الفصل الرابع
ساعات نوم الليدي هيستر ستانهوب، ثيابها الليلية، استِثقال خدمتها، غرفة نومها، كرهها للساعات، كثرة استخدامها للجرَس، قُدرتها على اكتشاف المؤامَرات وإحباطها، تطلُّبها للطاعة العمياء، طرفة اللورد «ﺳ…»، قدرات الليدي هيستر على التحدث باللغة الدارجة، الطول اللامتناهي لمحادثاتها، سحرها الغريب، آراؤها الدينية، إيمانها بالقُوى الخارقة للطبيعة والدِّين الموحى به، تبنِّيها لتعاليم مُعيَّنة من الطائفة المتاولة الشيعية.
على مدى الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياتها، نادرًا ما تركَت الليدي هيستر سريرَها قبل ما بين الساعة الثانية والخامسة بعد الظهر، ولا عادت إليه قط قبل الساعات نفسها من صبيحة اليوم التالي. فلا مجال للقول بأنَّ عمل اليوم كان يبدأ قبل غروب الشمس. ولا يظن أحد أن الخدم يظلُّون عاطلين عن العمل نهارًا. بل على العكس؛ إذ كانوا يُكلَّفون بالأعمال أثناء الليل، حيث تجعل الليدي الساعات التالية للغُروب مخصَّصة لإصدار التعليمات بشأن ما يجب عمله في اليوم التالي؛ بإعطاء الأوامر، والتوبيخ، وكتابة الخطابات، وعقد تلك الحوارات البالغة الطول التي شغلت جزءًا كبيرًا من وقتِها، وبدَت كأنها ضرورة من ضروريات حياتها. وحين كانت تفرغ من تلك الأمور جميعًا، كانت تستعدُّ للذهاب إلى فراشها، ولكن دائمًا على مضض، كما لو أنها آسفة لعدم وجود أوامر أخرى لتصدرها، ولا أمور أخرى يُمكن الحديث عنها. وحين يُبلغونها أن حجرتها جاهزة، كانت تتقدَّمها بالمصابيح إلى غرفتها إحدى الفتاتَين، زيزفون أو فطوم، اللتَين كانتا تتناوبان خدمتها.
لم يكن سريرها سوى بضعة ألواح خشبية مُثبتة بالمسامير في قواعد مُنخفِضة. ومرتبة هي سبع أقدام طولًا وأربع ونصف عرضًا، مفرودة فوق الألواح، التي كانت مائلة قليلًا من الرأس إلى القدم. وبدلًا من الملاءات، كانت هناك بطانيات ذات نقوش شرقية، تماثل أجود البطانيات الإنجليزية، اثنتان تُوضعان فوقها، وواحدة تُبسط تحتَها. ولم يكن لديها لحاف، لكن إذا اقتضت الحاجة، كان يُستعان بعباءة مِن الصُّوف أو معطف من الفراء لتأدية الغرض. وكان غطاء وسادتها مِن الحرير التركي، وتحتَها وِسادةٌ أخرى مكسوَّة بالقماش القطني الملوَّن. وخلف هاتين يوجد اثنتان أُخريان من الحرير، مُتاحتان إذا احتاجت إليهما.
كان لباسها الليلي قميصًا فضفاضًا من الحرير والقطن، وسُترة بيضاء مبطَّنة، وثوبًا قصيرًا، وعمامة على رأسها، وكوفية مربوطة تحت ذقنها بالطريقة نفسها التي تكون عليها حال يقظتها، وشالًا على مُؤخِّرة رأسها وكتفَيها. وهكذا كانت تَنام وهي مُرتدية كل ملابسها تقريبًا.
وبالنظر إلى أنها اعتادت ألا تجد شيئًا متقنًا، فنادرًا ما كانت ترى أن السرير مُرتَّب على النحو الذي يُرضيها حين تدخُل غرفة نومها؛ وكانت عادةً ما تأمر بإعادة ترتيبِه ثانيةً في حضورها. وأثناء قيام الخدم بذلك، كانت تُدخن غليونها، ثم تطلب وعاء السُّكر لتأكُل قطعتين أو ثلاثًا منه، وبعدها تطلُب حبة قرنفل لتتخلَّص من طعم السكر الشديد. في تلك الأثناء تهم الفتيات بترتيب السرير، وتتناولهنَّ الليدي بين الفَينة والأخرى، لتصرُّف غبيٍّ منهنَّ، بشتى أنواع الشتائم. ثم يُضاء المصباح الليلي، وتُوضَع شمعتان صفراوان جاهزتان للاستخدام على تجويف النافذة؛ وبعد أن يبدو أنه قد أمكن عمل كل شيء مِن أجل المبيت، تدخل الليدي إلى سريرها، وتدلف الخادمة التي عليها الدور للمَبيت بالغرفة (حيث صارت تُبقي واحدةً معها كل ليلة فيما بعد) إلى فراشها خلف الستارة المُمتدة عبر الغرفة، وتَنصرِف الخادمة الأخرى.
