الاحتمال المستبعد الرابع: يمكن كشف
التموُّجات الناتجة عن تصادم الثقوب السوداء في الفضاء
أقل ما يقال عن قياس عمر الكون بأنه ١٣٫٨ مليار سنة، مع نسبة خطأ لا
تزيد على مائة مليون سنة — أي أقل من ١ بالمائة — إنه قياس مبهر. ولكن
على الطرف الآخر من مقياس الحجم، يمكن لعلماء الفيزياء قياس الإزاحات
في أجهزة الكشف لمسافة ٤ كيلومترات، تصل إلى نحو واحد من عشرة آلاف جزء
من عرض بروتون واحد. وكان هذا الإنجاز الذي بدا مستحيلًا (ولكنه في
الواقع كان فقط غير محتمل إلى حد كبير، وليس مستحيلًا) ضروريًّا لهم كي
يتمكَّنوا من اكتشاف تموُّجات الفضاء التي تنبَّأت بها النظرية العامة
للنسبية لأينشتاين؛ موجات الجاذبية.
من الطرق المفيدة للتفكير في العلاقة بين المادة والفضاء وموجات
الجاذبية أن نتخيَّل وزنًا ثقيلًا موضوعًا على لوح مطاطي مشدود مثل
ترامبولين والوزن يهتز فوقه. وقد وردت روايتي الخاصة لقصة التموُّجات
مع اختلافات بسيطة في العديد من كتبي،
١ ومِن ثَم يمكنك تجاهلها الآن إن لم تُرِد الاطلاع عليها.
النقطة الرئيسة التي ينبغي التفكير فيها هنا هي مدى السرعة التي يمتد
بها تأثير الجاذبية عبر الكون.
إن وجود أي جسم له كتلة من شأنه أن يغيِّر شكل الفضاء من حوله،
ويمكننا تمثيل كتلة مثل الشمس بكرة بولينج سقطت على ترامبولين افتراضي.
تُحدث الكرة انبعاجًا في السطح، وتتبع الكرات الزجاجية المتدحرجة عبر
السطح خطوطًا منحنية حول المنطقة المنبعجة. على النحو نفسه، يدفع
الفضاءُ المنحني حول جسم كبير مثل الشمس الأشياء (حتى الضوء) إلى اتباع
مسارات منحنية، كما لو أن هناك قوة (الجاذبية) تجذبها نحو الشمس. وكان
توقُّع أينشتاين لمقدار انحناء ضوء النجوم وهو يمر بالقرب من الشمس هو
الذي مكَّن علماء الفلك من تأكيد دقة نظريته العامة في النسبية أثناء
كسوف الشمس عام ١٩١٩، وهو ما صنع شهرة أينشتاين.
لكن ماذا يحدث إذا انتُزعت كرة البولينج؟ يعود سطح الترامبولين
المنحني إلى شكله المسطح، ولكنه لا يعود في الحال. فالتسطُّح ينتشر عبر
السطح. تدور الأرض في مدار حول الشمس بفعل الانبعاج الذي تُحدثه الشمس
في الزمكان.
٢ فإذا اختفت الشمس من الوجود فجأة، لن تطير الأرض في الفضاء
من فورها؛ لأن الانبعاج سيظل موجودًا فترة من الزمن إلى أن يأتي وقت
ترد إلينا فيه أخبار عن اختفاء الشمس. أدرك أينشتاين، من النظرية
الخاصة في النسبية، أن لا شيء أسرع من الضوء؛ ومِن ثَم توقَّع أن تكون
سرعة الجاذبية في التنقُّل مثل سرعة الضوء. فإذا اختفت الشمس؛ ستظل
الأرض تدور في مدارها، وستبقى السماء مضيئة لمدة ثماني دقائق أخرى
وأكثر قليلًا، ثم ستظلم السماء ويطير الكوكب بحريته في الوقت
نفسه.
