النوم والأرق
لعلَّ أكثر الأشياء اتِّصالًا بحواسِّ الإنسان أكثرها غموضًا عليه، ولعلَّ النوم هو أكثر ما نألفه من هذه الأشياء جميعًا، ومع ذلك فقلَّ أن يوجد من الناس من يستطيع أن يشرح في دقة سبب ميلنا إلى الإغفاء واستسلامنا في آخر الأمر إلى النوم.
ويُفهَم من لفظ النوم دائمًا «حالة اللاوعي الطبيعية» التي يصل إليها الشخص السليم، وهي حال تكون فيها الجفون مُطبقة على الدوام، وتلحظ فيها مظاهر أخرى فسيولوجية، سنُشير إلى بعضها فيما يلي من صفحات الكتاب.
والنوم الصحي في الواقع نتيجة اجتماع عدة حالات أو عوامل كما يسمِّيها المختصُّون، وأوضح ما يعرفه الناس عن النوم هو أن الإنسان يكون فاقد الوعي طوال مدته، وما الحلم إلا تعطيل حالة اللاوعي أو السبات هذه إلى حد قليل أو كثير.
فالنوم إذن من الناحية العقلية أو النفسية حالة من اللاوعي تتكرَّر بانتظام في كل أربع وعشرين ساعة، وتستمر ما بين ست ساعات وثمان. إلا أنَّ هذه الحال من حالات اللاوعي تتصل بحال من سكون المخ؛ أي عدم نشاطه، ونعني بالمخ هنا أكثر أجزائه نظامًا؛ أي القشرة المخية، وهي مركز الإدراك، فهي إن كانت نشيطة قائمة بعملها كان الوعي، وإن كان نشاطها جزئيًّا أو كانت ساكنة سكونًا كاملًا انعدم، أو صحبته يقظة غير كاملة. فالنوم لا يُطلَق بحقٍّ إلا على عضو الإدراك؛ ولهذا نرى الحيوانات التي انتُزعت أمخاخُها لا تنام أبدًا، وكل جزء مِن الجهاز العصبي واقع أسفل مستوى قشرة المخ لا يَصِّح أن يُقال عنه إنه ينام فعلًا؛ فمِن المؤكَّد أن مركز التنفُّس في بصلة المخِّ يقوم بعمله المعتاد بانتظام في أثناء النوم، إلا ما استطعنا أن نتنفَّس على الإطلاق، فما سمعنا أن كائنًا مَن كان قد اختنق في أثناء نومه، والمراكز الأخرى في هذا الجزء من المخ كالتي تتحكم منها في القلب أو في الأوعية الدموية أو في غدد الهضم، تؤدِّي كلها وظيفته العضوية في أثناء النوم، وإن كان من المحتمَل ألا يكون عملها كاملًا كما يكون في حالة اليقظة. أمَّا المراكز العصبية في النُّخاع الشوكي فتكون أثناء النوم في حالة راحة لا حالة «نوم»، ويتَّضح ذلك من أن أفعالًا عاكسة يمكن حدوثها وقتئذٍ بواسطة هذه المراكز، فاللص في بلاد الهند يحتال على سرقة الحشية من تحت النائم بأن يَجذبها إليه تدريجًا وفي رفق وأناة، ويحدث عند كل مرة يجذبها فيها اضطراب في موضع الجسم، يعقبه رد فعل عضلي يَعدل به الجسم نفسه إلى وضعه الجديد عقب انتقاله من الحشية إلى الأرض، ويحدث ذلك كله من غير أن يَستيقِظَ النائم.
وفي أثناء النوم تكون أنسجة الجسم جميعها أقلَّ نشاطًا مما هي في حالة اليقظة، فتبطئ دقات القلب وتضعف، ويكون التنفُّس أقلَّ عمقًا، والمعدة تتخلص في بطء مما بها، والبول تنقص كمية ما يفرز منه، وهذا النقص في عمل الأنسجة ينشأ عنه انخفاض كبير في الحرارة الحيوانية التي تتولد في كل ساعة من ساعات النوم بالنسبة لما يتولَّد منها في اليقظة، فتهبط إلى الثلث تقريبًا (تنزل من ١٣٠ سُعرًا في الساعة إلى ٤٠ سُعرًا).
