تمهيد
لدى بعض الناس اعتدادٌ قوي للغاية أو ضعيف للغاية على نحوٍ يجعلهم لا يُلقُون بالًا بطريقة ما أو بأخرى لتعليقات الآخرين على حالهم. والليدي هيستر ستانهوب من هؤلاء؛ وفي بداية هذا العمل، أُنبِّه القارئ، بأوضح العبارات، أنَّني لم أنشر شيئًا لم تكن الليدي لترغب في اطلاع الناس عليه. ومن واقع عملي طبيبًا لها طيلة سنوات كثيرة، ربما يُفترَض بي بطبيعة الحال أن أكون عميق الاهتمام بها؛ وحيث إنَّني رأيتها في أول فترةِ ترحالها تقطن القصور، وتحف بها كل أسباب الراحة الشائعة لدى طبقتِها، ويتودَّد إليها ويُعجب بها كلُّ مَن يَملك التواصُل معها، فإنَّني لا أملك سوى التأثُّر بشدة حين أرى مظاهر الحِرمان التي عانتها مؤخرًا. ولأنَّ هدفي هو تصوير شخصية لم تنَل التقدير الواجب من الناس عمومًا، فإنَّني لم أجد وسيلة أفضل مِن تقديم يوميَّات بمُحادثاتها؛ حيث تجري مُلاحظاتها عن البشر والأشياء على لسانها تلقائيًّا.
وفي حين أنَّني أُقرُّ بعدم أهليتي لمثل هذا العمل، فإنَّ حُجتي الأساسية للقيام به هو أن لديَّ الكثير من اليوميات، مثلها مثل رخام غير مَصقول استُخرج لتوِّه من محجره، فهو لا يزال في شكله الخام، لكنه بالنِّسبة إلى الفلاسفة وأصحاب النزعة الأخلاقية يَحمل أمارات الأرض التي خرَج منها. ولو كنتُ عهدت بالمذكِّرات إلى أيدٍ أمهر لصياغتِها بطريقة مثلى، ربما كانوا سيُزيِّنون مادتها، ولكن على حساب أصالتها. الليدي هيستر ستانهوب، النبيلة المولد، والشامخة بطبعها، حملَت معها من إنجلترا كل عادات طبقتِها، لكن إقامتها الطويلة بالشرق بين الأتراك حملتها على التفكير في العادات المختلفة لمن حولها، فتبنت بدرجات متفاوتة كل ما رأت أنه سليم في أساسه. وكل عام مَرَّ عليها هناك جعلها أقرب إلى بساطة الطبيعة، وعلَّمها أن تُسقط الحواجز التي يَصنعها الكبرياء والتحفُّظ وآداب السلوك لتُحيط بأصحاب المقامات الرفيعة في هذا البلد؛ تلك الحواجز التي ساعَدَت على الفصل التامِّ بين الأغنياء والفقراء، بين الأعلى والأدنى، لكنها أدَّت كذلك إلى حرمان الطبقة الأرستقراطية من التمتُّع بالكثير من لذات الحياة، وكثيرًا ما جعلتهم عبيدًا لعظمتِهم الخاصة.
الصفحات التالية للكتاب هي تدوينٌ أمين لمحادثات الليدي هيستر ستانهوب. وإنني خلال الألف ليلة وليلة التي جلستُ فيها أُنصت إليها، سمعتُ ما يكفي كي أجمع تأريخًا متَّصلًا لا ينقطع عن حياتها منذ حَبوِها وحتى موتها؛ لكن بطبيعة الحال كان لا بدَّ من حجب الكثير، وما نُسي كان أكثر بكثير، لذا على القارئ أن يَكتفي ويرضى بهذا السرد وهو غير متَّصل تمامًا، وآمُل أن يجد فيه الفائدة، وإنه في كل الأحوال خالص الصدق والصحة. وقد حرصت بالغ الحرص على الحفاظ على أسلوب حديث صاحبة المذكرات، كما سيشهد على الفور كلُّ من عرفها. وفي كثير من الأحيان لا يَتوافق أسلوبها مع الأسلوب الحالي للحديث في اللغة الإنجليزية؛ لكنَّ إجراء أي تعديلات فيه ليُلائم انتقائية بعض الأذواق كان من شأنه أن يَنال من أصالة ما تبقَّى من النص، بتدمير دقة التصوير.
لقد تطرَّقتُ قليلًا إلى آراء الليدي هيستر الدينية؛ ورغم أنني على يقينٍ تامٍّ أنه ما من أحد من الرحَّالة قد غادَرَ صُحبتها دون أن يطلع على مشاعرها وعواطفها بشأن هذه الأمور، إلا فيما ندَر، فسيكون جليًّا حتى من القليل الذي أوردتُه هنا، أن أحدًا لم يُنصِفها عند الحديث عن آرائها تلك.