لكن تذكَّر أن كرة البولينج تُنتزع من فوق الترامبولين. حينئذٍ لا
يعود السطح المشدود إلى الشكل المسطح من فوره؛ بل يظل يعلو ويهبط بعض
الوقت إلى أن يستقر محدثًا تموُّجات عبر السطح. إذا اختفت الشمس، ربما
سيتموَّج الفضاء من حولها (الزمكان)، بالطريقة نفسها، وستظل التموُّجات
تهدأ بينما ينبسط السطح. وستكون هذه التموُّجات موجات جاذبية. عندما
وقع أينشتاين في خطأ رياضي بعد بداية خاطئة، نشر الفكرة عام ١٩١٨. لكنه
لم يتأكَّد البتة إن كان التأثير حقيقيًّا أم لا؛ ولذا قال ذات مرة:
«إذا سألتني هل توجد موجات جاذبية أم لا، فلا بد أن تكون إجابتي لا
أعلم. لكنها مسألة مثيرة للاهتمام كثيرًا.» لكن بعد مائة عام من نشر
الفكرة بالضبط، اكتُشفت موجات مشابهة على الأرض للمرة الأولى.
تطلَّب هذا الاكتشاف جهدًا ضخمًا، لكن ثمة سببًا واحدًا يفسِّر
تأكُّد علماء الفيزياء من أن الأمر يستحق ذلك الجهد، ألَا وهو امتلاكهم
دليلًا مباشرًا على تأثيرات إشعاع الجاذبية على سلوك أزواج من النجوم
يطلَق عليها النابضات الثنائية. والنجوم النابضة هي عبارة عن نجوم
نيوترونية سريعة الدوران؛ كرات من المادة لا يتجاوز عرضها ١٠
كيلومترات، ولكن كثافتها تعادل كثافة نواة ذرة؛ إذ تحوي كتلة تساوي
تقريبًا كتلة شمسنا، وكانت عبارة عن بقايا خلَّفها انفجار نجوم أكبر
كثيرًا من الشمس مثل المستعرات العظمى. يمكننا اكتشاف تلك النجوم؛ لأن
لها مجالات مغناطيسية قوية وأشعة ناتجة عن موجات راديو تشبه الشعاع
الصادر من المنارة. يومض بعض هذه الأشعة عبر الأرض ويمكن اكتشافها، لكن
لا بد أن هناك العديد من النجوم النابضة التي لا توجه أشعاتها في
الاتجاه الصحيح لنا كي نراها.
في عام ١٩٧٤، كان راسل هالس — وكان آنذاك طالب دكتوراه بجامعة
هارفارد — يستخدم تلسكوبًا راديويًّا ضخمًا في مرصد أرسيبو في
بورتوريكو (الذي ظهر في فيلم «اتصال») لإجراء بحث على النجوم النابضة
تحت إشراف جوزيف تايلور. وفي ٢ يوليو ١٩٧٤، وجد نجمًا نابضًا في نطاق
قدرة التلسكوب على تحديد الهُويات، وبعد تحقُّق حثيث على مدى الأسابيع
القليلة التالية، تأكَّد من أنه اكتشاف حقيقي، ووصف الجسم بالوسم
PSR 1913 + 16. وقد ثبت أنه نموذج
رائع من نوعه. كان النجم النيوتروني يدور مرة كل ٥٨٫٩٨ مللي ثانية، ما
جعله ثاني أسرع نجم نابض عُرِف حينذاك؛ ومِن ثَم كان الشعاع يُصدر سبع
عشرة ومضة كل ثانية في أداة الكشف التي استخدمها هالس.
لكن مع استمرار هالس في رصد النجم النابض، اكتشف أنه يتغيَّر بطريقة
بدت مستحيلة. وأظهرت القياسات نمطًا سلوكيًّا معقَّدًا للنجم. ففي بعض
الأحيان كانت النبضات تصل في وقت أقرب قليلًا من المتوقَّع، وأحيانًا
في وقت أبعد قليلًا من المتوقَّع. وكانت هذه التباينات تتغيَّر بسلاسة
وعلى مدى مدة متكرِّرة بواقع ٧٫٧٥ ساعات. وأدرك هالس أن التغييرات لا
يمكن أن يتسبَّب فيها إلا نجم نابض يدور حول نجم آخر. أظهرت السرعة
التي كانت تحدث بها التغييرات أن مدار النجم PSR 1913 +
16 لا بد أن يكون صغيرًا للغاية، ما يعني أن النجم
المرافق لا بد أن يكون صغيرًا للغاية؛ وهو نجم نيوتروني آخر. كان
النجمان حتمًا يشكِّلان بالفعل ثنائيًّا لهما الكتلة نفسها ويدور كل
منهما حول مركز الكتلة المشترك. ولذا أصبح معروفًا ﺑ «النجم النابض
الثنائي» على الرغم من أن نجمًا واحدًا فقط من النجوم النيوترونية هو
ما اكتُشف بوصفه نجمًا نابضًا.
