الاحتمال المستبعد السابع: جميع الكائنات المعقَّدة الحالية على الأرض تنحدر من خلية واحدة
توجد ثلاثة أنواع من الكائنات على الأرض، كل نوع مختلف عن النوعَين الآخرَين من حيث المستوى الأساسي للخلية. النوع الذي نراه جميعًا من حولنا — أي الأشجار والبشر وعش الغراب وثعابين البحر — يتألَّف بالكامل من خلايا معقَّدة لها مركز داخلي، هو النواة، يحتوي على الحمض النووي الذي يحمل المعلومات الأساسية للكائن، وذلك الحمض محوط بكيس من مادة هلامية يحدث بداخلها تفاعل كيميائي مثير، وكل ذلك متماسك معًا داخل جدار خلوي. تلك الخلايا تسمَّى الخلايا الحقيقية النواة. وكل تلك الكائنات المعقَّدة تنحدر من خلية واحدة تشكَّلت عن طريق اندماج خليتَين أبسط منذ بضعة مليارات من السنين.
لقد ذكرتُ هذا من قبل، وذكرتُه في عنوان هذا الفصل. ولكنه اقتراح مستبعد، وحَرِي بي أن أتحدَّث عنه للمرة الثالثة، مصداقًا لقول حامل الجرس في قصيدة لويس كارول «صيد السنارك»: ما أخبرك به ثلاث مرات صحيح. «كل الكائنات المعقَّدة على الأرض اليوم وفيها أنت وأنا وثمرة الموز تنحدر من خلية واحدة»، وليس المعنى أن كلًّا منا ينحدر من خلية واحدة تشكَّلت وقت الحمل، بل من خلية واحدة تشكَّلت بفعل حَمْل كوني حدث منذ ما يقرب من مليارَي سنة. وبذلك تكون كل النباتات وكل الفطريات وكل الحيوانات وكل الطحالب، كلها تنحدر من خلية واحدة. وكما يُحب أن يُشير علماء الأحياء التطوُّرية، لا يوجد فرق واضح بين خلية فطر وخلية إنسان. فالخليتان كلتاهما تعمل بالطريقة نفسها، حيث تنقل المعلومات المشفَّرة في الحمض النووي من أجل تكوين البروتينات وما إلى ذلك، على الرغم من أن الكائنات التي تتكوَّن منها لها أنماط حياة مختلفة تمام الاختلاف (ما لم يكن لدى الإنسان عادات غريبة للغاية).
هذا الاكتشاف مذهل لدرجة أنه يجعل الاكتشافات ذات الصلة المذهلة في حد ذاتها أيضًا تبدو شبه عادية. ولكنها ليست كذلك. المفاجأة الأولى هي وجود نوعَين من الخلايا بالفعل يُطلق عليهما مجتمعَين بدائيات النوى، وكلاهما يفتقر إلى النواة المركزية التي تمثِّل السمة المميَّزة لحقيقيات النوى. لكن الفرق بين هذَين النوعَين من الكائنات الوحيدة الخلايا (لأن هذه هي ماهيتهما) لم يتَّضح حتى سبعينيات القرن العشرين. وقبل ذلك الوقت، صُنفت كل بدائيات النوى ضمن فئة البكتيريا، على الرغم من اكتشاف وجود بعض أنواع غير مألوفة من البكتيريا. ومع تطوُّر تقنيات دراسة المادة الجينية للخلايا، جُمِّع العديد من هذه «البكتيريا» غير المألوفة في مخطط تصنيفي واحد، وأُطلق عليها اسم البكتيريا القديمة؛ نظرًا لوجود اعتقاد بأنها أقدم من البكتيريا، وتُعَد من ناحية ما من أسلاف البكتيريا الحالية؛ لكن عندما تبيَّن أن أصول البكتيريا تعود إلى ذلك الوقت، أُسقط القسم الثاني من الاسم، وتعرف الآن ببساطة باسم العتائق. لم يُسهم هذا في توضيح الأمور بالكامل؛ لأن تحليلات الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي تُبيِّن أن العتائق والبكتيريا متساويتان من حيث العمر. ومن هنا تبرز مفاجأة أخرى.
