الفصل الثالث
استقبال الليدي ستانهوب للدكتور «…»، وصف مكان إقامتها، الأسباب المفترضة لعُزلتها، تأثيرها الاستثنائي على مَن تعُولهم، مزاجها العنيف، لباسها ومظهرها، نفوذها في البلد، عبد الله باشا يَنقاد إليها، عداؤها للأمير بشير، تحدِّيها لسُلطته، رأيها فيه، هروب الأمير، عودته، موت الشيخ بشير.
وصلنا بيروت في الثامن من ديسمبر، بعد رحلة موفَّقة، وكنا قد رسَونا في قبرص لمدة ٨ أيام لإنزال بعض البضائع، والأسرة العربية، ومجموعة الإنجليز. وعملًا بتوجيهات الليدي هيستر ستانهوب، ارتدَيت بذلة قديمة باهتة من الملابس التركية، وهكذا قدمتُ نفسي في مقر إقامة القنصلين الإنجليزي والفرنسي. بالتأكيد لم يكن الغرض من مظهري جعل دائني سيادتها يظنُّون أنني جئت محملًا بالنقود كي أدفع ديونها؛ وقد شعرت أثناء مروري عبر الشوارع أن العباءة البدوية القديمة، وملابسي كلها بالطبع، التي عبرتُ فيها الصحراء مرتين إلى تدمر، كانت صِبغَتُها وعُمرُها يُبددان آمال أكثر المتفائلين بهذا الظن.
لم أضيع وقتًا في إرسال مبعوث ليُعلم الليدي هيستر ستانهوب بوصولي، وتلقيت رسالة منها في الحادي عشر من الشهر، أعربت فيها، بعد أن هنَّأتنا بسلامة الوصول، عن سعادتها برؤيتي، وأضافت أنه على عائلتي ألا يتوقَّعُوا منها أي اهتمام سوى ما يجعلهم يشعرون بالراحة في كوخهم، وأنهم لا ينبغي أن يستاءوا منها على ذلك، إذ كانت قد أعربت لي قبل فترة طويلة عن اعتقادها بأنَّ السيدات الإنجليزيات لا يُمكن أن ينعمن بالسعادة في سوريا، لذا فعليَّ أنا، مَن جلبتُهم إلى هنا، أن أتحمل تبعات ذلك. لم يكن هذا الاستقبال مُحببًا لنفسي، لكنه كان مألوفًا جدًّا من الليدي هيستر.
مع حامل الرسالة أرسلت الليدي هيستر جِمالًا لحَمل أمتعتِنا، وحميرًا لحمل أسرتي، وحصانًا من أجلي. وعند مقام النبي يونس نِمنا أول ليلة، حيث وجدنا خادمًا آخر لها، كان قد أُرسل كي يُعدَّ لنا العشاء والأسرَّة؛ وفي اليوم التالي، وعلى بُعد ميلين من منزل الليدي، قابلنا السيد جاسبر تشاسود، سكرتيرها، الذي جاء كل هذه المسافة ليُرحب بنا. وبعد أن عهدتُ بأسرتي إلى هذا السيد ليقودَها على الطريق، أسرعت بمُفردي مُتقدمًا، حتى بلغت مقر إقامة الليدي هيستر قرب الظهيرة.
كانوا قد أعدُّوا لنا منزلًا صغيرًا في قرية جون، وبه اثنان من العبيد السود من أجل الخِدمة، ولم يكن بمَكان إقامتنا هذا أي شيء يدعو للاستياء. ورافق السيد تشاسود عائلتي إلى منزلهم الجديد، لكنَّني لم أستطع الانضمام إليهم قبل الثانية عشرة ليلًا.
وجدت الليدي هيستر في حالة صحية جيدة وحالة معنوية رائعة، وكانت تبدو مثلَما تركتُها منذ بضع سنوات. واستقبلَتْني بحَفاوة بالغة، وقبَّلتني على وجنتيَّ، وأمَرَت بتقديم العصير، والغليون، والقهوة، وفنجان من ماء زهر البرتقال، وهي كلها من مَظاهر حسن الاستقبال، التي تُعد في الشرق علامات على أقصى درجات الودِّ والاحترام. وأنا نفسي كنت مندهشًا بحق من كل هذه الحفاوة، وبشكلٍ خاصٍّ من تحيَّتِها لي بالتقبيل على الخدَّين حسب العادة الشرقية؛ ذلك لأنها في المرحلة المبكرة من أسفارها، وكنتُ مكثتُ معها سبع سنوات، لكنني لا أذكر أنها وضعت ذراعها في ذراعي، فهو شرف قلَّما كانت تمنحه لأحد دون أفراد الطبقة الأرستقراطية. وازدادَت دهشتي حين أصرَّت، ولعدة أيام متتالية، على جلوسي دائمًا إلى جوارها على الأريكة الخاصة بها، وهو امتياز نادر، بل لا أظنها سمحت به لأحد بعد ذلك.
أخذت المحادثة في البداية مَنحى الاستفسارات المعتادة بين المعارف الذين غاب بعضهم عن بعضٍ لفترة طويلة. وبقيتُ معها من الظهيرة حتى مُنتصَف الليل، أحاول الذهاب دون جدوى، وبالكاد تحرَّكت من فوق الأريكة طوال تلك الفترة، إلا حين جلست لتناول العشاء. ويُمكن أن يكون وصفُ لقاءات العشاء مع هذه السيدة، التي كانت فيما مضى تترأَّس مائدة السيد بيت في رونَق الرخاء والأناقة — مُثيرًا للاهتمام والفضول. فقد جلست على الأريكة، وأنا قبالتها، على كرسيٍّ عادي قاعدته من القَش، وبينَنا منضدة خشبية غير مطلية (حوالي ثلاثة أقدام في قدمَين ونصف)، مُغطاة بمفرش طاولة رث، من النوع الذي يُفرش عادةً على الطاولات الموجودة بغُرف نوم الفنادق الصغيرة. أمام كل منَّا وُضِع طبقان، أحدهما فوق الآخر، على الطراز الفرنسي، وفي وسط الطاولة وُضِعت ثلاثة أطباق من الخزف الأصفر (الشائع في جنوب فرنسا)، تحتوي على أرز ويخنة، على غرار اليخنة الأيرلندية، وطير مسلوق، يسبَح في مرقه. وكانت هناك ملعقتا طعام فضيتان لكلٍّ منا، والتي قالت الليدي إنها كلُّ ما لديها، وشوكتان وسكينتان سوداوان بمقابض من العظم. كانت إحدى الملعقتَين من أجل المرق، والأُخرى من أجل اليخنة؛ وعند تقديم الأرز، تناوَلناه بنفس الملاعق التي كنا نأكُل بها.