هذا نظام صارم، ما يجعله حقل اختبارات مثاليًّا لتكهُّنات النظرية
العامة. مع استمرار عمليات الرصد، تبيَّن أن النجم النابض يدور حول
رفيقه مرة كل ٧ ساعات و٤٥ دقيقة، بمتوسط سرعة يبلغ ٢٠٠ كيلومتر في
الثانية، ويصل إلى سرعة أقصاها ٣٠٠ كيلومتر في الثانية؛ أي جزء على ألف
من سرعة الضوء. تبلغ المسافة حول المدار نحو ٦ ملايين كيلومتر، ومن
قبيل المصادفة أن تلك المسافة تساوي محيط الشمس تقريبًا. لذا فلو كان
مدار النجم النابض الثنائي دائريًّا، لصار النظام داخل الشمس، وعندها
تصبح المسافة بين النجمَين النيوترونيَّين مساوية تقريبًا للمسافة بين
مركز الشمس وسطحها. وعلى الرغم من ذلك، فإن المدارات بيضاوية الشكل كما
نعلم؛ ومِن ثَم تصبح «الحركة
الثنائية» التي يؤدِّيها النجمان أكثر تعقيدًا. فعند أقل تباعد بين
الجسمَين، تصبح أقصر مسافة فاصلة بينهما ١٫١ نصف قطر شمسي، وعند أقصى
تباعد بينهما تكون المسافة الفاصلة بينهما ٤٫٨ قطر شمسي. وتُعَد هذه
بنية مثالية لإنتاج موجات جاذبية.
يمكن معرفة السبب وراء ذلك إذا تخيَّلت كرتَين معدِنيتَين مجوفتَين
متصلتَين بقضيب قصير، تطفوان في خزان مياه. إن لم تتحرَّكا؛ فلن تكون
هناك تموُّجات في المياه. لكن إن كانت كلتا الكرتَين تدور إحداهما حول
الأخرى مثل دمبل دوار، فستترقرق الأمواج نحو الخارج عبر السطح. الشيء
نفسه يحدث للزمكان عندما يدور نجمان نيوترونيان تفصل بينهما مسافة أقل
من قطر الشمس حول بعضهما. لكن توليد الموجات يحتاج إلى طاقة. وعندما
تذهب الطاقة من النجم النابض الثنائي إلى موجات الجاذبية، ينبغي أن
يلتف النجمان معًا للتخلُّص من طاقة الجاذبية، ما يجعلهما يدوران بسرعة
أكبر في تلك العملية. وعندئذٍ ستتقلَّص (تتحلَّل) المدة المدارية
بمقدار ضئيل للغاية، يمكن حسابه بدقة باستخدام النظرية العامة.
توقَّع العلماء أن تتقلَّص الفترة المدارية للنجم النابض الثنائي،
التي تبلغ ٢٧٠٠٠ ثانية، بمقدار ٠٫٠٠٠٠٠٠٣ بالمائة، أو ٧٥ جزءًا من
المليون من الثانية، كل عام. ولقياس مثل هذا التأثير الضئيل، اضطُر
علماء الفلك إلى وضع أنواع التأثيرات كافة في الحسبان، وفي ذلك حركة
الأرض في مدارها حول الشمس، والتغييرات التي تطرأ على دوران الأرض
نفسها. وبأخذ كل هذه التأثيرات في الحسبان، بعد تحليل ما يقرب من ٥
ملايين نبضة من النجم PSR 1913 + 16،
استطاع تايلور في ديسمبر من عام ١٩٧٨ أن يعلن أن تحلُّل مدار النجم
النابض الثنائي كان يحدث بما يتفق تمامًا مع توقُّعات النظرية العامة.
إذن فالنظرية العامة صحيحة، وموجات الجاذبية حقيقية. وهناك الآن أكثر
من ٥٠ نجمًا نابضًا ثنائيًّا معروفًا، ما يقدِّم مزيدًا من الأدلة التي
تدعم دقة النظرية العامة، ولكن النجم الذي اكتشفه هاسل وتايلور لا يزال
هو الأساس.
