؟) باسمها،١١٨ وهي أميرتها وأعظم منها سلطانًا (أي المدن الأخرى).
الفصل الثامن (مهشم)
-
الفصل التاسع١١٩ (وهو أنشودة لآمون بوصفه إله الشمس): يجتمع التاسوع الذي خرج من «نون»؛ لأنه يشاهدك أنت يا عظيمًا
في الفخر، يا رب الأرباب، الذي سوَّى نفسه بنفسه، رب السيدتين
… إنه الرب.
ويضيء للذين قد ناموا لينير وجوههم في شكل آخر،١٢٠ فعيناه تفيضان نورًا وأذناه مفتوحتان، وكل الأعضاء تغطَّى١٢١ «بالملابس» حينما يحل ضياؤه (؟).فالسماء من ذهب (لونها)، ونون (المحيط الأزلي) من اللازورد (أزرق)، والأرض مفروشة بالتوتيا الخضراء (أي خضراء) حينما يشرق عليها١٢٢ والآلهة يشاهدون، ومعابدهم تبقى مفتوحة، وكذلك الناس يمكنهم أن يروا ويشاهدوا بوساطته.
وكل الأشجار تتحرك في حضرته، وتتجه نحو عينه وأوراقها تفتح.
-
الفصل العاشر١٢٦: إن طيبة مُنَسَّقة (؟) أكثر من أي مدينة؛ فالماء والأرض فيها
منذ الأزل، وأتى الرمل في الأرض الخصبة المنزرعة لينشئ أرضها
على نجدها؛ ولذلك أصبحت الأرض في عالم الوجود …١٢٧ كل المدن موجودة في اسمها الحقيقي، وسميت باسم «مدينة»،١٢٨ وهي تحت رعاية «طيبة» عين رع»!
ويتلو هذا سلسلة توريات عن أسماء «طيبة» وأقسامها.
- الفصل العشرون١٢٩: كيف تسبح يا «حور أختي» وتفعل يوميًّا ما فعلته بالأمس؟! أنت يا صانع الأعوام ومنظم الشهور، والأيام والليالي تكون على حسب سيره، وأنت أكثر جدة اليوم عن الأمس … وأنت يقظان وحدك، وإنك لتمقت الإغفاء، وكل الخلائق تنام وعيناه ساهرتان … والذي يسبح في القبة الزرقاء ويخترق العالم السفلي. وهو الشمس في كل الطرق تقوم بدورتها أمام وجوه «الناس». وكل العالم يولي وجهه شطره، ويقول الناس والآلهة: مرحبًا بك.
- الفصل الثلاثون١٣٠: الحربة تطعن العدو الذي سقط بحدها الماضي … وسفينة «الملايين» تسبح في هدوء، والنوتية يصيحون مرحًا وقلوبهم فرحة؛ لأن عدو «رب العالمين» قد هُزم. وأعداؤه الذين كانوا في السماء وفي الأرض أصبحوا لا وجود لهم. وسكان السماء وطيبة و«هليوبوليس» و«العالم السفلي»١٣١ يفرحون بربهم حينما يرونه قويًّا في بهائه ومزوَّدًا بالشجاعة والنصر وقويًّا في صورته. أنت تفوز يا «آمون رع»! أما الأوغاد فقد هزموا وذُبُّوا بالحربة.
- الفصل الأربعون: إن الإله قد فطر نفسه، ولكن صورته ليست معروفة … وقد اندمجت بذرته في جسمه، وعلى ذلك وجدت بيضته في نفسه الخفية …١٣٢
-
الفصل الخمسون١٣٣: … شمس السماء التي أشعتها من محياك! النيل يجري من كهفه
لإلهيتك الأزلية (؟)، والأرض أنشئت لصورتك. ولك وحدك كل ما
يجعله «جب» (إله الأرض) ينمو.١٣٤
اسمك قوي وإرادتك وفيرة، والرواسي من المعدن الغفل لا تقدر على مقاومة سلطانك، يا أيها الصقر المقدس المنتشر الجناحين، السريع الذي يهزم منازله في تمام لحظة. الأسد الغامض عالي الزئير، الذي يقبض بشدة على الذين يقعون بين مخالبه، وهو ثور لمدينته، وأسد لقومه، الضارب بذيله من يعتدي عليه، وتتحرك الأرض عندما يزأر بصوته، وكل المخلوقات تخاف سلطانه، عظيم القوة، ولا شبيه آخر له.
-
الفصل الستون١٣٥: إن مصر العليا ومصر السفلى ملك له، وقد استولى عليهما وحده
وبقوته، حدوده متينة … على الأرض، وعرضها عرض الأرض أجمع،
وارتفاعها كالسماء. الآلهة تستجدي أرزاقها منه، وهو الذي
يعطيهم الخبز من ممتلكاته، وهو رب الحقول والشواطئ والمزارع،١٣٦ وهو كل مساح …
إنه الذراع الذي يقيس كُتَل الحجر، وهو الذي يمد الخيط١٣٧ … على … التي أسس عليها الأرضين والمعابد والمحاريب.
