الأحلام
الحلم هو يقَظة الإدراك إلى درجةٍ ما في أثناء النوم، أو هو النتيجة العقلية لشيءٍ من النشاط في مركز من مراكز الإحساس في أثناء النوم. فالحلم إذن نشاطٌ عقلي خلال النوم، ومن أجل هذا لا يحلم الإنسان في أعمق أنواع النوم، والشخص الذي يحلم يسير في الحقيقة نحو استعادة إدراكه، وقد تَبلُغ بعض الأحلام درجة من الوضوح توقظ النائم من نومه، ويعتقد بعض الناس أن معظم الأحلام تحدث حين يأخذ عمقُ النَّوم في القِلة، وإن كان لدينا من الشواهد الكثيرة ما يدل على أن الأحلام قد تحدث في بداية النوم، ومن أشهر هذه الشواهد حالُ ذلك الرجل الذي أطفأ الشمعة وحلم أنه طاف حول العالم، ثمَّ استيقظ فوجد ذبالتها لا تزال محمرَّة.
ويؤكد علماء وظائف الأعضاء أنَّ منشأ الحلم من الوجهة العقلية هو قيام أحد مراكز الإحساس في المخ بوظيفته. وإذا أخذنا من الأحلام أكثرها حدوثًا وهو «الرؤيا» أي الحلم الذي يكون فيه مركز الإبصار هو الذي يقوم بعمله، استطعنا أن نوضِّح قولنا السابق أجلى وضوح.
وذلك أن مركز الإبصار في المخ لا يرى شيئًا في أثناء النوم الصحِّيِّ العميق؛ لأن العينين في ذلك الوقت تكونان مغمضتَين، فلا تصل للمخ تنبيهات عصبية من شبكية العين، ولكن السبب الفسيولوجي للرؤيا أو حلم المرئيات هو أن جزءًا من مركز الإبصار في المخ ينشط في الوقت الذي يكون فيه سائر هذا المركز ساكنًا، وهي الحال التي يجب أن يكون عليها وقتئذٍ.
والحلم الذي يكون فيه مركز الرؤية هو الذي يعمل يُسمَّى اهتلاسًا بصريًّا، وهو في حقيقة أمره إحساس، من غير أن يكون له أصل خارجي يَنبعث منه.
وإذن فكل حلم هو اهتلاس حسِّيٌّ لشخص عاقل نائم، ونقول لشخص عاقل نائم لأنَّ هناك اهتلاسات للمَجانين في يقظتهم، ومنها ما هو شديد الخطر عليهم.
وتكون العينان في النوم مغمضتين، والإنسان ينام عادةً في الظلام، ولكن الرؤيا تحدث وإن لم يوجد ضوء ينبِّه العين؛ لأن مركز الإبصار في المخ هو الذي يعمل وحده، ومعنى هذا أنَّ الرؤيا نشاط في مركز الإبصار لا يقابله نشاط في شبكية العين، وهي طرف العضو المختص بالإبصار، وذلك إحساس اهتلاسي؛ لأنَّنا لا نرى شيئًا مُطلَقًا إلا إذا انتقلت التنبيهات العصبية إلى مركز الإبصار.
وقد يسأل سائل قائلًا: إذا كانت العينان مغمضتين، وكان الإنسان في الظلام، فمن أين تجيء التنبيهات التي أيقظت مركز الإبصار ودفعته إلى العمل؟ والجواب أنَّ هذه التنبيهات ربما نشأت في الجلد أو العضَلات أو الأعضاء الداخلية، أو في مركز من مراكز الإحساس الأخرى غير مركز الإبصار. نعم، إن التنبيهات العصبية التي تنشأ في الجلد يجب أن تسيرَ بطبيعة الحال إلى المركز الذي يسجِّل الإحساسات الجلدية، ولكنها عندما تصل إلى هذا المركز تجده نائمًا، فلا تستطيع أن تدخله، فتتحوَّل عنه إلى مركز الإبصار وتصير هي الأساس الجثماني لحلم من الأحلام، وتسمى هذه بالتنبيهات «الزائغة»؛ لأنها زاغت أو حادت عن مركزها الخاص ودخلت مركز الإبصار، وقد دخلته لأنَّ الطرق الموصلة إليه ممهَّدة لسير التنبيهات أكثر من الطرق الموصلة إلى أي مركز من المراكز الأخرى، ويرجع ذلك إلى أنَّ مركز الإبصار يَضطلع بواجب هام، ولأنه أكثر دأبًا على العمل من سائر المراكز، وأنَّ لعمله فوق ذلك شأنًا عظيمًا في حياتنا اليومية، وأن الطريق إليه مفتوح مُيسَّر إلى حد كبير.
