الأغاني الغزلية من أوراق شستر بيتي
إن ما سبق ذكره من الأغاني الغزلية كان كل ما نعرفه في هذا الباب، وعلى الرغم من كل ما فيها من عيوب ونقائص، فإنها كانت تعد كنزًا لا يقدر بقيمة بالنسبة للعلم والآثار وبالنسبة لتاريخ الشعر العالمي والتعبير الغنائي.
وقد ظهرت حديثًا بردية ضاعفت مقدار ما كان معروفًا لدينا من قبلُ عن الأغاني الغزلية، وهذه الورقة تمتاز بأنها كاملة من بدايتها إلى نهايتها، يضاف إلى ذلك أن الصعوبات اللغوية قليلة فيها، ولا تحتاج إلى عناء فكر كبير.
- أولًا: صحيفة ونصف صحيفة من مقطوعات قصيرة.
- ثانيًا: كتاب بأكمله مؤلف من قصائد.
- ثالثًا: صحيفتان تحتويان على ثلاث قصائد ملأى بالاستعارات الخلابة، وهي من
بعض نواحيها تُعَدُّ من أحسن ما خلَّفه الفكر المصري القديم من حيث
الإجادة في الشعر. ولنفحص أولًا الكتاب الكامل من هذه الأوراق،
فنقول:
إن هذه الوثيقة كاملة غير منقوصة؛ لأنها قائمة بذاتها، وتحتوي على سبع مقطوعات طويلة، تتراوح أسطر كل منها بين الستة عشر والثلاثة والعشرين بيتًا. وكل مقطوعة منها مرقَّمة إلا الأولى؛ إذ نجد أن الرقم الخاص بها قد حلَّ محله العنوان العام لمجموعة القصائد كلها.
وإذا أردنا أن نترجم رءوس المقطوعات ترجمة حرفية كانت هكذا: «البيت الثاني»، «البيت الثالث» … إلخ.
ويقصد بكلمة بيت هنا مقطوعة. والترجمة بكلمة مقطوعة (استانزا) مقبولة في اللغات الأوروبية الحديثة؛ وذلك لأنها مأخوذة من كلمة لاتينية حديثة معناها بيت، وقد ترجمناها هنا مقطوعة؛ لأن البيت في اللغة العربية لا يطلق إلا على سطر واحد.
ولدينا كتاب عظيم مرقم بأبيات أو مقطوعات تكلَّمنا عنه فيما سبق؛ وأعني بذلك كتاب القصائد للإله «آمون» الذي سميناه «قصائد عن طيبة وإلهها». ويلاحظ في هذه الورقة الأخيرة وكذلك في قطعة الخزف التي بالمتحف المصري، وهي التي تشتمل على قصائد من هذا النوع، أن المقطوعة تبتدئ بتورية لرقم المقطوعة، وتنتهي بتورية أخرى عن نفس الرقم. وقد استعمل مؤلف الأغاني الغزلية التي نحن بصددها نفس هذه الطريقة. فمثلًا البيت الثاني ويقابله في المصرية القديمة «حوسناو» نجد أول كلمة في المقطوعة هي كلمة «سان» (أي أخ). فهل يمكننا إذن الآن أن نحكم على هذه الأغاني الغزلية التي يشتمل عليها هذا الكتاب رغم بساطتها بأنها إنتاج أدبي؟
ونحن لا نشك في أنه كان للمصري أغانٍ غزلية يتغنى بها في الأفراح المصرية، وترجع بداية هذا النوع من الغزل إلى تغزل الفلاح المصري الساذج في محبوبته مغنيًا عند بيتها مستعطفًا إياها بما يستهوي قلبها.
وما نجده في سلسلة القصائد الغزلية التي بين أيدينا، وفي تلك القصائد التي في ورقة «لندن»، وفي ورقة «تورين» التي وضعت على ألسنة طيور مختلفة وأشجار متنوعة، يجعل المرء يبصر الإتقان الذي كان ينشُده ويرمي إليه كاتبها مما يناقض الكلام المرتجل المفكك الذي كان يتغَّنى به المغنون الجائلون. وقد عثرنا على أغانٍ من هذا النوع الأخير أيضًا.
ومن الجائز أن تكون الأغاني التي على ظهر بردية «شستربيتي» هي أناشيد ألَّفها في حينها حسبما أوحت به قريحته وجاد به مزاجه، ثم غنِّيَت في حقل ما، وبعد ذلك وَجَدَ القوم أنها تستحق التدوين فدوَّنُوها.