وكل مدينة تحت ظله (أي سلطانه) حتى يتسنَّى لقلبه أن يمشي حيث يريد.
والناس تغني له في كل مقصورة، وكل مكان يملك حبه أبديًّا.
والجعة تصنع له في يوم العيد، ويمضي الليل في سهر، واسمه ينتشر (يدور) على السقوف، والغناء بالليل حينما يظلم الكون.١٣٨الآلهة تمنح الخبز بواسطته، وهو الإله الثري، والذي يحمي ما يملك.
-
الفصل السبعون١٣٩: وهو المطهر من الأذى ومُبعد المرض، الطبيب الذي يشفي العين
من غير دواء، والذي يفتح العين ويقصي عنها الحَوَل … والمنجي
من يريد، ولو كان في العالم السفلي، والحافظ من القدر كما
يريد. له عينان وكذلك أذنان؛ ليسمع شكوى من يناديه ممن يحب
أينما ذهب، وإنه يأتي من بعيد في طرفة عين لمن يناديه. وهو
الذي يطيل الأجل ويقصره أيضًا، وهو الذي يمنح من يحب أكثر مما
هو مكتوب له.١٤٠
إن اسم «آمون» تعويذة مائية على الفيضان، فالتمساح يصبح لا قوة له حينما ينطق باسمه، وهو ريح يحول الزوبعة المعاكسة …
بمحيا فرح حينما … لأنه يستعاد إلى الذاكرة وهو فم طيب وقت الهياج. وإنه لنسيم عليل لمن يناديه، ومنقذ المتعب.
وهو الإله الألمعي (؟) ممتاز النصائح. وهو عضد من يتكئ عليه بظهره … وهو خير من «ملايين» لمن يثق فيه، ورجل واحد يفوق مئات الألوف باسمه، وهو في الحقيقة حامٍ طيب، وهو فاضل ينتهز الفرصة، ولا أحد يثنيه.
-
الفصل الثمانون١٤١: إن الآلهة الثمانية كانوا في صورتك الأولى إلى أن أتممت هذا
أنت وحدك.١٤٢إن جسمك كان خفيًّا بين العظماء، وقد أخفيت نفسك بوصفك «آمون» على رأس الآلهة، وقد جعلت صورة كينونتك مثل «تنن»؛١٤٣ لتسوي الآلهة الأزلية في صورتك الأبدية.وقد امتدح جمالك بوصفك «ثور أمه»،١٤٤ وإنك تذهب بنفسك بعيدًا بوصفك قاطن السماء مقيمًا مثل «رع» …
أنت كنت أول من وجد حينما كان العدم، والأرض لم تكن خلوًا منك في أول البدء، وكل الآلهة الذين وجدوا بعدك …
-
الفصل التسعون١٤٥: التاسوع قد اندمج في أعضائك … وكل إله قد اتَّحد مع جسمك.
وقد ظهرت أولًا على سطح الماء؛ لتتمكن من بدء البداية، يا
«آمون» الذي خفي اسمه عن الآلهة،١٤٦ الواحد العظيم السن، الأكبر سنًّا من هذه١٤٧ (يعني الآلهة).
أنت «تنن» الذي صور نفسه مثل «بتاح» (ثم برأ «شو» و«تفنت» بالتفل، وهذان هما أول سلسلة الآلهة الحقيقيين، وهو نفسه قد صار حاكم العالم)، على حين أنه ظهر على عرشه حسب ما أوحى به قلبه. وقد حكم على كل ما كان في … وقد نظم مملكة الخلود إلى الأبد، مسيطرًا إلهًا واحدًا.
وصورته قد أنارت في أول آنٍ، وكل كائن أرتج عليه من بهائه، وصاح كالصائح العظيم، وانطلق يتكلم وسط الصمت،١٤٨ وفتح كل العيون وجعلها تبصر، وبدأ يصيح عاليًا حينما كانت الأرض بكماء؛ فانتشر زئيره ولم يكن عليها أحد غيره، وسوَّى كل كائن، وجعلهم يعيشون، وجعل كل الناس يعرفون الطريق ليذهبوا «حيث شاءوا»، وقلوبهم تحيا حينما يرونه. -
الفصل المائة١٤٩: «آمون» الذي أتى أولًا إلى الوجود في أول آنٍ، «آمون» الذي
أتى إلى الوجود في البدء، ولا أحد يعرف طبيعته الخفية، ولم
يأتِ للوجود إله قبله، ولم يكن معه إله آخر، ليخبره عن صورته،
وليس له أم سمته، ولا والد أنجبه، فيقول «إنه أنا».١٥٠ وهو الذي صور بيضته بنفسه، الواحد الجبار الخفي
الولادة، الذي خلق جماله بنفسه.