وتتولَّد معظم هذه الحرارة الحيوانية في العضلات، ويتولَّد منها في النوم أقل ما يتولد في اليقظة، ولكن الجلد مع ذلك يظل يفقد حرارته أثناء النوم بالقدر الذي يفقده في يقظته؛ ولهذا كان لا بدَّ من أخذ الحيطة ليكون الغطاء مُدفئًا وإلا فقدنا حرارة أجسامنا سريعًا فأصابنا البرد، ومن أجل هذا كان الخطر شديدًا على من يَستسلم للنوم دون أن يَحسِبَ لهذه الحرارة وهبوطها أثناء السُّبات حسابًا. ويُطلَق على الموت الذي مردُّه إمَّا هبوط هذه الحرارة هبوطًا سريعًا أو ضياعها ضياعًا مُتواصِلًا اسم «موت التعرُّض للعوامل الجوية»، وهو يُصيب الغرقى ومدمني الخمر الذين يَنامون في الخلاء، والذين يُعرِّضون أنفسهم للبرد القارس في منطقتي القطب الشمالي أو الجنوبي مثلًا، أو في أعالي الجبال وما إلى ذلك؛ ولهذا كان من الضروري أن يكون الغطاء مكوَّنًا من البطاطين وما شابهها من الأغطية الرديئة التوصيل للحرارة؛ حتى تُصان الحرارة الحيوانية من الضياع.
وليس لنا في النوم حيلة أو خيار، فهو أمر لا بدَّ للإنسان منه، كما لا بُدَّ أن يأكل ليعيش. بل إن فقدان النوم أشدُّ خطرًا عليه من فقدان الغذاء، وقد أيَّدت ذلك التجاريب التي أُجريت على الحيوانات، كما أيَّدته الأعراض التي شُوهدت على الناس في أوقات المجاعات وفي الأوقات التي حُرِموا فيها من النوم؛ فقد كان الجنود في الحرب العظمى يجدون حرمانهم من النوم أشق عليهم من حرمانهم من الطعام. وإذن فالنوم في حقيقة أمره بعض الطعام، وقد لوحظ أن المرء بعد أن يستيقظ من نومه المعتاد، وبعد أن يكون قد انصرف عن الطعام ثماني ساعات، يجد نفسه أقل جوعًا منه لو قضى هذه المدة مستيقظًا، وقد صوَّر شيكسبير هذه الناحية من النوم تصويرًا دقيقًا في رواية مكبث، حيث يصف النوم بقوله: «إنه الصِّنف الثاني من أصناف الطعام التي تقدمها لنا الطبيعة العظيمة، وإنه الغذاء الرئيسي في وليمة الحياة.»
ولقد أثبتت التجارب التي أُجريت على صغار الكلاب أنها تموت بعد خمسة أيام إن حُرِمَت من النوم ولم تُحرَم من الطعام، وأنها تموت بعد عشرين يومًا إن هي تمكَّنت من النوم وَفْق هواها وإن مُنِع عنها الطعام.
ولا حاجة إلى القول بأنَّ نقص القوة العضلية هو سبب تلك الظاهرة المألوفة، ظاهرة انحناء رأس الإنسان على صدره حين يَغفو وهو جالس، ومن المعلوم أيضًا أن النائم في الأحوال العادية لا يستطيع أن ينام وهو مُنتصِب القامة، كما لا تستطيع جثة رجل ميت أن تقف منتظمة على قدميها. على أن النوم قد يحدث في أحوال قليلة غير عادية والنائم واقف دون أن يختلَّ توازن الجسم، وفي استطاعة بعض الحيوانات أن تنام أو أن تكون في حالة شبيهة بالنوم عند الإنسان من غير أن تسقط على الأرض، وهذا يَصدُق على الطيور وعلى بعض ذوات الأربع. وتنام الطيور المائية وهي جالسة على سطح الماء، ويستطيع طائر اللقلق أن ينام وهو واقف على ساق واحدة؛ لأنَّ في ركبة هذا الطير جهازًا «يغلقها» ويمنعها أن تنثني. وكلنا يعرف أن في مقدور الحصان أن ينام وهو واقف، وما من شك في أن الحيوانات الدنيا لا تفقد قواها العضلية في أثناء النوم بالقدر الذي يفقده الإنسان، ولعل لهذا صلة بما هو معروف من أن نومها أقل عُمقًا من نومه، وفي وسع الكلب أن ينام وإحدى عينيه مفتوحة، ويقول علماء الحيوان إن خنازير غانا لا تنام أبدًا.
وتنام صغار الحيوانات التي لم يتم نموها زمنًا طويلًا، ولعلَّ السبب في هذا أن عملية بناء الأنسجة عند صغار الحيوانات أعظم قوةً من عملية تحليلها. وعملية البناء في المخ تقابلها حالة من حالات اللاوعي، وفي أثناء النوم تظلُّ عملية إصلاح الجهاز العصبي المركزي قائمة، ويَستريح الجهاز ويزول عنه ما عاناه من التعَب، ومن ذلك تُدرك مقدار ما يُصيب هذا الجهاز من الضرر بسبب الأرق الطويل، وفيه يُحرَم الدم والأنسجة من الماء إلى حدٍّ ما؛ ولهذا يغلظ الدم فتُبطئ دورته في الجسم وتقل شهية الطعام.
