الفصل الثاني
رحيل المؤلِّف عن إنجلترا للانضمام إلى الليدي ستانهوب، الرحلة من ليجورن إلى سوريا، نهب قرصان يوناني للسفينة، العودة إلى ليجورن، السيد جيرولامو، رسالة من الليدي ستانهوب إلى السيد ويب، التاجر في ليجورن، اضطهاد الأمير بشير لليدي ستانهوب، خطاب من الليدي إلى المؤلِّف تصف فيه وضعَها في عام ١٨٢٧، اعتمادها على العناية الإلهية، رسالة ثانية إلى السيد ويب، رأيها في الأتراك والمسيحيِّين في سوريا، ورأيها في العرب وطبيعتهم الفطرية، ارتعاب الفرنجة في سوريا، على خلفية معركة نافارينو، لجوءُهم إلى منزل الليدي ستانهوب، الفرنجة في سوريا، خطابها إلى المؤلف، تستحثه على الانضمام إليها، نصيحتها، مرضها، إبحار المؤلِّف إلى سوريا.
في الثالث والعشرين من يناير ١٨٢٧، اجتزتُ بصُحبة عائلتي القنالَ الإنجليزي إلى بلدة كاليه الفرنسية. وأجبرَتْنا قسوة الطقس هنا وبَيع بعض الأراضي في إنجلترا على المُكوث في هذا المكان حتى التاسع من مايو، ثم تابعنا رحلتَنا إلى باريس، ثم لوزان، ثم بيزا، حيث وصلناها في الرابع عشر من يونيو، وقد عزَمْنا على مُغادرة ميناء ليجورن على متن أول سفينة تُبحِر نحو الشام. وعلى القارئ هنا أن يضَع في اعتباره أن المراكب البخارية لم تكن موجودة في تلك الأيام، وكذلك أنَّ الملاحة في البحر المُتوسِّط كانت خطيرة وقتها بسبب الحرب الشرسة التي كان يشنُّها اليونانيون.
في ليجورن تلقيت خطابًا آخر من الليدي هيستر ستانهوب؛ حيث بدَت فيه يائسةً من أحوالها، ونظرًا لعِلمِها، من خطابي إليها، بأنَّني كنتُ بصدد مُغادرة إنجلترا للانضمام إليها، فقد طوَت موضوع «إكس» بطريقة موجزة، وأعطتْني بعض التوجيهات حول كيفية التصرف حين وصولي إلى سوريا.
من الليدي هيستر ستانهوب إلى الدكتور «…»
دار جون، ٢٩ مايو ١٨٢٧.
عزيزي الدكتور،
انزل إن أمكن في صيدا، وحين تصل إلى الميناء، اترك عائلتك على السفينة، وخذ حمارًا من عند البيطار، وتعالَ إلى دار جون. أعتقد أن هذا كل ما ينبغي عليَّ قوله، في حال أنك لم تتلقَّ رسائلي، التي كتبتُها إليك في بداية العام. فلو كنتَ تُلقيتها، وسارت الأحوال على ما يرام، فسيكون الوضع مُغايرًا.
لا يسعني التعبير عن مدى امتناني لك. وعسى الله أن يجزيَك خيرًا في الدنيا والآخرة!
آمُل أن يكون لدى السيدة «…» خواتم كثيرة لتزدان بها أصابعها؛ حيث إنه أمرٌ ضروري للغاية في هذه البلاد، وهي أعظم الحليِّ في عيون النساء هنا.
لم تسنَح أي فرصة مُناسبة للإبحار حتى نهاية أغسطس، حين أبرَمنا اتِّفاقًا مع مالكي سفينة تجارية، وانتقَلنا إلى ليجورن، وأبحرنا على متن السفينة فورتونا، بقيادة القبطان، لوبي، متَّجهة إلى قبرص في السابع من سبتمبر عام ١٨٢٧. كان على متن السفينة أربعة من الرهبان الفرنسيسكان بالإضافة إلينا، وكانوا متَّجهين إلى الأراضي المقدَّسة، وفي جعبتهم الأموال التي تُرسلها بعض الولايات الإيطالية سنويًّا للحِفاظ على الأماكن المقدسة.
في الخامس عشر من سبتمبر، وعلى بُعد حوالي ٣٠ فرسخًا من جزيرة كانديا، شُوهد مركب بشراعٍ طويل ينقضُّ علينا، وسرعان ما عرفنا أنه يُوناني. وعندما اقترب منا، رفع رايات يونانية، ومرَّ من خلف مؤخِّرة سفينتنا، مُستعرضًا بطارية ضخمة من ١٢ مدفعًا، يُحيط بها رءوس ٦٠ أو ٨٠ رجلًا تبدُو على سيماهم الشراسة ويُراقبونَنا من خلف حافة المركب. صاح فينا رجل بدا جعجاعًا وبلغة إيطالية سليمة، وأمر قُبطاننا أن يُدلي قاربًا ويذهب إلى متن سفينتِهم. وبينما كان القارب يُعدُّ، قال لنا القبطان أن نحتاط لأنفسِنا بأقصى ما يُمكن، حيث لم يكن لديه شكٌّ بأن سفينَتَنا ستُنهب. وأضاف مخاطبًا إياي: «أما بالنسبة إليك، فحاول التصرُّف بذكاء قدر استطاعتك، وتظاهر بأنك من ذوي السلطة، وأَوهِمهم أنك قُنصُل.» شعرنا جميعًا بقلق عارم. وسارعت إلى اتباع نصيحة القبطان، في حين انشغل الرهبان بحشر ذهبهم، وساعاتهم، ومقتنياتهم الثمينة، في ملابسهم الداخلية وغيرها من مواضع الإخفاء.
ولم يترك لنا اليونانيُّون متسعًا كبيرًا من الوقت؛ ففي غضون ربع الساعة فقط كان ١٥ أو ٢٠ منهم على متن سفينتِنا، يرأسهم نائبُ زعيمِهم. وبمجرَّد أن صعد الأخير إلى سطح السفينة توجَّه نحوي، وبطريقة مهذبة للغاية قال لي إنه في ظلِّ الحصار المضروب على قبرص، ونظرًا لأن سفينتنا متَّجهة إلى ذلك المكان، فلا شك أن فيها دعمًا بشكلٍ أو بآخَر للأتراك، لذلك فقد وجد قائده نفسه مُضطرًّا وهو كاره للاستيلاء على الحمولة المشحونة على متن سفينتِنا. وأضاف قائلًا: «وأنت بصفتك إنجليزيًّا لن تواجه منَّا أيَّ مُضايقات؛ فالإنجليز هم أصدقاؤنا، ولسنا بناكري الجميل.»