وأنا واثقٌ بحقٍّ أنه لا أحد من الأحياء له الحق في أن يجد غضاضةً في أيِّ شيء مما سيَرِد في الصفحات التالية؛ إذ يجب ألا يَغيب عن البال أن السخط وخيبة الأمل قد تسبَّبا في تكدير مزاج الليدي هيستر وجعَلاها في حالة مزاجية سيئة مع كل البشر، لذا يجب تناول مَدحِها وذمِّها للآخرين بكل تحفُّظ.
قبل أن أختم كلامي، أعتقد أنه من الضروري إضافة بعض السطور بخصوص الأشهُر الأخيرة في حياتها. الليدي هيستر ستانهوب قد ماتت — على قدرِ علمي — دون أن يرعاها أوروبي واحد، وفي عُزلة تامة. وكنتُ أنا آخر طبيب أو معالج أوروبي يعودها، وكنت في غاية الحرص والاستعداد (لتوقُّعي دنوَّ أجلها) لمواصلة البقاء معها، لكنها أصرَّت بحزم أن أتركها وأرحل، وكل من يعرفها ليس بمقدوره إنكار أن معارضة رغبتِها أمر غير مطروح بالمرة.
لا شكَّ أنني لو كنتُ أطلتُ البقاء في جبل لبنان، لكنتُ ربما عاونت سيادتها أشد العون. فقد كانت على وشك الانغلاق على نفسها، دون مالٍ أو كتبٍ أو إنسان يُمكنها الوثوق به؛ ودون حتى أوروبي واحد — ذكر أو أنثى — بجوارها؛ مع قدوم الشتاء، وهي تعيش تحت سقف لم يَعُد مانعًا لتسرب المياه وقد يسقط عليها؛ ومع اقتراب نشوب الحرب وليس لديها وسيلة تُدافع بها عن نفسها سوى شجاعتها التي لا تلين؛ ومع عدم وجود من يَحمل رسائلها سوى نفسها، هكذا تواطأَت كل الظروف على جعل بقائي معها واجبًا مُحتمًا عليَّ فعلُه، ومع ذلك لم تسمح لي بالبقاء معها، وأصرَّت على مغادرتي في موعد محدَّد، وأعلنت أنها اتخذت قرارًا لا رجعة فيه أن تظلَّ حبيسةً في هذا المكان فكأنه قبر، حتى تُعوَّض عن الإهانة التي لحقت بها على يد الحكومة البريطانية.
كان المتوقَّع من ابنة أخت السيد بيت وحفيدة اللورد تشاتام العظيم أن تُطالب ببعض اللين والتساهُل من جانب أولئك الذين يَملكون نفعها أو ضرها بنفوذهم، وأن يعفيها وضعها الخاص — كونها في بلد غريب، وسط أُناس لا علم لهم بالتقاليد والعادات الأوروبية (حيث تُركت هكذا بما لدَيها من همة كي تُواجه الصعوبات التي أحاطت بها) — من أي إزعاج، ما دام لم يُوفر لها أي مساعدة، قد يرى المرء أن امرأةً في الستين من عمرها، بصحة مُعتلَّة، وتقطن بقعة تبعد أميالًا عن أيِّ مدينة، وسط سكان بالكاد يَملك قادتهم السيطرة عليهم، لا يمكن أن تكون هدفًا مناسبًا للإزعاج بأيِّ حال من الأحوال؛ لكن عندما تُوضع الخدمات التي قدمتها عائلة الليدي هيستر لبلادها في الميزان، يبدو عجيبًا كيف أن ادِّعاءات مُقرضي الأموال المعنيين وجَدَت لنفسها التأثير الكافي لدى أولئك الذين يقودُون هذه البلاد لحَملِهم على إزعاجها في عزلتها وخلوتها. هل يُصَدِّق أحد أنني عندما تركتها في أغسطس ١٨٣٨، كانت عارضةُ سقفِ الصالون، حيث تجلس عادةً، مدعومة بعارضتَين قبيحتَين من الخشب خوفًا من سقوط السقف على رأسها؛ وأن هاتَين الدعامتَين الخشبيتَين، المنتصبتَين في وسط الغرفة، كانتا تقريبًا على حالتهما الخام الخشنة التي جاءتا بها من الشمال على متن سفينة سويدية ما؟ وكانت غرفة نومها أسوأ حالًا؛ حيث كانت دعامة سقفها عبارة عن جذع خام غير مصقول، مقطوع من شجرة حور كانت تقبع أسفل التلِّ الذي يَنتصِب عليه منزلها.