وبين النوم والموت فارق كبير من الناحية الفسيولوجية؛ فالنوم هو استعادة القوة الحيوية، في حين أن الموت هو انعدام هذه القوة، ونحن نَنام لنستيقظ، ونستريح في الغفوة لنُجيد العمل في اليقظة.
وأعمق ما يكون النوم في الساعة الأولى منه، وهو أقل منه بعض الشيء في الساعة الثانية، وأخفُّ من ذلك كثيرًا في الساعات التالية جميعها في الأحوال العادية. وقد وصل إلى ذلك علماء وظائف الأعضاء بقياس شدة الأصوات أو الصدمات الكهربائية اللازمة لإيقاظ النائم، ولما كان أكثر النوم إنعاشًا للجسم هو أعمقه، وهو الذي يحدث في الساعة الأولى منه، فقد سُمِّيَ «نوم الجمال».
وفي وسعنا أن نُسمِّي هذا السبب من أسباب النوم أو هذا النوع من أنواعه بالسبب الكيميائي، وقد وصفه بعضهم بقوله: «إننا نُخمد جذوة مخِّنا برماد نارِ يقظتنا.» ولدينا كثير من الشواهد على هذا النوم الكيميائي الأصل الناشئ من التعب الشديد، من ذلك أن بعض رجال المدفعية في الأزمنة «الطيبة الماضية» كانوا ينامون من فَرط تعبهم بجوار مدافعهم التي تظلُّ تنطلق بجوار آذانهم.
ومما يتَّصل بعامل التعب هذا الأرق الناشئ من فرط التعب المانع من النوم، وقد يكون منشأ هذا الأرق التعب أو الألم المسبِّب عن الإفراط في إجهاد العضلات أو الأربطة أو الأوتار، ولكن بعضه ينشأ دون شك من أن المواد التي تتكوَّن من التعب تهيج خلايا الحس بدل أن تُنيمها.
والعامل الثاني في حدوث الأرق عام سلبيٌّ وهو انعدام الإحساس، وليس مِنَّا من لا يعرف أن خيرة وسيلة للنوم أن يأوي الإنسان إلى مكان مظلم، ويُغمض عينيه، ويَمنع قدر استطاعته الأصوات المنبِّهة أن تصل إليه من العالم الخارجي، وقلَّما ينام الإنسان في ضوء ساطع، أو في وسط ضجيج، أو إذا كان يتألَّم ألمًا شديدًا، بل لا بدَّ من منع التنبيهات جميعها أو إنقاصها إلى أدنى حد. ولقد سبق القول أن الإنسان لا تُهمُّه التنبيهات إذا كان مُتعَبًا تعبًا شديدًا، ولكن النوم المعتاد يُهيِّئ أسبابه قدرٌ مُعتدل من التعب وانعدام التنبيهات انعدامًا تامًّا قدر المستطاع.
وفي وسع كل تنبيه للحواسِّ أن يمنع عنَّا النوم، ومن أمثلة ذلك الألم، والبرد الشديد والحر الشديد، وخفة الغطاء أو ثقله أكثر مما يجب، وبرودة القدمين، سواء كانت هي برودة قدمي الشخص نفسه أو قدمي شخص آخر مُلامس له، من أسباب الأرق العادية.
وتنبيه الحواس تنبيهًا مُستمرًّا غير شديد يؤدي إلى النتيجة عينها التي يؤدِّي إليها عدم تنبيهها مطلقًا؛ فالقراءة على وتيرة واحدة، أو الوعظ بصوت مملٍّ إذا طال لا يشغل البال ويُصبح مجلبة للنوم، ومن المعروف أيضًا أن الإحساس الطويل بشيء ما إذا لم يَزِد أو ينقص في شدته — كملامسة الجسم للملابس، أو وجود الهواء الساكن حول الجسم في درجة حرارته — لا ينبِّه الإنسان مطلقًا، وفي وسع الإنسان لهذا السبب عينه أن يَنام وسط ضجيج القطار والباخرة ما داما سائرَين، حتى إذا وقفا استيقظ النائم من فوره، والتنبيه في هذه الحال هو الانتقال من صوت إلى سكوت، ومن أجل هذا يمتنع النوم عادة على الشخص الذي تعود أن يَنام في ضجيج المدن في أول ليلة ينتقل فيها إلى الريف، والمنبِّه في هذه الحالة هو عين المنبه في الحالة السابقة، وهو سكون الريف المخالف لضجيج المدن.