لكنها لا تكاد تغلق الباب خلفها وتصل إلى موضع نومها، مُمنيةً نفسها أن عملها اليومي قد انتهى، حتى يدقَّ الجرس وتُؤمَر بإحضار بعض الحساء أو عصير الليمون أو شراب اللوز على جناح السرعة. وبمجرَّد إحضار المطلوب، تُواجه الخادمة مشقَّة جديدة. فقد كانت الليدي هيستر ستانهوب تتناول الشراب على صينية موضوعة على حجرها وهي جالسة في السرير، ويكون من الضروري أن تقف إحدى الخادمتَين مُمسكة بشمعة بيدٍ وباليد الأخرى تحجب الضوء عن عينَي سيدتِها. ثم ترتشف الليدي رشفةً أو اثنتين من الوعاء، ثم تُناوله لهن؛ وإذا أخذت قضمة صغيرة من الخبز الجاف؛ كانت تعتبرُه سيئ الصُّنع، وتطلب قطعة أخرى طازجة، وربما لا تمسُّها حين تأتيها.
وبعد رفع كل هذه الأشياء، كانت الخادمة تَنصرِف ثانيةً، لتُلقي بنفسها في فراشها؛ وفي غضون ١٠ دقائق تكون قد استغرقت في النوم ومِن دُون مقدِّمات. لكن في الوقت نفسه تكون سيدتها قد أحسَّت باختلاج في جزء من جسدها، فتقرع الجرس من جديد. أحيانًا ما يكون الخدم، بسبب الإرهاق، قد غطوا في نوم عميق حقًّا فلا يسمعُون الجرس، وأحيانًا أخرى يتعمَّدون الصمم، ولذلك كان لدى الليدي داخل منزلها اثنان من الخدم المتيقِّظين، وكان جزء من مهمَّتهما يتمثل في حراسة المنزل ليلًا بالتناوب، والتأكد من رد الخادمات على الجرس حين تقرعُه الليدي؛ لذا لم يكن هناك بد من إيقاظ الخادمات بخُشونة، وكنَّ حين يَذهبن نصف دائخات إلى غرفة سيادتها، يُؤمرنَ بتحضير كمَّادة من البابونج أو أزهار البيلسان أو نبات الخُبَّازَى، أو ما شابه ذلك. ثم يُستدعى البستاني، ويُغلى الماء، ويعود المنزل كله إلى الحركة من جديد. وفي غضون تلك التحضيرات، ربما تذكَّرَت الليدي هيستر ستانهوب أمرًا ما كانت قد أصدرَته سابقًا حول نوع ما من العسل أو الزهور أو خطابٍ ما — بصرف النظر عن مدى تفاهة الأمر — فكان لا بدَّ من استدعاء الشخص الذي وكَّلَته بتنفيذه من فراشه في أيِّ ساعة كانت من الليل، حتى يُستجوَب عن هذا الأمر. لم تكن هناك راحة لأيِّ شخص في دائرتها، سواء كانوا مُقيمين داخل منزلها أو خارجه. كانت دار جون في حالة استنفار لا يَنقطع طوال الليل.