مع نهاية سبعينيات القرن العشرين، تبدَّدت الشكوك بشأن وجود موجات
الجاذبية. ولكن هذا خلَّف التحدي الهائل المتمثِّل في اكتشاف موجات
الجاذبية مباشرة، هنا على الأرض. فقد رأى معظم الناس هذا الأمر
مستحيلًا؛ لأنه في الوقت الذي تصلنا فيه موجات من شيء مثل نجم نابض
ثنائي، تصبح تلك الموجات أصغر بكثير من حجم الذرة. ولكن ثمة أحداثًا
كونية لا بد أنها تنتج موجات أكبر بكثير، حسبما تتنبَّأ النظرية، ما
أعطى بصيصًا من الأمل للقائمين على التجارِب.
ارتكز ذلك الأمل على احتمالية اكتشاف موجات الجاذبية باستخدام تقنية
قياس التداخل. تعتمد هذه الطريقة حرفيًّا على طريقة تداخل شيئَين (مثل
أشعة الضوء في النسخة المختبرية لتلك التجارِب) أحدهما مع الآخر. وفيما
يلي تشبيه آخر من تشبيهاتي المألوفة. عند إلقاء حصاة في بركة مياه
راكدة، تمتد الأمواج بسلاسة في جميع الاتجاهات. لكن في حالة إلقاء
حصاتَين في البركة في الوقت نفسه، ينتج عن ذلك مجموعتان من الأمواج
تتداخل إحداهما مع الأخرى، ما يؤدِّي إلى خلق نمط أعقد. في بعض
الأماكن، يتلاشى تأثير الموجات بحيث تترك السطح مسطحًا بشكل أو بآخر،
وفي أماكن أخرى، تتجمَّع الموجات معًا بحيث تكوِّن المزيد من الموجات
العالية. ربما تكون تلك العملية معروفة لك من تجرِبة في الفصل الدراسي
على الضوء لتوضيح مدى تشابه سلوكه مع سلوك الموجات. في غرفة مظلمة،
يسلَّط شعاع من الضوء من خلال ثقبَين صغيرَين في حاجز (قطعة ورق أو
بطاقة تفي بالغرض)، ويسقط على حاجز آخر. تتداخل موجات الضوء الممتدة من
كل ثقب في الحاجز الأول مثل تلك التموُّجات في البركة، ما يخلق نمطًا
من ضوء وظل على الحاجز الثاني؛ أي نمط تداخل. أدرك علماء الفيزياء أن
هذا النوع من التداخل يمكن استخدامه، من حيث المبدأ، لقياس التغيُّرات
البالغة الصغر التي تنتج عن قيام موجة جاذبية بضغط الفضاء ومده بين
جسمَين. لكن تجرِبة المبدأ عمليًّا كانت ستصبح صعبة ومكلِّفة. وقد وصفت
جانا ليفين في كتابها «أحزان الثقب الأسود»
٣ بأسلوب مسلٍّ الملحمة الطويلة التي تضمَّنت مزيجًا من
الصدامات السياسية والعلمية والشخصية التي أعقبت هذا الإدراك، لكني
سأختصر الطريق وأتطرق مباشرة إلى نتيجة كل هذه الإشكالات.
يمكن تطبيق طريقة قياس التداخل على البحث عن موجات الجاذبية بسبب
الطريقة التي تشوِّه بها تلك الموجات شكل الزمكان. إنها لا تُنتج
تموُّجات في اتجاه حركة الموجة، كما تفعل الأمواج المائية، ولكنها
تغيِّر شكل الفضاء بزوايا قائمة متعامدة على الاتجاه الذي تتحرَّك فيه
الموجة. ويعمل هذا على ضغط الفضاء إلى الداخل، ويشده إلى الخارج بطريقة
منتظمة. عندما يتم ضغط أحد الاتجاهات، يتمدَّد الاتجاه المتعامد على
الضغط بزوايا قائمة، والعكس بالعكس. ومِن ثَم أدرك علماء الفيزياء أنه
لو توافر لديهم كاشف له ذراعان متعامدتان بينهما زوايا قائمة، على شكل
حرف «L» كبير، على أن تكون الذراعان
بالطول نفسه، كانت أي موجة جاذبية ستمر عبره ستضغط إحدى الذراعَين، وفي
الوقت نفسه ستُمدد الذراع الأخرى. تحمل هذه الأطوال المتغيِّرة
«توقيعًا» مميَّزًا لموجات الجاذبية التي يمكن رصدها باستخدام طريقة
قياس التداخل إذا كانت الذراعان طويلتَين بدرجة كافية، وأجهزة الكشف
حسَّاسة بدرجة كافية.