الإله المقدس، الذي أتى إلى الوجود بنفسه، وكل الآلهة أتت إلى الوجود بعد أن بدأ يكون.
-
الفصل المائتان١٥١: خفي الشكل، لألاء الصورة، الإله المدهش، ذو الصور العدة. وكل
الآلهة تتفاخر به ليعظموا من شأن أنفسهم بجماله؛ لأنه عظيم في قدسيته.١٥٢و«رع» نفسه مؤحد بجسمه، وهو الواحد العظيم الذي في «عين شمس»، وقد سمي «تنن» و«آمون» الذي خرج من «نون» … صورته الأخرى كانت الثمانية.١٥٣وهو بارئ الآلهة الأزلية، ومسوي «رع»، ومكمل نفسه «كآتوم»؛١٥٤ إذ هما عضو واحد، هو رب الجميع، وأول من وُجد، ويقول الناس إن روحه في السماء.وإنه هو الذي في العالم السفلي، والذي يسيطر في الشرق؛ فروحه في السماء وجسمه في الغرب، وصورته في «هرمنتس»١٥٥ تعظم ضياءه (؟).و«آمون» هو الواحد الذي أخفى نفسه منهم،١٥٦ والذي خبأ نفسه من الآلهة، وجوهره ليس معروفًا، وقد رفع نفسه إلى السماء وعرج بنفسه (؟) إلى «تاي»،١٥٧ ولا يوجد إله يعرف صورته الحقيقية، وصورته ليست منشورة في كتب …
إنه خفي أكثر مما يجب حتى يكشف عن بهائه، وعظمته فوق المعتاد حتى يتساءل الناس عنه، وقوته أكثر مما يجب حتى يعرف.
وإن الإنسان ليخر صريعًا في الحال من الفزع إذا نطق باسمه الخفي، وليس هناك إله يمكنه أن يخاطبه به (؟)، وهو صاحب الروح الخفي الاسم؛ ولذلك فإنه سر غامض.
-
الفصل الثلاثمائة١٥٨: الآلهة كلهم ثلاثة: «آمون» و«رع» و«بتاح»، ولا مثيل لهم، خفي
اسمه بوصفه «آمون»، و«رع» وجهه، و«بتاح» جسمه.
مدنهم «طيبة» و«عين شمس» و«منف» باقية على الأرض إلى الأبد.
وإذا أرسلت رسالة من السماء فإنها تسمع في «عين شمس» وتكرر في «منف» إلى «حسن الوجه»١٥٩ وتحرير خطاب بقلم «تحوت» في مدينة آمون … يجاب عنه في «طيبة»، ويأتي الإعلان: «إنها (طيبة) تابعة للتاسوع …» ومع ذلك ترسل رسالة أخرى: إنها ستذبح وستحفظ حية؛ فالحياة والموت إذن فيها (طيبة) لكل الناس.وهو الواحد الأحد: «آمون»، «رع»، «بتاح»، الثلاثة معًا (أي إنهم واحد).
- الفصل الأربعمائة: يوصف «آمون» بأنه إله التناسل الذي كوَّن أعضاء التناسل، وأول من لقح العذارى. وقد برأ نفسه أولًا حينما ظهر مثل «رع» في «نون»، وسوَّى كل كائن وما لم يكن كائنًا، أبو الآباء وأم الأمهات وثور لأولئك العذارى الأربع.١٦٠
-
الفصل الخمسمائة١٦١: إنه المُكِبُّ أعداءه على وجوههم، وليس هناك أحد يقدر على
منازلته … وأعداؤه يتلاشون أمامه. أسد غضوب ذو مخالب حادة،
ملتهم قوةَ من ينازله في نهاية لحظة.
ثور ثابت الظهر، ثقيل الحوافر على عنق عدوه الذي يمزِّق صدره.
طير كاسر؛ يطير وينقضُّ على من يُنازله، وقادر على تهشيم أوصاله وعظامه …
تهتز الجبال من تحته في ساعة غضبه، والأرض تزلزل حينما يموج ثائره (؟)، وكل كائن يرتعد فزعًا منه.
-
الفصل الستمائة١٦٢: الفهم قلبه، والأمر شفتاه …
وحينما دخل الكهفين اللذين تحت قدميه نبع النيل من الصخرة التي تحت نعليه.
روحه «شو»، وقلبه «تفنت».