اكتمل العشاء بزجاجة سوداء تحوي نبيذ جبل لبنان ذا النكهة الرائعة فعلًا، ودورق ماء عادي. وقالت الليدي إنَّ دوق ريشيليو الشاب كان يتناول العشاء معها على نفس الصورة؛ لكنها أضافت أن افتقارها إلى الأطباق وأدوات المائدة لم يكن بهذا السوء قبل فترة المرض الطويلة التي عانت منها؛ إذ سلبها عبيدها وخدَمُها، في تلك الفترة الكئيبة كل شيء، حتى الوسائد وأغطية أريكتها.
بعد مرور وقتٍ طويل، وبعد التوسُّل مرارًا بأن أسرتي لا بدَّ أنهم يشعرون بالقلق بسبب تركي لهم طوال ساعات كثيرة في مكان غريب عليهم، استطعت الهرب والعودة لأجد زوجتي جالسة بائسة وسط أمتعتِها، وهي مُقتنعة بأنني ضللتُ أو التهمَتني الذئاب والضباع المجاورة، التي حاول سكرتير الليدي هيستر جاهدًا الترفيه عن زوجتي بقصصها، لعدم وجود مواضيع أخرى ليحدثها عنها. ولم يكن هناك صعوبة كبيرة في تهدئة مخاوفها في مثل هذه المناسبات التي تكررت كثيرًا بعد ذلك، لكن الشيء الذي لم يكن سهلًا بالمرة هو استرضاؤها من ناحية الإهانات الصريحة التي راحَت الليدي هيستر تصبُّها عليها منذ لحظة وصولنا، والتي افترَضنا أنها كانت انتقامًا لتأجيل رحلتي إلى سوريا عدة مرات؛ حيث كانت الليدي تعتقد أن زوجتي هي السبب وراءه. وربما ما زاد من حدة استياء سيادتها عدم تعاطُفِها في العموم مع بنات جنسها.
فليُسامحني القارئ على هذه التفاصيل الدخيلة. فإنني أرويها من أجل الحفاظ على خيط السرد كاملًا، ومن المؤكد أنه ليس نابعًا من شُعور بالمرارة تجاه الليدي هيستر ستانهوب، والتي كانت دوافعها، حسبما أخبرتني فيما بعدُ، لتبنِّي هذا السلوك الغريب تجاه عائلتي ناجمةً عن رغبة في ردع أي نزوات أُنثوية لدى زوجتي؛ إذ توقَّعَت الليدي أن تلك النزوات قد تخلُّ بتناغم تواصلنا أنا وهي.
وقبل أن نشرع في سرد المذكِّرات، لا بدَّ أن نُعطي وصفًا لمقر الإقامة الذي اختارته الليدي هيستر، حتى نتحاشى الالتباس الذي قد ينشأ أحيانًا من الجهل بمحليات بالمكان.
كان أول ملاذ لها، حين استقرَّت في سوريا عام ١٨١٣، منزلًا رهبانيًّا قديمًا، على بُعد حوالي ميلين من مدينة صيدا العتيقة، لكنَّها وجدته صغيرًا جدًّا على أن يستوعب حاجاتها؛ وكانت قد رأت في إحدى جولاتها أثناء إقامتها هناك، منزلًا صغيرًا في قرية جون، فقرَّرت استئجاره والانتقال إليه. كان المنزل ملكًا لجُوزيف صويح، وهو تاجر دمشقي، وكان على استعداد تامٍّ أن يَتنازل لها عن المنزل مقابل ١٠٠٠ قرش، أو ٢٠ جنيهًا إسترلينيًّا في السنة، حسبما كانت تجري المقايضة وقتها، على شرط أن تَئولُ المباني والتحسينات التي قد تُجريها على المكان له ولورثته حين تتخلَّى الليدي عن المنزل، ودون أي مُقابل من جانب جوزيف أو ورثته. كان المنزل وما زال يُدعى دار جون، ودار تعني قصرًا، أو مسكنَ رجل نبيل. ودار تعني أيضًا جبلًا أو تلًّا مرتفعًا. ولكنَّني لا أعرف أي المعنيَين هو المقصود في اسم دار جون، حيث أخبرني بعض العرب أن المقصود هو أحدهما، وأخبَرَني البعض أن المقصود هو المعنى الآخر.
شيدت الليدي هيستر حول المنزل حُجرات صغيرة، واصطبلات، وأكواخًا، ومكاتب، ومساكن كاملة. المساكن والحُجرات كان القصد منها إيواء الذين توقَّعَت أنهم سيفرُّون إليها طلبًا للجوء، خلال الثورات التي اعتقدت الليدي أنها وشيكة، ليس فقط في البلد الذي تُقيم فيه، ولكن في العالم بأسره؛ وتوقعت أن يَستجير بها العديد من الأفراد الفارين من مُطاردات الطاغين الحثيثة، لذا ابتكرت عدة غرف منفصلة، بشكل يجعل الأشخاص المقيمين داخل المكان نفسه يجهلون من يُجاورهم، وجيرانهم يجهلونهم على النحو نفسه. وكان المكان كله محاطًا بجدار يَزيد ارتفاعه على عشر أقدام من ناحية الشمال والشرق، ونحو ست أو سبع أقدام من الجانبَين الآخَرين. وكانت المساحة بأكملها داخل الجدار عبارة عن مُتوازي أضلاع.
كانت المباني، في بعض الحالات، مكونة من عدد من الجدران، أحدها داخل الآخر مثل قصور ملوك الميديين (شاهد المخطط الأرضي المرفق)؛ ونظرًا للمرافق المتنوعة التي عاش فيها الخدم ذوو المِهَن المُختلفة، كان لا بدَّ من رؤية أي شخص يُحاول الدخول أو الهروب من المكان، وكان من المؤكَّد كذلك إمكانية إيقافه. يوجد مدخلان يُؤديان إلى المباني، أحدهما للرجال من الخدم والزوار، والآخَر للنساء، ومن يدخلون سرًّا لجناح سيادتها. والغريب الذي سيدخل من أي مدخل من هذَين المدخلَين سيقع في حيرة شديدة، وسيكون أول ما يخطر على باله هو: إلى أين سأذهب؟ هل هذه مَتاهة، حيث باب هنا وممرٌّ مُظلِم هناك؛ وحديقة في ناحية، وحاجز في الناحية الأخرى؛ وفناء هنا وفناء آخر هناك؟ ما معنى كل ذلك؟ كانت بعض المَمرات تُؤدِّي مباشرةً إلى الحجرات لكنها ستبدو على بعد ٥٠ أو ١٠٠ ياردة على الأقل، لمن لا يحيط علمًا بالمباني الموجودة، وسيَحكم بِناءً على مساراتها الملتوية. وفي الحديقة كان يُوجد مقصورتان، في أرضهما أبواب مسحورة تقود إلى درجات تهبط إلى غرفة تحت الأرض، في جدرانها أبواب تخرج منها إلى الريف الواسع. وأكثر من شخص يَدين بسلامته، إن لم يكن بحياته، لهذه الطرق السرية للفرار والملاذ.