ينبغي أن يكون الضوء اللازم لتلك المهمَّة صادرًا من أجهزة ليزر؛ إذ
إنها تُصدر أشعة نقية للغاية، وأطوالًا موجية في منتهى الدقة. ينبغي
تقسيم ضوء الليزر إلى شعاعَين يتماشيان تمامًا بعضهما مع بعض، ثم
يُرسَل الشعاعان بطول الذراعَين في الكاشف، بحيث يتعامدان بعضهما على
بعض بزوايا قائمة، ولكن بنفس الطول بالضبط قبل أن تنعكس عبر المسارات
نفسها لتندمج مرة أخرى وتُحدث نمط تداخل، يُرصَد بنظام تلقائي. إذا
أُعدَّت التجرِبة إعدادًا مثاليًّا، فستلغي الموجات العائدة تأثير
إحداها على الأخرى، ولن يكتشف نظام الرصد والمراقبة شيئًا. ولكن عندما
تمر موجة جاذبية خلال التجرِبة، تتقلَّص ذراع وتتمدَّد الأخرى؛ ومِن
ثَم يتبدَّد التناغم في حركة الشعاعَين. يمكن تسجيل التداخل الناتج
وعرضه على شاشة جهاز مراقبة في شكل خطوط متموِّجة تكافئ نمط الضوء
والظل الناتج عن تجرِبة الفصل الدراسي باستخدام الثقبَين.
ثمة سؤال بَدَهيٌّ هنا: كيف تكتشف أشعة الليزر تمدُّد الفضاء
وانضغاطه، في حين أنها تتأثَّر هي الأخرى بموجات الجاذبية، كونها
تتمدَّد وتنضغط مثل أي شيء آخر؟ تكمن الإجابة في أننا في الواقع نتعامل
مع الزمكان وليس الفضاء فقط. إن تشوُّه شكل الزمكان يؤثِّر في المدة
التي تستغرقها أشعة الضوء للانتقال من طرف في التجرِبة إلى الطرف
الآخر. وما يقيسه جهاز قياس التداخل بالفعل هو فارق في الزمن وليس
فارقًا في المكان، ولكن يسهل تحويل ذلك الفرق إلى مكافئ مكاني.
طُرح مقترح رسمي لجهاز لكشف
موجات الجاذبية في الولايات المتحدة عام ١٩٨٣. وعلى المستوى نفسه من
الطموح، طلب المقترح زوجًا متطابقًا من الكواشف ووضعهما في مواقع يفصل
بينها مسافة بعيدة. تمثَّلت الفكرة في أن أمواج الجاذبية ستؤثِّر في
الجهازَين كلَيهما بالطريقة نفسها، مع تأخير زمني طفيف، ما يعني
إمكانية تمييزها عن الاضطرابات الموضعية التي تؤثِّر في كل كاشف على
حدة. وضع الاقتراح الأصلي تصوُّرًا بأن يكون لكل كاشف ذراعان بطول ١٠
كيلومترات، وستبلغ تكلفة المشروع ٧٠ مليون دولار. وافقت مؤسَّسة العلوم
الوطنية الأمريكية على المقترح عام ١٩٨٦، ولكن اضطُروا إلى تقليص حجم
أذرع الكاشف إلى ٤ كيلومترات؛ لأن المواقع المتاحة لم تكن كبيرة كفاية
لتسع طولًا أكثر من ذلك. بدأت عملية الإنشاء في أواسط تسعينيات القرن
العشرين، ولكن لم تكن مفاجأة أن جاءت التكلفة أعلى على الرغم من أن
الكواشف كانت أصغر؛ إذ ارتفعت بما يزيد على مليار دولار. يمكن القول إن
السمة الأبعد احتمالًا للمشروع بأكمله هي حصوله على تمويل من الأساس!
