الفصل الأول
عندما شرَعَت الليدي هيستر ستانهوب في أسفارها عام ١٨١٠، رافقتُها بصفتي طبيبًا، وبعدَ الكثير من التجوال في الشرق، شاهدتُ استقرارها أخيرًا في جبل لبنان؛ لكن نظرًا لاضطراري إلى العودة إلى إنجلترا لغرض الحصول على شهادتي في الطبِّ من جامعة أُكسفورد، وبعد أن أمضيت سبع سنوات في خدمتها دون انقطاع، غادرتُها ورحلت. وكان مَن خلَفَني في خِدمتها جرَّاح إنجليزي يَكره حياة الشرق، وقد تركها ورحل بعد عام أو عامَين، وبِناءً على طلب من الليدي هيستر عُدتُ ثانية إلى سوريا. لكني وجدتُ سيادتها حينذاك وقد تأقلمَت تمامًا مع أعراف الشرق وعاداته، فجعلت تُسيِّر أملاكها كلها على الطريقة التركية، بل تبنَّت الكثير من أساليبهم الطبية التجريبية. في ظل تلك الظروف، وبِناءً على اقتراحٍ منها، ودَّعتُها للمرة الثانية، والأخيرة، كما اعتقدتُ وقتها.
كانت نيتي أن أُنمِّي مساعيَّ المِهَنية في لندن، وكانت ثمة صعوبات كبيرة يجب التغلُّب عليها، صعوبات تعرَّضت لها بمهارة الصفحات المصوَّرة في إحدى الصحف المنشورة حديثًا. بيد أنني لم أنتظر لمُسايَرة تيَّار هذه المِهنة البطيئة. فقد ألهمتني سنوات من الترحال بوجهاتِ نظرٍ أخرى، وبقدر كبير من الارتياح الداخلي قررتُ اغتنام الفرصة التي أتاحتْها لي ثانيةً رغبة الليدي هيستر، وهي اجتياز القفار الجبلية في سوريا مرةً أخرى. وهي ليسَت مجرَّد إشادة فارغة بإعجابي بشخصية الليدي واحترامي لها إذا قلتُ إنَّ فرصة استئناف منصبي السابق لديها ثانية قد بعثَتْ فيَّ سرورًا حقيقيًّا. فقد جعلتْني مُعاشرتها زمنًا طويلًا مُعتادًا على غرابة أطوارها، بل حتى على مزاجها العنيف المتجبِّر. كان لديَّ إحساس عميق بطبيعتها السامية، وشعرتُ أن سماتها الغريبة والمتفرِّدة لا تؤثر إلا على أولئك الذين لم يعرفوها إلا عن طريق ما يَتناقله الناس عنها، وأن هذه الصفات لا تَنال بأيِّ شكل من الأشكال من قيمة جوهرها، التي يُقدرها أولئك الذين هم على معرفة وثيقة بقلبها وعِلمها وسماتهما الجليلة.
مقتطف من رسالة من الليدي هيستر ستانهوب إلى الدكتور …
الثلاثون من يوليو ١٨٢٣.
أنا لن ألومَك أو أُؤنِّبك، وإنما آمُل أن يكون الخط الذي انتهجتَه لنفسِك في صالحك في النهاية. أعترف لك أنني أشعر بالأسف والخجل أنك وبعد أن قدَّمتَ ليَ الكثير من الخدمات، لا تزال غير مُستقل ماديًّا. وإن كنتُ سأغضب، فإن غضبي سيكون من … لأنه لو كان تخلَّق بأخلاق فرسان العصور السابقة، لكان قال لك: «يا دكتور، ولو أنه قد لا يناسبني أن أتركك تذهب في الوقت الحالي، فإنني أحترم جدًّا دوافعك، ومُعجَب للغاية بأمانتك، حتى إنني غير مُعترض مُطلقًا على موقفك، بل أدعمه، وأرجوك أن تَقبل مني هذا المبلغ المالي لتلبية اليسير من حاجاتك. وعندما تَنتهي من إنفاقه، فأنا على ثِقة من أنك ستعتبرني صديقَك المقرَّب، وأتمنى أن تُبرهن لي على قربك مني بالدرجة نفسها.»
ليس لي الحق في أن أُطالب بتضحيات دائمة من جانبك أو من جانب الآخَرين. لكن سيأتي الوقت الذي ترى فيه بندمٍ عميق إذا ما كنت أخذت في الاعتبار مصالحك إلى جانب ما يُلائمني في الوقت الحالي أم لا. لقد فوجئتُ بعرضك — الذي تكرَّر كثيرًا — ولم أتفاجأ كثيرًا بسلوكك؛ إذ إنه كثيرًا ما راوَدَني الشك إذا ما كانت ستُؤاتيك الإرادة القوية فترفض المزايا والراحة الآنية أم لا، لو حدَث ووُضِعَتْ إغراءاتٌ من أي نوع في طريقك. لقد تصرَّفت أنت حسب ما رأيته الأفضل لك، وحسبما رأيت أن ظروفَك تسمَح به؛ لكن لا يُمكن أبدًا أن تُقنعني أن الجنرال جرينفيل — رمز الشرف والإحساس — يُمكن أن ينصح رجلًا بأن ينكث وعده وكلمتَه. إذا كنتَ سألته ببساطة، قبل أن تتَّخذ قرارك: «هل يجب أن أُحافظ على كلمتي وأمضي في طريقي، أم أوافق على تلك العروض؟ أرجوك أن تُعطيَني رأيك الصريح»، فإنني أعلم ماذا كان سيقولُه لك. ولكنَّك، وقد اتخذت قرارك، ماذا كنتَ تتوقَّع منه أن يقول؟ إنني سأغضب؟ لا، فإن معرفته بي أكبر من ألا يُدرك أنني لن أعبأ بالتضحية، إلا إذا كنتُ أرى أنني سأُقدمها طواعيةً.