لم يكن إنفاق الليدي المستمر على البناء ناشئًا عن حبٍّ للطوب والملاط الذي نراه في كثير ممَّن يتقدمون في العمر، ولكنه نشأ من الفكرة المهيمنة عليها أن المكروبِين ومهدوري الدم، من الأغنياء والفقراء، سوف يفرُّون إليها بحثًا عن الحماية والعون والاختباء. وبصرف النظر عن أن تصوُّرها قد بدا خطأً في البداية، (إذ أثبتَت الأحداث نوعًا ما أنها كانت على حق)، فلم يشكَّ أحد ممَّن عرفوا شخصية الليدي معرفة حقيقية ولو للحظة في كرم دوافعِها وتجرُّدها التام. وكانت تربي الحمير والبغال والِجمال والخيول لنفس الغرض في المقام الأول؛ ودرَّبت خدمها على توقُّع الأحداث والنوازل، بنَوع من التقوى والرجاء الورع، حين تُختبر أعمالهم وطاقاتهم إلى أقصى حد.
إلى جانب الإضافات التي كانت الليدي هيستر تُجريها باستمرار على مقرِّ إقامتها، استأجرت أربعة أكواخ أو خمسة في قرية جون، واشترَت منزلًا قديمًا مُتهالكًا هناك. وهذا الأخير قالت إنها سوف تُرمِّمه وتُحوله إلى فندق صغير نوعًا ما، بحيث يكون مُلائمًا لتستضيف فيه عددًا ممَّن سيتردَّدُون عليها بخصوص الأمور المهمَّة التي كانت تلعب فيها دورًا بارزًا عما قريب. وفي أحد الأيام قالت لي الليدي: «لا تظنَّ أنَّني عندما يحين الوقت سأدع عائلتك، أو عائلة سكرتيري، يقطنون تلك المنازل التي تشغلونها الآن؛ فسوف أحتاجُها، لكنَّني أبتغي مأوًى، في قرية على بُعد ثلاثة فراسخ، ليأوي إليها جميع النساء والأطفال، والأفراد الذين لا دور لهم في منشأتي. سأُرسلهم إلى هناك، وحينها سيكون عليك التخلي عن الأماكن الشاغِرة لدَيك من أجل الأشخاص الذين سيَلجئون إليَّ.»
طالَما تساءلت مُتعجبًا عما دفع الليدي هيستر لاختيار مثل هذه الأماكن، البعيدة جدًّا والمُنعزلة، بدلًا من العيش في مدينة حيث تتوفَّر لها بسهولة وسائل الراحة في الحياة؛ وتوصَّلت أخيرًا إلى استنتاج مفادُه، في رأيي، أن اختيارها هذا يَنطلِق من حبِّها للسُّلطة المُطلقة، والذي لا يُمكن لها إشباعه وسط عدد كبير من الناس بنفس الدرجة كما في مكان مُنعزل وبعيد عنهم. لذا اختارت أن تسكن بعيدًا، وبمَعزل عن ذلك التأثير والقيود، التي تفرضها الجيرة والمُجتمع علينا بالضرورة. وقد تفقد الأفعال الاستبدادية بعضًا من بشاعتِها حين تُمارس بعيدًا عن الناس، أو يجوز قبول تبريراتها. كذلك يُصبح الأرقاء أكثر عجزًا وقد بعُد بينَهم وبين وسائل الفرار والاستغاثة.
كانت مار إلياس، في عبرا، حيث أقامَت الليدي سابقًا حوالي ست سنوات أو ثماني، تبعد بالكاد ميلين عن صيدا؛ لذا كان بإمكان خدمها حين يسأمُون من خدمتها أن يفرُّوا في الليل ويلجئوا إلى المدينة، وكان بإمكان عبيدها، حين تَنخفِض روحهم المعنوية بسبب رتابة حياتهم معها، أن يهربوا منها في أي وقت ويختبئوا في منازل الأتراك. لكن بانتقالها إلى جون قطعت عليهم سُبل هروبهم؛ إذ نادرًا ما استجمع واحد من العبيد المساكين الشجاعة الكافية للمغامرة بالسير ليلًا عبر الجبال الموحشة حيث تتجوَّل بنات آوى والذئاب؛ وإذا فعل، فإنه بمجرَّد الوصول إلى صيدا أو بيروت أو دير القمر، وهي البلدات الثلاث الوحيدة في الجوار، تكون إرادتُه قد خبَت، واستحوذت على ذهنِه عواقب الخُطوة التي أقدم عليها، أو سنحت فرصة لليدي هيستر لتهدئتِه بالوعود والهدايا، وكل تلك المسكنات التي كانت الليدي تعرف جيدًا كيف تُوظفها. فحب السلطة على الآخَرين قد جعلها متسلِّطة، لكن بمُجرد الإقرار بسلطتها، كان إعلان الخضوع لها السبيل المضمون لكسب عطفها. وكان الهروب خفية في النهار أمرًا مُتعذرًا وغير عمليٍّ إلى حدٍّ بعيد، حيث كان المنزل على قمة تلٍّ مخروطي، ويُمكن رؤية القادمين والذاهبين من كل جانب؛ مع ذلك ورغم كل ذلك، تمكَّنت ذات مرة كل خادماتها الأحرار من الهرَب معًا، وفي مرة أخرى حاول عبيدُها تسلق الجدران، وتمكَّن بعضهم فعلًا من تنفيذ هدفه وهرب.
بالإضافة إلى تلك الحواجز الصناعية، كان معروفًا عنها أنَّ لها نفوذًا كبيرًا لدى عبد الله باشا، والذي قدَّمت له الليدي العديد من الخِدمات المالية والشخصية؛ إذ كانت تُرسل الهدايا باستمرار، سواء إليه هو نفسه أو إلى حريمه؛ وهو من جانبه، لكونه تركيًّا، كان يُؤيد الاستبداد بطبيعته ولا يعارضه. أما الأمير بشير، أمير الدروز، وهو أقرب جيرانها، فقد أرهبَته تمامًا بجرأة لسانها وقلمها التي لا مثيلَ لها، لدرجة جعلته لا يُحبذ أبدًا القيام بأيِّ فعل من شأنه أن يجرَّ عليه أيًّا منهما. لذا، إلى أي الاتجاهين سيَهرُب عبدٌ أو فلاح مسكين ليس لديه من يدافع عنه؟ وفيما يتعلق بالآخرين، مثل طبيبها وسكرتيرتها ومُترجمها للتركية، الأحرار في تصرُّفاتهم، وكان لديها الكثير من المُنجِّمين ليُساعدوها على الاحتفاظ بهم؛ فقد شملتْهم تعويذة من نوع مختلف، جعلت هذه الساحرة تستخدمها لتُوقِعَهم في شباكها، فلا يستطيعون منها هربًا. فكانت تمنحُهم سلسلة من الامتيازات، وتجعلهم يأتمنُونها على أسرارِهم بمكر لا يوصف، وكان لها إدراك سديد لعيُوبهم، التي كانت تجعلها تستقر في وجدانهم في اللحظات التي كانوا يطمئنُّون إليها فيها، وفي الحال كانوا لا يجدون بديلًا سوى الاحتماء بها بالخضوع المُطلَق لإرادتها.
