الاحتمال المستبعد الأول: لغز القمر
الكسوف الكلي للشمس من أروع المشاهد التي تُرى من فوق سطح الأرض وأجملها. وتكمن تلك الروعة في أننا نرى القمر والشمس بحجم واحد. لذا عندما يمر القمر من أمام الشمس، فإنه يمكن أن يغطِّي قرص الشمس الوهَّاج تمامًا، مغرقًا المنطقة المتأثِّرة بالكسوف في الظلام، ولكنه يسمح برؤية الطبقة الخارجية المتوهِّجة من الشمس — هالة الشمس — كأنها هالة مجيدة. ولكن لماذا نحن محظوظون للغاية لرؤية ذلك المشهد؟ ما وجه التكافؤ التام في الحجم الظاهري للشمس والقمر حتى ينتج هذا المشهد؟ السؤال أعمق ممَّا يبدو عليه للوهلة الأولى؛ لأن التطابق لم يكن كاملًا على الدوام. تمر حضارتنا الإنسانية بلحظة نادرة من الزمن الفلكي عندما يصبح القمر في المكان المثالي كي يحدث هذا النوع من الكسوف. في الماضي الجيولوجي غير البعيد، كان القمر على مسافة قريبة للغاية من الأرض، وكان يطمس الهالة الشمسية أيضًا؛ أمَّا في المستقبل الفلكي، فسيبتعد عن الأرض مسافة بعيدة، وسنراه مثل فقَّاعة مظلمة صغيرة تمر من أمام قرص الشمس. ولكن هذا الافتراض مستبعد ولن تثبت «صحته التامة» إلا وقتما نرصده بأعيننا.
لكن هذا التأثير يحدث أصلًا لأن حجم القمر كبير للغاية. ونظرًا لأنه منفصل عن الأرض ويمثِّل نسبة معتبرة من حجم الكوكب الأب (الأرض)، فإنه يُعَد أكبر قمر على الإطلاق في المجموعة الشمسية. في الحقيقة، يرى العديد من علماء الفلك أن منظومة الأرض والقمر ينبغي أن تُرى كوكبًا مزدوجًا، وليس كوكبًا وقمرًا. ويعود هذا كله إلى طريقة تشكيل الكوكب المزدوج.
تشكَّلت الشمس والمجموعة الشمسية عندما انهارت سحابة من الغازات والغبار في الفضاء بفعل جاذبيتها. دخل الجزء الأكبر من المادة إلى النجم المركزي، ألَا وهو الشمس. وتبقَّى جزء من الغبار والجسيمات الجليدية في قرص حول النجم، ثم اصطدمت جسيمات ذلك الغبار والتصقت بعضها ببعض حتى أصبح جزء منها كبيرًا لدرجة كافية تُمكِّنها من جذب الجسيمات الأخرى نحوها بفعل جاذبيتها، حتى تراكمت أجسام أكبر وأكبر. وأدَّى هذا في النهاية إلى تكوين الكواكب، ولكن تُرك جزء من المادة لتشكِّل أجسامًا أصغر ألَا وهي الكويكبات والمذنَّبات. لم تكن المراحل الأخيرة من تلك العملية يسيرة بأي حال؛ لأن الكواكب الأولية قُصفت بحطام المادة وهي تُزيح مداراتها حول الشمس. ويمكن استخلاص لمحة عن شكل ذلك القصف من وجه القمر المحطم الذي تعرَّض للقصف، ولكن هذا لا يمثِّل إلا جزءًا ضئيلًا من القصة الكاملة؛ لأن القمر نفسه لم يتكوَّن إلا بعد الانتهاء من الجزء الأكبر من عملية تكوين الكوكب.