هذه التفاصيل ليست مهمَّة في حد ذاتها، لكنها تدلُّ إلى حد كبير على غرابة شخصية سيادتها؛ وكما تطرقنا إلى وقائع غرفة نومها، التي كانت بمثابة مسكنها الرئيسي في أغلب الأحيان، ربما يكون مناسبًا كذلك إكمال وصف تلك الغرفة ببعض التفاصيل الإضافية. لم تكن الغرفة تُشبه أي غرفة إنجليزية أو فرنسية، وبصرف النظر عن أثاثها المُتواضِع، فهي من جهة أخرى بالكاد يُمكننا أن نعدَّها أفضل من غرفة فلَّاح عادي. فقد كان مظهر الغرفة، حين حصر المرض ساكنتها في فراشها، شبيهًا بهذا النوع من الغرف؛ إذ كنت غالبًا ما أدخلها في الصباح الباكر، قبل الإفطار. على أرضيتِها الأسمنتية، كالأرضيات الشائعة في سوريا، وُضِع بساط مصري، عبارة عن قطعة مُستطيلة كبيرة من اللباد الأخضر المائل إلى البُني، بنفس حجم السجاد الذي يُوضع بجانب السرير، وحَشية سميكة خشنة من القُماش القطني المطبوع، قامت من عليها لتوِّها عَبدتُها السوداء، زيزفون، حيث قضَت الليل نائمة بجوار سرير سيدتها؛ وكان هذا امتيازًا للعبدة على الخادمة، التي تنام دائمًا خلف الستارة. وكانت هذه الستارة القُطنية الحمراء المتسخة معلَّقة عبر الغرفة بحبل عادي، كي تصدَّ الريح حين يَنفتح الباب، وقد تمزَّقت مُعظم شرائط حلقات الستارة، فكانت عند إسدالها، ترتفع في أجزاء، وتتهدَّل في أجزاء أخرى بالتناوب، كدليل على ضيق الوقت الذي تجده الخادمات لإصلاحها. كان بالغُرفة ثلاث نوافذ؛ إحداها مُثبت مصراعها بالمسامير من الخارج، والثانية مُغلَقة بقطعة من اللباد من الداخل، ووحدها الثالثة تُركت ليدخل منها الضوء والهواء، ولكي تطل على الحديقة. وقد توسَّط رفٌّ كوَّتَين عميقتين بالجدار (إذ كان سمك جدران المنازل في سوريا غالبًا ما يَصل إلى ثلاث أقدام)، حيث تكدَّست عليه بعض الكتب، وبعض الصُّرَر المربوطة بمناديل، وورق للكتابة، وكلها مُهرجلة، مع أشياء أخرى مُتنوعة للاستخدام اليومي، مثل صحنٍ أبيض مملوء بعدة مقصَّات، ونظارتَين أو ثلاث، وغيرها من الأشياء؛ وصحن أبيض آخَر به دبابيس وشمع أختام، ومُلصقات أختام، ومحبَرة بيضاء عادية، وغلاف قديم من ورق البرشمان لسجلِّ يوميةِ تاجرٍ ما بداخله ورق نشاف، تضعُه على حجرها بغرض استعماله كدفتر يمتصُّ الحبر، حين تجلس في السرير، حيث تكتب خطاباتها عادةً. ونادرًا ما كانت تُنفَض هاتان الكوتان، والغبار وشبكات العنكبوت تغطي الكتب، التي أعتقد أنها لم تُطالع أيًّا منها قط، باستثناء كتاب تيسو «نصائح للناس بشأن صحتهم»، وكتاب طبي آخر نسيتُ عنوانه، وتقويم المحاكم، والكتاب المقدَّس، وكتاب عن الطبخ المنزلي. وتناثرت على الأرض بُقَج صغيرة، بها أقمشة من الحرير أو من القطن الملوَّن لصنع الأردية، التي كانت مُعَدة كهدايا؛ ونُتَفٌ من الخيط وورق بُني، تخلَّفَت يومًا بعد يوم، من بقايا طرود جرى فتحها، وغيرها من الأشياء.
لم يكن لدَيها ساعة يد، أو حائط، أو أي شيء يُشير إلى الوقت؛ وعادةً كانت آخر كلمات تقولُها لي حين أُغادرها في المساء هي: «دكتور، قل ما الساعة الآن قبل أن تذهب.» وسمحتُ لنفسي أن أسألها لماذا لم تُرسِل في طلب ساعة يدٍ أو أداة تُشير إلى الوقت طوال تلك السنين التي قضتها في جبل لبنان، وهي شيء ضروري جدًّا في كل مكان، لا سيما في منزل مُنعزل لا يمكن فيه سماع صوت المؤذن، كما في المدن. كانت إجابتها: «لأنني لا أستطيع احتمال أي شيء ليس طبيعيًّا؛ الشمس علامة على النهار، والقمر والنجوم على الليل، وأنا أُفضِّل قياس الوقت بها.» وفي مناسبة أخرى قالت: «لا يمكن أبدًا إقناعي بركوب باخرة؛ فما زلت أشعر بفزع شديد منذ أن شاهدتُ مقتلَ خمسة رجال في انفجار مِرجل، وإصابة عدد لا أعلمه بجُروح وحروق. إلى جانب أنني لا أحبُّ سوى الطبيعة.»