كدليل على ذلك يمكن أن ننظر حالة سيد إنجليزي، كانت له مُؤهِّلات مُعترَف بها وحاصل على تعليم مِهَني جيد، فهو بعد أن ظلَّ مُرتبطًا بالليدي هيستر ستانهوب بصفته معالجها الطبي لفترة من الزمن، استبدَّت به الرغبة لترك خدمتها خلال العام ١٨٢٧ أو ١٨٢٨. وكانت القرية تُوفر دواب الحمل للاستئجار، وكان لدى الليدي هيستر بغال تذهب مرتين أو ثلاثًا كل أسبوع إلى صيدا لإحضار الذرة والمُؤَن وغيرها. وكان لدى الطبيب حصانُ رهن طلبه من أجل جولاته الخاصة؛ ومن ثَم فقد كانت وسائل النقل لمسافة قصيرة تصل إلى فرسخَين متاحة بشكل دائم. إذن، ما الذي، بعد كل ذلك، يُمكن أن يدفع الرجل إلى الانطلاق سيرًا على الأقدام، دون أن يُخطر أحدًا بنيتِه الذهاب، إلا لو كان مُتيقنًا أنه لا يُمكنه الإفلات منها بأيِّ طريقة أخرى؟ وحين اكتُشف غيابه، وأصبح معروفًا أنه ذهب إلى صيدا، لم تستطع أي رسالة من الليدي هيستر أن تُعيدَه ثانية، ولا استطاعت كل نصائح سكرتيرها، الذي أرسلته لهذا الغرض، أن تجعله يُبدِّل قراره ألَّا يعود تحت سقفها ثانية.
مع ذلك فلا شكَّ أن المشاعر التي انتابت الطبيب لدى الخطوة التي غامر باتخاذِها مرتَين على عجل قد أدَّت إلى وقوعه فريسة لصراع عقلي مُؤلم؛ إذ ظلَّ جالسًا لساعات ورأسه بين يديه يبكي وينتحب، في الغرفة التي اتخذها في صيدا، حيث عُثر عليه، كأنه انتبَه لأنَّ هُروبه قد يُساء تفسيره، أو أن الناس قد تظنُّ أن سلوك الليدي تجاهَه هو ما حمله على الهروب، في حين أنه كان يعلم في قرارة نفسه، وكما أثبتَ ذلك الخطاب الذي أرسله إلى الليدي، أنها كانت مُحسنة إليه في الوقت الذي لم يكن من السَّهل عليه أن يجدَ فيه صديقًا.
وبالنسبة إلى تدخل القناصل، تحت أيِّ ظرف من الظروف، فقد اكتشف معظم القناصل على طول الساحل كم هي عدوٌّ خطير عليهم؛ لذا لم يُجازف أحد منهم بالوقوع في خلاف معها لأي سبب من الأسباب. لذلك لم يكن هناك جدوى من مُناشدتهم، بوصفهم الحماة الشرعيين للفرنجة هناك.
وقت وصولي إلى هناك، كانت منشأة الليدي هيستر ستانهوب تتألَّف من السيد تشاسود سكرتيرها (ابن شقيق اللورد آبوت، وأصبح فيما بعد القُنصل الإنجليزي في بيروت) وكان يسكن مثلنا مع زوجته وطفليه الرضيعَين في كوخ في القرية، ثم باولو بيريني وهو روماني، كان يعمل رئيسًا لطاقم خدمها، ثم سبعة من العبيد السود (خمس نساء ورجل وصبي)، وفتاة من طائفة المتاولة، تدعى فطوم، وهي ابنة لفلاحة تسكن القرية، وكانت هي التي تسهَر على راحة الليدي بصفة أساسية. إلى جانب سائس مُسلم، ورجلين يعملان في الإسطبل، وحمال وطباخ ومساعد طباخ، وثلاثة رجال أو أربعة يعملون سائقين للبغال وسقَّائين، ورجُلَين كانت وظيفتهما الأساسية هي حمل الخطابات والرسائل وما إلى ذلك إلى الأماكن البعيدة، وقد ظلَّا في خدمة الليدي هيستر ستانهوب لمدة ١٠ أو ١٥ سنة. بالإضافة لكلِّ هؤلاء، وفرت الليدي العمل لعدد من الأجراء، الذين واصلوا العمل باستمرار في أعمال تشييد مُختلفة.
وبشكل مُستقِل عن أولئك، كان هناك شخصان يُمكن القول بأنهما كانا نائبَيها في الأمور المتعلِّقة بأهل البلد بصفة خاصة. أحدهما كان مُماثلًا لصغار المُزارعين في إنجلترا، والآخر حرفته حائك، وكانا يعيشان بالقرية، ويُستدعيان عند الحاجة إليهما، ولا يتلقَّيان راتبًا مُنتظمًا، ولكن يُدفع لهما مقابل خدماتهما من وقت لآخر بالنقود أو بهدايا من الذرة والثياب وغيرها، كما جرت العادة في الشرق. وكان الحائك مُتذلِّلًا حقيرًا، كالطفيلي الذي يلتصق بشخص عظيم. وقد شق طريقه بطريقة ما إلى منشأة الليدي هيستر، بعد أن تزوَّج من ابنة امرأة سورية، تدعى مريم أو ماري، وهي مخلوقة لا نظير لها في رقَّتها وعلى قدرٍ وافر مِن الجمال، كانت خادمة الليدي أثناء إقامة سيادتها في اللاذقية، قبل بضع سنوات. وكان لدى هذه المرأة ابنتان، إحداهما أصبحت زوجة ذلك الخياط وهي في الثانية عشرة من عمرها، وبلغ اهتمام الليدي هيستر بالفتاة أن جعلَها تبسط أفضالها على زوجها، الذي كان يُدعى يوسف الترك. الرجل الآخر كان ذا وصف مختلف؛ كان معوجَّ القدم، وكان من آراء الليدي هيستر المعتادة فيما يتعلق بعلم الفراسة أن جميع الأشخاص ذوي الأقدام المعوجة يحملون في داخلهم شيئًا من السياسي الفرنسي تاليران؛ أي بعض الحنكة قابع في تكوينهم، وكان الرجل يُدعى جريوس جمال. وكثيرًا ما كانت الليدي تسهب في الثناء على هذا الرجل، لكنَّها كانت دائمًا تختمُ كلامها بنعتِه بأنه ماهر في التآمُر والاحتيال. فكانت تقول: «إنه يخدُمني جيدًا. وفي أي ساعة من الليل أستدعيه، أجده دائمًا وقد جاء مُلبِّيًا للنداء. فإذا أردت من يحدثني حتى أنام، أجد لديه العديد من القصص المسلية ليرويها لي. وهو يتحرَّك بخفَّة شديدة، لدرجة أنني بالكاد أسمع وقعَ خُطواته، رغم أنه أعرج ويسير مُتكئًا على ساقٍ واحدة. وهو حريص على توفُّر الماء الساخن على مدى اليوم، ويجعل الخادمات في حالة من اليقَظة بطريقة أو بأُخرى، لكنه أعظم وغدٍ عاش على وجه الأرض يومًا.»