يأتي أقدم دليل على وجود حياة على الأرض من صخور عمرها ٣٫٨ مليار سنة تقع في جنوب غرب جرينلاند. تُعَد هذه الأدلة بمثابة «توقيعات» كيميائية لأشكال الحياة وليست أحفوريات، ولكن قبل ٣٫٢ مليار سنة، كانت أشكال الحياة فيما يُعرف الآن بأستراليا تترك آثارًا أحفورية أصلية. وتقريبيًّا، بدأت الحياة على الأرض منذ نحو أربعة مليارات سنة؛ أي بعد نشأة الكوكب بنصف مليار سنة فقط. وقد دبَّت الحياة على الأرض «مرتَين».
تَكشَّف الكثير بعد إجراء دراسات تفصيلية لآليات العمل الداخلية للعتائق والبكتيريا. فعلى النطاق الأشمل (أي فيما يتعلَّق بالخلية)، تشترك العتائق والبكتيريا في أقل من ثلث جيناتها. وعلى مستوًى أكثر تفصيلًا، نجد أن بِنية جدار الخلية فيهما مختلفة، والدليل الأهم من بين كل الأدلة هو اختلاف الطريقة التي ينسخ بها النوعان الحمض النووي عند انقسام الخلية من أجل تكوين خلايا جديدة. يستخدم النوعان الشفرة الجينية نفسها، ولكنهما ينسخانها بطرق مختلفة. وهذه اختلافات عميقة للغاية، والقول إن كِلا النوعَين يمكن أن يكون قد انحدر من سلف مشترك «يخالف المنطق» على حد تعبير عالِم الكيمياء الحيوية نيك لين. لا بد أن كل نوع قد نشأ بمعزل عن الآخر، ولكنهما ينحدران من نوع «الحساء» الكيميائي نفسه، وهو ما يفسِّر أوجه التشابه بينهما. كان الافتراض الذي طرحه لين وآخرون في ذلك الشأن هو أن هذا ربما يكون قد حدث بالقرب من الفتحات الساخنة في قاع البحر حينما كانت الأرض حديثة النشأة، فيما حفَّزت الطاقة المنبعثة من هذه الفتحات العمليات الكيميائية التي كوَّنت مواد معقدة مثل البروتين والحمض النووي الريبوزي قبل أن تتكوَّن الخلايا؛ وهي عبارة عن دفق من الطاقة يتيح للإنتروبيا «السير في اتجاه عكسي» كما ذكرنا سابقًا. ثمة افتراضات أخرى — ناقشتُ أحدها في كتابي «سبعة أعمدة للعلم» — ويبدو أننا لن نعرف أبدًا ما حدث عندما بدأت الحياة على كوكب الأرض. ولن نعرف أيضًا أبدًا ما إذا كانت الحياة قد دبَّت على الأرض مرتَين أم لا؛ فربما كان هناك بدائيات نوًى أخرى لم ينحدر منها نسل في الوقت الحاضر. لكن ما نعرفه هو أنه منذ ما يقرب من ٤ مليارات سنة، وحتى وقتنا الحاضر، كان هناك نوعان مختلفان من الكائنات أحادية الخلية على الأرض. وهذا يجعل النوعَين كائنات ناجحة إلى حد بعيد في البقاء، ولكن لأننا لا نعرف مفهوم العتائق مثلما نعرف البكتيريا، فالأمر يستحق أن نوضِّح كيف نجحت العتائق في البقاء.