ومن الشواهد الأخرى على ما للإحساسات التي على وتيرة واحدة من أثر في جلب النوم السريرُ الهزَّاز الذي اختُرِعَ أخيرًا؛ ذلك أن رحالةً معروفًا قد وجد أنه ينام نومًا هادئًا في القطار، فأمر أن يُوضع له سرير يهتزُّ اهتزازًا رأسيًّا كاهتزاز القطار نفسه، والذي يحدث في هذه الحال هو أن الاهتزاز المتَّصل، وحدوثه على وتيرة واحدة، يصبح عديم الأثر في تنبيه المخِّ، فيبقى هادئًا حتى يغلبه النوم، وما من شك في أن هذا العامل نفسه هو سبب نوم الطفل في مهده الذي يهتزُّ اهتزازًا دائمًا خفيفًا.
وقد وصف ورد سورث الأرق المسبَّب عن هذا العامل الثالث أحسن وصف حين خاطب النوم بقوله: «إنك آخر مَن يُلبي النداء حين تشتدُّ الحاجة إليك.» ومن هذا النوع نفسه أرق المعتوهين الطويل؛ وذلك لأن اضطراب عقلهم وهذيانهم وما إليهما هو الذي يمنع عنهم النوم.
وقد لاحظ الأستاذ بلفوف أحد أساتذة لنينغراد أثناء بحثه فيما يسمُّونه «الأفعال العاكسة الشرطية» ميلًا غريبًا في الكلاب إلى النوم، وقد أجرى تجاربه عليها في النمط الآتي أو ما يشابهه: أظهر الأستاذ بعض اللحم للكلاب فسالت عصارتها المَعِدية، ودقَّ في الوقت نفسه الناقوس. وبعد أن كرَّر إظهار اللحم ودق الناقوس مرارًا كثيرة، وجد الأستاذ أنَّ العصارة المعدية تُفرَز إذا اقتصر على دقِّ الناقوس دون إظهار اللحم. وكان الكلب في العادة يُكافأ بإعطائه اللحم، ولكنه إذا لم يُعطَه بعد دقِّ الجرس فإنَّ العصارة لا تُفرَز وينام الكلب. ويُفسِّر الأستاذ هذا بأنه إذا مُنِع عن الحيوان ما يشغل باله في وقت من الأوقات، ولم يبق له ما يعيش من أجله إلى حين فإنه يَنام، وهذا مثل من أمثلة النوم الناشئ من عدم وجود حالة منبِّهة للعقل.
وفي وسعنا بعد ذلك أن نَنتقل إلى السبب الرابع من أسباب النوم، وهو نقص نشاط الدورة الدموية في المخ، فنقول: إن قيام أي جزء من أجزاء الجسم بوظيفته موقوف على وصول مقدار من الدم إليه، وإذا كان الجسم سليمًا فإنَّ العضو يزداد نشاطه كلما زادت كمية الدم التي تصل إليه، وليس المخ بخارج عن هذه القاعدة، فإذا نقص الدم الواصل إليه قلَّ نشاطه، ولا يزال يقل حتى يدركه النوم.
ولدينا شواهد مباشرة على أن ما يصل من الدم إلى المخ يَنقُص في أثناء النوم؛ فقد شوهد من خلال جُرح في جمجمة كلبٍ أن مخَّه — أو على الأصح الجوهر القشري لمخِّه — يصفرُّ لونه في أثناء النوم؛ وذلك أن العلماء نزعوا جزءًا من عظام جمجمة الكلب ووضعوا في مكانه قطعةً من الزجاج، فشاهدوا منها أن الكلب إذا نام لا يصفرُّ لون سطح مخه الخارجي فحسب، بل إنَّ مخه يَبتعد أيضًا عن قطعة الزجاج، وقد كان قبل النوم ملاصقًا لها، وما مِن أم إلا وهي تعرف أن في رأس الطفل جزءًا خاليًا من العظم يغطِّيه غشاء من الجلد ويُسمَّى يافوخًا، وهو يعلو ويهبط مع حركات التنفس، وكلما زادت كمية الدم في مخ الطفل علا هذا الغشاء بطبيعة الحال، ومِن السهل على كل إنسان أن يُشاهد هذا الغشاء يهبط في النوم ويعلو في اليقظة، وإذا صرَخ الطفل ومنع بصراخه الدم الذي في رأسه أن ينصبَّ بسهولة في قلبه، فإن الدم الذي احتُجِزَ بهذه الطريقة يسبِّب ارتفاع يافوخ الطفل.