وفي وسعنا أن نُطلق على هذه التيارات أو التنبيهات التي تبعَث الأحلام اسم «باعثات الأحلام».
وقدس سُمِّيَ الحلم «رؤيا»؛ لأنَّ الكثرة الغالبة من الأحلام خاصة بالمرئيات، ولكن في استطاعة مركز السمع أن يحلم هو الآخر، فتسمع حينئذٍ أصوات الأشياء والناس والآلات الموسيقية.
وإذا كان التنبيه الذي يدخل مركز الإحساس في المخِّ قد جاء عن طريق عُضوِه الخاص، فبعث في هذا المركز نشاطه المعتاد سُمِّيَ الحلم في هذه الحال حُلمًا «ملتئمًا»، أمَّا إذا جاءه التنبيه من غير العضو الخاص به، فإن الحلم في هذه الحال يُسمَّى حُلمًا «غير مُلتئم»، ومعظم الأحلام التي تحدث في مركز الإبصار أحلام غير ملتئمة؛ وذلك لأن هذا المركز لا يمكن أن تصل إليه تنبيهات عادية والعينان مغمضتان في الظلام، وتَختلف العينان في هذه الحال عن سائر الحواس؛ لأنَّ في وسعنا كلما شئنا أن نمنعَ عنهما ما ينبههما؛ وذلك بإغماض الجفون، على حين أننا لا نستطيع أن نقفلَ آذاننا فنمنَع الأصوات الخارجية أن تدخلهما.
والأصوات على اختلاف أنواعها لا تَنقطع من العالم الخارجي في أثناء النوم، بل تحدث فيه على الدوام، وما أكثر حدوثها في حياة هذه الأيام، ولو أن الإنسان كان يسمعها كلها في أثناء النوم ويفسِّرها على حقيقتها لاستيقظَ من فوره. ومن أجل هذا فإن التنبيهات التي يتلقَّاها عصب السمع تصل في الغالب إلى مركز الإبصار، وتُحدث فيه حُلمًا «غير ملتئم»، ومعنى هذا — بعبارة أخرى — أنَّ الأصوات قد تُحدث أحلام رؤية كما يُحدثها اللمس.
والذي يَحدث في الواقع هو أنه إذا نبِّه مركز السمع أوَّلًا فإنه هو ومركز الإبصار يَحلمان، ويَحدث في هذا الحال حلم ملتئم مع أولهما وغير ملتئم مع الثاني. وهاك مثلًا من أحسن الأمثلة لهذا النوع من الأحلام: كان الصوت الخارجي صوت مطرقة منشؤه أنَّ عربةً كانت تُصلَّح في مستودع قريب للسيارات صباح يومٍ من أيام الصيف، وكانت نوافذ البيت المجاور له مفتوحة، وكانت تنام في البيت سيدة لم يوقظها صوت المطرقة، ولكنها حلمت أنها كانت مع جماعة في حفلة عشاء بأحد المطاعم، وأنها قد ضايقها وجود سيدة تَجلس إلى مائدة مجاورة لها، وتلبس سوارًا في معصمها تضرب به صفحة الطعام كلما حرَّكت يدها. لقد كان التنبيه في هذه الحال هو المطرقة، وقد تنبه مركز السمع أوَّلًا، ولكن مركز الإبصار مُشترك معه في العمل، وما من شك في أن غطيط النائم قد يكون منشأ أحلام له.