لقد أُنشئت الكواشف في مواقع متباعدة قدر الإمكان داخل ولايات متجاورة
في الولايات المتحدة في هانفورد بولاية واشنطن، وليفينجستون بولاية
لوزيانا. وعُرف ذلك المشروع باسم مرصد قياس تداخل موجات الجاذبية
بالليزر (ليجو)، وكان أغلى مشروع موَّلته مؤسَّسة العلوم الوطنية، ما
يعني أن الكثيرين قد تنفَّسوا الصعَداء عندما اكتُشف بالفعل شيء على
غير المتوقع في سبتمبر من عام ٢٠١٥. لكن الطريقة التي تمَّ بها
الاكتشاف مثيرة للاهتمام مثل الاكتشاف نفسه.
في أثناء بناء الكواشف واختبارها، توصَّل المنظِّرون بدقة إلى نوع
«الإشارة» التي يمكنهم اكتشافها باستخدام تطبيقات المحاكاة الحاسوبية
القائمة على النظرية العامة في النسبية.
٤ وكان المسار الأكثر أمانًا لهم للتحرُّك هو تصادم ثقبَين
سوداوَين واندماجهما. يحدث هذا حتمًا في أي نظام ثنائي يشبه النجوم
النابضة الثنائية (بل إنه حتمًا سيطول في النهاية إلى النجم النابض
الثنائي نفسه)، حين تلتف الأجزاء المكوَّنة معًا، ولكن الثقوب السوداء
أضخم من النجوم النابضة، وستؤدِّي إلى انفجارات موجية أكبر. لكن في وسط
ذلك، قام المنظِّرون أيضًا بحساب ما يمكن رصده عند اندماج نجمَين
نيوترونيَّين. نُفِّذت عمليات محاكاة لطريقة التفاف ثقبَين أسودَين
واندماجهما لمجموعة متنوِّعة من الثقوب السوداء ذات الكتل المختلفة.
واكتشفوا أنه لو صحَّت معادلات أينشتاين، فسيؤدِّي مثل هذا الاندماج
إلى سمة مميزة لموجات الجاذبية أطلقوا عليها «الصرير»، وفيها يقصر
الطول الموجي للموجات أكثر وأكثر (وترتفع نغمة صوتها بالمعنى الموسيقي)
كلما اقترب الثقبان من بعضهما، ثم ينقطع فجأة ويندمجان في جسم واحد. في
إطار ما يتعلَّق بالأصوات، قد يشبه ذلك الصوت الذي يصدر منك عندما
تُمرِّر يدك بسرعة عبر مفاتيح بيانو من اليسار إلى اليمين. ومِن ثَم
عرف القائمون على التجارِب ما كانوا يبحثون عنه بالضبط. ولكنهم وضعوا
لأنفسهم موعدًا نهائيًّا لإنهاء مهمتهم، وكأن عملهم لم يكن بالصعوبة
الكافية. كان أينشتاين قد انتهى من نظريته العامة في نوفمبر ١٩١٥،
ونُشرت رسميًّا في أوائل عام ١٩١٦، وهي السنة نفسها التي توصَّل فيها
لأول مرة إلى إشارة إلى أن النظرية تتنبَّأ بوجود موجات الجاذبية.
وقرَّر فريق «ليجو» أنه سيكون من اللطيف لو استطاعوا أن يكتشفوا تلك
الموجات في عام ٢٠١٦؛ أي بعد مائة عام من نشر نظرية النسبية. وعلى غير
المتوقَّع، ولدهشتهم، أبلَوا بلاءً أفضل من ذلك.
إن تفاصيل أنظمة الكشف محيرة للعقل. فالضوء المنبعث من أشعة ليزر
بقدرة ٢٠ وات يسير عبر كل ذراع من الذراعَين الممتدَّتين بطول
٤ كيلومترات عبر أنبوب مفرَّغ يبلغ قطره مترًا واحدًا. في أطراف
الأنابيب، توجد مرايا خاصة عاكسة جزئيًّا تُرجِع الضوء ذهابًا وإيابًا
بمعدل ٢٨٠ مرة تقريبًا قبل إطلاقه في نظام جهاز قياس التداخل، ما
يعزِّز قوة الكاشف بفاعلية. ولكن نظرًا لأن المنظِّرين تنبَّئُوا بأن
الموجات التي كانوا يبحثون عنها ستغيِّر تباعد المرآة بمقدار نحو
١٠−١٨ أمتار لا أكثر؛ أي أقل من جزء من
ألف من قطر بروتون، لزم حجب المرايا عن أي شكل من أشكال الاهتزاز
الخارجي بداية من حركة المرور على الطرق القريبة (وفي ذلك الموظَّفون
الذين يستقلُّون دراجاتهم في طريقهم إلى العمل) إلى حركة أنظمة الطقس
على الجانب الآخر من القارة، وحركة التيارات في المحيط الهادئ، وكل
زلزال كبير على الأرض.