من السهل تفسير وجود الأقمار التي نراها تدور حول الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية، مثل المريخ والمشتري وزحل. إن الأقمار التي تدور حول المريخ عبارة عن أجزاء صغيرة من الحطام — الكويكبات — خلَّفتها عملية تشكل الكواكب، ومِن ثَم اجتذبها المريخ إليه. أمَّا أقمار الكواكب الضخمة مثل المشتري وزحل، فهي أكبر من الكويكبات بكثير، ولكن الكواكب الضخمة أكبر من المريخ بكثير. وتكوَّنت مجموعاتها من الأقمار حول الكواكب التي تدور حولها بالطريقة نفسها التي تكوَّنت بها تلك الكواكب التي تدور حول الشمس، ما يجعلها صورة مصغَّرة من «المجموعات الشمسية». ولكن حجم القمر يعادل ٢٥ بالمائة من حجم الأرض، من حيث القُطر، ومن الواضح أنه تكوَّن بطريقة مختلفة. والتفسير الأفضل لذلك هو أنه في غضون بضعة ملايين من السنين مِن تكوُّن الأرض، أُقحم الكوكب في تصادم مع كوكب آخر أصغر — جسم بحجم المريخ — ما أصاب الأرض بضربة خاطفة. وبفعل الحرارة التي تولَّدت من هذا الحدث العنيف، دُمِّر الجسم الصادم، وذابت قشرة الأرض الأولية الحديثة التكوين. غاص اللب المعدِني الثقيل للجسم الصادم في مركز الأرض وامتزج مع لب الأرض المعدِني كي يجعل للكوكب لبًّا شديد الكثافة وقشرة رقيقة نسبيًّا. وترجع رقة القشرة إلى أن المادة المنصهرة الناتجة عن الاصطدام، وهي عبارة عن مزيج من مواد من كوكب الأرض الأولي والجسم الصادم — الذي يشير إليه علماء الفلك بيانيًّا باسم الاصطدام العملاق — ينطلق في الفضاء، فترك جزء منها الأرض تمامًا، فيما بقي بعضها ليشكِّل حَلْقة حول الأرض، والتحم القمر عن طريق تلك الحَلْقة. يسهل تذكُّر المدة التي استغرقتها تلك العملية؛ إذ تخبرنا تطبيقات المحاكاة الحاسوبية أن تكوين شيء يشبه القمر من شأنه أن يستغرق شهرًا بحسابات العصر الحالي بعد الاصطدام. كذلك يشير تأريخ عينات الصخور القمرية إلى أن كل هذا قد وقع منذ ما يقرب من ٤٫٤ مليار سنة. وقد تسبَّب الاصطدام، من ضمن أشياء أخرى، في جعل الأرض تدور بسرعة حول محورها، وأخرجها من الوضع الرأسي، ما تسبَّب في الميل المسئول عن دورة فصول السنة الأربعة.
كل هذا يفسِّر العديد من الغرائب عن كوكب الأرض. إن حجم كوكب الزُّهَرة، الذي يقع بجانب الأرض من جهة الشمس، يساوي حجم كوكب الأرض تقريبًا، ولكن له قشرة سميكة ولبًّا معدِنيًّا صغيرًا؛ ما جعل مجاله المغناطيسي ضئيلًا. وهو يدور حول الشمس مرة واحدة فقط كل ٢٤٣ يومًا من أيام الأرض. أمَّا الأرض فتمتاز بقشرة رقيقة ولب معدِني كبير هو المسئول عن المجال المغناطيسي القوي والدوران السريع نسبيًّا، واجتذاب قمر كبير إليها. وتلك السمات تتناغم بعضها مع بعض تناغمًا تامًّا. إن كوكبنا هو الكوكب الغريب في المجموعة الشمسية؛ إذ إنه نتاج سلسلة أحداث مستبعدة تمامًا، كلها مرتبطة بالقمر. وتبعات تلك الأحداث بعيدة المدى.