على كرسي خشبي كان يُستخدم كطاولة بجانب السرير، انتصبَت مجموعة من الأشياء المتنوعة لإشباع رغباتها العاجلة أو أهوائها؛ مثل القليل من مُربَّى الفَراولة في طبق فنجان، وعصير ليمون، وشراب البابونج، وأقراص استِحلاب مُستخلَصة من نبتة عرق الذهب، زجاجة ماء بارد، وما إلى ذلك. ومن هذه الأشياء كانت تَتناول واحدًا أو آخر على التوالي، وبشكلٍ مُستمِر تقريبًا. وفي غضون يوم أو يومَين يتمُّ استبدالها ليحلَّ محلَّها أصناف أو علاجات أخرى. ويكون هناك زجاجةُ نبيذ أو من شراب البنفسج، وينسون للمَضغ بدلًا من القرنفل؛ ومربَّى سفرجل، وشراب اللوز؛ وفنجان من الشاي البارد، مُغطًّى بطبق فنجان؛ وعلبة أدوية، وغيرها؛ وكان المقعد الخشبي مُغطًّى بالأشياء بكثافة لدرجة أنه لا بد من مهارة فائقة لتناوُل غرضٍ واحدٍ منها دون إسقاط بضعة أشياء أخرى. وفي هذا الشأن، فإن لدى الخادمات السوريات والسوداوات قدرة على التحرك بهدوء وبراعة تفوق كل خيال. ويظلُّ هذا الحشد من الأغراض لأشهُر دون أن يقلب أو يكسر؛ بينَما لا يَستطيع أحدٌ من الفرنجة المُتخبِّطين (على حدِّ قول الليدي هيستر دائمًا) أن يدخل غرفة دون أن يُطيح بغليونها، أو تَنشبِك قدمه في السجادة أو الحصيرة، أو يَنكفئ على الطاولة، لتتجلَّى كل مَظاهر السلوك الأوروبي الأخرق، الذي يسرُّ الليدي غاية السرور الحديث عنه بإسهاب.
لم يكن سرير الليدي مُزودًا بأيِّ ستائر، أو ناموسية. وقد وُضع على إحدى النوافذ إبريق من الفخار له فوَّهة، ومعه طستٌ صغير من النحاس، ويُمثل ذلك أداة الاغتسال الخاصة بها. ولم يكن بالغُرفة أي منضدة لأدوات الزينة أو لأيِّ غرض آخر؛ وحين تَغتسِل الليدي، يُحمل الطست النحاسي قبالتها وهي جالسة في السرير. وكانت النَّوافذ بلا ستائر؛ وقد ثُبِّت اللباد الذي غطى إحداها في مكانه بحزمة أعواد حطب، محشُورة فيها بإحكام من ركنٍ إلى آخر، بزاوية مائلة. وهكذا كانت غُرفة حفيدة اللورد تشاتام! وديوجانس نفسه لم يكن ليجد في متاعها ما يُخالف ذوقه بالغ التقشُّف!
أرى أنني أسقطت، في تعدادي للأثاث، الإشارة إلى إضافة ضرورية، كثيرًا ما تُزين الحجرات الإنجليزية، وأعني بها حبل الجرس. كانت غرفة الليدي هيستر ستانهوب تَحوي واحدًا، حبلًا عاديًّا من القنب مثل المُستعمل عادةً لربط الصناديق. كان يدُور عبر بكرة خشبية، مثبتة في مُنتصَف السقف، ثم ينزل مائلًا على الحائط، إلى حيث يُربط في خطاف صدئ؛ وربطته التي كانت في مُتناول يدها كانت معقودةً عقدة غليظة حتى تتمكَّن من القبض عليها بسهولة أكبر. ولم تكن هذه العُقدة قوية ومتينة بهذا الشكل إلا لسببٍ وجيه؛ وهو أن الليدي كانت تسحبها أحيانًا بقدر مِن العنف والقوَّة يُمكن أن يشطر ذلك الحبل الشبيه بالسوط إلى قطعتين؛ ونادرًا ما كان خادم يُغادر غرفتها دون أن تدقَّ الجرس لتستدعيَه ثانيةً مرة واثنتَين وثلاثًا؛ إذ كان خلق سيادتها شديد الضيق، وكانت أفكارها تنشأ في ذهنها في تعاقُب سريع عند كل أمر تصدره.