هو «حور أختي» الذي في السماء، وعينه اليمنى النهار واليسرى الليل.١٦٣ إنه هو الذي يرشد البشر إلى كل طريق،١٦٤ بطنه نون وما فيها هو النيل، بارئ كل شيء موجود، محيي ما هو موجود، ويبعث النفس في كل أنف.إله «القدر» وإلهة الحصاد معه لكل الناس. زوجته الحقل فهو يلقحه، وبذرته هي شجرة الفاكهة، وفيضه الحَبُّ …
-
الفصل السبعمائة: يعود الشاعر مرة أخرى إلى «طيبة»، ومن القطع الباقية يمكننا
أن نستخلص أن إلهة الكتابة — بوصفها كاتبة لكل التاسوع الأكبر
— تحرر وصية «لطيبة».
لأن «آتوم» تكلَّم بفمه وبقلب محب، وفرحت الآلهة عند ذلك. وقد أقروا ما خرج من فم «رع» … إن عدو «رع» قد أحرق حتى صار رمادًا، وأعطيت «طيبة» كل شيء: الوجه القبلي، والوجه البحري، والسماء، والأرض، والعالم السفلي، والشواطئ (؟)، والمياه والجبال، وما يخرج من المحيط والنيل، وكل ما ينمو على آلهة الأرض ملك لها، وكل ما تشرق عليه الشمس مَتَاع لها في سلام … وكل أرض تدفع جزيتها بوصفها خاضعة لها؛ لأنها عين «رع» الذي لا يغلبه أحد.
(المقصود من هذا ظاهر جدًّا؛ إذ بعد سقوط «أمنحوتب الرابع» صارت «طيبة» العاصمة ثانية).
-
الفصل الثمانمائة: يرسو١٦٥ الإنسان مترحمًا عليه في «طيبة»، إقليم الصدق
ومكان الصمت، وأهل الزيغ لا يدخلونها؛ فهي «مكان الصدق»
…
… ما أسعد حظ ذلك الذي يرسو فيها (يموت)؛ فهو يصير روحًا مقدسة … (القطع التي لا تزال باقية تدل كذلك على أن جبانة «طيبة» كانت ممجدة هنا بوصفها مكانًا يمكن للإنسان أن يستريح فيه في نعيم مقيم).
(٢٠-٢) أناشيد للإله «آمون رع»١٦٦
الحمد لك يا «آمون-رع-حور أختي»
الذي تكلم بفمه؛ ومن ثم خلق بني الإنسان والآلهة والماشية والماعز جميعها، وكل ما يطير، وما يحط.
وإنك راعٍ شجاع ترعاهم إلى أبد الآبدين، وبذلك أصبحت الأجسام مملوءة بجمالك، والعيون تبصر بك، وسرى الخوف منك إلى كل الناس، وقلوبهم تتطلع إليك، وإنك طيب في كل زمان، وكل بني الإنسان يعيشون بمشاهدتهم إياك.
وكل إنسان يقول إننا ملكك، يتساوى في ذلك الشجاع والجبان، والغنيُّ والفقير، بصوت واحد، وهكذا يقول كل شيء. ورقَّتك في قلوبهم، وكل إنسان يرى جمالك.
ألم تقل الأرامل «إنك لنا زوج» والأطفال «إنك لنا أب وأم»؟! والغني يتفاخر بجمالك، والفقير يتعبد إلى وجهك، والسجين يتطلع إليك، والذي أصابه المرض يناديك.
اسمك سيكون حاميًا لكل وحيد، وصحةً وعافيةً لمن يسبح على المياه منجيًا إياه من التمساح، وهو ذكرى نافعة في وقت الشدة، منجيًا إياه من فم الحمى، وكل إنسان يلتجئ إلى حضرتك ليضرع إليك.
وأذناك مفتوحتان لتسمعا وتعملا حسب رغبتهم (أي الناس)، يا إلهنا «بتاح» الذي يحب صناعته، والراعي الذي يحب رعيته، حقًّا إن جائزته هي أن يمنح القلب الذي يرتاح إلى الحق دفنًا طيبًا.
وغرامه أن يكون قمرًا في مستهله يرقص له كل بني الإنسان، والمتوسلون يجتمعون في حضرته، وسيكشف خبايا القلوب، والأشياء النامية تتحول شطرَه لتصير مزدهرة، والزنبق يفرح به.
وغرامه أن يكون ملك الآلهة في «إبت أسوت» (الكرنك)، ومحياه بهي، ومنه تنبع الحياة (؟)، ومحراب ريح الشمال ملكه، والنيل تحت أصابعه يأتي من السماء كما أمر حتى يصل الجبال، مقدامٌ في قوته، ضارٍ تحت خاتمه، (سيطرته)، وبطشه سيوجه إلى الخبيث للقضاء على العصيان.
والإنسان يشرب حسبما أمر، ويأكل الخبز حسب رغبته الحسنة، والقلوب والأجسام في قبضته ولا فرح بدونه، والسرور ملكه، والابتهاج لمن في حظوته.