يتراوح قُطر خلايا البكتيريا النمطية بين ٠٫٢ و٢٫٠ ميكرومتر، وإن كان بعضها طويلًا ورفيعًا، والعتائق لها الحجم نفسه إلى حد كبير. أول العتائق التي حُدِّدت تعيش في بيئات قاسية مثل الينابيع الحارة والبحيرات المالحة، حيث لا يمكن لأي كائنات أخرى أن تحيا. ولكن المعروف في الوقت الحاضر أنها تعيش في كل مكان تقريبًا، ويشيع وجودها بالذات في المحيطات، حيث تُشكِّل نحو خُمس إجمالي الخلايا الميكروبية. وتُعَد العتائق المنتمية لفصيلة العوالق من أكثر الكائنات وفرة على الأرض. وقد أدَّى تنوُّع العتائق إلى منحها أهمية حيوية في العديد من الأدوار في البيئة؛ منها تثبيت الكربون ودورة النيتروجين. كذلك تمثِّل العتائق جزءًا من «البيئة الداخلية» لحقيقيات النوى — «الميكروبيوم» أو مجهريات البقعة — كما أنها تعيش في جسم الإنسان في الأمعاء والفم وعلى البشرة وجميع المواضع، حيث تدخل في العديد من العمليات التي تساعد في استمرار وظائف الجسم. ولكن على عكس البكتيريا، لا توجد عتائق معروفة تسبب الأمراض. بل يبدو، في الحقيقة، أن العتائق تمتاز بمهارة شديدة في التعايش مع أشكال الحياة الأخرى. ويطلق على العديد منها كائنات تكافلية؛ إذ تنشئ علاقات قائمة على المنفعة المتبادلة مع الكائنات الأخرى من دون أن يتضرَّر أي منها من الآخر، بينما تُعرف أخرى بأنها متعايشة؛ إذ إنها تستفيد من علاقة ما، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولكن دون مساعدة رفاقها أو الإضرار بها. والمثال الكلاسيكي للنوع التكافلي عتائق تسمَّى العتائق الميثانوجينية، التي تشكِّل نحو ١٠ بالمائة من إجمالي بدائيات النوى التي تعيش في أمعاء الإنسان، وتتفاعل مع الميكروبات الأخرى للمساعدة على الهضم. يوجد هذا النوع من العتائق أيضًا في أنواع أخرى، ويُسفر نشاطها عن إنتاج الميثان مثلما يتبيَّن من اسمها. ولكن ما هو أهم من ذلك أن نزوع العتائق إلى التكافل والتعايش يشير إلى شيء آخر، ألَا وهو سبب وجودنا هنا. لأكثر من نصف فترة وجود الحياة على الأرض، لم يكن هناك كائنات حقيقية النوى لتتنافس على لقب أنجح أشكال الحياة على الأرض. لكن بعد ذلك حدث شيء ما.
لا ينبغي الظن بأن الحياة كانت تسير في سلام وهدوء إلى أن جاءت السلالة البشرية إلى الوجود. فحتى على مستوى الخلايا الفردية، كانت الكائنات تتنافس بعضها مع بعض من أجل الموارد، وكانت الطفرات الجينية تُفرز أنواعًا جديدة ربما تأثَّرت بالانتقاء الطبيعي. وتطوَّرت الحياة. وفي خضم التنافس على الموارد، كان من إحدى الطرق التي كانت الخلية تستخدمها كي تضع أيديها، مجازًا، على المؤن الجديدة هي التهام خلية أخرى — أو ربما اندماج خليتَين معًا لتجميع وتوحيد مواردهما. وقد صار واضحًا الآن أن تلك الأحداث وقعت مرة على الأقل منذ ما يقرب من مليارَي سنة، عندما التهمت العتائق نوعًا معيَّنًا من البكتيريا، ما جعلها تحتفظ بنوع من الاستقلالية داخل الخلية المندمجة، ومِن ثَم أصبحت سلفًا لجميع حقيقيات النوى. أمَّا فيما يتعلَّق بأصل الخلايا، فربما وقعت أحداث مثل هذه أكثر من مرة، ولكن التشابه في المادة الجينية لجميع الكائنات المعقَّدة على الأرض اليوم يوضِّح أن اندماجًا واحدًا فقط من هذا النوع أفرز تلك السلالة التي استطاعت البقاء.