لم أكن في حاجة لقول كل ذلك، لكنها مجرَّد إشارة لما سيكون عليه المستقبل، حين تنتهي حماقة وعدم جدوى الأفكار والحسابات المعاصرة. لقد ظنُّوا بي الجنون وسفهوني وأساءوا إليَّ، لكن ليس بمقدور أحد من البشر أن يُغيِّر طريقة تفكيري حول أيِّ أمر. فبدون إيمانٍ صادق، لا يمكن أن يكون هناك منهج صادق للعمل. وكل أهل العلم في الشرق يعتبرونني ذات علم رباني؛ حيث إنه برغم عدم قدرتي على القراءة والكتابة بلغتهم، فلديَّ الحُجة النافذة المنسجمة مع شرائع الطبيعة.
ربما لن تَستلِم أبدًا رسالتي التي أشرت إليها، والمرسلة مع شخص ما. فربما قد سمع عن تصرفك؛ ومن ثَم اعتقد أنه من غير الضروري أن يُقابلَك، أو أن يعطيك الرسالة. لماذا استفسرت عن هذا الأمر؟ يا لك من ساذج! لكن كل شيء قد انتهى: فلن يكون هناك المزيد من التخبُّط والتشوُّش بعد الآن. وربما لن تسمع خبرًا منِّي، أو عني لسنوات.
ولتتذكر أنني لن أقول رأيي عنك لأيِّ إنسان، لذا لا تتوهَّم إذا رأيت تغيرًا في سلوك الناس تجاهك أنني السبب. إن العالم كله وهؤلاء المتسكِّعون المُتأنِّقون يتَّخذون لهم محظيِّين جددًا كل يوم، ويتخلَّصون من القدامى دون سبب. وهم كلُّهم لا يُشبهون الجنرال جرينفيل. والأرجح ألا يشعر أحد سواك بالحرج من هذا الأمر.
لماذا لا تُحدثني عن أطفال جيمس الصغار المساكين، ولماذا لم تَطلُب رؤيتهم؟ هل نسيت كم يُهمني كل ما يتعلَّق بجيمس؟ أخشى أن تكون الحماقة والتقاليد الحديثة قد استحوذت عليك …
في عام ١٨٢٦، كانت ارتباطاتي المِهَنية مع النبيل الذي أشرت إليه سابقًا قد توقفَت، وقُمت بالاستعدادات الضرورية لمغادرة إنجلترا. ويمكن فهم موقف، ومشاعر ونوايا الليدي ستانهوب في ذلك الوقت على أفضل وجه من خلال ثلاث رسائل طويلة كتبَتْها في ثلاثة أيام مُتتالية من شهر يناير ١٨٢٧، وهو نفس الشهر الذي شرعتُ أنا فيه بالرحيل؛ إلا أنني لم أستلم هذه الرسائل حتى شهر يوليو التالي، في مدينة بيزا. ولجَعل محتوى هذه الرسائل مفهومًا، فإن من الضروري أن نَفترِض وجود مُسافر، سنُشير إليه بالسيد «إكس»، قد زار سيادتَها وحاز على ثِقتها بالحيلة، وجعلها تَعتقِد أنه مُرسَل من جانب دوق ساسكس ودوق بيدفورد، ولجنة من أعضاء نافِذين آخرين من الماسونيِّين، كي يتفقَّد ما تحتاج إليه الليدي، ويُقدم لها مبالغ مالية من خزائنهم الخاصة لإخراجها من ضائقتها المالية.
من الليدي هيستر ستانهوب إلى الدكتور …
بلدة جون، الخامس من يناير، ١٨٢٧.
عزيزي الدكتور،
لن أزعجك برسم صورة لوضعي، أو ما صرتُ إليه من ضعف وبؤس من الحُزن والمرض؛ لكن لا بدَّ أن أُخبرك أن عينيَّ قد اقتربتا من العمى، وأن هذا ربما يكون آخر خطاب أستطيع كتابته لك، وفي الواقع، لن تكون هناك حاجة إلى مزيد من الخطابات.