ومادة موضوع «سبع القصائد» التي يحتويها كتابنا ترتفع بعض الشيء في أسلوبها من الأغاني الأخرى التي وصلت إلينا. ولكن كلها من صنف واحد، فالحبيب والمحبوبة يسميان أخًا وأختًا كما هي العادة المتبعة عند المصريين. والوصف في المقطوعة الأولى فيه شيء كبير من الدقة المحبوبة، ويلاحظ في الحال أن الحب هنا مادي قبل كل شيء، وما عدا ذلك فإن العواطف التي يعبر عنها لا تختلف عن عواطف المحبين في كل زمان ومكان.
فتجد في كتابنا هذا ارتباك العذراء وارتجافها عندما تمر بالشاب النبيل الذي تحمل له في حنايا ضلوعها الغرام، وكذلك نلاحظ عندها جنون المفتون وعدم اكتراث المحبين بالرأي العام، وفي المقطوعة الخامسة نشاهد أغنية انتصار لإلهة الحب.
أما المقطوعة الأخيرة فإنها تحتوي على تعبير دقيق عن موضوع مرض الحب الذي يرحب به في كل وقت. وقد ختمت ببعض أبيات هي بعينها أبيات الشاعر الألماني العظيم «هاين»:
غير أن الكاتب المصري قد أتلف شعره بفكرة تافهة قد أملتها عليه حاجته إلى التورية بكلمة «سبعة». وليس هذا هو المثل الوحيد الذي نجد فيه الشاعر قد أتلف أسلوبه الكتابي بالزخارف اللفظية التي اختارها لنفسه.
وبمناسبة الكلام عن الصيغ التي استعملها الشاعر في تأليف شعره يجب علينا أن نتكلَّم هنا عن موضوع الوزن، وعن الاصطلاحات المتفق عليها جملة، هذا بالإضافة إلى ما شرحناه فيما سبق عن هذا الموضوع.
فمما لا شك فيه أن كل أغاني الحب المصرية كان المقصود منها أن تغنَّى بمصاحبة العود والقيثارة، كما نشاهد ذلك على جدران مقابر «طيبة» وغيرها. غير أننا لا نجد في الأمثلة الجديدة أثرًا للجناس المصري (أي كلمات متتابعة مبدوءة بحرف واحد)، وكذلك لا نجد قافية، وذلك رغم أن هاتين البدعتين في الكتابة كانتا موجودتين، وقد استعملتا في حالة نادرة.
ولدينا حالة مشابهة للجناس الذي تكلمنا عنه في قطعة من الشعر الغزلي المكتوب على ورقة «هارس»؛ إذ نجد فيها العذراء تستعرض أمامنا أزهار جنينتها المختلفة الألوان، فكان اسم كل زهرة منها يوحي إليها في كل حالة بمظهر جديد لغرامها.
والواقع أن مسألة الوزن الشعري في الأدب القديم تكاد تكون من المعضلات التي لا يمكن حلها؛ وذلك لأننا لا نعرف من الكلمات المصرية إلا حروفها الساكنة، وليس لدينا معلومات عن المتحركة منها إلا ما نعرفه بإيضاحات ملتوية غير أكيدة؛ فمثلًا نلحظ في الكتابات على البردي أن النقط الحمراء التي في نهاية كل بيت تقابل عادة تقسيم الكلام إلى جمل وجمل فرعية وعبارات، وبدل على أنها ليست مجرد علامات وقف، كما نشاهد أنها لا توجد إلا في المتون الشعرية على وجه عام.
وعلى ذلك فإن تسمية الكلمات المعلمة بنقطة أبياتَ شعر تسميةٌ صحيحة، وبخاصة إذا كانت السطور التي تتكون بوساطة هذه النقط متساوية الطول تقريبًا. أما عدد أسطر المقطوعة فقد رأينا أنها تختلف.
وإن الشعر القبطي الذي كتب بحروف يونانية كانت له حركات ظاهرة لا يمكن أن تجد فيه مع هذه الحركات وضوح الوزن الشعري الذي نشاهده في اللغة العربية، فمن باب أولى ألا يتَّضح لنا الوزن الشعري في الأدب المصري القديم.
وهناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة؛ وهي أنه لا يوجد في هذه القصائد توازي الأعضاء الذي نجده في بعض الكتابات المصرية الأخرى، كما نجده في اللغة العبرية، وفي جهات أخرى في الشرق، كما تكلَّمنا عن ذلك عند الكلام عن الشعر في هذا الكتاب.