وهناك شاهد آخر: إنَّ الشبكية التي في باطن العين قطعة من المخ نفسه، وإذا فحَص عن هذه الشبكية — بالمنظار العيني الخاص — شخص عارف مقدار ما يصل إلى عين المستيقِظ من الدم، وجد أن هذه الشبكية يحول لونها في أثناء النوم.
وفي وسعنا أن ندرس هذا التغير في توزيع الدم وقت النوم بطرُق أخرى غير هذه الطريقة؛ فنحن نعرف أن الجلد يحمرُّ لونه قليلًا في أثناء النوم، وأكثر ما يُلاحظ ذلك في جلد الأطفال وفي ذوي البشرة الشفافة، وهذا بلا شك منشأ القول المأثور «الجمال النائم»، لكنَّ زيادة الدم في الجلد يقابلها نقصه في المخ.
وليس الجلد هو وحده المكان الذي يذهب إليه الدم الذي غادر المخ؛ فقد يجد بعضه مكانًا له في الأعضاء الداخلية، وبخاصة في أعضاء الهضم، وشاهد ذلك ما يشعر به الإنسان من ميل إلى النوم بعد أكلة ثقيلة، وتفسير ذلك الشعور سهل هين؛ ذلك أنَّ المعدة وهي تشتغل بهضم الطعام تحتاج إلى كمية من الدم أكثر مما فيها وهي لا تعمل، وتأخذ هذا الدم من المخ.
وأكبر الظن أنَّ النوم الصحي يحدث نتيجة لفعل العوامل الأربعة التي شرحناها في هذا الفصل، فإذا كان العقلُ خاليًا من الأفكار والإحساسات التي تشغله كثيرًا وتُضايقه، وإذا كان المخ متعَبًا بعض الشيء قل الضغط في الأوعية الدموية التي في المخ ونام الإنسان.
فإذا امتنع شرط واحد من هذه الشروط الأربعة، وهي الشرط النفساني والإحساسي والوعائي والتعب، أدى انعدامه إلى الأرق، ولا حاجة إلى القول إنَّ حالةً من حالات الأرق قد تكون نتيجة لفعل عاملَين أو أكثر من هذه العوامل المانعة من النوم، فإذا كان الإنسان مُنفعلًا أثَّر انفعاله هذا في قلبه، فزاد نشاطه، وأدى ذلك إلى حالة من الأرق كان يكفي لإحداثها أحد العاملين وحده.
وكلنا يعرف أن في مقدور بعض الناس أن يَستيقظوا من نومهم في الوقت الذين يرغبون أن يستيقظوا فيه؛ فهم يحددون ساعة ما يَستيقظون فيها ثمَّ يستيقظون في هذه الساعة نفسها، وليس الوصول إلى هذه القدرة على تقدير الزمن مع فقد الإدراك بالأمر الصعب، بل هو أمر في غاية السهولة، ولسنا نحب أن نجزم بتفسير معين لهذه الظاهرة، ولكنا نقول أن بعضهم يفسِّرُ هذه القدرة بأنها مظهر من مظاهر عمل العقل الباطن أو النِّصف الواعي، وهذا يتطلب الافتراض أن العقل الباطن يستطيع أن يحسب ما يمر من الزمن، ولما كانت معلوماتنا اليقينية عن العقل الباطن قليلة جدًّا، فإنا نَستسمِح القارئ إذا لجأنا إلى تشبيه سهل نشرح له به هذه المسألة؛ فالعقل الباطن في هذه الحالة شبيه بساعة منبِّهة يُدار لَولبها قصدًا لتُملأ، وتُضبَط لكي تدق في وقت معين، وتظل عدتها «دائرة» حتى تَنطلق في هذا الوقت المحدد.
بقيَ علينا أن نقول كلمة قصيرة عن نوع آخر مِن النوم كان اليونان والرومان يسمُّونه «نوم الحضانة» أو «نوم المعابد»، وكان هذا النوم يُمارَس في بلاد اليونان وإيطاليا القديمتَين، فكان يؤتى بالمريض مُرتديًا ملابس بيضاء، وينوَّم في داخل أسوار المعبد، وكثيرًا ما كان يُستعان على ذلك بجرعة تُنيِّمه نومًا يتعرض فيه للأحلام، فإذا استيقظ في الصباح وقصَّ أحلامه إن كان قد رأى شيئًا منها فسَّرها له كاهن المعبد تفسيرًا يشير فيه إلى ما يجب عليه أن يتَّبِعَه من أنواع العلاج.