قد استلمتُ خطاباتك المرسلة في السابع عشر من سبتمبر والثامن عشر من أكتوبر من العام الماضي. ويا لَلخُدع التي حيكت عليَّ، أنا يا من ضحَّيت بكل شيء في سبيل ما اعتقدتُ أنه الحق! لقد بلَّغ السيد «إكس» عند وصوله هنا كل الناس — قبل أن أُقابله بشهر — أنه يَحمل رسائل مهمة من أشخاص ذوي شأن ومكانة سامية، وأنه مبعوث ليتحقَّق ممَّا أريد، وليعمل على تسوية شئوني. وحين قدَّم نفسه لي قال إنَّ «بي» أمَرَه أن يَذهب إلى سوريا، وإن «أوغ» هو الذي بعثه، وإن نفقاته سدَّدتها «الشركة»، وإن كل شيء سيكون على حسب ما أشتهي وأكثر مما أتمنى، أو على الأقل على قَدر ما صرَّحتُ بأني أتمناه. أما القول بأنه سيتكفل بكل ديوني، أو أنه أقرضني ١٤٠٠ جنيه إسترليني، مع وعد بدفع ٥٠٠٠ أخرى قريبًا — فكل هذا محض تلفيق. صحيح أنه قال إنه كتب في طلب صندوق جواهر، تتراوح قيمته بين ٢٠ و٢٥ ألف قرش، كي يُرسَل إلى تاجر هنا، على أن يُباع لحسابي، وقال أيضًا إنه سيُرسل خطاب اعتماد من القسطنطينية لأجل ١٠٠ صرَّة من النقود، كي أُنفق منها إلى حين وصول البريد القادم من إنجلترا. وكان سيَسحب المال من منشأته التجارية، وقد أخبَرَني أنه لا داعي للقلق بشأنه، حيث سيُدفع له ذلك المال بمجرد عودته إلى إنجلترا. وقد ذكر أنه واجبه نحوي، وما إلى ذلك. وقد صدقت كل هذا الكلام بالتأكيد، لكني لم أرَ أيَّ شيء يحدث قط. ولا أعلم ما قاله لصديقك من قبرص، السيد فونديتسيانو، لكن السيد «في» عرض أن يُرسل إليَّ ألفَي دولار، وقد قبلتُها، وأعطيته إيصالًا بستة أشهر حسبما أراد، وقد مرَّ على موعد الدفع تسعة أشهر حتى الآن. علاوة على ذلك أكَّد لي السيد «إكس» أنه ما من شيء قد فُهم على الوجه الصحيح في إنجلترا، وفيما عدا ذلك فالجميع كان مُتعجبًا ومستحسنًا لي. وقال إنه سيعود إلى هنا حاملًا إليَّ كل ما أريد، وإنه سيجلب معه البنَّائين والنجَّارين، وغير ذلك، لتوسيع منزلي ومَرافِقِه؛ حيث سيأتي الكثير من العُظَماء المتلهِّفين لرؤيتي، لدرجة أنه ما من سفينة تظهر في الأفق إلا ويُسرع الفقراء والأغنياء إلى شاطئ البحر، فيَصيحون ويكشفون رءوسهم، داعين أن تكون السفينة القادمة من أجلي؛ لأن الجميع يعلمون ما بي من ضيقِ حالٍ، ويعلمون أنني سأعيش على الصدَقة. وهم يتوقَّعُون — بعقلية أهل الشرق — أن يروا صندوقًا كبيرًا من المال، هبةً من أخي، ومحتويات مخزنه، وكل أوانيه وقُدوره. ومن ثَم فإنه لن يكون من الحكمة أن يعود مستر «إكس» إلى هنا. فلن يكون ذلك في صالحه، ولن أدريَ أنا ماذا أقول حينئذٍ. فإنه إذا جاء، لن أُقابله؛ فلا بدَّ أنه جاسوس أو مُحتال أو كبش فداء لأكاذيب؛ وإنني لا أرغب أن يكون لي شأن بأيٍّ من هذه الشخصيات.
الآنسة ويليامز المسكينة لا تعرف شيئًا عن كل هذا، لا تعرف سوى أنني مدينة ومُتلهِّفة للمال الذي سيأتي، فهذا ما قاله «إكس» للكل، لكنها أحيانًا ما يَنتابها القلق بشأن المستقبل، وما إلى ذلك. إنها شخصية لا بأس بها؛ فهي شديدة الصدق، ولكنها غرة؛ ذلك لأنها كانت طفلة مدلَّلة، تفعل فقط ما تظنُّه مُلائمًا، ولم تتعلَّم مطلقًا رعاية الشئون المنزلية. ومع ذلك، فإنها لو لم تكن هنا لكان كل شيء أسوأ بكثير من الآن؛ لأن الجميع هنا — كما تعرف — إما لصوص، أو وحوش مُسرفون مخربون، فإنهم يتبطَّرون ويُتلفون، ويستحيل أن تُعلمهم أي شيء أو تجعلهم يستمعون إلى العقل أو المنطق السليم.
فلتكتب إلى «بي»، أو تذهب لزيارته إلى أن تتمكَّن من مقابلته. ولا تيأس من طلبه، لكن إلى أن تُقابله، لا تَقُل كلمة واحدة عن رسائلي لأيِّ شخص. ودع «بي» يُدون الملاحظات، ويتحدث إلى «أوغ»، بدلًا من أن يحدثك. اجعل الحكمة والصمت هما ديدنك، وحتى مع أعضاء «الشركة» من شتى الأطياف الذين تلقاهم أحيانًا على العشاء. إن «بي» لشخص نقي، بحكم أصله. وأنا أعتقد أن «إكس» قد تصرَّف حسب ما أُمر به، مثله مثل الآخَرين؛ لذا فإنني لست غاضبة منه في قرارة نفسي، ولكن مع ذلك لن أقابله ثانية.