ألم تمض اليوم راعيًا لبني الإنسان إلى أن ارتحت في حياتك (غاب كالشمس)؟ دعنا نبتهج بك في الغرب حينما تسلمنا إلى الليل، تعالَ إلينا في حياة وثباتٍ وقوة حتى تسمع شكايتنا.
[من هذه النقطة نجد أن كل مقطوعة تبتدئ بصيغة تعجبية تكرر غالبًا ثلاث مرات يتخللها نداء] ما أعظم ارتياحك، ما أعظم ارتياحك! يا «آمون» ما أعظم ارتياحك! لقد سرك أن تعمر القطرين، لقد نظمت علية القوم، وثبتت البلاد حسب أمرك الصائب، إنك واحد راضٍ.
ما أطيبك، ما أطيبك! يا «آمون» ما أطيبك! إنك طيب لكل إنسان، أنت أيها الراعي الذي يفهم الرحمة، والسامع لصياح كل من ينادي، ومن يستميل القلب، وجاعل نفس الحياة يأتي.
ما أجملك! إنك في سلام لأنك أتيت بكل بني الإنسان إلى الوجود، والدنيا هي جزيرتك الجميلة، والشر والعنف قد سَقَطَا.
وسكان العالم السفلي يتعبدون حولك، والأحياء يخرون سجدًا عند إشراقك، وأهل الشمس يرقصون أمام وجهك.
وعامة القوم وعليتهم يمدحونك، والماعز والماشية تتطلع إليك، والأشياء الطائرة تنطلق عاليًا نحوك، وكل النباتات النامية تلتفت إليك لجمالك، ولا حياة لمن لا يراك.
ما أشجعك، يا إلهنا يا «رع» أنت يا رب السماء! وأنت أيها الراعي الذي يعرف كيف يكون راعيًا، أليست أذناك تميلان إلى قلوبهم؟ وإرشادك (؟) في كل جسم، وبطشك متيقظًا لكل سيئ النية، وليس هناك شيء تجهله على الأرض.
ما أقدسك في الغرب، أنت يا من يُفني الأبدية، والشكاوى تجمع إليك! أنت يا قاضي الصدق، أنت يا أيها الإله العظيم، حاكم «البوابة»، يا من تميل إلى من يناديك، وعندما ينبثق فجر النهار يكون قد أفنى الأعداء الناهبين، فلا يجعل لهم وجودًا، وهو يأمر بأن يحكم الصدق في أرض الجبانة.
ما أقدسك في الغرب، أنت أيها الراعي الذي يعرف كيف يكون راعيًا! لقد وضعت السيادة على كل عين، وأعدت قاعاتهم السرية (؟)، وقد صارت قوتك حمايتهم، وأنت الذي عمله لا يخيب قطُّ، وكل الناس الذين استولى عليهم الإغماء تعود إليهم الحياة «ثانية» عند شروقك.
ما أجمل شروقك، يا أيها الراعي العظيم! تعاليْ جمعاء أيتها الماشية، تأملي! إنك تمضين اليوم في المراعي تحت حراسته، وقد أبعد عنك كل أذى، إنه يغيب في سلام إلى أفقه وأراضيكم …
ما أجمل إشراقك يا «رع»! إنك تجعل اللصوص يرتدون، وهاتان العينان تنظران وتبكيان (؟) … ليل نهار في الأراضي، والأرض الصامتة … صانع الجمال، ألم تضئْ وبذلك تنبعث الحياة …؟
ما أجمل إشراقك يا «رع»، أيها الراعي المحبوب! … والماعز والماشية والطيور تصيح له … مصر، ونوره الجميل يأتي إلى الوجود (؟).
[والظاهر أن معظم بقية الورقة قد مزقت قصدًا أو اتفاقًا.]
هذه الأناشيد التي ترجمناها لها أهمية خاصة؛ إذ إنها تساعدنا على تكوين رأي عن الميول الدينية في «عصر الرعامسة»، وبخاصة عن فكرة التوحيد، والواقع أن هذه الأناشيد في جملتها تشبه أناشيد ورقة «ليدن» التي سميناها قصائد عن «طيبة» وإلهها (رقم ٣٥٠)؛ إذ نجد في هذه الورقة أن «آمون-رع» قد ذُكِر باسمه الشائع هذا مرة واحدة، وإن كان هو الإله الوحيد الذي كان يقصد المؤلف تبجيله والإشادة به، وقد ذكر غير مرة باسم «آمون» فحسب أو باسم «رع».
ولا غرابة في أن نراه يذكر في بعض الأحيان في أنشودة «ليدن» باسم «حور أختي» و«آتوم»؛ لأنه كان يمثل إله الشمس، ولكن الذي يلفت النظر هو أنه قد وصف في حالتين بأوصاف «بتاح» بصفة قاطعة.