وقد يرى الإنسان في بعض الأحيان حُلمًا مرئيًّا ملتئِمًا من أوله إلى آخره؛ كما يحدث حين يحلم إنسان تسقط عليه أشعة الشمس المشرقة ولا توقظه إيقاظًا كامِلًا بأنه يرى لهبًا يخرج من أفواه غيلان. ولدَينا من ذلك حالة معروفة؛ وهي أن ضوء القمر قد سقط قويًّا على شخص نائم فحلم أنه يُعانق محبوبته أو «سيدة أحلامه» كما يسمِّيها الشعراء. وقد قيل: إنَّ أشعة الضوء التي تسقط على عيون أشخاص في غيبوبة الموت قد تجعلهم يحلمون بأنهم يرون خلائق نورانية — ملائكة — فتوقظهم هذه الأحلام من غيبوبتهم وتجعلهم يتحدَّثون عن «تفتُّح أبواب السماء».
لقد قصرنا حتى الآن حديثنا في أسباب الأحلام على التنبيهات الناشئة في أعضاء الحواس الخاصة؛ وهي الجلد والعضلات، وتلك التي نستطيع أن نُسمِّيَها لسهولة البحث بالأعضاء الخارجية، ولكن المعروف أن التيارات المنبعثة من الأعضاء الداخلية قد تُحدث هي الأخرى أحلامًا.
ولسْنا نُنكر بطبيعة الحال أننا يجب ألا ندرك شيئًا عن حال أعضائنا الداخلية في حالتي اليقظة والنوم على السواء، ما عدا الإحساس بالجوع وبشَيءٍ من الارتياح عقب الطعام، ولكن الكثيرين مِنَّا يعرفون مع الأسف أن هذا لا يكون في حياتهم العادية؛ وذلك لأنهم يحسُّون من حينٍ إلى حين بما يُصيبهم من آلام في أعضاء الهضم وغيرها من الأعضاء الداخلية. وليس ثمَّة شكٌّ في أن التنبيهات المنبعثة من الأعضاء الداخلية قد تكون أيضًا منشأ الأحلام، وأنَّ الوجبات الثقيلة قبل النوم تسبِّب الأحلام. أما المعدة الساكنة فإنها لا تَصل منها تنبيهات إلى العقل الواعي، كما لا تصله أيضًا تنبيهات منها إذا كانت تهضم وجبة خفيفة سهلة. أما المجهود العضلي الكبير (الحركات الدودية في الأمعاء والأعضاء القنوية) الذي يستلزمه هضم أكلة ثقيلة تناولها الإنسان قبيل النوم، فإنها تسبِّب الأحلام المزعجة التي تُضايق صاحبها كثيرًا. ولقد تبيَّن الآن خطأ الرأي القديم القائل بأن عملية الهضم تقف في أثناء النوم كما أثبَت ذلك بلفوف بتجاربه عن الكلاب النائمة. ولا يخفى أن الحلم الناشئ من سوء الهضم من الأحلام غير الملتئمة؛ لأنَّ التنبيهات المرسلة من الأعضاء الداخلية تصل إلى مراكز الإبصار غير المختصَّة بهذه التنبيهات.
ويصدق هذا أيضًا على غير المعدة من الأعضاء الداخلية؛ كالأمعاء والقلب والكبد والمرارة والمثانة وغيرها، فإذا زاد نشاط عضو من هذه الأعضاء فإنَّ من شأن هذه التيارات المنبعثة من هذا النشاط أن تُحدِثَ الأحلام.
ولقد سبَق القول أنَّ مركز الإبصار في المخ أكثر المراكز أحلامًا؛ وذلك لأنَّ وصول التنبيهات إليه أسهل من وصولها إلى المراكز الأخرى، أما الذين يولدون عميًا فإنَّ مركز الإبصار لديهم لا يتلقَّى تنبيهات بصرية، ولا يؤدِّي وظيفته كالمُبصرين؛ ولهذا فإنَّ أحلام هؤلاء تكون أحلامًا غير بصرية. من ذلك أنَّ غلامًا أعمى كان حلمه بالإسكندر بأن سمع مَدافع تُطلَق، أي أنَّ حلمه كان حلمًا سمعيًّا محضًا (ولا داعي بطبيعة الحال إلى الاعتراض بأنَّ المدافع لم تكن في عصر الإسكندر). وحلم رجلٌ بأنَّ قريبًا له قد مات، ولم يكن حلمه بأن رأى جثَّة ميت، بل بأن لمس جثةً باردة. وحلم ثالثٌ بيوم القيامة وكان حلمه أنه رُفِعَ بحبل إلى السماء وسمع طُبولًا تُدق.