أما الصحيفتان الباقيتان من أغاني الحب اللتان على ظاهر الورقة، وقد كُتِبَتَا بنفس الخط الذي كتب به هذا الكتاب الكامل، فتشتملان على ثلاث مقطوعات، كل واحدة منها تبتدئ بالكلمات التالية: ليتك تأتي إلى أختك مسرعًا. وأما بقية المقطوعة فقد صغيت في تشبيه محبوك الصياغة؛ فالتشبيه بالكلمات: رسول الملك، وبجواد من حظائر الفرعون، وبالغزال الذي يشرد في الصحراء تظهر أمامنا درجة من التصوير والحيوية لم تعرف بعدُ في الكتابات التي سبقت العصر العبري. هذا فضلًا عن أن هذه الصورة لها قيمتها عند الباحثين في العادات القديمة، فلا يمكننا أن نجد في بلد آخر وثائق مثل هذه تنبئنا عن سرعة نقل الأخبار بإعداد محاطَّ فيها حظائر للخيل التي تتناوب العدو، أو أي وصف للصيد بمجموعة من الكلاب المدربة.
ويلاحظ في هذه المقطوعات أن النقط أو العلامات الدالة على الأبيات الشعرية لم توضع، ولكنا قد قسمناها إلى أسطر حسب المعنى.
أما أغاني الغزل التي على وجه الورقة، فإنها تحتوي على معضلات لغوية وكلمات جديدة كثيرة بالنسبة لنا. هذا إلى أن المتن محشوٌّ بالأغلاط والتراكيب الفاسدة. فنجد أولًا أن العنوان قد كتب بطريقة غير مفهومة. وقد زاد الطين بلة كشط الجزء الذي كان يحتوي على اسم الكاتب الأصلي. ثم يتلو ذلك العنوان سبع مقطوعات تختلف في طولها، وأقصرها المقطوعة الرابعة وتحتوي على أربعة أبيات، وأطولها المقطوعة الأخيرة وتحتوي على اثنين وعشرين بيتًا. ويلاحظ أن المقطوعتين الأوليين غاية في الغموض، وترجمتهما هنا ترجمة تقريبية محضة. وقد وضعت هذه الترجمة المؤقتة لتكون أساسًا وهداية لمن سيتناول الموضوع ثانية. ومع ذلك فإنا نجد من وقت لآخر بعض البصيص من النور يُظهر لنا بعض الأفكار التي كان يحاول الشاعر أن يعبر عنها.
وفي المقطوعة الثالثة، يقرن المحب نفسه بثور قد أصبح مغلوبًا على أمره بتأثير حبيبة قلبه. ومما يؤسَف له أنه قد اعترضتنا بعض كلمات عاقتنا عن التمتع تمامًا بقصيدة تنطوي على فطنة ونكتة. والأغنية القصيرة التي تأتي بعد هذه ساحرة في وصفها الوجيز الجامع للحب المتبادل، فنرى فيها كما رأينا في المقطوعة الأولى نغمة أكثر خلاعة من التي نشاهدها في الأغاني الغزلية التي على وجه الورقة.
أما المقطوعة الخامسة فإنها ظلام دامس يتخبط الإنسان في حل معانيها، وما يتلوها يصف غضب فلاح ريفي قد صدم، وهذه المقطوعة يوجد بينها وبين آخر مقطوعة من هذه المجموعة وجه شبه من حيث الفكرة التي تعبر عنها، وهي ضعف أية مقطوعة من حيث الطول، وتبسط أمامنا خيالًا لذيذًا نادرًا في بابه مع حسن السبك في العبارة. فتقرأ أن المحب لما وجد باب حبيبة قلبه مغلقًا في وجهه، أخذ يلاطف مزلاجه وألواحه ويتملقهما ويعدهما بوعود قطعها على نفسه، منها أنه سيقدم قطعًا مختارة من ثور قد ذبح في داخل البيت، ثم يضيف قائلًا: إن خير كل القطع من هذا الثور ستُحفَظ للنجار الصبي الذي سيصنع له مزلاجًا من البردي وبابًا من القش؛ فإن هذه المواد الهشة التي يتركب منها الباب لن تكون عقبة كئودًا، في سبيل الوصول إلى حبيبة قلبه التي ستمتلئ بِشرًا وسرورًا حينما ترى أمام عينيها أميرًا في شرخ الشباب وعنفوان القوة، وهذا ما كان يعتقده الفتى في نفسه.