الآن، إليك أوامري وقراري النهائي. لنَفترِض وضعَين. الوضع الأول أن قصة «إكس» صحيحة، وأن ديوني التي بلغت عشرة آلاف إسترليني سيتمُّ سدادها، عندئذٍ سأُواصل الاستكشافات السامية والفلسفية، وسأُكرِّس نفسي للدراسات المعمقة والمجرَّدة؛ بيد أنني، لضعف قوتي، لم أعد أستطيع العمل ليلًا ونهارًا، كما كنتُ أصنع من قبل. وفي هذه الحالة، سأحتاج إلى بَنَّاء ونجار ومُزارع وبستاني وسائس وراعي بقر وطبيب، وهلمَّ جرًّا؛ لذا يجب أن أحصل على دعم: عبارة عن دخل مؤكَّد قدره ٤٠٠٠ جنيه إسترليني سنويًّا، وألف أخرى لأدفعها لأشخاص مثلك سوف أحتاجهم، وخمسة آلاف إسترليني نقود سائلة، لشراء المُؤَن والبناء ومن أجل الحيوانات، ومال للمَصاريف، وما إلى ذلك، وهكذا يمكنني أن أبدأ بلا ديون. في الوضع الثاني، إذا كان كلُّ ما قد قيل لي كذبًا، فليُعلَن إذن التبرُّؤ منِّي على الملأ، حاضرًا ومستقبلًا، وليدَعوني وحدي لمصيري وإيماني؛ لأنه إذا لم يكن لي حقٌّ فيما أريده — والذي هو بين أيدي السادة أعضاء «الشركة» — فلن يعود لديَّ رغبة في شيء. ولن أريد سماع أي شيء، وقد انزاح الحزن من رُوحي منذ أن اتخذت القرار التالي.
سوف أتنازل عن كل ما لديَّ مدى الحياة، سواء ممَّا أملكه الآن أو فيما بعدُ في أوروبا، لصالح دائنيَّ، وسأعيش مُتسوِّلة أرجو رحمة الإنسانية هنا في آسيا، وسأطوف بعيدًا دون بارة (عملة عثمانية قديمة) واحدة في جيبي، قابضةً على فرسة من إسطبل سليمان بإحدى يديَّ وفي اليد الأخرى حزمة من ذرة بني إسرائيل. سأُواجه الموت أو ما أعتقد أنه المكتوب، ولا تستطيع يد بشر أن تمحوَه. لا شيء آخر يُمكن فعله. لن أنتظر أي رسائل أخرى تُضيع الوقت أو تُلفق الأكاذيب، فقد اكتفَيت منها طوال هذه السنوات الخمس الماضية. لتكن مشيئة الله! فسأتبع قدري بقلبٍ مُبتهِج، وسأتحدَّاهم جميعًا. فماذا سيكونون هم لولاي؟ سيَعرفون على المدى البعيد. بيد أنَّ رُوحي أسمى من ألَّا تُراعي أقصى درجات الشرف حتى تجاه أعدائي.
يا لعزيزي آدمز الصغير! لم أكتب قط لهذا الرجل الجوهرة، لكن كلُّ ما فات مُسطَّر في قلبي. إنما أنتظر أن تنقشع سحابة بؤسي، كي أجعله يعرف أني لم أكن جاحدة. إن شاء الله وأنقذني من بين أيدي إخوتي القُساة، كما أنقذ يوسف من بين أيدي إخوته، فسيَعلم حينئذٍ — وستعلم أنت أيضًا — كم أشعر بالامتنان. سامحني واعفُ عني إن كنتُ قد جرحتك رغمًا عني! أوه! يا إلهي! ربما كنت السبب في إيذائك. ولقد بكيتُ مرارًا، لكن الدموع لن تُطعم الأطفال الصغار. وا حسرتاه! إنما اتِّكالي على السماء.
أنت قصدت الخير لذا لن أُؤنبك، لكن لماذا تُقدم طلبًا دون إذن مني إلى «البدين» أو «الرفيع»؟ ولماذا تتحدث مع «…» عن مخاوفي؟ فما علاقة «…» بشئوني؟ أنا لم أُطِقه قط. فإنني أعرفه جيدًا: شخص مُنحطُّ التفكير وثرثار؛ ولكن حتى لو افترضنا أنه ملاك، فهل استأذنتني للحديث أو التشاور معه؟ هذا من غير المرجَّح. لكن إذا كان أن الدوق «البدين» أو «الرفيع» قد وضعا أي أموال في حساباتي المصرفية، فاجعلهما يَستردانها ثانيةً … وليس عليك أن توضح أي شيء سوى أنني أرفضها. وأُكرر لك أُنني، وتحت أي ظرف، لن أدين بأي فضل تجاه «البدين» أو «الرفيع» أو «كاننينج» أو أصدقائه، ولن يكون لي أيُّ علاقة مع السير «غطرسة». أقول هذا لأني سمعتُ عن خُططِه الجديدة. فمن المحتمَل أن يَنوي القدوم إلى هنا؛ وإذا حدث ذلك في الغد فسأُغلِق بابي في وجهِه. وإذا استُخدِمت أي قوة — قوة قنصلية — ضدِّي فسأردُّ بالقوة في المقابل، وسأُناشد الناس الدفاع عني. ومن الأفضل أن يكون ذلك مفهومًا. فإنَّني لست بعبدة، وأستنكر كل هذا التسلُّط. ولن يستطيع أحد أبدًا أن يعيدني إلى بريطانيا إلا مُقيَّدة في السلاسل، ولن يُجبرني أحد على فعل شيء غير ما تُمليه عليَّ إرادتي ما دام في جسدي نفس يتردَّد، لذا فإن أي محاولة لمواجهتي هي بلا طائل. إنني مستعدة لكل حِيَلهم، وقد حان الوقت لوضع نهاية لها.