وتُنسى معظم الأحلام بنفس السرعة التي جاءت بها، ولكن يحدث من حين إلى حين أن تكون الصور التي تحدث فيها بحيث تبعث أفكارًا وانفعالات تتأثَّر بها وتُبرزها الأجهزة الجسمية الخاصة بها، وهذا هو الذي يعبَّر عنه بفيض الأحلام. فإذا اتَّخذ هذا الحلم هذه الصورة الانفعالية القوية، فقد يستيقظ الحالم وعليه أعراض الاضطراب النفسي؛ كخفقان القلب والرجفة والعرق والبكاء، كلها أو بعضها، وهذه الأحلام في الصغار أكثر منها في الكبار، ولكنها ليست من الأحلام النادرة في كل دور من أدوار الحياة، وقد يكون فيضان النشاط العصبي إلى القلب فتُسرع ضرباته، وقد يكون إلى غُدد العرق والدموع فيُنشِّطها، أو إلى عضلات الجسم فتَرتجف قليلًا أو كثيرًا، وإلى هذا يُشير شيكسبير في مسرحية مكبث بقوله: «تلك الأحلام المروِّعة التي تهزُّنا في الليلِ هزًّا.» وقد يستيقظ الطفل المرهف الحس من جرَّاء حلم كهذا وهو يصرُخ، وعضلاته كلها ترتجف، وجسمه يتصبَّب عرقًا؛ وسبب ذلك أن التنبيهات التي تنشأ عنها الأحلام في مركز الإبصار قد فاضت على غيره من مراكز المخِّ، وهي الأسس الجثمانية للانفعالات و«المعاني» أيًّا كان موضع هذه المراكز، فأثارتها، وكان مظهر هذه الإثارة من الشدة بحيث أيقظ النائم من نومه.
وإذا حدث الفيض من مراكز الأحلام إلى الأجزاء الأمامية من المخ، وهي أساس العمليات الذهنية، فإن آراءً محدَّدة تحديدًا قليلًا أو كثيرًا تظهر في الحلم؛ فقد يحدث أحيانًا أن يُسرَّ الحالم من شيء يُرى أو يُقال في الحلم فيَضحك، وقد يكون الضحك عاليًا يوقظه من نومه، وفي هذه الحال تحدث حركات تشنُّجية في أعضاء التنفس وبخاصة في الحجاب الحاجز، وقد يُشاهَد أحيانًا شخص يبتسم في نومه وإن كان ذلك نادرًا، وهو أكثر ما يكون عند الأطفال الأصحَّاء، فقد يُشاهَدون من حين إلى حين يبتسمون وهم نائمون.
وقد يكون فيض الحلم إلى مراكز الكلام في الفصوص الأمامية للمخ، وقد يكون موضوع الحلم بحيث يحمل النائم على أن ينطقَ ببضع كلمات، فتنشط لهذا السبب مراكز الكلام في المخ، وتكون الألفاظ التي يَنطلق بها الحالم في الغالب مفكَّكة غير مُرتبطة لا يفهم لها السامع معنًى، ولكنها قد تكون أحيانًا عظيمة الدَّلالة؛ فقد سُمع بعض الناس يَنطقون في نومهم بأقوال خطيرة ربما كشفت عن أسرار يُخفيها صاحبها.