على الفور فُتحت حجرات السفينة بالقوة؛ وبأسرع ما يمكن أن تفعله الأكتاف القوية والمُعدات، صعد اليونانيون إلى المركب، وكسروا أو شقُّوا كل برميل أو صندوق أو بالةٍ وجَدُوها في مخزن السفينة، بينما وقف النائب، مُمسكًا بأوراق الشحن، ليشطب كل واحدة منها حسب العلامة المسجلة بها. كان لي عدة قِطَع من الأمتعة والحقائب، وعند رفع كل واحدة منها، كان عليَّ أن أقول إنها لي، وحينَها كانت تُوضع جانبًا على مؤخِّرة سطح السفينة. حدث الأمر نفسه مع متاع الرهبان. وكان كل قارب مُحمَّلٍ بالبضائع يُرسَل إلى المركب الشراعي يعود محملًا بالمزيد من اليونانيِّين الضخام، والذين خلعوا بمطارقهم وفئوسهم الألواح الخشَبية، واخترقوا السقف، وفتَّشوا مَهاجع السفينة، ولم يتركوا موضعًا على السفينة دون تفتيشه وسَلبِه.
كما توقعتُ، بعد خروج شحنة المركب استدعى النائب الرهبانَ الأربعة المساكين إلى مؤخِّرة المركب، وأخبرهم أن صناديقهم يجب أن تخضع للفحص. وكان على غطاء كل صندوق من صناديقهم صليب. ويا لدَهشتي حين فتحها اليونانيون فوجدوا فيها ٥٠ أو ٦٠ رطلًا من الشوكولاتة، وزجاجات روم وروزوليو، ولحم خنزير، وألسنة، ونقانق بولونيا، وسُكرًا، وصندوقًا ضخمًا به لوز مُغطًّى بالسكَّر؛ وأيضًا ٧ أو ٨ أغطية رأس نسائية (مثل التي ترتديها النساء في الشام)، وصدريات وسراويل داخلية رجالية مصنوعة من قماش الفلانيل الخفيف، وقمصان من القطن الأبيض الجيد، وما إلى ذلك؛ و٢٠٠ دوكاتية بندقية، و٣ أو ٤ لفافات من الدوبلونات، و٥٠٠٠ دولار إسباني. كانت الطريقة التي تَدافَعَ بها البحَّارة اليونانيون للحصول على اللوز المحلي تدعو حقًّا للضحك؛ إذ كانت مُتناقضة تناقضًا غريبًا مع الأذى الذي كانوا يرتكبونه ضد هؤلاء الأفراد المُسالِمين في تلك اللحظة؛ لكن حالَما اكتشفوا أن إجمالي النقود، مع ما أخذوه من الرهبان أنفسهم، لا يقلُّ عن ١٤ ألفًا من الدولارات انطلقَت صيحاتهم، وهو ما أفزع الرهبان فزعًا بالغًا، وجعَلَهم يجثُون على ركبهم، ويتضرَّعون إلى جميع القدِّيسين المعروفين لنَجدتهم. لكنَّ طمع اليونانيين تفاقَم بدلًا من أن يهدأ برؤية الكثير من الذهب والفضة، ما جعلهم يبادرون فورًا إلى تجريد ضحاياهم من ملابسهم، وهي المهمَّة التي أدوها بخفة حركة يحسدُهم عليها أكثر الناس خبرة في ذلك الأمر. وكشفت تلك الحركة المهينة عن غنائم جديدة؛ فالأكمام والسراويل والقلانس الواسعة كانت كلها تحمل شيئًا. فكان أحدهم يحمل ساعة تنبيه بالوقت، وكان الكل بحوزتهم نقود.
لسوء الحظ، كان بالمخزن بضعة براميل من الخمر، وقد شرب منها اليونانيون؛ وهكذا حين ثملوا وهم في خضمِّ نهبِهم للسفينة، اقترح عدد منهم من أكثرهم ضراوة أن يُضرَب القبطان لحمله على الاعتراف عما إذا كان هناك المزيد من المال مخبَّأً بالسفينة. ومن ثَم ضربوه بضع ضربات قاسية بذيل حبل؛ ثم ضربوا خادم السفينة بالطريقة نفسِها (على اعتبار أنه مُطلعٌ بشكلٍ أو آخر على مواضع الإخفاء الخاصة بالقبطان)، ثم ضربوا اثنين من بحارة السفينة. وفي النهاية جاء دور مساعد القبطان. وهذا ربطوه بحبل، وأبرحوه ضربًا؛ وعندما وجدوا أن الضرب لم يُجدِ في حمله على الاعتراف بشيء، سحبُوه إلى حافة السفينة، وثبَّتوا رأسه على جانب السفينة، ثم وضع أحدهم سكينًا على عنقه، وأقسم إنه سيقتُله فورًا إذا لم يَكشِف عن المكان الذي أُخفي فيه مال القبطان، وكذلك رسائل الأتراك المنقولة على متن السفينة. وتضرَّع الرجل المسكين إليَّ، بصراخٍ عالٍ، كي أُنقِذ حياته؛ وبينما كنتُ أتحدث إلى النائب في هذا الشأن، اندفعَت نحوهم زوجتي، السيدة «…»، التي كانت تجلس في مؤخِّرة السفينة، حاملة ابنتنا الرضيعة بين ذراعَيْها، لا تُهيبها نظرات اليونانيِّين الشرسة، وبشجاعة تفوق شجاعة النساء من بنات جنسها، قبضَت على ذراع القرصان اليوناني، وناشدتْه أن يعفو عن ضحيتِه. ويستحيل الجزم بما إذا كانت نيتهم بالفعل قتل المساعد أم مجرَّد تهديده؛ لكن ما حدث أن الرجل الذي كان يُمسِك بالسكين أخلى سبيل المساعد، وألقى بمِفتاح خزانة المساعد عند قدمَي زوجتي، السيدة «…».
بانتهاء هذا المشهد، أخبرني النائب أنه مُضطرٌّ لفحص أمتعتي، وهمس لي في الوقت نفسه أنه نظرًا لما أصبحَ عليه رجاله من حالة اهتياج شديد، فمِن الحكمة استرضاؤهم بنفحة من بضعة دولارات. فأقبلتُ على نصيحتِه ونفحتُهم ٢٠ دولارًا، والتي أخذوها من دون أي امتنان. ثم راحوا يُفتشون أمتعتي بدقة، لكنَّهم لم ينهبوا منها شيئًا، رغم أنهم وجدوا بين أغراضها حقيبة من الدولارات، فأغرتهم إلى حدٍّ خطير. وفي خضمِّ حالة الارتباك التي أعقبَت ذلك فقدت بعض الأغراض التافهة. فالنائب استجدى منِّي سروالًا فأعطيته إياه، وأشياء أخرى أكَّدتُ له أنني لا أستطيعُ الاستغناءَ عنها، فسمحَ لي بكرمٍ بالغ أن أحتفظَ بها. وبالنظر لأنَّنا كنا خاضعين تمامًا لسيطرته، فقد كان لديَّ حقٌّ لامتناني على رحابة صَدرِه تجاهي.