لنتناول مسألة السُّمك الرفيع لقشرة الأرض. قد لا يبدو الأمر معضلة كبيرة، ولكنه كذلك. فالقشرة رقيقة للغاية لدرجة أنها يمكن أن تتصدَّع مثل قشرة البيضة، وتتحرَّك أجزاء من القشرة بفعل التيارات الناقلة في الطبقات السائلة تحت القشرة الأرضية، وذلك في إطار العملية المعروفة باسم تكتونيات الصفائح. وبفضل السُّمك الرقيق للقشرة، لا يتوقَّف النشاط البركاني حول حواف أجزاء تلك القشرة (الصفائح)؛ ما يؤدِّي إلى إطلاق غازات مثل ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء في الغلاف الجوي. وحيثما تتصدَّع القشرة، وهو ما يحدث عادة تحت المحيطات، يمكن أن تتشكَّل قشرة جديدة بفعل تدفُّق المادة المنصهرة إلى أعلى وتصلُّبها، لتنتشر على جانبَي الصدع، دافعة الصفائح بعيدًا على كل جانب. ولكن حجم الأرض يتوقَّف عن التزايد؛ لأن في أجزاء أخرى من الكرة الأرضية، خاصة عبر حواف القارات، تنضغط القشرة الأرضية إلى الداخل. وهذه العملية تعيد المواد الكربونية والماء إلى أسفل حيث تغذيها البراكين، ثم تنبعث مرة أخرى في الجو في دورة لا تنتهي.
ولكن الدورة لا تسير بسرعة ثابتة. ويُطلَق على العملية التي تسحب الغازات، مثل ثاني أكسيد الكربون، من الغلاف الجوي، اسم التجوية. يتحلَّل ثاني أكسيد الكربون في الماء، ثم يتفاعل مع المعادن الموجودة في الصخور ليتكوَّن منه كربونات الكالسيوم (الحجر الجيري). وبالطبع يُعَد ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي من الغازات الدفيئة؛ لأنه يحبس الحرارة ويبقي سطح الأرض دافئًا أكثر ممَّا كان سيصبح عليه لولاه. والواقع أنه عندما ترتفع حرارة الأرض، تسير عملية التجوية بإيقاع أسرع؛ ومِن ثَم تميل إلى سحب ثاني أكسيد الكربون من الجو بكفاءة، ما يسمح بانخفاض حرارة الكوكب. ولكن عندما تنخفض درجة الحرارة، تقل كفاءة التجوية، ويتراكم غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو مرة أخرى. وعليه، ترتفع حرارة الأرض، وتتسارع عملية التجوية؛ ما يؤدِّي إلى سحب المزيد من غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو. وثمة تأثير سلبي يرجع إلى تكتونيات الصفائح، يساعد في إبقاء درجة الحرارة على سطح الأرض في نطاق يسمح ببقاء المياه السائلة (ولكن للأسف تلك العمليات الطبيعية أبطأ من أن تعوِّض عن تراكم غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي يتسارع بشدة الآن بسبب أنشطة البشر؛ كي تستطيع حمايتنا من عواقب حماقتنا). وبدون هذه العملية — أي بدون القشرة الرقيقة التي نشأت عن الاصطدام الذي أدَّى إلى نشأة القمر — لربما أصبحت الأرض صَحْراء حارقة ذات غلاف جوي سميك من ثاني أكسيد الكربون، مثلما هو الحال في كوكب الزُّهَرة المجاور لنا.
ليس هذا هو الشيء الوحيد الذي ينبغي أن نكون شاكرين للقمر لأجله. فتحليل الموجات الزلزالية الناتجة عن الزلازل، والتعمُّق عبر طبقات الأرض الداخلية، يُظهر لنا الحجم الهائل للب المركزي للأرض. واللب المركزي عبارة عن كتلة صلبة من الحديد والنيكل يبلغ قُطرها حوالي ٢٤٠٠كم، وتقع قمتها على مسافة ٥٢٠٠كم تقريبًا تحت سطح الأرض. ولكنه محاط بطبقة من مادة سائلة تمتد على مسافة ٢٥٠٠كم أخرى إلى أعلى؛ أي نحو نصف المسافة إلى سطح الأرض من قمة اللب الداخلي. يحوي اللب الخارجي واللب الداخلي معًا ثلث كتلة كوكب الأرض، التي يرجع جزء منها إلى الجسم الصادم الذي أدَّى إلى نشأة القمر. واللب الخارجي هو المهم بالنسبة إلينا، وإلى الحياة بأكملها على الأرض. تصل درجة الحرارة في هذه الطبقة السائلة المكوَّنة من الحديد والنيكل إلى نحو ٥٠٠٠ درجة مئوية؛ أي أقل بقدر طفيف من درجة حرارة سطح الشمس، وتظل هكذا بفعل التحلل الإشعاعي لعناصر، مثل الثوريوم واليورانيوم، التي خلَّفها تكوين المجموعة الشمسية. وتعمل التيارات الدُّوامية في هذه الطبقة على توليد المجال المغناطيسي للأرض.