وهذه المميزات تظهر لنا ثانية في الورقة التي نحن بصددها؛ إذ نجد أن اسم «آمون-رع» لم يذكر إلا مرتين، على حين أن الاسم المركب «آمون-رع-آتوم-حور أختي» يظهر من سياق الكلام أنه يدل على اسم إله واحد، وأن الإشارات الأخرى إلى «آتوم» و«حور» و«حور أختي» ليست إلا مجرد مسميات لإله واحد مسيطر، وقد سمي هذا الإله «بتاح» عندما نعت بأنه الصانع العظيم، كما أنه ينعت بالنيل عندما يتخذ صفات الإله «جَعبي» (النيل)، ولكن رغم كل ذلك فإن أعظم مظهر له هو الشمس؛ إذ إنها إذا غابت انحلَّت قوى بني الإنسان وماتوا، وإذا أشرقت انتعشت كل المخلوقات، والواقع أن الحياة بدون شروق الشمس تصبح مستحيلة.
وقد استمرت الصور الخرافية القديمة عن إله الشمس تذكر في هذه الأنشودة؛ فهو يسبح في السماء في سفينة ويرسل لهيبَه على الثعبان «إبوبي»، هذا إلى أن الإلهة «نوت» — ربة السماء — تحمل فيه ليلًا ويُولد كل صباح في شكل ثور صغير، ولكن إذا كان له جسم سماوي ظاهر نهارًا فإنه أثناء الليل يحكم في العالم السفلي، وهو كذلك يعتبر كإله القمر، ويسر سرورًا خاصًّا في أن يظهر نفسه هلالًا، وربما كان ذلك إشارة إلى «خنسو» إله «طيبة».
وقد ذكر «آمون-رع» في هذه الأناشيد بوصفه إلهًا نافعًا، وقد اتصف بأنه راعٍ طيب مرارًا وتكرارًا، وأنه أقرب الأقرباء إلى بني الإنسان، والحيوان والنباتات من مخلوقاته.
وهو الذي يحفظ كيان الحياة ويمد الإنسان بأرزاقه؛ ولذلك تعبده الطبيعة كلها، وهو عدو قاسٍ للثائر والخبيث، وهو يمنح كل من يواليه الفرح والسرور، وهو قاضٍ مسيطر عادل، وأذناه مفتوحتان لتسمعا الشكايات.
على أن أكبر ظاهرة تسترعي النظر في هذه الأناشيد هي التأكيد الذي يُظهره بأنه «رب الكون»، ولا يغرب عن ذهن أي قارئ أن يرى بشكل بارز كثرة ورود التعبيرات «كل واحد» و«كل إنسان» و«كل بني الإنسان».
وكما أنه لا يفرق بين الفقير والغني فإنه كذلك يمد سلطانه على الأجانب خارج الحدود المصرية. وقد ذكر أهل البحر الأبيض المتوسط ثلاث مرات.
ولا شك في أننا نشاهد هنا تأثير فكرة التوحيد التي ظهرت في «تل العمارنة»، ومع أنها قد أُخمدت بكل شدة وعنف إلا أنها قد تركت أثرها في أذهان القوم.
(٢٠-٣) من صلوات رجل اضطهد ظلمًا١٨٣
وقد يكون هذا الرجل الذي نسخ التلميذ شعره هنا مع أشعار ترجع إلى عصر «رعمسيس الثاني»، رجلًا شهيرًا من حملة الأقلام، وربما كان شاعرًا من المغضوب عليهم.
لإله الشمس
إنك رب يجد الناس فيه فخرهم، إله جبار أبدي، قاضٍ بين الناس، ومتزعِّم قاعة القضاء، مثبت العدل ومهاجم الظلم، ليت من تعدى عليَّ يُقتصُّ منه. انظر إنه أقوى مني، وقد اغتصب مني وظيفتي وأخذها زورًا. أعدها إليَّ ثانية! انظر إني أراها في يدي آخر …
نفس الموضوع
امدُد إليَّ يدك وساعدني … أيها القاضي الذي لا «يأخذ» «رشوة (؟)» …
«إلى أوزير»
فإذا حفرت البحيرات … البيوت والمعابد أقيمت، والجبال سحبت، والأرض زرعت، والقبور والجبانات حفرت؛ فهي عليك وأنت الذي صنعتها، وكلها على ظهرك. ويوجد منها كثير أعظم، مما لا يمكن تدوينه وليست هناك صحيفة تسعه (؟)، وكلها موضوعة على ظهرك، ولست بقائل «إني مثقل بالحمل أكثر مما يجب.»