لكن لأكون منصفًا، فإنني أشهد على الأفعال النَّكراء التي قاستها هذه الأمة (اليونانية) وهي تعمل على استعادة حرياتها، لا سيما الأفعال التي ارتكبتْها البحرية النمساوية والسردينية، اللتان كانت سفينتنا تَحمل علمَهما. فكلما ظهرت السفن التجارية لهاتين القوتين في الشام، فقد كانت لتنقُل، خلف ستار التجارة، العتاد الحربي إلى أعداء اليونانيِّين اللدودِين من الأتراك؛ وكلما استغلَّ اليونانيون المُتضرِّرون حقهم في الدفاع عن أمتهم، وتحرَّشوا بتلك السفن التي تدعي الحياد أثناء رحلاتها غير المشروعة تلك، انتقمَت منهم السفن الحربية النمساوية انتقامًا قاسيًا. في الحرب الألمانية، التي اندلعَت في مُنتصف القرن الماضي تقريبًا، حين أصبح الهولنديون، الذين كانوا يُسمون أنفسهم أطرافًا محايدة، هم من ينقلون أعداء إنجلترا، واتهمونا بأننا نَرتكب فظائع القرصنة ضد الهولنديين، وهي الاتهامات نفسها التي يُتَّهَم اليونانيون الآن بارتكابها، وسعينا لتبرير موقفنا مُتمسكين بنفس الحقوق، وربما علينا أن نتساءل ما إذا كانت قوانين فرض الحصار يجوز تطبيقها فقط حين يُمارسها الأقوياء؟ وبحثًا عن عذر لتعرض القبطان ومساعده للضرب، يجوز أن ندَّعي أن أطقم البحارة الجنَويِّين، حين كانت لهم اليد العليا في البحر، لم يكونوا يتورَّعون عن استخدام العنف نفسه. أما الأموال التي استُولي عليها في هذه الحادثة، فيكفي أن نقول إنها، بصرف النظر عن مسألة القرصنة، انتقَلَت من أيدي من نذروا أنفسهم للزهد، إلى جيوب شعب مظلوم، طُردت عائلاته من منازلها، وربما كانوا يتضوَّرون جوعًا مُنتظرين أن يستطيع ابنٌ أو زوج أن يجلب لهم ثمار مغامراته الخطيرة في البحر.
تنطوي القرصَنة في أعالي البحار، وفي وضح النهار، على شيء مِن البشاعة والترويع البالغَين. فأنت تبدو أعزل تمامًا في وسط المحيط الواسع؛ حيث يَقِف مَن بيدِهم مصيرك مُتأهِّبين لإلقائك في الأعماق السحيقة، إن نبست بمُجرَّد همهمة. يُطالبون بأموالك، وبضائعك، وأي شيء آخر مما قد يُثير طمعهم، وعليك أن تتخلَّى لهم عن كل شيء، راسمًا على وجهك الابتسامة قدر الإمكان. وتقدم لهم المرطبات، وكأنهم ضيوف مُرحَّب بهم قد شرفوك وأسعدوك بحضورهم؛ وإلى حين أن يَنفجروا في هياج محموم فيُسرفون في الشراب أو القتل، فالمشهد برمَّته يبدو مثل زيارة من شخص فاضل، جاء لاستلام ممتلكاته.
في السابعة مساءً رحَل عنا طاقمُ قاربِ القراصنة الشراعي وتركُونا لنُتابع رحلتنا. وأُعيدت الأَسرَّة والبطانيات المبعثرة على أرضية الكبائن إلى المضاجع، واستعدنا بعض النظام في المكان، وأُعِدَّ عشاء بائس من البسكويت الجافِّ والماء البارد؛ فقد كان كلُّ شيء صالحًا للأكل، من الدجاج إلى الليمون والجوز والتين والزبيب وغيرها، قد جرى سلبُه أو الْتِهامه. كان الجو هادئًا طوال الليل؛ وحين انبلج صباح يوم الأحد، كان قارب القراصنة لا يزال على مرمى البصر. وتجددت مخاوفنا حين رأينا قارب العدو يَعتليه طاقمه، ثم سريعًا ما يأتي متجهًا نحونا. لكنها كانت مجرد زيارة مجاملة من النائب، الذي أعرب لنا بابتسامة وودٍّ — لا يتأتَّى إلا من يوناني تجاه مَن نهبَهم — عن آماله في أن نكون قد قضَينا الليل مُرتاحين، وناشد القبطان أن يتفضَّل بالبحث له عن صندوق مُجوهراتٍ كان مُدرجًا في بوليصة الشحن الخاصة بالسفينة، لكنهم سهوا عنه في اليوم السابق؛ فلأن النائب يُجيد القراءة والكتابة بالإيطالية، ويُفترض أنه نشأ في الجزر الأيونية، فقد تفحص كشف الشحن خلال الليل، وتمكن من اكتشاف الأشياء الثمينة التي كانت موجودة على متن السفينة وأفلتَت منهم وهم يُفتِّشون بأنفسهم. وتخلى القبطان عن صندوق المجوهرات على مضض، وبعد أن استجاب القبطان لطلب النائب تحديد خطوط العرض والطول الموجودة على خريطتنا، ليرى إن كانت مُطابقة لتقديراته، استأذن منا بأدب، ضاغطًا على يدي عند الوداع، كما لو كُنا معارف قُدامى يُودِّعُ بعضهم بعضًا. وهبَّ نسيم، فيمَّم مركب اليونانيِّين وجهه شطر كانديا، وسرعان ما غاب عن الأبصار.
وعندئذٍ تشكَّل مجلس من الركاب للنظر فيما يجب القيام به. أراد الرهبان الذين الذي خسروا كل ما لديهم أن نعود أدراجنا، لكنَّني اعترضت على ذلك؛ حيث كنا قد قطعنا بالفعل ثلثَي المسافة نحو وجهتِنا. بيد أن الرهبان — حسبما عرفتُ لاحقًا — كانوا قد اتفقوا كتابةً على منح القبطان ٢٥٠ دولارًا إسبانيًّا مقابل الرجوع بهم، فكان أن نفَّذ القبطان طلبهم؛ ولم يعد أمامي سوى أن أتحمَّل خيبة أملي بصبر.
أثناء العودة إلى ليجورن، كان من الضروري الرسوُّ في أول ميناء نصل إليه للتزوُّد بالمُؤَن؛ وهكذا في التاسع عشر من سبتمبر ألقَينا المرساة في ميناء زانتي. وهناك أبلغت سكرتير الحكومة البريطانية، الكولونيل ماكلين، بما حلَّ بنا من نائبة، إذ تكرَّم وجاء إلى مكتب الصحة لمُقابلتي، حيث كانت سفينتنا في الحجر الصحي، ووجدتُ فيما أخبرني به مبررًا لأن أكون مُمتنًّا لنجاتي وأسرتي من القراصنة بهذا الشكل، حيث علمتُ منه أنها مُعجزة بحقِّ كونهم أظهروا أي احترام لاسمي الإنجليزي؛ إذ كان الكثير من السفن الإنجليزية قد تعرَّضت مؤخرًا لاعتداءات من القراصنة، صاحبَها عنف وغضب. وفي ساحة الحَجر في زانتي، رأيت مئات اليونانيين التُّعساء، يغمرهم البؤس في أسمالهم الممزقة، وقد أُخرجوا من ديارهم، ولا يَعرفون أين يجدون مكانًا ليأووا إليه.