إذا استدعاك «…»، فقل له إنك قد تلقَّيت خطابًا مني أعربت لك فيه عن دهشتي الكبيرة من تحدُّثك معه عن شئوني، حيث إنها لا تَعنيه في شيء، وإنني أصررتُ على أن تلتزم الصمت تمامًا بشأني في المستقبل، لذا فعلَيه ألا يأخُذ الموضوع على محمل سيئ. قل له إنني، ويا لَلعجب، أرفض حتى أي مساعدة من أفراد عائلتي، الذين لم أتواصَل معهم منذ سنوات، ولن أتواصَل معهم مُستقبلًا؛ وإذا سألك عما أنوي فعله فقل له إنك لا تَعرف، وإنني أعلم ما في صالحي. أخشى أنه مع الوقت سيُنشَر كل شيء في الصحف. فهذا الصنف من الرجال يتحدَّثون أمام خدمهم لاستعراض مدى أهميتهم، فيطَّلع سائسو الخيل والخدم والحوذيون على كل شيء. ولقد رأيت كل ذلك من قبل. وقد يظن المرء بك الخبل لأنك نسيت كل ما قلته لك عن تلك الموضوعات من قبل.
لا تحزن عليَّ، فإنني لا أشعر بخوف أو خزي. إن عقلي في النعيم، منذ طرحت عني كل هذا الضيق والعناء، وامتلأ بالأفكار السامية والمعرفة. لا تكتب لي بعد الآن. فأنا لا أريد شيئًا، وسأغادر حالَما يتحسن الطقس، إلا إن أراد الله أن يفتح لي باب الخير؛ وإن لم يحدث، فسأحرق كل شيء، وأُرسل الآنسة ويليامز إلى مالطا، مع رسالة بأن تكون أول مَن يَحصل على أجره عند موت الليدي بانكس؛ إذ إنني لم أدفع قطُّ نفقاتها هنا إلى السيد ديفيد.
وداعًا، وبارك الله فيك!
ملاحظة: هناك خطابٌ آخر عند صاحبك الموجود بالمدينة، والخطاب سيصل بنفس الوسيلة، وبداخله سند مالي من أجل «…». تبًّا للثمانمائة جنيه إسترليني! فإنَّني أحتقرها، هي وأي آلاف أخرى تأتي من الجهة نفسها. قد تسألني: هل أنتِ مجنونة؟ لا، لستُ مجنونة، ولكنَّني، في السراء والضراء، لا أُشبه بقية العالم، وسأُثبِت بالبرهان الكافي مُقاومتي لذلك العالم بأسره.
من الليدي هيستر ستانهوب إلى الدكتور «…»
دار جون، السادس من يناير ١٨٢٧.
قد وصلتني سالمة خطاباتك المرسلة في السابع عشر من سبتمبر والثامن عشر من أكتوبر من العام الماضي. استفسر عن خطاب مرسل مني إلى مصرف كوتس — لكنه ليس بخط يدي — ولا تقل لأحد إنه مني؛ ولا تقل لأي أحد إنك تلقيت مني هذا الخطاب الذي بين يديك، إلى أن يقتنع الجميع أن الخطاب الآخر ليس مني، ثم توجه إلى «بي»، وأصر على مقابلته قائلًا إن الأمر في غاية الأهمية. أما السند المالي الذي ذكرت لك في خطابي بالأمس أنه سيكون مرفقًا بهذا الخطاب، فقد أحرقته، خوفًا من حدوث مشكلة. مع ذلك، فإنه إذا كنت مخطئة، وحتى يتضح لك الأمر برمته، فقد أرسلت لك سندات أخرى مرفقة بالخطاب. وفي خطاب الخامس من الشهر ستجد قراراتي النهائية. وأنا لا آمل ولا أثق فيها.
لقد قرأت خطاباتك مرة ثانية. إنني لم أقل قط ﻟ «إكس» أن يطلب مكانًا، ولا زكَّيته، ولم أزد عن القول بأنه كان كريمًا وطيبًا معي، وهذا ما كنت أظنه حينها.
إذا فُقد الخطاب الآخر، احرق هذا الخطاب، وأمسك عليك لسانك وقل إنك لم تسمع مني شيئًا؛ لأن هذا الخطاب لا لزوم له بدون الآخر الذي يحوي تفسيرات كاملة، ولهذا السبب ربما من الأفضل أن تقول إنه لم يصلك مني شيء. الخسارة لن تُغير شيئًا. سأتبع قدري، وآمل أن أكون قد ابتعدت، قبل أن تصل أكاذيب جديدة.
اعتلَّت صحتي للغاية بسبب حمى قاسية وتشنجات شديدة. أقول لك هذا حتى لا يُساء فهم توقفي عن الكتابة، ويتوقف صرف معاشي. وقد ضعفت عيناي ضعفًا شديدًا، وغارتا في رأسي وانكمشتا، وأحيانًا تؤديان بي إلى سحب رأسي للخلف تمامًا. وبالكاد أستطيع التحرك زحفًا، ومع ذلك ورغم ما أنا عليه من ضعف، فسوف أمضي قُدمًا، لأن روحي وقلبي ثابتان على حالهما.
مواصفات الخدم الرجال
الخادم الثاني يجب أن يكون فارسًا سابقًا ليشرف على السوَّاس، وحبذا لو كان أحد رجال أفواج اللورد كاثكارت، ذلك لأنهم كلهم مهذبون. فاللورد كاثكارت من المدرسة القديمة، ورجاله يتمتعون بمظهر رفيع ومهيب. ولا بد لهذا الخادم أن يكون مفعمًا بالحيوية وهادئًا في الوقت نفسه؛ فلن يفلح الطائشون مع الدواب الموجودة هنا. وإذا سألت الجنرال تيلور، فستجده أفضل من يعرف ما أقصده.