أنت والد الإنسانية وأمها؛ فهم يعيشون بنفسك، «ويأكلون» من لحم جسمك «الإله الأزلي» اسمك:
(٢٠-٤) أناشيد قصيرة وصلوات
هذه القصائد القصيرة قد وصل إلينا معظمها من تمارين تلاميذ المدارس، ونشاهد أن كثيرًا من الهموم التي يتألم منها الشاعر، والمطامح التي يتطلع إليها يضعها أمام الآلهة وهي تتفق مع أصلها. وسأجعل المحل الأول للقصائد التي يخاطب بها «الزميل السماوي» و«حامي الكُتَّاب» «تحوت».
صلاة «لتحوت»٢٠٣
تعال إليَّ، واهتم بأمري، إني خادم بيتك، واجعلني أتحدث عن أعمالك العظيمة في أي أرض أحلُّ بها.
وسيقول السواد الأعظم من الناس: «إن التي أنجزها «تحوت» أشياء عظيمة.»
إنها حرفة نافعة يا أيها المخلص (؟) القوي. وسعيدٌ من يحترفها.
صلاة «لتحوت»٢٠٩
صلاة إلى صورة من صور «تحوت»٢١٥
نصب الكاتب تمثالًا صغيرًا في بيته للإله «تحوت»، وهو الإله الحامي للعلماء، وأخذ الآن يرحب بهذه الصورة، وهي تمثله في شكل قرد يجلس القرفصاء، كما يمثل هذا الإله بهذا الوضع كثيرًا.
صلاة إلى «رع»٢٢٠
تعال إلى يا «آتوم» …! إنك أنت الإله السامي، وإن قلبي يتطلع نحو «عين شمس». وقلبي سعيد، ولُبِّي منشرح.
إن التماساتي تُسمع، وكذلك تضرعاتي اليومية (لديك)، وإن صلواتي بالليل وأدعيتي التي لا ينفك فمي يرددها تُسمع اليوم.
أنشودة استغفار إلى «رع»٢٢٢
أنت أيها الواحد الأحد! يا «حور-أختي» المنقطع القرين! حامي «الملايين»، ومنجي مئات الألوف، ومخلص من يناديه، رب «عين شمس».
إني أجول طوال اليوم في … البيت وفي الليل …
صلاة إلى آمون لترقية المدرس٢٢٥
صلاة إلى «آمون»٢٢٨
فالعظماء ينادونك، والصغار يلجئون إليك، ومن هم في أحضان مرضعاتهم يقولون: «امنح نفس «الحياة» يا آمون.»
أنشودة إلى «آمون» بعد فوزه٢٣٣
هذه الأنشودة التي لها أهمية خاصة؛ لأنها تهاجم زيغ «إخناتون» قد حُرِّفت كثيرًا على يد التلميذ الذي كان مكلفًا بنسخها، فأصبح لا حيلة لدينا إلا الظن عند تفسير معنى كثير من أبياتها.
«آمون» أيها الثور! أنت يا عجل البقرة (؟) السماوية والنائم في حظيرة … وحينما يفتح عينه تضيء الأرض.
أنت تجد من ينتهك حرمتك … الويل لمن يهاجمك! إن مدينتك باقية، «ولكن» من هاجمك يهزم. اللعنة على من يهاجمك في أي أرض!
يا «آمون» أنت صاري «سفينة» المزدوج الذي يتحمل كل ريح، والذي … من نحاس … ولا يهتز أمام نسيم الشمال …
«آمون» أيها الراعي الذي يرعى أبقاره مبكرًا، والذي يسوق المريضة (؟) منها إلى المرعى! إن الراعي يسوق الماشية إلى المرعى، إيه يا «آمون»! وهكذا تسوق أنت المرضى (؟) إلى أرزاقهم؛ لأن «آمون» راعٍ ليس بالكسلان.
أنت أيها النوتي الذي يعرف المياه! «آمون أيها المجداف المحرك … أنت أيها الواحد المجرب الذي يعرف المكان الضحضاح، والذي يُتاق إليه على الماء، وإن «آمون» يكون حاضرًا حينما يتطلع إليه إنسان على الماء.
يا «آمون» أنا أحبك (؟) وأثق فيك … إنك ستخلصني من فم الإنسان في اليوم الذي يقول فيه الكذب، أما رب الآلهة فإنه يعيش على الصدق … أنا لا أستسلم للهم الذي في قلبي، وما قاله «آمون» سيحدث.
صلاة إلى «آمون» بوصفه القاضي العادل٢٣٧
صلاة إلى «آمون» في المحكمة٢٤٢
أنا لا أتخذ لي عظيمًا ليحميني في كل … ولم أضع … تحت سلطة إنسان … ربي هو حاميني.
أنا أعرف واحدًا قويًّا، وإنه حامٍ قوي الساعد، وهو وحده القوي.