وقد أصبح مزاجها أشد عنفًا ممَّا سبق، وتُعامل خدمها بقسوة حين يُهملون أداء أعمالهم. وتعاقب خادماتها وإمائها على الفور، إذا تمرَّدنَ عليها؛ وفي حديث لي معها بشأن هذا الأمر، تفاخرَت بأنه لا أحد يستطيع الصفع على الوجه — عند الحاجة لذلك — مثلما تفعل هي.
كانت الليدي هيستر قد تبنَّت نمطًا معينًا من اللباس، والتزمت به في جميع المناسبات دون كبير تغيير، منذ ذلك الوقت الذي استقرت فيه في دار جون. كان لباسًا جذابًا، كما أنه أخفى نحافتها والخطوط التي بدأت تظهر الآن بشكل طفيف في وجهها. أما تلك الخطوط التي تظهر على الوجه مع الانكماش المعتاد للمَلامح حين يعبس أو يبتسم أو يفتر ضاحكًا، فلم يكن لديها أيٌّ منها؛ ولم يكن ما يمُور في عقلها يظهر مُطلقًا على ملامحها، التي كانت تبدو مكسوة بمظهر الهدوء والسكينة، حين تقرر إخفاء مشاعرها. لكن من شأن التقدم في العمر أن يأتي بتلك الخطوط المُتداخلة التي نراها على قشرة بعض أنواع الشمام، حتى وإن لم تظهر التجاعيد على الجبهة والخدَّين. إلا أن هذه الخطوط كانت واهية المرأى للغاية، لدرجة أنه لا يمكن ملاحظتها إلا ببعض التدقيق في وجهها؛ ومع الضوء الخافت في صالونها، إلى جانب وضع عمامتها بشكلٍ مُعيَّن، كان باستطاعتها إخفاء ما صنعته تعديات السنين بوجهها، والذي لم يستطع حتى ألدُّ أعدائها إنكار أنه كان دومًا جميلًا وبهيًّا. وذلك الخداع المغفور هو الذي جعلني أهتف حين قابلتها ثانية، بعد فراق طويل دام لعدَّة سنوات، أنني لا أرى أي تغيير في شكلها.
عمامتها، وهي عبارة عن شال شرقي خشن من الصوف كريمي اللون، كانت ملفوفة بشكل غير محكم، فوق الطربوش الأحمر الذي غطى رأسها الحليق؛ وكانت تضع بين الطربوش والعمامة منديلًا من الحرير، باهتًا مُقلمًا باللونين الأصفر والأحمر، كالذي يَرتديه البدو العرب عادةً، ويُعرف باسم الكوفية؛ حيث تربطه أسفل ذقنها، أو تتركه ليتدلى طرفاه على جانبَي وجهها. وكان جسدها من العنق إلى الكاحل مُغطًّى بعباءة صوفية بيضاء، مربوطة بجدائل حرير بيضاء على الصدر، وقد أعطَتها بثناياها الكثيرة والفخمة وطياتها المُرسلة مظهر الامتلاء الذي كانت تتمتَّع به حقًّا ذات يوم من الأيام. وحين كان يتصادَف وتنفتح عباءتها من الأمام، كان يظهر تحتها رداء قرمزي (يُسمى جوبي) يصل إلى قدمَيها، وفي الشتاء يكون تحتها سترة طويلة وتحتها ثوب كريمي اللون أو منقوش بالزهور (يُسمَّى قمباز)، فضفاض من فوق ومربوط بشال أو وشاح حول الخصر. وتحت كل ذلك كانت ترتدي بنطالًا من القماش القرمزي، مع حذاء أصفر برقبة مُنخفِضة، يُسمى ميست، له نعلٌ خُف، أو بعبارة أخرى، جورب جلدي أصفر، يدخل في خفٍّ أصفر أو بابوش (نعل تركي بلا كعب). هذا زيها بالكامل؛ ورغم أنه كان في الحقيقة الزي الذي يَرتديه السادة من الأتراك، فحتى أكثر المُتعصِّبين للحشمة لم يستطيعوا أن يجدوا في زيها أي شيء يجعله غير لائق بأن ترتديَه النساء، باستثناء أنه الزي الذي جرت العادة على أن يكون مُرتبطًا بالذكور.
لم تكن الليدي تضع اللآلئ أو الأحجار الكريمة أو الحُلي أو الزينة قط، كما أكَّد بعض الرحالة الذين مروا بها؛ وفي الواقع لم يكن بحوزتها أيٌّ منها، ولا اقتنت أيًّا منها قطُّ منذ وقت غرق سفينتها. وعند الحديث عن ثيابها، تقول الليدي: «أعتقد أنني أبدو أشبه بلوحات جورتشينو، حيث ترى ضربات ولمسات ريشته حول رءوس وأجسام شخصياته المرسومة، فلا تعلم هل هذا الذي رسمَه لها شَعر أم عمامة، وهل هذا كُم أم ذراع، وهل هذه عباءة أم حجاب.» وكان التشبيه يصح تمامًا حين تجلس الليدي على الأريكة، في ركن معتم من الغرفة.
وفي أيامها الأخير، جعلت الليدي تفخَر بارتدائها الأسمال البالية، لكنها حرصت رغم ذلك على درجة غير عادية من النظافة الشخصية. وكانت تقول: «لو رآني السلطان الآن، فسيحترمني كما احترمني دائمًا، حتى في ملابسي الرثة هذه. فماذا تعني الثياب، على أي حال؟ انظر إلى صدريتي الممزقة التي لا تُساوي ستة بنسات، فهل تَعتقِد أنها تحطُّ من قدري؟ أؤكد لك أن السلطان محمود لن يأبهَ لها، إذا حدَثَ ورآني. وعندما أتأمَّل في الأشياء المبهرجة التي يتلهف الناس عليها، والأشياء الفارغة التي يسعى إليها طموحهم، فإنني أحتقرها جميعًا من كل قلبي. لا شيء في حياتهم المُفعمة بالغرور يستحق عناء التطلع والطموح إليه. إن طموحي هو إرضاء الله. وسوف أظلُّ على طبيعتي وفطرتي، حتى لو كنت أعيش وسط نفايات. لقد صار اسمي أعظم من أيِّ وقتٍ مضى. وأنا معروفة في الهند، كما في لندن والقسطنطينية. حتى إن أحد الأتراك قال لأحد أتباعي حين كان في القسطنطينية، إنه لا يُوجد طفل تركي يعيش في نطاق ٢٠ ميلًا من هذا المكان ولم يسمَع عني.»