في السابع والعشرين من سبتمبر أقلعنا مجددًا، وحين أصبحنا قرب صقلية، كدنا نَفقِد صوارينا في ريح عاصف. وفي اليوم التالي أفزَعَنا اشتعالُ النار في المطبخ، وسقوط أحد الركاب مريضًا بالحمى؛ ثم قادنا الضباب إلى جزيرة إلبا، وأخيرًا وصلنا ليجورن في الثاني عشر من أكتوبر عام ١٨٢٧.
يُدعى الراكب الذي ذكرتُه سابقًا، السيد جيرولامو، وهو شابٌّ إيطالي أنهى دراسته بنجاح في بادوفا، وبعدها فكَّر في الاستفادة من مهارته بالعمل في خدمة محمد علي، بيد أنه كاد يتضوَّر جوعًا بعد وصوله إلى مصر. فقد كان عالمَ رياضيات بارعًا، ولديه معرفة ممتازة بالأدب، لكنه نسي أنه كي يُدرِّس، يجب أن يكون قادرًا على شرح علومه، وهو ما كان مُستحيلًا لجهلِه بالعربية، ونسيَ كذلك أن محمد علي كان يُريد ضباطًا ورجال ميكانيكا ومهندسين، رجالًا عمليين، وليسوا أكاديميِّين. وبعد أن باءت جهودُه للعثور على عمل بالفشل، قيل له أخيرًا إن بإمكانه الانضمام إلى الجيش، إذا قدَّم نفسه على أنه مؤهل لشغل وظيفة مساعد طبيب وصيدلاني لفوج مُشاة، وفي هذا العمل الطبي، حسب ما قاله لي، رأى الكثير من السرقة والنَّهب المُستمرَّين، وساءَه الأمر لدرجة أنه حين تلقى الأمر بالتوجه إلى نافارينو مع الفوج فرَّ يحدوه النفور إلى زانتي، عازمًا على أن يقطع علاقته بالباشوات والحضارة الشرقية إلى الأبد. وقد تسبَّب القلق والإرهاق والآمال المحطمة في سقوطه فريسةً للحُمى المميتة؛ وبالنظر إلى حالته البائسة، وفي عنبرٍ فارغ بالسفينة، دون سرير أو ملاءة ليَنام عليها، لم نَملِك سوى أن نَشعُر بالشفقة والرثاء لحاله.
بعد نهبِ سفينتِنا وأثناء رحلة العودة، كان أحد الرهبان، ويُدعى الأخ بونافنتورا، قد أثمَ بخيانة الثِّقة، وكان فعله ذميمًا للغاية لدرجة أنني لا أجد وصفًا لما فعله. فقد كان هذا الشخص موكل إليه شأن حقيبة رسائل من أوروبا إلى الرهبان في مختلف الأَديِرَة في الأراضي المقدسة. وهذه الرسائل لكونها لا قيمة مادية لها بالنسبة إلى اليونانيين تركوها سليمة، فكان الأخ بونافنتورا يستلقي على ظهره في مهجعه، ويكسر أختام الرسائل، ويقرؤها واحدةً تلو الأخرى، ثم يُمزقها بعد ذلك. وقد بدا لي سلوكه هذا يستحق اللوم الشديد، فأرسلت إلى سفير نابولي (حيث كان ينتمي إلى دِير في نابولي)، وناشدتُ نيافته أن يُطلِع رؤساءه بما ارتكب من خيانة ثِقة.
مكثنا في حَجْر الميناء حتى السابع عشر من نوفمبر، وخلال هذا الوقت بلغَت أنباء معركة نافارينو إلى ليجورن. وأخذتُ عائلتي من الحجر الصحي إلى بيزا وروما؛ ونظرًا لسوء الأحوال الجوية آنذاك، قررتُ الانتظار حتى عودة الربيع ووصول رسائل جديدة من الليدي هيستر ستانهوب قبل أن أُغامر مرة أخرى بالمضيِّ في رحلة بالِغة الخطورة. هذا إلى جانب أن الصدمة التي تعرَّضنا لها كانت كبيرة جدًّا، وأن صحة زوجتي، السيدة «…»، تضرَّرت للغاية بسبب دوار البحر المستمر وذُعرِ المشاهد التي رأتها، ولازمَتها لعدة أشهر في أحلامها، ما تسبب لها في اعتلالٍ عصبيٍّ كبير لم يُفارقها تمامًا لعامين كاملين.
ويمكن إجمال موقف الليدي هيستر ستانهوب في ذلك الوقت من رسالة كتبَتْها إلى المرحوم السيد جون ويب، المصرفي الخاص بها في ليجورن، والتي أُرفق منها نسخة فيما يلي:
من الليدي هيستر إلى السيد جون ويب.
دار جون، جبل لبنان، الثلاثون من مايو ١٨٢٧.
سيدي،
لجأ أحد الخارجين عن القانون إلى جبل لبنان، مُستظلًّا بحماية الأمير بشير، واختلَقَ عراكًا مع السقَّاء الخاص بي، الذي كان يُؤدي عمله في هدوء، وبالاستعانة بمن رشاهم بالمال من رجال الأمير — أشباه جاك كيتش، جلاد الملك تشارلز الثاني — ضربُوا السقَّاء بقسوة بالغة. رشا هذا الرجلُ الأميرَ بشير وكبار رجاله أيضًا؛ إذ لديه الكثير من المال. ولذلك أخذوا جميعًا جانب هذا الخارج عن القانون، وتصرَّفوا نحوي أبشع التصرُّفات. ومن بعد ذلك بفترة قصيرة، ارتأى الأميرُ أن يَنشُر في القرى أمرًا مُفاده أن على جميع من يعملون بخدمتي العودة فورًا إلى منازلهم، وإلا تكبَّدوا خسارة ممتلكاتهم وأرواحهم. وقد مَنحتُهم جميعًا حرية الاختيار بين العودة أو البقاء معي. ومُعظمُهم ظلَّ ثابتًا على موقفه، لكونهم مُدركين أنه الأشد ظلمًا والأكثر سخافةً كذلك، من بين كلِّ ما سبق صُدوره من أوامر.
منذ ذلك الحين والأمير يُهدد بالقبض عليهم وقَتلِهم هنا، وهو ما لن يتمكَّن من فعله دون قتلي أنا أيضًا معهم. هذا بالإضافة إلى إصداره أوامر في كل القرى تُهدِّد بتمزيق من يُسدي إليَّ ولو أصغر خدمة إلى ألف قطعة، سواء من الرجال أو النساء أو الأطفال. وكما تتصوَّر لم يعد بإمكان خدمي الخروج من المنزل، ولا يَستطيع القرويون الاقتراب من منزلي. لذا فإنَّني في موقف لا أُحسد عليه بالمرة، حيث حُرمت من الإمدادات الضرورية من الغِذاء، والأسوأ من ذلك حرماني من الماء أيضًا، حيث تُجلَبُ كل المياه هنا على ظهور البغال بصعود مُنحدَر كبير.