أنت يا «آمون» الذي يعرف الخير (؟) أنت … من يناديه. «آمون» يا ملك الآلهة، أنت أيها الثور القوي الساعد ومحب القوة!
من لوحة تذكارية٢٤٦
صلاة إلى «آمون»
سأنظم له أناشيد باسمة، وسأقدم له حمدًا يرتفع إلى عنان السماء، وينتشر في عرض الأرض، وسأعلن قوته للغادي والرائح على النيل.
كن أنت على حذر منه! وقل ذلك للابن وللبنت، وللعظيم والصغير. أعلن ذلك للأجيال التي كانت والتي لم توجد بعد.
أعلن ذلك للسمك في الماء، والطيور في السماء، حدِّث بذلك من لا يعرف، ومن يعرف كن أنت على حذر منه.
أنت يا «آمون» يا رب الصامت، ومن يُلبِّي صوت الفقير، وإذا ما ناديتك وأنا في بؤس خلَّصتَني، إنك تمنح التعس النَّفَس. إنك تنجيني أنا الذي في الأغلال.
أنت يا «آمون-رع» يا رب «طيبة»! إنك مخلص مَنْ في العالم السفلي (جهنم)؛ لأنك … وإذا ناجاك إنسان أتيت من بعيد.
ومع أن العبد مستعد لارتكاب المعصية؛ فإن الرب متهيِّئ دائمًا لأن يكون رحيمًا؛ لأن رب «طيبة» لا يُمضي يومًا بأكمله غضبان؛ فغضبه ينتهي في لحظة، ولا يبقى شيء. والريح قد تحول إلينا رحمة بنا، و«آمون» يتحول مع (؟) ريحه.
وحياتك ستكون رحيمًا، وما قد أُقْصِيَ بعيدًا لن يعود ثانية! (يعني غضب الإله)، [وقد أضاف لكل هذا «نبرع» الكلمات الآتية]:
سأضع هذا التذكار باسمك، وأنشئ هذه الأنشودة عليه كتابةً إذا نجيت لي الكاتب «نخت آمون». هكذا قلت وقد أصغيت لي. والآن انظر! فإني أفعل ما قد قلت إنك أنت الرب لمن يناديه، مرتاح إلى الصدق يا رب «طيبة».
يجب أن يلاحظ هنا أن «نبرع» لم يكن المؤلف الحقيقي لهذا الشعر؛ لأن نفس الأفكار التي وردت فيه قد جاءت كثيرًا على لوحات تذكارية من هذا التاريخ في جبانة «طيبة» …
وعلى هذه اللوحات التذكارية أمر القارئ أن يحذر الإله الذي يعاقب، وكذلك عبر عليها عن الأمل في الرحمة، وهناك كذلك الخطاب للعظيم والصغير، ولمن يعرف ومن لا يعرف، وللسمك في النهر والطيور في السماء … إلخ.
والظاهر أنه كان يسكن حينئذٍ في الأماكن المقدسة، حيث كان عمال الجبانة يقيمون لوحات تذكارية، شخص ما كان يصنع هذه اللوحات للمرضى وللذين شفوا، ويكتب عليها أشعارًا موافقة لواقعة الحال. وهذا الرجل يظهر أن تعليمه كان ناقصًا، كما يدل على ذلك خطه غير المهذب، غير أنه كان ذا مَوْهِبةٍ شعرية.
وعلى أية حال نجد أن إله الشمس، أو «آمون» الذي يقوم مقامه، قد أصبح ملاذًا للمحزون، والذي يسمع الشكوى ويُجيب دعاء مَنْ يستغيث به، وهو الذي يحضر عند ذكر اسمه، وهو الإله المحبب الذي يسمع الصلوات، والذي يمد يده إلى الفقير، والذي يخلص المنهوك الذي أضناه المرض؛ ولا شك في أن هذا المظهر الجديد في التعبد والاتصال المباشر بين العبد وربه هو الوحدانية بعينها، وقد ظهرت بأجلى معانيها في حِكم «أمنموبي»، وكذلك في تعاليم «آني»، ولكن لا جدال في أن تعاليم «إخناتون» السامية كان لها أثر فعَّال في تغلغل هذه الفكرة السامية في نفوس المصريين، رغم تمسكهم بآلهتهم الأخرى التي لم يكن التَّمسُّك بها في هذا العصر إلا مجردَ تقليد موروث.
- (1) Baike, “The Amarna Age”.
- (2) Breasted, “The Development of Religion and Thought in Ancient Egypt” pp. 319 ff.
- (3) Breasted, “The Dawn of conscience” pp. 277. ff.
- (4) Sethe, “Beiträge zur Geschichte Amenophis IV”.
- (5) Schafer, “Die Religion und Kunst von ElAmarna”.
- (6) Erman, “Die Religion der Agypter” pp. 109 ff.