تكشَّفت خيوط الأحداث التي وقعت وكيفية وقوعها بترتيب عكسي؛ إذ بدأت بدراسة خلايا الكائنات الحية في الوقت الحاضر ومعرفة ماهيتها في الماضي. بدأت تلك الدراسات على يد عالِمة الأحياء الأمريكية لين مارجوليس في أواخر ستينيات القرن العشرين. كان اهتمامها منصبًّا على الميتوكوندريا بوجه خاص، وهي عبارة عن بِنًى (عُضَيَّات) على شكل حبات الأرز، ويبدو أنها تتمتَّع بوجود شِبه مستقل داخل الخلايا الحقيقية النوى، وتعالج الطاقة التي تستخدمها الخلايا. تحمل هذه الكائنات الوقود (أو الطعام) الوارد إلى الخلية بصورة يومية، وتُتيح له الاندماج مع الأكسجين (الحرق) لإطلاق الطاقة (التنفُّس). اكتُشفت هذه المكوِّنات للخلية في نهاية القرن التاسع عشر، وطرحت فرضيات تفيد بأنها بكتيريا حقيقية تعيش في علاقة تكافلية داخل الخلايا. يوجد وضع مشابه في الخلايا النباتية، حيث تجمع العُضَيَّات — المعروفة باسم البلاستيدات الخضراء — الطاقة من أشعة الشمس وتحوِّلها إلى طاقة كيميائية تُستخدم لدمج المياه مع ثاني أكسيد الكربون لتكوين المادة العضوية (عملية البناء الضوئي). وبات واضحًا أن البلاستيدات الخضراء تتشارك العديد من الخصائص مع بكتيريا الزراقم أو البكتيريا الزرقاء، وهي كائنات دقيقة تعيش في المياه، ويبدو أنها نشأت منها. مع تطوُّر التقنيات المتاحة لدراسة الحمض النووي، دُعمت هذه الأفكار باكتشاف أن الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء لها حمض نووي خاص بها يختلف عن نظيره في الخلايا التي تسكنها. ومنح هذا علماء الأحياء التطورية أداة إضافية للبحث في العلاقات بين الأنواع في الماضي والحاضر. وتبيَّن أن الحمض النووي للبلاستيدات الخضراء لا يختلف عن الحمض النووي لبكتيريا الزراقم بالفعل، في حين أن الحمض النووي للميتوكوندريا يشبه الحمض النووي لمجموعة من البكتيريا تضم (وإن كان ذلك قد يبدو مستبعدًا) تلك التي تسبِّب الإصابة بالتيفوئيد. لكن هذه العناصر من الخلية لا تمتلك سوى بعض من الحمض النووي لأسلافها، وهذا لا يكفي ليتيح لها أن تحظى بوجود مستقل خارج بيئة الخلية؛ إذ إن ذلك محكوم إلى حد كبير بالمادة الوراثية في نواة الخلية.
إن النظرية القائلة إن الخلية الحقيقية النواة عبارة عن اتحاد تكافلي من الخلايا البدائية النوى … لهي واحد من أعظم إنجازات علم الأحياء التطوُّرية في القرن العشرين، وأنا أُكن لها إعجابًا كبيرًا.
عندما بدأت مارجوليس دراستها، كان من الطبيعي أن تفترض وجود اندماجات بين أنواع مختلفة من البكتيريا؛ لأن أهمية العتائق لم تكن قد اكتُشفت بعد. ولكن الآن بات واضحًا أن الشريك المهيمن في الاندماج الأولي كان نوعًا من بكتيريا العتائق. فالخلايا الحقيقية النوى تنبثق من اندماج بين مسارَين منفصلَين تمامًا لتطوُّر الخلايا.
تستخدم خلايا الكائنات المعقدة قدرًا كبيرًا من الطاقة. والعملية الأساسية التي تحافظ على عمل الخلايا — بمعنى إبقائها حية — هي تحويل المعلومات في الشفرة الوراثية المختزنة في الحمض النووي إلى بروتينات تقوم بعمل الخلية وتوفِّر بنية للجسم. وتلك العملية تستهلك ثلاثة أرباع «ميزانية» الطاقة للخلية النمطية، سواء كانت من بدائيات النوى أو حقيقيات النوى. وكلما زاد عدد الجينات، زاد تعقيد الكائن. لكن عدد الجينات مقيَّد بتوافر الطاقة. وتذكَّر أنه في كل مرة تنقسم فيها خلية وتتضاعف، ينبغي نسخ الجينوم بأكمله لتوفير مجموعة من المعلومات لكل خلية متولِّدة، وتلك العملية أيضًا تتطلَّب طاقة. يوجد حوالي ٥٠٠٠ جين مختلف في الكائن البكتيري النمطي. لكن في «أصغر» كائن من حقيقيات النوى، يوجد حوالي ٢٠٠٠٠ جين. وتحتوي الخلية الحقيقية النواة المتوسِّطة على عدد جينات يفوق الخلية البدائية النواة بمقدار ٢٠٠٠٠٠ جين. ويعود الاختلاف بالكامل إلى توافر الطاقة، وذلك بفضل وجود الميتوكوندريا. وتأسيسًا على الافتراض التقريبي الجاهز بأن كل جين يحتاج إلى الكم نفسه من الطاقة، فإن محتوى الخلية الحقيقية النواة من الطاقة يفوق محتوى الخلية البدائية النواة بمقدار ٢٠٠٠٠٠ ضعف، ويتم توصيل تلك الطاقة أينما ووقتما تحتاج إليها الخلية.