ربما يتساءل سائلٌ هل عدمَت هذه البلاد النجَّارين والبنَّائين؟ بالتأكيد كلتا الحرفتَين موجودتان، لكن عندما يكون النقل على ظهور الجمال والبغال وبدون وجود لعرباتٍ بعجلاتٍ من أي نوع، فإنه في الحالات الطارئة المُفاجئة (مثل تصدُّع عارضة السقف) يصير اللجوء إلى أقرب ما يَفي بالغرض لتوفير الأمان في الحال؛ وفي ظل ضيق مواردها بسبب التهديد بوقف معاشها التقاعُدي، لم يكن بوسع سيادتها أن تغامر بتجديد أسقف حُجراتها، وهو عمل يحتاج إلى وقتٍ ونفقات.
إن مطالعة القارئ لهذه الرواية السردية ستعطي توضيحًا كافيًا لديون الليدي هيستر، وأي زيارة سريعة لمقرِّ إقامتها في دار جون سوف يُثبت لأيِّ أحد أن المال الذي اقترضته لم تُنفِقه قطُّ على سُبل راحتها الخاصة، وأيُّ زوجة تاجر في لندن تمتلك من المال ١٠ أضعاف هذه القُروض. ونظرًا إلى عدم وجود خدم لديها سوى الفلاحين الذين درَّبتهم هي بنفسها، يمكن القول بالكاد إنها كانت تجد مَن يخدمها؛ ويُمكن للمرء أن يكوِّن فكرة لا بأس بها عن الخدمة التي اعتادُوا تقديمها، حين يقول شاهد عيان إنه رأى خادمة تغترف الماء من صهريج باستخدام وعاء تدفئة الفراش، وعبدًا أسود يضع براد الشاي على المنضدة وهو يُمسك به من فوهته، من الفوهة فقط.
لكن هذه مجرَّد تفاهات مقارنة بما يشيع من تخريب وسرقة بين الزنجيات والفلاحات، فكان من النادر الحفاظ على أي قطعة من أثاث أو ملابس لتُؤدِّي الغرض المحدَّد لها، لدرجة أن السيدة التي كانت مَفخرة القصر حين تَكتسي بزينتِها، صارت، بعد سنوات من المشقَّة العقيمة، تَرتدي ملابس أسوأ من أدنى خادمة في منزل والدها. أصبحت سيادتها تنام على مرتبة موضوعة على ألواح خشبية محمولة على دعامات، وسجَّاد غرفتها من اللباد. وقد أذاعَت عن نفسها، بكثير من السرور، أنها فيلسوفة، وبقَدر ما يكون الزهد في مَظاهر الترف من صفات الفلاسفة، كانت ملابسها وأثاثها خير شاهد على ما ادَّعته. ولنَدَع أولئك الذين يُشاركون كاتب هذه السطور في الانطباع العميق الذي يُخلفه دائمًا الحديث معها في أذهان مُستمعيها، أن يُقرِّروا إلى أي مدى استحقَّت هي لقب فيلسوفة، حسب الأسس العُليا للعلوم التأملية والمدى الاستثنائي لفهمها للأمور.
سلامٌ على رفاتها، وتحية لذكراها! تلك التي لم يطَأ الأرض قطُّ صديقٌ أكثر منها وفاءً، ولا عدو أصدق ولا أكرم منها. كانت دائمًا تقول: «دلَّني على الفقراء والمحتاجين، ولنَدَع الأغنياء يُدبرون أمورهم بأنفسهم!» لقد مضَت في طريقها بثباتٍ، نقية من النفاق نقاءَ أصفى الألماس من الشوائب، لا تُؤثر فيها الأقاويل السخيفة التي كان يُشيعها عنها الرحالة، سواء عن خبث منهم أو كانوا مُضَلَّلين، ولا تردعُها السُّخرية منها والإساءة إليها بالتهديد أو المعارضة عن أعمالها النَّبيلة — حتى وإن كانت غير عملية إلى حدٍّ ما.
أغتنم هذه الفُرصة لأشكر النبيل هنري جايز، القنصل الفرنسي في حلب، على سماحه لي بالاطِّلاع بحُرية على المراسلات المتبادَلة بينه وبين الليدي هيستر ستانهوب، والتي منها انتقَيت الخطابات المرتبطة بالموضوعات المذكورة نفسها في مذكرات الليدي. وسيتمكن القارئ من تقدير فضائل هذا الرجل النبيل أفضل تقدير بعد قراءتها.
لندن، الثامن عشر من يونيو ١٨٤٥.