يُعتبر المجال المغناطيسي للأرض مجال قوة بالمعنى الحرفي للكلمة؛ إذ يحمي كوكبنا من تهديد خطير قادم من الفضاء. فالشمس تطلق عاصفة من جسيمات ذات شحنة كهربائية، يُطلَق عليها «الرياح الشمسية»، على سبيل التخفيف، والتي تنبعث من مصدرها عبر الفضاء، وتتجاوز الأرض والكواكب الأخرى. تنتقل هذه الجسيمات بسرعات تبلغ عدة مئات من الكيلومترات في الثانية في أغلب الأحيان، وتصل إلى ١٥٠٠ كيلومتر في الثانية في أثناء الانفجارات المعروفة باسم العواصف الشمسية. ومن دون التأثير الواقي للمجال المغناطيسي الذي يشكِّل طبقة واقية حول الأرض، يمكن لهذه «الأشعات الكونية الشمسية»، التي لا تختلف عن الإشعاع الجسيمي الصادر من قنبلة نووية، يمكن أن تزيل الطبقات الخارجية للغلاف الجوي وتخترق الأرض، حيث كانت ستتسبَّب في أضرار فادحة لأشكال الحياة، بل ربما كانت ستتسبَّب في جدب سطح الكوكب.
يُطلَق على المنطقة المحيطة بالأرض التي يحميها المجال المغناطيسي اسم الغِلاف المغناطيسي، ولكن كلمة «غِلاف» ليست في محلِّها في الواقع؛ لأن الرياح الشمسية تتسم بقوة شديدة، لدرجة أنها تسحق المجال المغناطيسي في الجانب المواجه للشمس، بينما على الجانب المواجه للأرض يمتد المجال المغناطيسي على شكل ذيل طويل، ما يجعل الشكل العام يبدو مثل شرغوف كوني. في الجانب المواجه للشمس يقع الحد الفاصل بين المجال المغناطيسي والرياح الشمسية (هيكل سفينة الفضاء «إيرث») على مسافة ٦٤٠٠٠كم فوق سطح الأرض؛ أمَّا على الجانب البعيد عن الشمس، يتمدَّد الحد الفاصل إلى مسافة تكاد تماثل المسافة بين الأرض والقمر. وعند القطبَين المغناطيسيَّين؛ الشمالي والجنوبي، تتسرَّب نسبة ضئيلة من جسيمات الرياح الشمسية إلى الجزء العلوي من الغِلاف الجوي للأرض. وفي معظم الأحيان، يكون التأثير الوحيد لهذا الأمر هو تلك المشاهد الجميلة المعروفة باسم الشفق القطبي الشمالي والشفق القطبي الجنوبي. ولكن في أثناء العواصف الشمسية، قد تُلحق التأثيرات عند خطوط العرض العليا دمارًا بأي شيء يستخدم الكهرباء. فهي تقطع وسائل الاتصالات، وتؤثِّر على خطوط الكهرباء، وتسبِّب انقطاعات للتيار الكهربي في أماكن مثل كندا. وإذا ضعف الغلاف المغناطيسي فجأة؛ فسيحدث ذلك في سائر أنحاء كوكب الأرض.