وفي وسعنا أن نُضيفَ إلى الحكمة اللاتينيَّة القائلة بأن الحقيقة تظهَر على لسان المخمور حكمةً أخرى من نوعها؛ وهي أنَّ الحقيقة تظهر على لسان النائم، ذلك أنَّ الذي يتكلم في حلمه يتحلَّل من القيود التي يَفرضها هو على نفسها أو يَفرضها عليه العرف في يقظته كما يتحلَّل منها المخمور، وبهذه الطريقة يكشف النائم دون قصد عما يُخفيه من الحقائق، وقد عرف كُتَّاب القصص هذه الحقيقة فأفادوا منها في قصصهم بأن جعلوا القاتل ينطق في نومه بعبارات يكشف بها عن معلومات خطيرة متصلة بالجريمة التي اقترفها، والتي كان يخفيها ولا يظنُّ أحدٌ أنه مقترفها. ويذكِّرنا هذا بقول الطبيب في مسرحية مكبث: «إن العقول المضطربة تفضي بأسرارها إلى وسائدها الصمَّاء.»
وليس ثمَّة شكٌّ مُطلَقًا في أن من حقِّنا أن نفترضَ أن بعض الحيوانات — كالكلاب مثلًا — تحلم.
وها نحن أولاء نقترب في هذا البحث من الأحوال التي تحدُث فيها من النائم أفعالٌ خارجة ناشئة مما يجول بخاطره في أثناء نومه مِن آراء أو يَنتابه من انفعالات، والكلام والضحك من هذا النوع، وقد يحدث في بعض الأحيان أن يقوم النائم من فراشه ويأتيَ ببعض الأعمال تظهر لمن يُشاهدها أنها مُتناسقة معقولة مُتسلسلة إلى حدٍّ كبير أو قليل، ويُسمَّى من يفعل هذا «بالجائل في النوم»، ويبدو الاستعداد لهذه الظاهرة في سنٍّ مبكِّرة، وإذا تكرَّرت فإنها تدلُّ على أنَّ صاحبها مُصابٌ من مولده باضطراب في جهازه العصبي.
ولا حاجة إلى القول بأن المشي في النوم قد يَنقل صاحبه إلى أماكن خَطِرة، فكثيرًا ما تسمع أن بعض الناس قد سقطوا من نوافذ بيوتهم أو على درجها، وفقدوا حياتهم بسقوطهم، وتحدث حركات الماشي وتوازن جسمه دون أقلِّ وعي منه، ومن أجل هذا فإن الجائل النائم إذا كان يسير في مكان خطر يفعل هذا وهو مطمئنٌّ غير مدرك ما يتهدَّده من خطر. أما الخطر الحقيقي فهو أن يوقَظ من نومه، وقد شُوهِد جائلون نائمون يمشون وهم آمنون على أسطح المنازل وفوق جدران عالية ولا يسقطون عنها.
والجائلون في نومهم لا يُدركون ما يفعلون، ومن أجل هذا فإنَّ القانون لا يعاقبهم على ما يفعلون في هذا الجولان أيًّا كان نوعه؛ لأنه لا يرى فيه جريمة. فقد يهمُّ الجائل في نومه بقتل إنسان ومع ذلك لا يعدُّه القانون مُجرِمًا؛ لأنَّ نية القتل معدومة لدَيه، ولأنه لا يتذكَّر ما يفعله بعد فعله؛ ذلك بأنَّ الجائل في نومه لا يَذكر ما حدث له في أثناء النوم، ووعيه في هذه الحال أشبه بوعْي المنوَّم تنويمًا مَغنطيسيًّا، فهو قد زال عنه وعْيُه العادي أو وعي اليقظة وحلَّت محله حالة نصْف وعيية، وقد لجأ كُتَّاب القصص إلى هذه الظاهرة فأفادوا منها في قصصهم؛ لأنَّ في مقدورهم أن يُثيروا بها مشاعر قُرَّائهم.
وليست عبارة «الجولان في النوم» مما يُعبِّر عن هذه العملية العقلية تعبيرًا دقيقًا؛ فليس الذي يُسجِّله هذا النائم الجائل إحساسات أو تنبيهات، بل هو يسجِّل أفكارًا، وهو يستخدم عضلات الكتابة في هذه العملية العقلية، وقد يكون أفضل من التسمية السابقة أن نسمِّيها «الكتابة في النوم»؛ لأن المشي أو الجولان فيها معدوم.