ويعمل هذا على تحقيق عدة فوائد. أولًا: يُتيح للخلية عمل نسخ إضافية من الجين، وهو أمر لا مفر من حدوثه مع توافر المزيد والمزيد من الطاقة؛ يمكننا أن نتخيَّل آليات النسخ لدى حقيقيات النوى الأولى وهي تقوم بعملها، كأنها المكانس السحرية التي تحمل دِلاء الماء في فيلم «فانتازيا» الذي أنتجته شركة ديزني؛ نظرًا لعدم وجود طريقة لإخبارها بأن تتوقَّف. ولا تسير عملية النسخ على نحو مثالي وتام على طول الخط؛ لذا سيكون ثمة أخطاء في النسخ من وقت لآخر — الطفرات الجينية — ما يوفِّر المادة الخام لإصدارات جديدة من تلك الجينات، وفي النهاية تتكوَّن جينات جديدة بفعل الانتقاء الطبيعي. كل جين إضافي يحتاج إلى الطاقة، ولكن لا مشكلة في توصيل تلك الطاقة بفضل الميتوكوندريا. كذلك يؤدِّي توافر المزيد من الطاقة إلى تسريع التطوُّر. ثانيًّا: عندما لا يعود الجينوم بحاجة إلى الذهاب إلى مصدر الطاقة، يمكن تخزين الجينات في قلب الخلية — في النواة — حفاظًا عليها من الأذى ولترك مساحة لآلية الخلية حتى تباشر عملها. لا بد أن هذا التطوُّر نفسه كان نتاجًا للتطوُّر الذي يحفِّزه توافر الطاقة، ولكن من غير المُحتمل أننا سنعرف الطريقة التي حدث بها هذا التطوُّر بالضبط. في غضون ذلك، فقدَت أسلاف الميتوكوندريا الجينات التي مكَّنتها من البقاء على قيد الحياة خارج البيئة الخاصة بالخلية المضيفة لها، ولكنها احتفظت بالخلايا التي اشتركت في معالجة الطاقة. وتطوَّرت تلك الخلايا أيضًا حتى تُزيد كفاءتها في توفير تلك الطاقة. والمنتج النهائي هو الخلية الحقيقية النواة كما نعرفها اليوم. لكن ماذا كان «المنتج» الأولي؟ وكيف يمكن أن نتأكَّد أنه لم تكن هناك بالفعل سوى خلية واحدة هي التي أصبحت سلفًا لجميع الكائنات الحقيقية النوى على الأرض في الوقت الحاضر؟
ذهب لين (وهو ما لم يقبله الجميع، ولكنه يبدو مستساغًا لي) إلى أنه منذ ما يقرب من مليارَي سنة (قبل أن تنتقل أشكال الحياة إلى اليابسة)، كانت هناك مجموعة من العتائق تعيش في المحيط، ومجموعة من البكتيريا تعيش بجانبها. بقيت المجموعتان على مقربة شديدة؛ نظرًا لوجود مصالح متبادلة بينهما، أو على الأقل مصالح لطرف واحد من طرفَي العلاقة. وافترض أن إحدى المجموعتَين ربما كانت تتغذَّى على فضلات المجموعة الأخرى، ولكنه لم يقدِّم ذلك إلا كتخمين. ولو أن شيئًا من هذا القبيل قد حدث، كان المستفيد — ولنقل البكتيريا — لينمو ويزدهر على نحو أفضل كلما اقترب من مصدر الطعام؛ أي العتائق. وفي مرحلة ما — على الأقل مرة واحدة — اقتربت واحدة من البكتيريا بشدة من أحد العتائق حتى إنه احتضنها بداخله، دون أن تُلتَهم (على عكس المُحتمل). فقد صُفِح عن المعتدي؛ لأنه لم يتسبَّب في أي أذًى، ومِن ثَم ازدهرت تلك البكتيريا نظرًا لتوافر أي فضلات تحتاج إليها حولها. ونظرًا لزيادة اعتمادها على ذلك المصدر، فقدت الجينات التي لم تَعُد بحاجة إليها، وصارت ببساطة مركز قوة.