ثمة حقيقة جادة تتمثَّل في وجود أدلة جيولوجية على وقوع مثل تلك الأحداث في الماضي، من خلال اختفاء المجال المغناطيسي فجأة (بناءً على معايير الجدول الزمني الجيولوجي) وإعادة تكوينه، إمَّا على النحو الموضَّح فيما سبق، أو بعكس القطبَين المغناطيسيَّين الشمالي والجنوبي. تأتي هذه الأدلة من السجل المغناطيسي المتروك في بعض أنواع الصخور أثناء تصلُّبها بعد موجات الثوران البركاني. ففي مرحلة تجمُّد الصخور، يتجمَّد فيها المجال المغناطيسي، ما يشكِّل مغناطيسًا دائمًا يحافظ على اتجاه الشمال واتجاه الجنوب في ذلك الزمن. ويمكن تحديد تاريخ الصخور بعدة وسائل لبيان وقت الاختفاء التدريجي للمجال المغناطيسي. كذلك تُظهر السجلات الأحفورية للحياة على الأرض أنه عند ضعف المجال المغناطيسي، تنقرض العديد من الأنواع على الأرض على الرغم من عدم تأثُّر المخلوقات التي تعيش في المحيطات. والاستنتاج الطبيعي من ذلك أن المخلوقات الأرضية قد صُعقت بإشعاع قادم من الفضاء، في حين أن المخلوقات البحرية كانت في حماية طبقات المياه. ولكن حتى لو كان هذا التفسير خاطئًا، فلا مفر من حقيقة أن المخلوقات الأرضية تموت عندما يضعف المجال المغناطيسي. الأمر المحبط أن المجال المغناطيسي للأرض، على مدى العقود الأخيرة، كان يضعف بمعدل يتراوح بين ٥ بالمائة في القرن، و٥ بالمائة في العَقد. وإذا استمرَّ هذا الضعف؛ فربما يختفي المجال المغناطيسي في مدة تتراوح بين ٢٠٠٠ و٢٠٠ سنة من الآن.
توضِّح تطبيقات المحاكاة الحاسوبية أنه عندما تكوَّن القمر في البداية، كان يدور على ارتفاع ٢٥٠٠٠كم فقط فوق سطح الأرض مقارنة بمتوسط الارتفاع اليوم الذي يتجاوز ٣٨٤٠٠٠ كيلومتر بقليل. ولم يكن من شأن هذا الارتفاع أن يثير تيارات مد هائلة في أيٍّ من المحيطات التي كانت موجودة فحسب، بل في الأرض «اليابسة» أيضًا؛ إذ يعمل على تمدُّد الصخور وانضغاطها على مدى كيلومتر واحد تقريبًا بإيقاع منتظم. في البداية، حافظت الحرارة التي تُولِّدها هذه العملية على الصخور منصهرة حتى بعد وقوع الاصطدام العملاق؛ ومِن ثَم شمل تأثير المد والجزر محيطات الحمم البركانية. ولكن طاقة تلك العملية جاءت من الطاقة المدارية للقمر، وعندما تبدَّدت الطاقة أدَّى هذا إلى إضعاف قبضة القمر وتحرُّكه إلى الخارج، بينما كانت تيارات المد والجزر تتضاءل. وتشكَّلت قشرة صلبة في مدة مليون سنة تقريبًا بعد الاصطدام الذي أدَّى إلى ظهور القمر.