نُفِّذ ذلك عن طريق تعليق كل كتلة من كتل «ليجو» المخصَّصة
للاختبارات (وهي أوزان ثقيلة رُبطت بالمرايا)، التي تزن ٤٠ كيلوجرامًا
في جهاز مكوَّن من أربعة بناديل. كان جزء من ذلك التعليق «سلبيًّا»؛ إذ
كان ببساطة يسمح لهيكل الجهاز أن يتحرَّك حوله بينما تتدلَّى كتل
الاختبار أسفله. لكن الجزء الذكي حقًّا تمثَّل في نظام «نشط»، كان يقيس
الاضطرابات الاهتزازية، ويدفع الطرف الآخر بلطف لتبديدها، وهي الطريقة
التي تستجيب بها سماعات حجب الضوضاء للأصوات الخارجية وتحجبها.
بعد الانتهاء من وضع كل شيء في مكانه وخضع للاختبار، اعتُزم إجراء
أول عملية تشغيل علمي للكاشفين في سبتمبر ٢٠١٥. وفي إطار الاستعدادات،
أُجري اختبار تشغيل للتأكُّد من عمل جميع تلك الأنظمة في منتصف ليل
الإثنين الموافق ١٤ سبتمبر. خلال فترة توقُّف وسط تلك الاختبارات، تُرك
الكاشفان في وضع الرصد على الرغم من أنه لا أحد كان يتوقَّع رصد أي
شيء. لكن في الساعة ٢:٥٠ صباحًا بتوقيت مدينة هانفورد، والساعة ٤:٥٠
بتوقيت مدينة ليفينجستون؛ أي في الوقت نفسه تقريبًا، سجَّل كل كاشف
صريرًا استمرَّ ٢٠٠ مللي ثانية. التقط الكاشفان إشارة لموجة جاذبية
أقوى ممَّا توقَّع الجميع بكثير، وبسرعة أكبر من التي توقَّعوها بكثير
أيضًا. ونظرًا لوجود تأخير بمقدار ٦٫٩ مللي ثانية فقط بين وصول الإشارة
إلى الكاشف الأول ووصولها إلى الكاشف الثاني، فقد أكَّد هذا أن الموجة
سافرت بسرعة الضوء.
تتوافق تفاصيل الصرير مع التنبؤات الخاصة بالتفاف ثقبَين أسودَين
واندماجهما معًا، تساوي كتلة أحدهما كتلة الشمس ٢٩ مرة، بينما تعادل
كتلة الثقب الآخر كتلة الشمس ٣٦ مرة، بحيث يكوِّنان معًا ثقبًا أسود
واحدًا تعادل كتلته كتلة الشمس ٦٢ مرة. توضِّح لنا الكتلة «المفقودة»
أن ثلاثة أضعاف كتلة الشمس قد تحوَّل إلى طاقة في شكل موجات جاذبية في
أثناء تلك العملية. وهذا يعادل ١٠٢٣ ضعفًا
(مائة مليار تريليون ضعف) من السطوع الشمسي.
بعد التحقق أكثر من مرة من الملاحظات للتأكُّد من عدم وجود أخطاء،
أعلن الفريق رسميًّا عن اكتشافه هذا في ١١ فبراير ٢٠١٦؛ أي بعد مائة
عام بالضبط من إعلان النظرية العامة في النسبية على العالم. لكن حتى
قبل نشر الخبر، كشف مرصد «ليجو» عملية اندماج أخرى لثقب أسود هزَّت
الكاشفين في يوم عيد الميلاد عام ٢٠١٥.