لن أكون سليلة آل بيت بحقٍّ إذا عرف الخوف طريقه إليَّ، أو إذا قبلتُ بالانحناء أمام وحشٍ تسمَح له نفسه أن يربط بالسلاسل عنقَ وقدمَ رجلٍ وقور مُحترم ابيضَّت لحيتُه شيبًا، وحش يحرق الأعين ويقطع الألسن ويبتر أثداء النساء بإغلاق أغطية الصناديق الثَّقيلة عليها، ويحرقهنَّ بالحديد المحميِّ بالنار حدَّ الاحمرار، ويُعلقهن من شُعورهن، ويُشوِّه الرجال أحياءً، وإذا فر والدٌ من بين مخالبِه؛ قيَّد ابنه الرضيع في سلاسله! وطوال ثلاث سنوات رفضتُ أن يكون لي أدنى اتصال مع الأمير. وقد أرسل لي ذات يوم أحد كبار مبعوثيه، وهو أحد المسئولين عن مجموعة الأكاذيب المرسَلة إلى محمد علي. وقد رفضت مُقابلته أو قراءة الخطاب الذي حمله لي.
صديقي الطيب وطبيبي السابق، الدكتور «…»، لما أن سمعَ أن صار لي عدة سنوات في حالٍ غير طيب، وأن صحَّتي فترت للغاية، بادر بتقديم دليل على الإخلاص والتضحية نادر جدًّا هذه الأيام. فقد أطاح بفُرَصه في الحياة بالتخلِّي عن كل شيء في أوروبا كي ينضمَّ إليَّ في هذه البلاد، ودون حتى أن يَستشير أحدًا فيما هو فاعله. لقد كتب إليَّ من فرنسا يقول بأنه إذا لم يسمع خبرًا مني بحلول الخامس والعشرين من أبريل، فسوف يَمضي نحو ليجورن، ويغادر متجهًا إلى هذه البلاد حيث أُقيم. وقد حالت حالة بصَري من متابعة مراسلاتي معه كالسابق، ولكن إذا كانت الرسائل التي أرسلتُها إليه في مُستهل العام قد وصلَته من إنجلترا، فربما يكون قد عدَل عن قراره. لكن في حال كان في ليجورن، فإنك ستُطوق عنقي بجميلٍ عظيم إذا قدمت له ١٠٠ جنيه إسترليني لتغطية نفقاته، وكذلك إذا سلَّمته الرسالة المرفقة بهذا الخطاب.
لديَّ طلب خاص؛ وهو ألا تَنقُل، ولا أي أحد من طرفك، أي شيء يتعلَّق بشئوني إلى السيد «…»، فهو يُذيع كل شيء على أسوأ نحو على كل وغدٍ في مدينة بيروت.
آمُل أن تكون قد استلمتَ النبيذ الذي أرسلتُه إليك سليمًا. ولا حاجة بي لإخبارك بأنني لا أستطيع دفع عُمولتك في الوقت الحالي، لكن آمُل أن أُؤدِّيَها على النحو الذي يُرضيك في المستقبل القريب.
عشرة آلاف شكر على وصفَتِك الكريمة لعلاج عينيَّ. بيدَ أنَّني لم أخلُ لنفسي لحظة واحدة منذ تلقَّيتُها.
نسيتُ أن أذكر الطاعون المتفشِّي في صيدا. فمعظم الناس قد أغلقوا على أنفسهم أبوابهم؛ وبرغم أنني عانَيتُ بقسوة من هذا المرض سابقًا، فإنني لست مُتوجِّسة منه؛ لأنَّني مُؤمنة تمام الإيمان بالقضاء والقدر. وسعيدة أنني ألهمتُ مَن حولي بنفس المشاعر.
إذا شاء الله وخرجتُ سالمةً من هذه الأزمة، كما خرج النبي يوسف من البئر، فتأكَّد أنني متى قابلت في طريقي أي فرد من عائلتك، فسيكون من دواعي سروري أن أُقدِّم له ما في وسعي من خدمة ورعاية حتى يشعر بالاحترام والتقدير الذي أحملُه لشَخصِكم.
ملحوظة: سيكون هذا الأمر قد حُسم، قبل حتى أن تَستلِم هذه الرسالة بوقتٍ طويل. فلتَثِق أنَّني سأكون ندًّا لهم. أرجو ألا أُزعجك إذا طلبت منك أن تُطلع الدكتور «…» على المعلومات الواردة في هذا الخطاب، وأن تَلتمِس منه أن يلزم الصمت التام بشأن كل ما يتعلَّق بهذا البلد أو أي مكان آخر؛ إذ إنَّ الحال مُزعجة سواء هنا أو في قبرص.
•••
في وقتٍ ما في الربيع، لا أتذكَّر اليوم بالتحديد، تلقَّيتُ الرسالة التالية من الليدي هيستر ستانهوب:
دار جون، التاسع من نوفمبر ١٨٢٧.
لقد تسبَّب الطاعون هذا العام في وفاة الآلاف من سكان دمشق وحلب؛ وها قد حل الآن في جبل لبنان. تفشَّت كذلك أنواعٌ شتى من الحمى إلى جانب الطاعون، وقد كاد يَنفد كل ما لديَّ من دواء؛ إذ يلجأ إليَّ الناس جميعًا لأُوفر لهم ما يحتاجونه. لقد كتبت خطابًا إلى السيد آلن، أرجوه أن يَمنحني قرضًا أردُّه بعد عام كي أحصل على بعض الدواء الشائع هنا، وقد أرسل هو لك هذا الخطاب. لكن إذا وقعت الحرب، فكيف سأحصل على ذلك المال؟ لكنني سأُغامر وأُجرِّب حظي.
ذات يوم، بينما كان سيدٌ شاب، مِن أصدقائي العرب، راكبًا حصانه في منطقة معزولة من جبل لبنان، سمع صدى ضوضاء غريبة بين الصخور. وحين أنصَتَ جيدًا سمع الصوت ثانيةً، فترجَّل عن دابَّته ليتبيَّنه. وفوجئ أن وجد في فجوة في الصخور عُقابًا عجوزًا، أعمى تمامًا وقد أذهب ريشه الهَرَم. ورأى غرابًا آكلَ جِيَف، جاثمًا بجوار العُقاب ويُطعمه. فإذا كان الله سبحانه وتعالى وفَّر لذلك العُقاب الأعمى من يطعمه، فإنه لن يتخلى عني؛ ولعلَّ ذلك الغراب آكل الجيف يتطلَّع بازدراء إلى أبناء وطنك.
أقول ذلك لأنني قابلتُ طبيبين من الإنجليز قالا لي إنه برغم أن عينيَّ سليمتَين إلا أنَّ أعصابي تالفة، وهذا هو سبب ما أصابني من عمًى. وربما تُؤدِّي كتابة هذه السطور القليلة إلى اعتلال صحتي بضعة أيام، لكنَّني أُحاول أن أعبر لك عن الحزن، الذي شعرتُ به لكوني، على ما أخشى، سببًا فيما طرأ عليك من سوء الحال، وهو لم يَكُن ليحدث لولا معرفتك بي. ولا يسعني سوى أن أقول إنني لن أنساك، إذا نجَّاني الله من محنتي. إنك لا تملك شيئًا لمُساعَدتي الآن، فثق بالله وتذكر ذلك العُقاب. تذكر! فكل شيء مكتوب، ولا يُمكننا أن نغير شيئًا من قدرنا بالندب والتذمُّر. من ثَم فإنه من الأفضل أن نُصبح مثل المسلم الصادق، ونؤدِّي ما علينا إلى النهاية، ثم نلتمس من المؤمنين بإله واحد القليل من خبز يومِنا، وإذا لم نحصل عليه، فإن الموت من الفاقة ربما كان موتًا طيبًا كأيِّ موت آخر، وأقل إيلامًا منه. لكن إياك والتصرُّف خلافًا لما يمليه الضمير أو الشرف أو الفطرة أو الإنسانية.