وبفضل الاصطدام كانت الأرض أيضًا تدور بسرعة حينذاك؛ ولذا كان اليوم مدته نحو خمس ساعات، وقتما كان القمر حديث التكوين. أمَّا اليوم، فصار لدينا تيارات مد وجزر يبلغ ارتفاعها نحو متر، تحدث مرتين في اليوم — أي كل اثنتَي عشرة ساعة أو نحو ذلك — مع وجود تفاوتات ناتجة عن الجغرافيا المحلية للخطوط الساحلية. بعد تكوُّن القمر مباشرة (أي منذ مليون سنة أو نحو ذلك)، كانت هناك تيارات مد وجزر يبلغ ارتفاعها عدة كيلومترات كل ساعتَين ونصف تقريبًا. وظهرت أشكال للحياة من البحر، وانتقلت إلى اليابسة منذ ما يقرب من ٥٠٠ مليون سنة، وحتى بعد مرور مائة مليون سنة — أي منذ ٤٠٠ مليون سنة، في مصادفة عددية لا تنسى — كانت السنة حوالي ٤٠٠ يوم؛ لأن الأرض كانت لا تزال تدور أسرع من دورانها اليوم بنسبة ١٠ بالمائة، ومِن ثَم كان عدد ساعات اليوم يتجاوز ٢١ ساعة بقليل. ولكن على مدى مليارات السنين التي مرَّت منذ تكوُّن القمر، ظل شيء واحد ثابتًا نسبيًّا، ألَا وهو ميَلان الأرض. ومرة أخرى يعود الفضل للقمر في ذلك.
الأجسام الدوَّارة ذات الميل متذبذبة، مثلما يعلم أي شخص سبق أن لعب بلعبة البلبل الدوَّار الخاصة بالأطفال. ولكن يوجد أكثر من نوع من التذبذب. تميل الأرض في الفضاء بنحو ٢٣٫٤ درجة من خط متعامد بزوايا قائمة على مستوى مدار الأرض حول الشمس. وكما ذكرت، نتج هذا الميل عندما اصطدمت الأرض في بداية نشأتها بجسم بحجم كوكب المريخ أثناء الاصطدام الذي أدَّى إلى نشأة القمر. وعلى مدى العام، دائمًا ما يكون الميل في الاتجاه نفسه، ولذا عندما تدور الأرض حول الشمس، فإنها تميل باتجاه الشمس في بعض الأحيان، وتبتعد عنها في أحيان أخرى. وهذه ليست ذبذبة كما قد تتصوَّر، إذا افترضت أن الشمس تدور حول أرض ثابتة. ينتج عن هذا الميل دورة الفصول، إذ حين يُطل فصل الصيف على نصف الكرة الأرضية المائل نحو الشمس، يكون النصف المقابل في الشتاء، وحين يطل فصل الشتاء على نصف الكرة الأرضية البعيد عن الشمس، يكون النصف المقابل في فصل الصيف.
لقد حرصت على قول إن الميل دائمًا ما يكون في اتجاه واحد «على مدى عام واحد»؛ لأنه في الواقع يتغيَّر قليلًا على نحو منتظم على مدى عشرات الآلاف من السنوات. هذا الميل في الحقيقة هو عبارة عن ذبذبة، وله تداعيات شديدة وغير محتملة بالنسبة إلى الحياة على كوكب الأرض، أتناولها بالنقاش في الاحتمال المستبعد الثامن. ولكن في هذا الجزء ينصبُّ اهتمامي أكثر على السبب وراء عدم كبر الذبذبة أكثر من ذلك. ويرجع هذا بالطبع إلى التأثير المثبِّت لجاذبية القمر. فالكواكب (والأقمار) في المجموعة الشمسية تنجذب بعضها إلى بعض بفعل الجاذبية، ما ينتج عنه تأثير يتغيَّر مع حركة الكواكب حول مداراتها، وتكون الكواكب الصغرى مثل الأرض والمريخ على وجه الخصوص معرَّضة للتأثيرات المزدوجة للأجسام الكبرى في المجموعة الشمسية، وهما الشمس والمشتري. لو كان كوكب مثل الأرض أو المريخ هو الكوكب الوحيد الذي يدور حول الشمس، لاستمرَّ في مداره من دون ذبذبة. ولكن حتى دفعات الجاذبية الصغيرة القادمة من الشمس والمشتري يمكن أن تحفِّز ذبذبات كبيرة — وإن كان هذا مستبعدًا كما قد يبدو — من خلال العملية المعروفة باسم الفوضى، الوارد ذكرها في الاحتمال المستبعد السادس.