٥ نتج الاهتزاز عن اندماج ثقبَين أسودَين تبلغ كتلتهما أربعة
عشر ضعفًا وثمانية أضعاف كتلة الشمس؛ إذ اندمجا وكوَّنا ثقبًا أسود
تعادل كتلته ٢١ ضعف كتلة الشمس، ولم تتحوَّل سوى كتلة شمسية واحدة من
المادة إلى طاقة. وأثبت هذا أن عملية الرصد الأولى لم تكن مجرَّد ضربة
حظ.
منذ عام ٢٠١٥، أصبح علم فلك موجات الجاذبية أمرًا شبه عادي. فلم
يَعُد كشف اندماج آخر ثقبَين أسودَين خبرًا مثيرًا، مثلما لم يَعُد
اكتشاف كوكب آخر يدور حول نجم بعيد خبرًا مثيرًا أيضًا. لكن ثمة نوعًا
آخر من الاندماج يستحق الإشارة إليه.
في الوقت الحاضر، يوجد مرصد ثالث لموجات الجاذبية، وهو مرصد أوروبي
يسمَّى فيرجو (نسبة لكوكبة العذراء) مشابهًا لمرصد ليجو. وبفضل وجود
ثلاثة مراصد تعمل على الأرض، يمكن للعلماء أن يحدِّدوا المنطقة في
السماء التي تصدر منها موجات الجاذبية بمزيد من الدقة. وقريبًا ستُطلَق
كواشف مماثلة في اليابان والهند، ولكن كواشف المراصد الثلاثة القائمة
كانت كافية لاكتشاف مذهل في صيف عام ٢٠١٧. ففي شهر أغسطس من ذلك العام،
رصدت كواشف مراصد موجات الجاذبية الثلاثة جميعها إشارة عُرفت بأنها
عملية اندماج لنجم نيوتروني ثنائي وقع على مسافة تتراوح بين ٨٥ مليون
و١٦٠ مليون سنة ضوئية. بلغ مجموع كتلة النجمَين المتصادمَين نحو ثلاثة
أضعاف كتلة الشمس. وبفضل قدرة علماء الفلك المختصين بموجات الجاذبية
على تثليث المصدر، تمكَّنوا من إخبار علماء فلك آخرين عن الاتجاه الذي
ينبغي توجيه أجهزة التلسكوب إليه لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم رصد أي
شيء مثير للاهتمام له علاقة بالحدث أم لا. وفي غضون ساعات، حدَّدت خمس
مجموعات مصدرًا جديدًا للضوء في مجرة معروفة باسم NGC
4993. تغيَّر هذا الضوء من الأزرق الساطع إلى
الأحمر الباهت على مدى الأيام القليلة التالية، وبعد أسبوعَين بدأ في
إصدار أشعة سينية وموجات راديوية. وقد أوضحت الدراسات الطيفية للضوء
المتلاشي أن الانفجار الضخم المرتبط بعملية اندماج النجم النيوتروني
الثنائي (المسمَّى المستعر فوق العظيم) نتج عنه كميات هائلة من العناصر
الثقيلة ومنها الذهب، وهو ما أثلج صدور الصحفيين. وساهم هذا في حل لغز
ظل قائمًا لزمن طويل.
حسبما ورد في كتابي «سبعة أعمدة للعلم»، عَلِم علماء الفلك قبل ٢٠١٧
أن الذهب وبعض العناصر الثقيلة الأخرى يمكن أن تتكوَّن في نوع آخر من
الانفجار النجمي مثل المستعرات العظمى، ولكنهم كانوا يعلمون أيضًا أنه
يستحيل أن تكون هذه الأحداث هي منشأ كل العناصر الثقيلة التي نراها في
الكون. وتبيَّن أن المستعرات فوق العظيمة قادرة على تكوين كمية كافية
من العناصر الثقيلة لسد الفجوة. فالحدث الذي شوهد في أغسطس ٢٠١٧ أنتج
وحده ما بين ثلاث كتل إلى ثلاث عشرة كتلة أرضية من الذهب، بينما
الأحداث المشابهة مسئولة على الأقل عن إنتاج نصف الذهب الموجود في
الكون في الوقت الحاضر. على الرغم من أنه قد يبدو احتمالًا مستبعدًا،
فإن هذا يعني أن قدرًا كبيرًا من الذهب الموجود في أي حُلِي نمتلكها
صُنِّعت عند تصادم نجمَين نيوترونيَّين واندماجهما.
هوامش