ما سأفعلُه، أو ما لن أفعله، ليس من شأن أحد؛ لذا لن أقول لأحد شيئًا. إن الله هو مدبر الأمور جميعًا. لا تكتب لي ولا تُراسلني. أولًا، لأنني لن أتمكن من تسلم رسائلك، وثانيًا لأنَّني لا أريد سماع آلاف الأكاذيب التي يُردِّدونها؛ إذ أعلم أنك لن تجرؤ على كتابة غيرها، إلا إذا تركوكَ وشأنك. دع كل شيء للخالق العظيم القادر على كل شيء، الذي سيُمدُّني بالقوة لأواجه كل الظروف. وقد كان لديَّ، وأنا في وضعي الحالي، السبب لأرجو رحمته كل يوم. فلم يستطع أحد النجاة والمشكلات من كل نوع تعترضه، من دون حماية من يد الله سبحانه وتعالى. ولقد كتبتُ هذه الأسطر القليلة آملةً مُواساتك ولو قليلًا، وكي أجعلك ترى أنني أملك روحًا، حتى لو كان جسَدي قد هُزِل غاية الهُزال، بسبب القلق والحاجة للغذاء والراحة وغيرها. لكن لا تتوقَّع مني المزيد من الرسائل. وإن أردتَ إيذائي، فتحدث عني وعن أحوالي إلى الحمقى والأغراب والفُضوليِّين: لكن الأمر الآن وصَل إلى مرحلة حيث لم يَعُد مُهمًّا ما يقوله أو يفعله أي إنسان. بارك الله فيك!
من الليدي هيستر ستانهوب إلى السيد ويب، المصرفي، في
ليجورن.
[التاريخ المفترض] أكتوبر ١٨٢٧.
لك مني جزيل الشكر يا سيدي العزيز على الاهتمام الذي أبديتَه من أجلي، وبرغم مئات المشاق التي تُحيط بي فإنني مُنشرِحة الصدر؛ إذ يُعاملني الأتراك معاملةً حسنة جدًّا، كما قلت لك من قبل. أما ذلك الوحش العجوز، الأمير بشير، فقد أصبح هادئًا تمامًا في الوقت الحالي، على الأقل فيما يخصُّني، لكنه يجعل كلَّ من حوله يعيشون في فاقةٍ وبُؤس. لكن المسلم الحقيقي هو كائن شُجاع لطيف القلب، حتى وإن كان عنيفًا إلى حدٍّ ما، وإذا وثق فيك يُصبح من السهل جدًّا التعامل معه. وإنَّني كثيرًا ما تعجَّبتُ من صبرهم الرصين مع ناس مُنحطِّين ومُتبجِّحين ومُبتذلين، يسعون بين الناس كأنهم أعلى مكانٍ من السفراء، لمجرَّد أن الصدفة قد جعلتْهم قناصل أو وكلاءَ في بلدة قَذِرة دون مُستوى القُرى في فرنسا؛ رجال بالكاد يُبادلهم ذوو الشأن التحية إذا قابَلُوهم في شوارع أوروبا. إن السلوك العام لهذا الصنف من الناس هو ما أعطى لأهل الشَّرق مثل تلك الفكرة الخاطئة عن الأوروبيِّين. إن جنس المسيحيِّين هنا هو من أشرِّ الناس في العالم؛ فهم ليسوا جميعًا عديمي الكفاءة تمامًا، لكنَّهم جميعًا ولِدُوا بلا مبدأ أو حتى فضيلة واحدة. ومن بين العدد الكبير من الأطفال، أولاد وبنات، الذين استقبلتُهم عندي منذ نعومة أظفارهم، لم يُصبِح أحد منهم شخصًا مقبولًا، ومُعظمُهم أصبحوا من المشرَّدين. وإذا أصاب المرض رجلًا مسكينًا منهم، وشقَّ على زوجته العناية به ولو قليلًا، فإنها سُرعان ما تُنهي الأمر ببعض السمِّ تُعطيه له؛ وإذا تزوَّجَت امرأة منهم للمرة الثانية، فستَجِد زوجها ينبذ كل أطفالها من الزواج السابق، والمرأة نفسها، بلا ندمٍ، تتركهم للموت في كوخ، أو تَهجرهم تحت شجرة ليتسوَّلوا ما يسدُّون به رمقهم. وفي الليلة الماضية حدث أن جاء إليَّ أحد أولئك الكائنات البائسة، جلدًا على عظم، بعد أن ظلَّ مريضًا بالحُمى ٣٠ يومًا. حتى الفتيات اللاتي ربَّيتهنَّ عندي بأكبر قدر من العناية، عندما يتزوَّجن يضربن أطفالهنَّ ذوي العامَين من العمر بمنتهى العنف حتى إنهم ليَفقدون الوعي؛ وإحداهنَّ ضربت طفلها على ظهره ضربة تسببت في بروز أمعائه لأكثر من شبر. والرجل منهم لا يُفكِّر حين يلتقط حجرًا بحجم رأسه، ويُلقيه على زوجته وهي تحمل طفلَه، وهؤلاء الناس المتوحشون هم الذين يَكتسبُون عطف الأوروبيين، وهم قوم ممقوتون، يستحقون الإبادة من فوق وجه الأرض. وشتَّان بين هؤلاء الأخسَّاء وبين العرب البدائيِّين، الذين يجتازون رمال الصحراء الحارقة وهم حفاة الأقدام فقط ليكونوا إلى جوار صديق أو قريب لهم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، والذين يُعلِّمون أطفالهم منذ الصغر الرضا والجَلَد، والذين يُحافظون دائمًا على رُوح القُدوة بينهم! وهم أكثر شعوب العالم جسارةً، ومع ذلك فإنهم على قدر كبير من الرقة والحنان، ويمتدُّ عطفُهم ليشمل كل ما يحيط بهم من مخلوقات عجماء. وأنا عن نفسي أكنُّ كل المودة والثقة تجاه هؤلاء الناس؛ إلى جانب أنني مُعجبة بعيونهم المتَّقدة وأسنانهم الجميلة، والرشاقة وخفة الحركة (دون تباهٍ)، التي يختصُّون بها وحدهم. وحين يرى المرء هؤلاء الناس، يعود به الفكر تلقائيًّا إلى زمن إبراهيم الخليل، حين لم يكن رأس الإنسان مليئًا بكل تلك الأنظمة الزائفة الموجودة في عصرنا هذا.