وقبل أن نختتم حديثنا عن الجولان في النوم يحقُّ لنا أن نَنتبه إلى أنَّ من يمشي أو يَسبح وهو نائمٌ نومًا عميقًا، كالشخص الذي أعياه التعب والذي أشرنا إليه في الصفحات السابقة من هذا الكتاب، لا يُعدُّ عمله هذا من قبيل الجوَلان في النوم. فالمشي أثناء النوم العميق لا يصحبه حلمٌ ما، بل إن حركات المشي فيه تلقائية تنشأ من مراكز في النخاع الشوكي تعمل مستقلَّةً عن المخ النائم. أما في حالة الجولان في النوم فإن المخَّ الحالم نصف الواعي هو الذي يدفع عضلات المشي إلى القيام بحركاتها.
والآن يمكننا في ضوء المعلومات السابقة أن نتبيَّن خواص الأحلام فنقول: يبدو لنا في الحلم أوَّلًا أن معلوماتنا عن الزمان والمكان تَنمحي إلى وقتٍ ما، ويلوح أننا قد أضحَينا وليست لنا صلة عادية بالحقائق الخارجية، وأنَّ مقاييسنا الزمنية التي نقدر بها الماضي والحاضر والمستقبل، والتي نقدِّر بها حدود الزمن العادية، لم يعدْ لها وجود. وأهمُّ ما تمحوه الأحلام من العقول هو تقديرنا لمرور الزمن، ومِن أجل هذا فإن الأعمال التي يتطلب القيام بها ساعات أو أيَّامًا أو سنون تبدأ وكأنها تحدُث بسرعة لا يمكن تصوُّرها، بل إنها في واقع الأمر تحدث في «غير زمن»؛ ذلك بأن مقياس الزمن المعتاد قد انعدم، وأن العالم الخارجي قد احتجب عنَّا أو كأنه قد أصبح نسيًا منسيًّا؛ ولذلك يُخيَّل إلينا أنَّنا لا نرتبط قطُّ بأية مقاييس خارجية أيًّا كان نوعها.
فنحن نُشاهد قريبًا لنا تُوفيَ من زمن بعيد، بل ونتحدَّث معه، ولا ندهش أقل دهشة من رجوعه إلى الحياة، ولا نعجب قطُّ حين نراه كما رأيناه آخر مرة منذ جيل من الزمان؛ ذلك أننا في الأحلام نأخذ الأشياء بظواهرها ونَقبلها على علاتها، فلا ننتقد شيئًا ولا ندهش لشيء، ولا نستحي من شيء، ولا نَرى أنَّ شيئًا ما قد بلَغ مِن السخف حدًّا يمنعنا من قبوله كما هو، أو مِن الشذوذ حدًّا يُثير دهشتنا؛ ذلك أننا لسْنا نظَّارة نشاهد ما يمثَّل أمام أعيننا من مناظر غريبة، بل نحن شركاء في هذا التمثيل، وما مِن شكٍّ في أن غرابة ما نُشاهد في هذه الأحلام وشذوذه وبعده عن المألوف ناشئةٌ من الْتواء الطريق الذي سارت فيه التنبيهات العصبية بلا ضابط ولا إشراف من مراكز الإحساس.
وليست ملَكة التحليل المنطقي هي التي شُلَّت في الأحلام، بل الذي شُلَّ هو القدرة على النقد. ولعلَّ السبب الفسيولوجي الصحيح لهذه الحال هو أن مراكز المخ التي يُعتقد أنها موضع الذاكرة والحكم والعمليات الذهنية بوجه عام قد خمَدَت في أثناء النوم، ونشأ من خمودها أن الأفكار المهتلسة التي يتكوَّن منها الحلم قد أصبحت غيرَ خاضعة للفحص الانتقادي الذي نخضع له في حالة اليقظة؛ ولهذا تَقبل هذه الأفكار المهتلسة كما تَقبل الحقائق، ويكون لهذه من القيمة لدى الحالم ما لتلك، وتنمحي إلى حينٍ مقاييس الزمان والمَكان التي لا غِنى لنا عنها والتي عرَّفتنا بها الحوادث التي تقع خارجة عنَّا، فنُصبِح وليس لنا علاقة نُدركها بالماضي أو الحاضر أو المُستقبَل، وقد تغيَّر وضعُنا أو قُل أصبحنا لا مَوضع لنا مُطلقًا في حدود المكان المثلَّث الأبعاد، ولم يعد للإنسان شأنٌ إلا بنفسه.