بعد ذلك، يجب أن أحصل على بستاني اسكتلندي، ذي شخصية هادئة ورزينة وكتومة، ومع ذلك يكون نشيطًا ونبيهًا وملمًّا بزراعة الزهور وأمور الحدائق بشكل عام، وقادرًا على أن يكون ناظرًا للمزرعة، لانتقاء الأرض، وتقليم الأشجار، والحرث، والبذر، وتسوية الأرض. ويجب أن يجلب معه شتى أنواع المعدات اللازمة للعمل — مثل المحراث والجرافة وما إلى ذلك؛ والبذور والجذور— وأن يكون بارعًا كفاية لعمل نماذج صغيرة لمختلف الأشياء. هؤلاء الرجال الثلاثة سيكونون كفاية؛ لأن كل الوصفاء وخدم المنازل لا طائل منهم.
وأريد خادمة شخصية لي، لا تكون سيدة راقية، ولكن واحدة كانت تعمل مربية أو خادمة منزل، امرأة تكون بطبيعتها أسمى من مستواها الاجتماعي، وتكون في الثامنة عشرة أو العشرين أو الثانية والعشرين من العمر، وسيان إن كانت حسنة الطلعة أم لا، على أن تكون ذات أخلاق شخصية ممتازة. لا تسأل الكثيرين عن امرأة كهذه. فالسيدة الاسكتلندية، التي عاملت لوسي بكرم شديد، ربما تعرف واحدة كالتي أريدها، أقصد واحدة تكون بفطرتها ذات عقل وحس وطيبة القلب والشخصية، على ألا تكون خريجة مدرسة داخلية، فالتعليم من دون كل الأشياء هو أكثر ما يفسد هؤلاء.
كذلك لا بد أن أحصل على مدبرة منزل، تكون على دراية بمنتجات الألبان، وكل أنواع الخبز، والمعجنات، وحفظ الأطعمة، ولا تكون باردة الطبع، لكن أمينة.
والآن، سبق أن سمعتني ألف مرة أقول ما هي العلامات الظاهرة الحسنة وما هي العلامات السيئة في الناس؛ ومع ذلك، ولأن لديك ذاكرة فظيعة، فسأضيف بعض الملاحظات.
تجاعيد العين مستهجنة، وكذلك الموجودة حول الفم. الحواجب، إذا كانت تشكل دائرة، حين تلتقي، أو كانت متقاربة ومستقيمة، فكلاهما بنفس القدر من السوء. والحواجب الجيدة هي التي تلتقي عند خط الأنف وكأنها جسر مزدوج. أما العيون الطويلة ذات المساحة الواسعة بين الحواجب، والتي لا تظهر لديها تجاعيد بالجبهة عند الضحك، أو حول الفم، فهذه كلها علامات على سوء الطالع والازدواجية. والعيون المتعرجة تكون مليئة بالكذب. الجبهة المنخفضة المسطحة سيئة، وكذلك العينان المتفاوتتان — واحدة أكبر من الأخرى — أو التي تتحرك باستمرار. ما أريده هو شخصية ذات وجه حسن وطليق، على طبيعتها تمامًا، تلقت قدرًا قليلًا من التعليم، وذات جسد حسن ومستقيم وقوي وموفور الصحة، ومزاج لطيف.
هل سبق ورأيت صورة أو لوحة مرسومة لليدي ويليام راسل، زوجة أخي الدوق؟ ذلك النوع من الوجوه هو الأمثل للمرأة. وإذا كان حاجبا الرجل مستقيمين ومتقاربين فلا غبار عليه؛ أما إذا كانا يشكلان قوسًا، فذلك دائمًا ما يكون علامة على وجود طنين فطري (أي شجن أو كآبة) بالشخصية. وهذا الشخص لا يمكن أن يكون راضيًا أو سعيدًا أبدًا. انظر إلى آدم الصغير والجنرال تايلور، كم هي صادقة حواجبهم السوداء!
لا تفهمني خطأً وتظن أن تجاعيد الشيخوخة هي التي أتحدث عنها، بل تجاعيد الشباب. فوجود خط وحيد في البشرة لا يمكن تسميته تجاعيد. إن التجاعيد التي أتحدث عنها هي التي توجد عند الأطفال ذوي السبع السنوات حين يضحكون أو يبكون.
القدم يجب أن تكون مرتفعة الباطن وليست مسطحة. الأقدام المعوجة مقبولة في الرجال والنساء. والسيقان التي تثير الغبار عند سيرها، أو ثقيلة الوطء هي سيقان بغيضة. الأيدي المكتنزة ليست مستحسنة. والجلد شاهق البياض ليس حسنًا هو الآخر؛ والأبيض المائل للصفرة أفضل منه، ومن الأفضل أن تكون العروق ظاهرة في الأذرع والمعاصم. الصوت العدواني والمندفع، والأصابع الخرقاء المنقبضة كريهة؛ وكذلك التصنُّع والتكلف بكل أنواعه، والأسنان المعيبة، واللسان والفم غير النظيفين، والروائح الكريهة إذا فاحت من الشخص. وابتعد عن ذوي التصرفات الجافة وسيئي الطبع، الذين يتخفون خلف قناع الابتسامات والوداعة؛ وكذلك المتكلفون والمتململون، والغريبون والمحيرون، والساخطون والذين هم بلا مشاعر، أو لديهم شعور زائف بالثقافة.