الآن يجب عليَّ أن أشكُركَ على الجُبن الشديد الروعة، وعلى صندوق المشروبات الروحية الذي جاء معه. تقول لي ألا أُرسل المزيد من النبيذ، ولكنَّني لن أُصغي لذلك. يُؤسفني فقط أنني لا أستطيع إرسال المزيد من النبيذ مع هذه الرسالة؛ إذ أصبح نادرًا جدًّا، وهذا هو سبب الكمية البسيطة التي أرسلتُها إليك؛ لكنني سأظلُّ أرسل إليك ببعض منه على الدوام، كلَّما أمكنني الحصول عليه؛ وأتمنى فقط أن ينتج هذا البلد شيئًا يَنال قبولك وقبول السيدة ويب.
سمعتُ أن في جنيف زهورًا فائقة الجمال. فلو اشترَيت لي بعضًا من بذورها فسأكون مُمتنة لك كثيرًا؛ إذ كان محصولي من الزهور هذا العام قليلًا جدًّا؛ ذلك لأنَّ البستاني الذي يعمل لديَّ مُهمِل للغاية، فأهمَل سقي البذور، فلم تَنمُ نهائيًّا. وقد مات حصاني المُطهم منذ زمن، وأصبحت حديقتي هي مُتعتي الوحيد. وقد كتبت لك ورقة صغيرة بما أريده؛ لكن إذا كان هناك أيُّ أنواع أخرى من الزهور أو الشُّجيرات المُبهجة، فأرجوك أن تُضيف بذورَها إلى تلك المجموعة. ولاحِظ أنَّ الأزهار الشديدة الصِّغَر تُعتبر هنا من الأعشاب الضارة، مهما كانت جميلة.
•••
لا بدَّ أن أنباء معركة نافارينو وصلَت إلى صيدا وبيروت مباشرة بعد هذا الخطاب. وعندئذٍ فر جميع الفرنجة الموجودين في صيدا من مَنازلهم فجأة، في ساعة واحدة، ولجأ أغلبُهم إلى الليدي هيستر ستانهوب. وستَجِد فيما روته في نصِّ حواراتها اللاحقة، ستجد إشارة إلى الكُلفة التي تكبدتها بسبب هذا الحدث غير المتوقَّع؛ إذ كانت حريصة، في خطاباتها إليَّ، بشكل خاصٍّ على عدم الإشارة بأيِّ كلمة إلى التوتُّر العميم الذي ساد بين الأوروبيِّين، خشية أن يتنامى خوف عائلتي، فنُحجم عن المضيِّ في رحلتنا.
تطلَّبَت بعض الشئون الخاصة وجودي في إنجلترا، فغادرتُ إيطاليا في يونيو عام ١٨٢٨ متجهًا إلى لندن، ثم عدتُ إلى بيزا في أكتوبر التالي. وحتى ذلك الوقت (حوالي عام) لم أتلقَّ أيَّ إجابة من الليدي هيستر على خطاباتي (أحدهما أرسلته من زانتي، والآخر من ليجورن)، وقد حكَيت فيهما عن حادثة هجوم القراصنة على سفينتنا. وفي ذلك الوقت لم تكن هناك زوارق بخارية في تلك المياه، وكانت المراسلات بالضرورة تُنقل بواسطة السفن التجارية، رغم المَخاطر الكبيرة والغموض الذي يحيط بها؛ إذ كان اليونانيون يَنهبون العديد منها، والأخرى تقضي غالبًا شهرَين أو ثلاثة للعودة من بلاد الشام إلى مرسيليا أو ليجورن. وأخيرًا، وصلَني خطاب مكتوب بيد الآنسة ويليامز، أملَته عليها الليدي هيستر ستانهوب.
من الليدي هيستر ستانهوب إلى الدكتور «…»
دار جون، جبل لبنان، الثالث والعشرون من مارس
١٨٢٨.
سوف يَنقشِع وباء الطاعون قبل وصولك إلى هنا. يُعاملني أهل البلد من المسلمين معاملةً حسنة جدًّا، أما المسيحيُّون والفرنجة فيُسيئون إليَّ. لن أقول شيئًا عن أحوالي، (وبالطبع يمكنك تخمين كيف قد تكون في هذه الأوقات)، ولا عن صحَّتي، وليس هناك أي شخص من أي نوع لمُساعدتي في أي شيء. وإذا خرجت من هذه الأزمة حيَّةً، فربما أستطيع مساعدتك، وإن لم يحدث ذلك، فأرجو أن تأخُذ الآنسة ويليامز المسكينة بعيدًا عن هنا.
أرجو أن تُبلغ السيد ويب عميق تقديري لاهتمامه الكريم بي. وآمُل أن يصله النبيذ الذي أرسلته له مع هذه السفينة، وإذا لم يَصِله فأنا بريئة من هذا الخطأ. سلم لي على زوجتك وقل لها إنني آمُل ألا تمنعَها عاطفة طفولية من السماح لك بالغياب لفترة وجيزة. إنني مُشفقة عليها، لكنني لا أملك أن أُعبر عن ذلك. وبإمكانها الاعتماد عليَّ فيما سأُسديه من نصح، ولكن فقط اتبع أوامري حرفيًّا. ولو كنتَ أطعتَني من قبل، لربما كانت الأمور مُختلفة الآن للجميع، لكن الحمقى قد حلُّوا محلَّ الحُكماء، وهذا ما قلب العالم رأسًا على عقب، وسبَّب كثيرًا من التعاسة للناس. وأعدُك أنني سأُبقيك عندي لبضعة أشهر فقط، لكنني أريد أن أراك، تعالَ ولكن في هدوء وصمتٍ قدرَ المستطاع.
لن أستلم أي خطابات من «إكس»، لذا فلا تأخُذ منه أيًّا منها، فكلُّها مليئة حتمًا بالأكاذيب. وإذا كان قد أعطاك أيًّا منها فأَعِدها إليه، ولا تَقُل له كلمة عن أنَّك تَنوي المجيء إلى هنا.
في الخامس عشر من نوفمبر من نفس العام تلقَّيت رسالة أخرى، كانت كذلك بخط الآنسة ويليامز.
من الليدي هيستر ستانهوب إلى الدكتور «…»
دار جون، الخامس والعشرون من أغسطس ١٨٢٨.
قد سمعت من مقر السيد ويب أنك ذهبتَ إلى إنجلترا. قلبي مُتوجِّس؛ إذ أخشى من المكيدة وأنهم قد يَمنعونك من الحضور. عمومًا لا تزحم رأسك بأفكارٍ حولَ عدم استطاعتك النزول إلى هنا؛ لأنه على الرغم من رحيل القناصل والفرنجة من هذا الجزء من العالم، فإنَّني على يقين أن أي إنسان سيأتي لرُؤيتي سواء كان على متن سفينة حربية أو قارب عادي، فإنه لن يجد مُقاومة لنزوله هنا، حتى لو كانت الأمور في حال أسوأ ممَّا هي عليه الآن. سليمان أفندي، الذي قابلتَه أنت في صيدا، أصبح محافظ بيروت، وقد خلفه علي أغا على صيدا، ولا يزال لوريلا في بيروت بصفته القنصل النمساوي، وإن كان قليل الودِّ تجاهي، على غرار جيراردين العجوز في صيدا، إذ يَعتبرانني عربية. إياك أن تكتب لي أبدًا إلا عن طريق مقرِّ السيد ويب، سواء كنتَ ستأتي إلى هنا أم لا. لا أريد أي مُبرِّرات ولا قصص طويلة. وأرجوا ألا يتغيَّر رأيك؛ لأنَّني على يقين أنه لو حدث ذلك فسوف تَندم في النهاية.