وتَختلف القدرة على تذكُّر الأحلام أشدَّ الاختلاف، فقد تكون سهلةً كل السهولة، وقد تكون صعبةً أشدَّ الصعوبة؛ فقد يَصحو الإنسان وهو عاجز أن يتذكَّر شيئًا ما عن حلمه ولو كان شديد الحرص على أن يتذكَّره، وقد يَصحو أحيانًا أخرى وهو غير قادر على أن يَنسى ما رآه في نومه وإن كان راغبًا أشد الرغبة في نسيانه، ومِن الأحلام ما لا يفارقنا أيَّامًا أو أسابيع، وما من شكٍّ في أنَّ صعوبةَ تذكُّر حلم ما إنما تَنشأ من أن الأثر الذي يتركه الحلم في الجسم ضئيل إلى حدٍّ يجعل الأثر المقابل له في العقل شديد الضَّعف. أما الحلم الذي لا نستطيع نسيانه فهو الذي أثار فينا انفعالًا أو معنًى أو اهتمامًا بدرجة أكسبتْه عنصرًا من الثبات. وقد تكون بعض الأحلام واضحة معقولة خالية من الشذوذ إلى حدٍّ يُدهش منها صاحبها فيَسمعه الناس يقول: «لستُ أدري، أرأيت ذلك في اليقظة أم في المنام.» وهو قول يشهَد بأنَّ حلمه شبيه بالحقيقة كل الشبه.
وهذا الرأي يؤكِّد الفروق العظيمة بين إدراك اليقظة والإدراك في الأحلام، وما مِن شكٍّ في أنهما نوعان مختلفان كل الاختلاف، وأنَّ أولهما ليس امتدادًا للثاني أو درجة أعلى منه، ومن شأن هذا الاعتقاد بأنهما مَجريان مُنفصِلان أن يوضِّحَ لنا السبب في أنَّ ما يحدث في إحدى الحالتَين لا يتذكَّر عادةً في الحالة الثانية، وشبيه بهذا ما يَحدُث لصاحب الشخصيتَين، فإنَّ إحداهما لا تتذكَّر ما تفعله الأخرى.
ويقول هذا العالِم النفساني: إن الرغبات أو الميول الخبيثة السيئة أو غير المشبعة المكبوتة تبرز من دائرة العقل الباطن وتظهر في العادة مُتخفية في صورة رمزية.
ولسنا نُنكر أن حالات من هذا النوع تحدث أحيانًا، ولكن كثيرًا ما يحدث في الأحلام أن يترك الحالم ما تحتويه حياة اليقظة من حقائق غير سارَّة، ويظل فترة قصيرة يُشاهد مناظر أزهى منها وأبهج، أو يُمتِّع نفسه بهذه المناظر؛ فهو ينسى العالم ويعيش فترة من الزمن في «بهجة الحلم» إن لم يكن في التمتُّع بلذته.
وبمثل هذا؛ أي بالرجوع إلى الذاكرة اللاوعيية أو الكامنة، يفسِّرون الحلم الذي يراه الأب وابنه أو الأم وابنتها مثلًا، وليست هذه الأحلام العائلية بالأحلام غير المعروفة، والقول بأنَّ مِن الأحلام ما هو رجعي بالمعنى السالف الذِّكر نظرية طليَّة جذابة من غير شك، وهي تَفترض إمكان وراثة الصِّفات العقلية غير المادية وراثةً لا وعْييَّة، وليس هذا في واقع الأمر بالافتراض الشاذ أو المُستحيل.