رغم كل ذلك، كان لديها شعور بالاستياء العميق، جراء الإهمال الذي عانته من جانب أصدقائها ومَعارفها السابقين، يستتر تحت هذه الخُيلاء بالثياب الرثَّة واستعراضها؛ وحتى تقيم الدليل على الطريقة التي نبذُوها بها لتتعفَّن، على حد وصفها، حرصت على الاحتفاظ بحقيبة من ملابسها القديمة الممزقة، والتي لم تسمح بالتبرع بها.
يبدو أن الجزع المتكرِّر الذي أبدَته في رسائلها حول اقترابها من العمى لم يكن أكثر من ضعف في البصر بسبب تدهور معيشتها. والنظارات ذات الإطارات الفضية المطلية بالذهب أو المصنوعة من صدفة السلحفاة، والتي كنتُ أُرسلها لها من وقت إلى آخر في طرودٍ ضمن أشياء صغيرة أخرى، دون أن أُلمح أنها لها، كانت تتظاهَر، حين تستلمها، بأنها تَعتبرها مفيدة فقط كهدايا لكبار السن الذين تتصدَّق عليهم. لكنَّني اكتشفت الآن أنها بدأت ترتدي النظارات، لكنها كانت ترتدي النوع الذي تضعه العجائز الفقيرات في إنجلترا، من دون أذرع، بتثبيتها على الأنف، ويُطلَق عليها نظارات الأنف. وقد صار صوت الليدي أخنفَ حينذاك بسبب الضغط على فتحتَي أنفها، وفي البداية كانت مُتردِّدة جدًّا إزاء ارتداء تلك النظارات أمامي، لكن بعد وقت قصير تلاشى تردُّدها؛ ومع ذلك لم أستطع قطُّ إقناعها بارتداء أي نوع آخر من النظارات، إذ كانت تتخلَّى بشكل دائم عن كل تلك النظارات الأنيقة والجميلة التي كانت تُرسَل إليها.
لم يكن النفوذ الذي حظيت به في سوريا، خلال السنوات الأولى لإقامتها هناك، إلا ذلك النوع من التقدير الذي يُمنَح للشخصيات ذات الأصل الرفيع والعلاقات، التي حقَّقت مكانة كبيرة في إنجلترا، واكتسبت شهرة مثالية بسبب رحلاتها؛ كان كل ذلك إجلالًا لاسم مرموق. لكن عندما عُرفت مواهبها تدريجيًّا، وخاصةً مهاراتها السياسية، وعندما لوحظ أن الباشوات والعظماء يُقدِّرون حقًّا رأيها ويخشون لومها، اكتسبت ثقلًا إيجابيًّا في شئون البلد بمحض جهودها، بصرف النظر عن هيبة النسب وصيته.
أضافت الليدي هيستر ستانهوب في سياق هذه القصة، قائلة: «كم كان عبد الله باشا نفسِه بشعًا بما اغتصبه وصادَرَه من أملاك، لأنه لا أحد من قومه يقول له الحق! فحين كان يرغب في المال، تقول له سكرتاريته إنه ما عليه سوى أن يُوقع على أمر بذلك، وعندها كان من الوارد أن تُساق نصف دستة من العائلات إلى المنفى أو تُوشك على الهلاك. أما أنا فأتكلَّم معه بصراحة؛ وذات مرة عندما كتبت له لأوضح كيف أنه جعل نفسه مكروهًا بسبب أمر ظالم مُعيَّن أصدره بخصوص المال، مزق المرسوم الحكومي الذي فرض ذلك الأمر، وطرد سكرتاريته من حُضوره لأنَّه شعر بأنهم زيَّنوا له الأمر وخدعوه. أجل يا دكتور، إنه حين يتلقى مني خطابًا، حتى لو كان هناك عدد آخر من الخطابات التي استلمها في الوقت نفسه، فإنه يتركها جميعًا ملقاة على أريكته ويقرأ رسالتي، ثم يضعُها وحدها في جيبه، ويأخذُها معه إلى الحرملك ليَقرأها ثانيةً.»
لكن الجار الأقرب إلى منزل الليدي هيستر من بين الباشوات والأمراء، والذي كان بالتالي الأكثر اختلاطًا بشئونها، هو الأمير بشير، أمير الدروز، وحيث إنَّ اسمه سيظهر كثيرًا في هذه المذكرات، فمِن المُستحسن تقديم وصف لسيرته وشخصيته. كان أسلافه قد هاجروا من مكة إلى هذا الجزء من سوريا منذ وقتٍ بعيد، وكان معروفًا أنهم من أصل كريم. ومع الوقت، نالت عائلته تقديرًا كبيرًا في جبل لبنان، وعيَّنوه هو، المنحدر منها، أميرًا.
بذلك الوقت أصبح الأمير بشير هو الأمير الحاكم للدروز، وهو الذي ولد مُسلمًا، لكنه كان، كما يقال عنه، يَعتنق المسيحية، متى كانت هي المُلبية لأهدافه الشريرة. وممَّا روَته الليدي هيستر ستانهوب، أنه لا يُمكن أن نجد في سجلات أي بلد رجلًا مارَسَ أعمالًا همَجية أكثر منه، مع الأخذ في الاعتبار المساحة الضئيلة لإمارتِه. فهو لم يَكتفِ بالإخصاء، ولكن قطَعَ ألسنة وفقَأ أعيُنَ خمسة من الأمراء الشباب، من أبناء إخوته وأقاربه، الذين قضَّ مضجَعَه تطلُّعاتهم المحتملة لخلافته. وقد ارتكب أعمالًا وحشية تفوق الخيال. فكل مَن مقَتَه، سواء كان ذا شأن أو غير ذي شأن، حق عليه أن يتخلَّص منه، في سياق استبداده الطويل، إما عن طريق المكائد الخفية أو الأعمال العلَنية. وكان من الشائع في جبل لبنان سماع همسات بشأن القضاء على شخص ما، لكن ما كان أحد ليجرؤ على البَوح بشكُوكه بشأن الفاعل.
هذا الرجل كان العدو اللدود لليدي هيستر. فقد كانت تَعيش وسط إمارته، في متناول يده، ورغم ذلك تحدَّته! وكان تحدِّيها الجريء والصريح لسلطته أعظم البراهين على الشجاعة الشخصية، التي أتيحَت لها الفرصة لإظهارها، ربما طوال حياتها؛ وهو الأمر الأكثر غرابة أن يَصدُر من امرأةٍ، لاقت التجاهل من بلادها وأصدقائها، ضد أمير، كان من أكثر الطغاة غدرًا وتعطُّشًا للدماء بين كل الذين حكمُوا أي مُقاطعة تركية على الإطلاق.