توضِّح لنا تطبيقات النمذجة الحاسوبية أن الميل على المريخ، الذي ليس له قمر كبير، يمكن أن يتغيَّر فجأة بما لا يقل عن ٤٥ درجة، وبسرعة أبطأ بنحو ٦٠ درجة، حيث «فجأة» تعني على مدار ١٠٠٠٠٠ سنة تقريبًا. على الرغم من ذلك، لا ينبغي أن نعتمد على النمذجة الحاسوبية وحدها؛ لأن السمات السطحية لكوكب المريخ تخضع للدراسة الآن عن طريق تدوير مسابير فضائية حوله بمزيد من التفصيل للتأكُّد من حدوث هذا النوع من التغيير بالفعل على مدى الزمن الجيولوجي. فهذا من شأنه أن يمنحنا الثقة في التنبؤات التي يخرج بها النوع نفسه من النمذجة المطبَّقة على كوكب الأرض، التي توضِّح لنا أنه لولا وجود القمر لكان من الممكن أن تَحيد عن وضعها شبه المستقيم في مدارها، إلى وضع شبه مسطح مع حدوث «ميل» بمقدار ٩٠ درجة على مدى ١٠٠ ألف سنة، وهي فترة قصيرة. وكان ذلك سيؤدِّي إلى تداعيات وخيمة. فمع وجود قطب متجه نحو الشمس، سيتعرَّض ذلك النصف من الكرة الأرضية لصيف حارق شديد الحرارة لا تغرب الشمس فيه أبدًا، بينما سيتجمَّد النصف المقابل لأن الشمس لا تشرق عليه. ثم سينعكس الوضع بعد ستة أشهر. فتصبح المناطق الاستوائية في غسق دائم، ولن يذوب الجليد منها مطلقًا. والفضل كله يعود إلى وجود القمر في عدم حدوث شيء من هذا منذ نشأة الحياة على اليابسة (بناءً على ما نعرفه من السجلات الأحفورية)، وربما لمدة أطول من ذلك بكثير (حسبما نستنتج من تطبيقات النمذجة الحاسوبية).
الأمر بالطبع أكثر مثالية من أن يستمرَّ إلى الأبد. فمع ابتعاد القمر عن الأرض ببطء ولكن بشكل مُطَّرد، سيضعف تأثيره المُثبِّت رويدًا رويدًا. لا يزال القمر مقترنًا بالأرض ويمارس تأثيره منذ أكثر من ٤ مليارات سنة، وهو الآن يتحرَّك إلى خارجها بمعدل ٤ سنتيمترات في السنة. وتوضِّح تطبيقات المحاكاة أنه في غضون نحو مليارَي سنة من الآن سيكون تأثيره المثبِّت أضعف كثيرًا من أن يمنع المشتري من الإطاحة بالأرض. تعيدني تلك النقطة إلى الاحتمال المستبعد الذي بدأت به. الشمس أكبر من القمر بمقدار ٤٠٠ ضعف، ولكن المسافة بينها وبين الأرض أبعد من المسافة إلى القمر بمقدار ٤٠٠ ضعف أيضًا. في الماضي كان القمر يبدو بحجم أكبر بكثير؛ ومِن ثَم كان من السهل أن يحجب الشمس أثناء أي كسوف. لكن في عصر الديناصورات، لم يكن هناك بشر كي يرصدوا تلك الظاهرة. وفي المستقبل غير البعيد (قبل حدوث تلك الذبذبة بزمن طويل)، ستُرى حلقة من ضوء الشمس حول حافة القمر حتى في أثناء الكسوف. حينئذٍ قد توجد كائنات ترصد تلك الظاهرة وقد لا توجد. يا له من أمر غريب أن يكون لزامًا أن توجد الكائنات الذكية التي ترصد مثل هذه الأشياء في اللحظة التي تحدث فيها من الزمن الجيولوجي. نحن هنا فقط بفضل القمر وتأثيره على الأرض. لعله احتمال مستبعد كثيرًا، لكنه غير مستحيل، حسبما تبرهن الحقيقة التي أخبركم بها عنه.