أُرفق بهذه الرسالة صفحة من اللغة العربية المكتوبة بحروف إنجليزية، والتي اعتبرت الليدي هيستر أنها ستكون مفهومة بالنسبة إليَّ، نظرًا لتعودي على أسلوبها في التحدث بهذه اللغة، ولكني أشك أن يستطيع أي شخص آخر، مهما كان ملمًّا باللغة العربية، أن يفهم ما تقصده بها. لذلك أستأذن في حذف تلك الصفحة بأكملها.
من الليدي هيستر إلى الدكتور «…»
دار جون، ٧ يناير ١٨٢٧.
مع هذا الخطاب توجد رسالة موجهة إلى ميدان جروسفينور، ورسالة أخرى إلى شارع ستراند. ولا تقل لأحد شيئًا عن تلك الرسائل الثلاثة إلى أن تقرأها كلَّها، وتدون ملاحظاتك عما يهمني منها وشئوني التي ذكرتها. ثم احكِ كل شيء، على الوجه الذي أريده، ﻟ «بي»، وﻟ «أوغ»، لا لأي أحد آخر حاليًّا، ما لم يأمرك بذلك.
لا تقل كلمة واحدة ﻟ «إكس»، إلى أن تستقر الأمور بطريقة أو بأخرى. ثم اسأل «إكس» هذه الأسئلة، أمام «بي»: ألم تقل إنك كنت تسافر برفقة ابن «بي»، «دبليو»، وكنت بمثابة أحد أبناء العائلة؟ ألم تستعرض هدية مقدمة لك من «أوغ»، قائلًا إنها بمثابة جواز سفر لجميع الأماكن، في حال وقوع أي شيء، وإن المال سيُعطى لك، عند الحاجة، بمجرد إظهار تلك الهدية؟ ألم تُظهر ورقة، كانت في صندوق أحمر، باعتبارها أوراق اعتمادك الغراء من «الشركة»؟ ألم تقدم سببًا وجيهًا لعدم حمل خطابات خاصة مرسلة من «أوغ» و«بي» والآخرين؟ ألم تقل إن الجميع كانوا محض أغبياء مقارنةً ﺑ «كوكب»؟ لكن كل ذلك كان خدعة. وأعتقد أن هذا الشيطان المسكين كان ممنوحًا تصريح مفتوح للكذب، شريطة أن يتمكن من التجسس، ربما منحته إياه جهة أخرى.
أوه! ذلك البغيض «…»! بالله عليك ابتعِد عنه! ما لهذا الرجل وما لي؟ طالَما كان مُتطفِّلًا ومُفسدًا، ولم أتواصَل معه طوال العشرين عامًا الماضية. أي شرع مِن الله أو البشر ذلك الذي يُلزمك أن تردَّ على تساؤلات الناس؟ إنها لأدنى الأعمال وأكثرها ابتذالًا. وما زلتُ أقول لك ذلك منذ سنوات وسنوات. فما علاقته بمَجيء «إكس» أو ذهابه؟ وأي نوع من الناس هو إكس، كي يُذيع شئوني على الملأ؟
لا أريد سماع شيء عن مساعدة «البدين» أو «الرفيع». فهذا الأخير لم يكن لي تواصُل معه منذ ٢٠ عامًا أو أكثر، والآخر لا أستطيع احترامه. ولقد أحزنني هيبر؛ إذ كنتُ أظنه فيما مضى أفضل من ذلك. لقد عرض عليَّ خدماته، في بضع مناسبات، ولكن بطريقة مُبهَمة، فقط ليُقال إنه قد عرض عليَّ خدماته؛ ولو كان مخلصًا، لكان كتب إليَّ قائلًا: «لقد فقدتِ صديقًا لك؛ وربما كان وجودُكِ في إنجلترا ضروريًّا، للعمل على تصويب أوضاعك؛ ولذا فقد أودعتُ كذا وكذا في مصرف كوتس من أجل رحلتك، فإن لم تكن ضرورية، فسأكون مرتاح البال لاعتقادي أنها قد تُضيف بعض وسائل الراحة إلى رحلتك.» ولو كان فعل ذلك ما كنتُ سأقبل منه أي شيء، ولكن ساعتها كنت سأجدُ أنه من الواجب عليَّ أن أشكره، وهو ما لم أفعله بسبب أقواله الغبية. قد بتُّ أشعر أنه لم يبقَ لي صديق في أوروبا، كلهم رحلوا. لكن الله موجود، وهو يكفيني.
كان التحدث إلى «إيه» الصغير مناسبًا؛ لكن التحدُّث إلى كل هؤلاء الآخرين، أوه، يا لها من حماقة! أنتَ لستَ ثرثارًا بطبعك، ولكن غرورك يجعل منك ثرثارًا. ولماذا لم أكن أتحدَّث معك من قبل عن أمور جليلة؟ ذلك لأنني كنت أخشى حيطتك. فقد اعتدت أنت أحيانًا أن تقول: «لقد سُئلتُ بشأن هذا وذاك، وأسئلة غريبة أحيانًا». أوف! أوف! يا له مِن لغو! هل أنت أحمق؟ أمسك عليك لسانك. إنَّ هذه الهمهَمات والضحكات هي فقط تلميحات من بعيد، ولو كنتَ سمعتَ المزيد منها لأصابك الجنون. لكن ليس أنا، فأنا رابطة الجأش تمامًا، شامخة في وجه البشر، لكن رُوحي خاشعة — مثل نبي الله داود — أمام الخالق الحكيم الموزِّع للهموم والفرح.