الليدي هيستر، كما قلت سابقًا، كانت مُقيمة داخل منطقته، وما أكثر المضايقات التافهة التي تعرض لها بها، آملًا أن تُؤدي في النهاية إلى إبعادها؛ فقد اعتبرها جارًا في مُنتهى الخطورة؛ إذ رآها وهي تُعزز علانيةً أواصر الصداقة مع خصمه، الشيخ بشير، ولا تُخفي رأيها السيئ فيه، هو الأمير. وبعد أن وجد أنها مصرة على البقاء في بلدة جون، جنَّد بعض مبعوثيه ليُلَمِّحُوا لها بمدى الخطر الذي ستعرض حياتها له لا محالة إذا استمرَّت في عدائها للأمير عاتي القوة. لكن الليدي هيستر ستانهوب لم تكن بالمرأة التي يُمكن تخويفها؛ وحين وجدت فرصة سانحة، ومَثل أمامها أحد أتباع الأمير، في حضور أشخاص آخَرين، حتى تتأكد أن كل ما قالته سوف يصل إلى أذنَي الأمير دون تخفيف، طلبت من المبعوث أن يذهب إلى سيده ويقول له: «إنها تعرف جيدًا أنه ليس هناك طاغية على وجه الأرض أكثرَ وأشدَّ منه دموية، وإنها تعلم أن لا مأمن لأحد من سمومه وخناجره، لكنها مع ذلك تحتقره لأقصى درجة، وتجاهر بتحديه.» وأضافت قائلة: «قل له إنه كلبٌ ووحش، وإنه إن أراد اختبار قوته ضدِّي، فأنا على استعداد لذلك.»
وفي مناسبة أخرى، جاءها أحد رجال الأمير بشير برسالة، لكن قبل أن يدخل إلى غُرفتها، وضع عنه مسدَّساته وسيفه، التي دائمًا ما يحملها هؤلاء الزبانية على خُصورهم في تركيا. وهمست خادمة الليدي هيستر لها بما فعله الرجل، حين استدعته الليدي إلى حضرتها، وأمَرَته أن يحمل أسلحتَه مرة أخرى. وقالت له: «لا تظنَّ أنني أخافك أو أخشى سيدك؛ ولتُخبره أنني لا أُلقي أي بال لسمومه، فأنا لا أعرف الخوف. فالحقيق عليه، وعلى من يخدمونه أن يَرتعدوا. وقل للأمير خليل (نجل الأمير بشير) إنه إذا دخَل أبوابي، فسوف أطعنُه، لن يُطلق عليه رجالي النار، لكنَّني سأطعنه، بنفسي، بيدي.»
وبعد أن روَت لي الليدي هيستر هذه الواقعة، تابعت قائلة: «كان ذلك الوحش حين تحدَّثتُ إليه مرعوبًا للغاية يا دكتور، لدرجة أنه ارتجف كورقة شجرة، وكان باستطاعتي أن أُلقيَه أرضًا لو دفعته بريشة. وقد أبلغ الرجل الأمير بشير بردي؛ إذ كان هناك خياط في الغرفة المُجاورة له، فرآه وسمعَه، وتحدَّث عما رآه بعد ذلك. قال إن الأمير أطلق نفخة ضخمة من الدخان من غليونه عندما وصلته رسالتي، ثم نهَض وغادر المكان.
آه يا دكتور، لو تحسَّست الحدبة الموجودة خلف أذني، هي أكبر من أي شيء سبق لك رؤيته! يقولون عن الأسُود إنه كلَّما كانت آذانهم غائصة في العظام كانوا أكثر جرأة. ولتعلم أنه خلال الوقت الذي أُحدثك عنه، كان يوجد ٥٠٠ فارس في القرى المُجاورة، وقد قتلوا ٣ رجال، واحدًا بين منزلي والقرية، وواحدًا خلف أملاكي، وواحدًا آخر قتَلُوه في مكان أبعد، قتلوهم فقط ليخبروني بما يستطيعون فعله، ظانِّين أنهم يُخوفونني؛ لكنني أثبت لهم أنني لا أخاف. كنت أنام على الدوام وبجانبي خنجر، وأنام ملء جُفوني. كانت ويليامز المسكينة مُرتعبة، حتى إنها كانت تستيقظ ليلًا وتأتي إليَّ. وهل كنت سأحتفظ عندي بسيد أحمد لولا شَجاعته؟ لأنه في هذه الأوقات الخطرة يجب أن يكون عندك خدم من كل الطوائف. أذكر حين تخلَّى عنَّا الكل أنا والآنسة ويليامز دون أدنى مال، وحاصر الأمير المنزل وهو ينوي قتلنا، حينها بقيَ سيد أحمد في موقعه، بينما ارتعب كل الباقين بشدة لدرجة أنهم لم يدرُوا ماذا يفعلون؛ ولم يكن لدينا ما نأكله، لكن السيد أحمد لم يشتكِ من ذلك قط. وذات مرة حين كنَّا في عبرا، خطط جميع العبيد السود للهرب في الليل إلى صيدا، ونفَّذُوا خطتهم. ودققتُ جرسي عدة مرات، ولما لم يستجب أحد لندائي، خرجتُ لأنظر ماذا يحدث، ظنًّا مني أنهم جميعًا نيام، فقد كانت الساعة الثانية بعد مُنتصَف الليل. ولم أجد مخلوقًا واحدًا باستثناء الغلام الأسود. فأيقظت سيد أحمد، واستدعيت الآنسة ويليامز؛ وبرغم أن سيد أحمد كان في حالة من الغضب الشديد وأراد الانطلاق في جنح الليل بحثًا عن الهاربين، فإنني لم أسمح له بذلك؛ فقد اعتقدت أنها مؤامرة من الأمير لإخراج الرجال من المنزل، ليُقدم على قتلنا بعد ذلك. لكن كل هذه الأمور لم تهز رباطة جأشي، وكنتُ مُتماسكة كما أنا الآن.»
ذات مرة أثناء عودة بعض الجِمال خفافًا بعد أن كانت الليدي هيستر قد أرسلَتها بحمولة إلى ميناء مجاور، رآها بعض الأشخاص من العاملين لحساب الأمير بشير، الذين اعتادوا أن يروا أغنى أفراد المقاطعة يَغتنمُون أي فرصة لخدمة الأمير، فظنُّوا أن الليدي ستكون مُمتنة حين تعلم أن سائقي جمالها قد بادروا بتقديم المساعدة لأميرهم، وأوقفُوا الجمال وحمَّلُوها بألواح من الرخام، كان يُنوى تركيبها في جزء من أرضية قصر الأمير الجديد، الذي كان في مرحلة البناء وقتَها. وهكذا أمروا سائقي الجمال أن يضعوا حمولتهم الجديدة في أرض الليدي هيستر، لتُنقَل من هناك فيما بعد. وبمُجرَّد أن سمعت الليدي بأن ألواح الرخام موضوعة قرب مسكن البواب الخاص بها، خرجت وحطَّمتها إلى أشلاء. وقالت لي وهي تروي القصة: «يمكنك أن تُخمن كيف كان وجه الأمير حين أبلغُوه بما حدث.»