آه! لماذا لم تَحضُر إلى هنا مُباشرة، وتجلب معك لوسي؟ لكم كنت ستُريحني لو فعلت ذلك!
•••
امتثالًا لرغبة الليدي هيستر، عقدت العزم على انتظار حلول الربيع، من أجل نقلِ عائلتي إلى إنجلترا وتركهم هناك، ثم الانطلاق بمفردي إلى سوريا. ولكن ظهرت مصاعب جديدة، وأصبح الوضع أكثر إيلامًا بسبب الخسارة البالغة التي تكبَّدتها الليدي بسبب وفاة رفيقتها الحنون التي صاحبتها لفترة طويلة، الآنسة ويليامز. فذات يوم من شهر ديسمبر، أرسل لي السيد ويب، من ليجورن، خطابًا جاءه من الليدي هيستر، يبلغه الأخبار الكئيبة حول ذلك الحدث الحزين. كان الخطاب بالفرنسية، أُمليَ على سكرتيرة ما، وجدتها الليدي لتقوم بكتابة مراسلاتها، وقد أرفقته هنا مترجمًا تيسيرًا على عموم القراء.
من الليدي هيستر ستانهوب إلى السيد جون ويب، التاجر في
ليجورن.
دار جون، الرابع والعشرون من أكتوبر ١٨٢٨.
سيدي،
حين تلقَّيت خطابك المؤرَّخ في السابع عشر من يوليو، كنتُ مريضة جدًّا وملازمة لحجرتي، وأعاني أحيانًا من هذيان، مع ذلك فقد طلبت في لحظة وعي من السيد جيراردين أن يُطلعَك على الخسارة العظيمة التي لحقت بي بوفاة المُخلصة الآنسة ويليامز.
شهيَّتي جيدة، ولكن ضعف معدتي لا يُمكنني من هضم الطعام الكريه السيِّئ الطهي الذي يُقدمونه لي، نظرًا لأن معدتي أصابها اضطراب شديد بسبب نقص التغذية الذي استمر ١٥ يومًا، بعد أن عشتُ طوال تلك الفترة أقتات على الشعير المنقوع بالماء، وشرب الماء العادي.
يبدو لي أنه لو كان الدكتور «…» قد قرَّر المجيء على هنا، لكان قد وصل منذ فترة. حسنًا! لقد اجتزتُ هذا المرض دون مساعدة منه، ولا من أي طبيب آخر، ويشعر المرء بالكثير جدًّا من السمو حين يكون الله هو طبيبه. فإنه وحده جل وعلا الذي أنقذني في كل الصعوبات التي واجهتها في العشرين سنة الأخيرة، وهو الذي وهبني القوة لتحمل ما كان الآخرون سينوءون بحمله.
مع الكمبيالات، المسحوبة عن طريق السيد بيل والسيد بودان، توجد شهادات بأنني على قيد الحياة. وأنت تعرف مدى ضعف بصري، وأنني بالتالي لا أستطيع كتابة الكمبيالات بنفسي، لكن الحمد لله! فلا زلت أستطيع، على ما في ذلك من ألم عظيم، أن أقرأ رسالة، لكنني لا أستطيع أن أبالغ في الجهد لأقرأ الكتب أو الصحف. وهذا هو سبب أنني جعلت الجنرال العجوز لوستانو يكتب الكمبيالات لصالح السيد بودان، والسيد بودان يكتب تلك التي لصالح السيد بيل؛ ولا يجدر بك أن تتعجب لو ذات مرة كتب السيد بودان بنفسِه الكمبيالات التي ستُصرف لأمره هو.
لقد طلبت مني المؤسسة التجارية ﻟ «…» القائمة في «…»، أن أرسل إليك خطاب تعريف عنهم؛ لأنهم يقولون إنك رجل رفيع المقام، ولكنَّني آنَف بشدة من تقديم خدمة لمثل أولئك المحتالين.
الوضع المأساوي الذي وجَدَت فيه الليدي هيستر ستانهوب نفسها جراء فاجعةٍ خطيرة مثل فقدان الآنسة ويليامز، التي كانت في مرضها وصحتها، هي أهم شخصٍ لديها، قد جعلني أضع جانبًا كل الاعتبارات الأخرى، وأُقرر القيام بالرحلة إلى سوريا دون تضييع وقت، حتى لو في قلب الشتاء، برغم أن الملاحة في البحر المتوسِّط شديدة الاضطراب في أشهر يناير وفبراير ومارس. ومن ثَم ذهبتُ إلى ليجورن، واتفقت مع ربان سفينة تجارية، كانت ستبحر إلى بيروت في غضون أيام قلائل. ولم يتبقَّ سوى التوقيع على الاتفاق، ولكن قبل القيام بذلك كان عليَّ التغلب على النفور الذي ستشعر به زوجتي بسبب تركها، إذا قرَّرت البقاء، والتوجس من التعرض لهجمات قرصنة جديدة، إذا هي صحبتني في رحلتي. وقد ظلَّت مُتردِّدة بين هذَين الخيارين حتى ضاعت الفرصة، ولم تستطع حزم أمرها بشكلٍ أو بآخَر إلى أن جاء الربيع ثم الصيف، حتى استقرَّ الأمر أخيرًا على أن أعيدها إلى إنجلترا، وأتركها هناك، ثم أعود وأمضي في رحلتي وحدي.
وعلى ذلك انطلقنا إلى مرسيليا في أغسطس ١٨٢٩، وعبرنا فرنسا حتى وصلنا باريس. بيد أنها ظلَّت مشغولة بهواجسها الأنثوية، وخشيتها من فقداني في بلد غريب موبوء بالطاعون، وبألف مرض، يتوهَّم كل من لم يسبق له زيارة الشرق أنها شائعة في تلك البلاد البعيدة أكثر من بلادهم، واتخذت قرارًا جديدًا بمُرافقتي في رحلتي. وهكذا عدنا إلى مرسيليا، ولكن لم أستطع إقناعها بأن تطأ بقدمِها سفينة إلا في نوفمبر ١٨٣٠.
وسكن أرضية وخزائن المقصورة سيدة عربية وثلاث بنات لها وابن، فيما أقام زوجها مع مواطن قبرصي يوناني في مخزن السفينة. وهكذا كنا اثني عشر مسافرًا في المقصورة التي لا تسع سوى ستة فقط كي يُقيموا فيه مرتاحين، لكن لا يبدو أن ربان السفينة أو أصحابها قد شعروا بأي تأنيب ضمير إزاء ذلك.
«والتي فعلت مثل البخلاء، فجعلت تُوفر وتقتر في القماش حتى أفسدت معطفه».