لا توفِّر الميتوكوندريا الطاقة للخلية فحسب. بل توفِّرها بطريقة محكمة. الأمر الذي يعيدني إلى المناقشة الخاصة بالفوضى والتعقيد. تقف أشكال الحياة على مشارف نقطة التوازن وليس عندها تمامًا، ما يغذِّي تدفُّقًا للطاقة. في الخلية الحقيقية النواة، تتحكَّم الميتوكوندريا في ذلك التدفُّق. إذا كان التدفُّق بطيئًا للغاية (كتدفُّق المياه بسلاسة وراء صخرة في نهر)، نقترب أكثر من نقطة التوازن ولا يحدث شيء مثير للاهتمام، حيث تتوقَّف الكيمياء الحيوية وتموت الخلايا. أمَّا إذا كان التدفُّق سريعًا (مثل إعصار يعصف بصخرة)، فإننا نجني فوضى وتتعطَّل المسيرة السلسة للعمليات الكيميائية الحيوية في الخلية. ما يعني موتها. نحن وجميع الكائنات الحقيقة النوى نعتمد اعتمادًا كليًّا على الميتوكوندريا في الحفاظ على التوازن المتذبذب بين هذَين الشكلَين للموت.
ما الذي يخبرنا به كل هذا عن احتمالات وجود حياة في مكان آخر من الكون؟ الخبر السار أنه لو كان قد تواجد نوعان مختلفان من الكائنات الخلوية على الأرض بمجرَّد أن بردت حرارة الكوكب، فإن فُرص وجود حياة على كواكب أخرى عالية بلا شك. والخبر السيئ أنه لو كان الأمر قد استغرق مليارَي سنة قبل أن يحدث لقاء قدَري بين خليتَين بدائيتَي النواة، وأدَّى هذا اللقاء إلى نشأة كائنات حقيقية النوى، فلا بد أن فرص وجود مثل تلك الحياة المعقَّدة على الكواكب الأخرى ضئيلة للغاية. وربما تكون أقل ممَّا يبدو للوهلة الأولى. لقد تمَّ هذا اللقاء القدَري بين شكلَين مختلفَين من الكائنات البدائية النوى، حيث جلب كل منهما حِزم الجينات المميزة له وأدخلها في عملية الدمج. وقد أسهم ذلك على الفور في إعطاء أُولى حقيقيات النواة جينومًا أكثر تعقيدًا والمادة الخام اللازمة للعمليات التطوُّرية كي تعمل عليها. إذا كنت تريد أن يندمج نوعان مختلفان من الخلايا البسيطة من أجل إنتاج ذلك النوع من الكائنات المعقدة التي أدَّت في النهاية إلى وجودنا، فستصبح فرص وجود كائنات معقَّدة مثلنا على الكواكب الأخرى ضئيلة لدرجة أنها تكاد لا تُرى. وحتى على مستوى الكون، فإن وجودنا مستبعد إلى حد بعيد. وحتى التعقيد لا يشير بالضرورة إلى تطوُّر نوع الكائنات الذكية الذي ننتمي إليه. فبعد مليارَي سنة من تطوُّر الحقيقيات النوى، تطلَّب الأمر مجموعة من الظروف المستبعدة لتحويل قرد أفريقي إلى «هومو سابين» (الإنسان البدائي العاقل).