كان هناك رجل يُدعى جرجس باز، يشغل منصب رئيس وزراء الأمير بشير؛ ولكونه رجلًا طموحًا باع خدماته مُسبِّبًا الأذى لسيده، ممَّا دفعه لخنقه، ومصادرة كل ما استطاع وضع يده عليه من ممتلكاته ومنقولاته. وقد باتَت أرملته في فقر مُدقِع وبؤس، حسبما ذاع بين الناس؛ وفي أحد الأيام طلبت مني الليدي هيستر أن أعطيَ مائتي قرش لنجل الأرملة، وهو غلام أتى يتسوَّل بطريقة مهذبة، وقالت لي القصة التالية:
«هذا الابن كان في الثامنة أو العاشرة تقريبًا حين قُتل والده، ومنذ شبَّ عن الطوق وهو يعول والدته بصناعة النسيج. وكانت إغاثة هذه الأسرة المنكوبة عملًا محفوفًا بالمخاطر، في ظل وجود رجلٍ قاسٍ وحَقُود مثل الأمير بشير، لكنَّني فعلتها. ففي أحد الأيام سألت أحد نواب الأمير لماذا سيده لا تأخُذُه الشفَقة على أرملة باز! فأجاب النائب: «لأنها تتجوَّل بين الناس قائلة إنها لا تحب الأمير.» فقلت له: «تحبه! كيف تحبُّ الرجل الذي قتَل زوجها؟ لو قالت إنها تحب الأمير لكانت كاذبة في ذلك بالتأكيد، لذا هي إنما تقول الحقيقة. ولماذا جعل الأمير من المستحيل عليها أن تُحبه؟» فرد النائب قائلًا: «لأنَّ الوزير أصبح أقوى من سيده، فكان من الضروري حينئذٍ التخلُّص منه.» فقلتُ له: «إذا كان قد أصبح قويًّا للغاية فإن ذلك خطأ الأمير؛ إذ كان من الواجب أن يُبقيَه تحت سيطرته.» فأجاب النائب: «لكنه لم يستطع فعل ذلك.» فأكملتُ قائلة له: «لقد صعد إذن على أكتاف الأمير، حسب اعترافك؛ لكن ذلك ليس مبررًا لقتل الرجل في …». فقاطعني النائب قائلًا: «هو لم يُقتَل في هذا المكان؛ هو فقط قُبض عليه فيه، ثم بعد ذلك قُتل في غرفته الخاصة».» قالت الليدي هيستر: «وهذا ما كنت أريد الوصول إليه؛ لقد جعلتُ الرجل يعترف أن الأمير قد قتَلَ جرجس باز، ولم يكن يهمني متى ولا كيف ولا أين حدث ذلك.»
صمتت الليدي هيستر برهة، ثم عادَت إلى مشكلة الأرملة، فهتفت تقول: «امرأة مسكينة! لقد استضفتُها هنا معي ذات مرة لمدة أربعة أشهر، لكنها جعلت تجزل لي الامتنان والشكر، وظلت تُلازمني باستمرار، لتقوم على خدمتي، لدرجة أنني اضطررتُ إلى إعادتها لمنزلها ثانية.
تابعَت الليدي حديثها قائلة: «تقول إنك مصدوم، وتشعُر بالنفور لسماعك بفظائع ولاة إبراهيم باشا أثناء جَمعِهم للمُجندين. أوه، إن ما فعلوه لا يُقارَن بما فعله الأمير بشير وهو في سدَّة الحكم! لك أن تتخيَّل أنه كان يأمُر باعتصار صدور النساء بين شِقَّي الملزمة، وبضغط رءوس الرجال في عاصبة حتى تَنكمِش عظام خدودهم إلى الداخل، ويفقأ الأعين باستخدام صحون حامية حدَّ الاحمرار، وغيرها مئات من الأفعال البربرية، أسوأ مِن أي شيء سمعتَه على الإطلاق! ألم يكن عجيبًا أنه في اليوم الذي طردتُ فيه رجل الأمير وحمَّلتُه تلك الرسالة إلى سيده، أن إحدى كلبات المنزل ولدت، وكان أحد جرائها أعمى؟ وليس العمى المعتاد في الجراء، بل كانت عيناه محترقتَين، تمامًا كما لو كانتا قد حُرقتا بحديدٍ مُلتهب الحرارة. وقد قلت لذلك الرجل: «إن شيطان أميرك قد نال حتَّى من الكلاب.» وكاد أن يُغمى على الرجل قبل أن أنتهي من حديثي معه؛ ذلك لأنني لم أكن أخشاهم؛ وحتى الآن، وأنا في عزِّ ضعفي، أرى أن بإمكاني أن أخنق بيدي أقوى مَن فيهم.
لقد خدَع الأمير بشير الجميع. فقد حرض الباشا على السُّلطان، وحرَّض السلطان على الباشا. إنه يغشُّ الإنجليز، ويَغشُّ الفرنسيين، ويغشُّ كل مَن حوله. ليس على الأرض من هو أعظم منه نفاقًا؛ وبالرغم من أنه يُرسل لي تحياته مع كل رحَّالة يمرُّ به، إلا أنه يترقَّب ما ستئول له الأمور حتى يَنقلب عليَّ، متى استطاع ذلك؛ وإذا لم يَستطِع، فسيكذب ويتذلَّل، إلى أن تسنَح له فرصة آمنةٌ للانتقام مني.
أنت تعرف أوبان، ذلك الجرَّاح في البحرية الفرنسية، الذي كان سجينًا في السُّفن المتُهالكة المستخدمة كسجونٍ في بورتسموث، واعتاد الإساءة للإنجليز لذلك السبب. حسنًا، لقد عُيِّن هذا الرجل طبيبًا للأمير؛ لأنه وفَّر له سفينة ليهرب عليها إلى مصر؛ فقد توالت الأحداث بسرعة شديدة هنا في جبل لبنان بعد أن تركتَني أول مرة! وحوالي عام ١٨٢٠، كان عبد الله باشا يُضمِر نوايا مُعادية للأمير بشير والشيخ بشير، لذا فرَّ كلاهما إلى حوران؛ وبعد فترة من الوقت، حين تظاهَر الباشا بأنه هدأ، عاد كلاهما. تلا ذلك بوقتٍ قصير أن الأمير، الذي لم يكن متأكدًا تمامًا ممَّا ينويه عبد الله باشا، رأى أنه مِن الآمَن له أن يَهرب ثانيةً؛ وكان هذا بمساعدة السيد أوبان، إذ غادر إلى مصر على متن سفينة تجارية فرنسية، يقودُها على ما أعتقد القبطان آلارد. وحين وجد الشيخ بشير أن خصمَه اللدود السابق قد هرب، قبض على زمام السلطة العُليا في الجبل، وأرسل إلى الأمير بشير رسالة يُخبره فيها أنه إذا غامر بالعودة ثانية، فسيضطر الشيخ إلى القبض عليه، وإرساله أسيرًا إلى الباشا.