هل تظنُّ أن البؤس سيَجعلني أنحني أو أتوسَّل لهؤلاء الذين بلا قلب؟ لو حدَث وتوسَّلت لأحد فسيكون ذلك لأتباع عُمرَ وعليٍّ؛ فعقيدتُهم هي الكرم؛ والطيبون بينهم لا يَجرحون مُطلقًا أي كائن حي تعيس الحظ، بجعله يجترُّ مصائبه.
لم أَعُد مُغتمَّة، منذ أن حسمتُ قراري، لكنَّني واهنة القوى، وأكاد أكون عمياء بسبب نوع من الانقِباض العضَلي العنيف، جعل عينيَّ تغُوران في رأسي، وأحيانًا ما يُشوِّه جسدي كله. لكن جسدي ليس ذا بالٍ؛ فالقلب ما زال متَّقدًا كما كان دائمًا. لا أستطيع قراءة ما أكتبه. ولقد أمضيتُ يومين أحاول قراءة خطاباتك الأخيرة. وكنتُ قد أعددتُ لك مكانًا صغيرًا يحوي غرفتين وديوانًا مفتوحًا؛ لكنه لن يفيَ بالغرض بوجود السيدة «…» والأولاد. وسوف ألقاها هي والأولاد الأعزاء بكل الحب، وأتعشم أن يجدوا هنا الراحة في كل شيء. وأسأل الله ذلك! فعندي منزل في القرية، وهو جيد وسيُلائمكم تمامًا، فهو نظيف وبه غرفتان في الطابق العلوي. ولو كانت الأمور قد سارت مسارًا حسنًا، لكنتُ أسرعت ببناء شُقَق بجوار المنزل، لتكون قريبة مني ومريحة. ولكن ماذا أقول؟ لقد قُلبَت كل خططي رأسًا على عقب؛ ورغم الانشراح الذي بعثَته فكرة قرب الخلاص من كل ما اضطُررت إلى الخوض فيه، فإنَّني تعيسة أن ذلك المخادع «إكس» لم يكن واضحًا تمامًا بشأن خطابك المُرفق مع خطاب «أوغ». فماذا ستفعل حيال ذلك؟
حسنًا، قد قلتُ كل ما يكفي الآن، ويجب أن أتأهب للإصابة بنوبة جديدة، في غضون أيام قليلة، من بعد الإجهاد الزائد لعينيَّ ورأسي، لكنه سيكون آخر جهد أبذله من هذا النوع. فإلى اللقاء.
ملحوظة: جاءني قبل شهرين أحد المطالبين بالديون — وهو مسيحي — فأخذ أحد الأتراك إلى غرفته، بعد أن قابلته وتحدَّثت معه، وقال له: «أنا جئتُ إلى هنا لأخذ مالي، ولكنَّني الآن أودُّ البكاء على حالها. فمن الواضح أن أولئك الفرنجة عديمو المبادئ وعديمو الإحساس، ولا دين لهم، ولا يعرفون الله. والدليل على ذلك — وهل هناك حاجة إلى دليل أقوى منه؟ — أنهم تركوا مثل هذه الشخصية الرائعة لتَذوِي وتذبل من الحزن والأسى.» ثم خرَج الرجل بعد ذلك وهو يسبُّ ويلعَن، ورحل. وهذه هي المشاعر الحية الآن بين السكَّان الأتراك. وعلى النقيض منهم، انظر كيف يتصرف السيد «…»، وهو رجل إنجليزي. فقد أخبر أحد دائنيَّ أن يأخذ سندًا ديونيًّا الذي لديه ويَنقعه ويشرب ماءه، قائلًا له: «ذلك هو كل ما سيُمكنك الحصول عليه.» وقد استشاط الدائن غضبًا، وابتعد عني، لكنه سيعود مرة أخرى خلال بضعة أشهر ليُزعجني.
ويجب ملاحظة أنه كان من عادة الليدي هيستر — حين يشغلها موضوع مُعيَّن — أن تكتب نسخة عن الموضوع بيدها، وأن تُملي نسخة أخرى، وتلك الأخيرة يمكن اعتبارها تعبيرًا عن آراء كاتبها، لكن بالنسبة إليَّ — وقد اعتدتُ طويلًا على أسرار مجلسها — كان من السهل عليَّ أن أُدرك أنها جاءت من المصدر نفسه.
أما كيف يمكن لليدي أن تغفل عن أن «بيت» هو اسم العائلة، وأن «تشاتام» هو لقب شرفي، مُضاف، فهو أمر غامض. لكن من بين هذه القبيلة العربية نشأ الملك سيف (بن ذي يزن)، الفاتح العظيم، وبِناءً على هذه الحُجَّة فإن الملك سيف هو جدها؛ إذ إن كل القبائل والعشائر من نفس الدم.
وقد تكررت تلك القصة مرارًا وتكرارًا حتى أصبحت مُتداولة بين الخدم وفي القرى؛ فدرجت الخادمات أن يقلن لليدي هيستر: «صحيح يا سيدتي أن من يأتون لرؤيتك أمراء أو أباطرة، لكن أصلكِ أعلى من أصلِهم؛ فأسلافكِ كانوا الملك سيف والملوك السبعة.»