ولأجل ألا نكون قد بالغنا في أهمية هذه القصائد الغزلية على حساب القصائد التي عثر عليها من هذا النوع من قبل؛ فإنا سنضع أمام القارئ ناحية أو ناحيتين نلحظ فيهما أن القصائد التي عثر عليها أولًا فيها براعة شعرية لا مثيل لها في الثانية. ففي أغاني شستر بيتي لا نجد أثرًا لذلك الابتهاج بالأزهار والأشجار والطيور، وهذه ظاهرة تأخذ بمجامع القلوب قد امتازت بها أغاني الحب المعروفة من قبل، وفضلًا عن ذلك نجد في هذه خيالًا موفَّقًا لا يقل عن الخيال الذي نجده في أغاني «شستر بيتي». فأصغ إلى المحب الذي يتحرَّق شوقًا ليكون خاتمًا في أصبع محبوبته، وهذه لعمر الحق فكرة تشبه ما جاء على شفتي «روميو» عندما يقول: «آهٍ! ليتني كنتُ قفازًا في تلك اليد ألمس هذا الخد!»
ولا يقل عن ذلك شاعرية وظرفًا وصفُ شجرة الجميز الصغيرة التي غرستها بيدها، وهي التي تناول خفية خطابًا إلى يد الطفلة بنت البستاني مكلفة إياها أن تسارع وتلتمس حضور حبيبها. غير أنه من العسير أن يتمتع الإنسان بموسيقى لا تسمع ألحانها إلا في لحظات متقطعة؛ إذ إن ذلك في الواقع كل ما يمكن أن يوصلنا إليه المتن المهشَّم الفاسد التركيب الذي وصل إلينا.
وتمتاز أغاني الحب التي في ورقة شستر بيتي بأنها تامة وفي جملتها مفهومة، ولكن إذا جعلنا لها قيمة عظيمة لهذين السببين ولما تحتويه من أفكار وخيال، فإن ذلك لا يكون داعيًا لأن نقلِّل من أهمية الأغاني التي عثر عليها من قبل.
وبعد، فيجب علينا أن نتحدَّث ببعض الإيجاز عن محتويات هذه الوثائق من الناحية اللغوية. فالتراكيب التي صيغت بها هي تراكيب العصر الذهبي (الكلاسيكي)، غير أننا نجد أن أساليب اللغة الحديثة قد اندست فيها في كثير من النقط، وأما المفردات فإنها غنية بها. ويلاحَظ أن الشاعر قد حاول باستمرار أن يجعل مستوى البيان فيها عاليًا، ومع ذلك فإننا نجد أن أسلوب الشعر الذي على ظاهر الورقة قد أُفسِد بتكرارات متنافرة.
وهذه الخاصية توحي بأن الكتاب الكامل وورقتيْ أغاني الحب اللتين كتبتا على ظهر الورقة يحتمل أن تكونا من عمل مؤلف واحد. ومن الجائز أنه هو الكاتب الذي كتب النسخة التي في أيدينا؛ وذلك لأن كلتا المجموعتين قد كتبتا بيد واحدة، ولكن لدينا من جهة أخرى في هذه النسخة بعض أخطاء وحذف مما يطرُدُ عنا فكرة أن ما بأيدينا هنا هي النسخة الأصلية التي سطرها المؤلف. ويلاحظ هنا أيضًا وجود جملة مشتركة في القصائد التي على وجه الورقة والتي على ظهرها؛ وهذا لا يفيدنا في شيء؛ فقد تكون هذه الجملة المشتركة من الجمل المتداولة في أدب الحب.
ولا نزاع في أن شعرًا مما على ورقة «شستر بيتي» يرجع عهده إلى ما قبل عصر الرعامسة؛ ولكن قد يكون من محض المصادفة عدم عثورنا على أمثلة من عصر الدولة الوسطى من الشعر الغزلي. وليس لدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد بأن كتابة الشعر الغزلي لأغراض أدبية كان من ابتداع العصور التي جاءت بعد الدولة الوسطى.
(١) من أوراق شستر بيتي
أغانٍ غزلية١
المقطوعة الثانية (العذراء تتكلم)
المقطوعة الثالثة
المقطوعة الرابعة
المقطوعة الخامسة
المقطوعة السادسة
المقطوعة السابعة
بداية الكلام العذب (وقد عثر عليها أثناء استعمال ورقة بردي من تأليف كاتب الجبانة «نخت سبك»).
المصادر
-
(1)
The Chester Beatty Papyri No. I. pp. 27–38.
-
(2)
W. Max Müller, Die Liebespoesie der Alten Agypter, Leipzig 1899.