في النهاية كانت الليدي هيستر ستانهوب تغطُّ في النوم وقد اعتراها الإنهاك من دق الجرس والكلام والتوبيخ؛ وكان حينها على الجميع أن يصمُتوا، فكان الصمت يدوم لثلاث ساعات أو أربع أو خمس. لكن بمجرَّد أن تُشرق الشمس، كان الجرس يُقرع ثانيةً بعنف، وتبدأ أعمال الصباح. وتكون نسخة لما حدث في الليل، الفارق فقط أن ساعات النوم القليلة التي نالتها قد منحتها مددًا جديدًا من النشاط والحيوية. ونظرًا لأنها نادرًا ما كانت تنهض حتى الرابعة أو الخامسة بعد الظهر، فإن الساعات الفاصلة بين الفترتَين كانت تنشغل فيها بالكتابة والحديث واستقبال الناس؛ ذلك لأنَّ مظهرها وهي جالسة في سريرها يُماثل إلى حدٍّ كبير مظهرَها وهي جالسة على الأريكة، التي كان سريرها يشبهها بدرجة ما أو بأخرى. كانت تُقابل رئيس الخدم وسكرتيرها والطباخ والسائس والطبيب والبستاني، وفي بعض المناسبات كل مَن بالمنزل، واحدًا تلو الآخر. وقليل هم مَن يُفلتون دون تقريع أو توبيخ، فقد كان نفاد صبرها والدقَّة التي تتطلَّبها في تنفيذ أوامرها لا يتركان لأحد أيَّ فرصة للإفلات. كان الهدوء جوًّا لا يُمكن لروح بهذا القلق والتقلب البالغين أن تعيش فيه. الخطط السرِّية، والرسائل المُستعجلة، والرسل المبعوثون في رحلات بعيدة، وطلب السِّلع، وتوفير سبُل العَون والإغاثة للفقراء والمُضطهَدِين، تلك كانت الأشياء التي اقتات عليها عقلُها النشط والخيِّر. لم يكن باستطاعة أحد أن يَتناول طعامه دون مُقاطعة؛ فجرسها كان يدقُّ باستمرار، وأقل أمر منها كان يجعل الخادم واقفًا على قدمَيه أمامها، أحيانًا لساعة كاملة، ليخضع بين الحين والحين لاستجواب أسوأ من استجوابات السير ويليام جارو.
في اليوم نفسه، كثيرًا ما كنتُ آلَفُها وهي تُملي، بأكثر وجهات النظر السياسية إسهابًا، أوراقًا تتعلَّق بحال الإقليم التابع لأحد الباشَوات (الباشالق)، ثم اللحظة التالية مُباشرةً تتحوَّل بسَلاسة عجيبة إلى بعض التفاصيل التافهة حول تركيبة طلاء المنازل، أو صناعة الزُّبد، أو تجريع حصان مريض الدَّواء، أو انتقاء الحُمْلان، أو تفصيل مآزِر الخادمات. كان لها خبرة في كل شيء، وماهرة في كلِّ شيء. بدا ذكاؤها بلا حُدود حقًّا؛ إذ بدا كأنَّ خبايا الكون قد انكشفت أمام ناظرَيها، إن جاز أن نقول ذلك. وبنفس الطريقة التي أحبطَت بها المؤامَرات، وتحدَّت بها تهديدات الأمراء والباشوات المُعادين لها، فهمَّت وكشَفَت حيَل ومكر الخدَم والفلاحين، الذين كانوا على الدوام يُخطِّطون لسرقتها. كان من المثير أن ترى ما تبذله من جهد في سبيل كشف وإلقاء الضوء على مُؤامَرة دبرها أولئك الأشقياء المنحطون، الذين كانوا، من وقت لآخر، يضعون مخططات حاذقة للنهب، مخططات لا نظير لها في البيوت الأوروبية، ومكائد بالكاد يستطيع الشيطان نفسه التصدِّي لها. واعتادت الليدي القول: «هناك حفنة منهم باستطاعتي شنقُهم إن أردت ذلك»؛ إلا أنها تسامحَت مع الجناة حين وقعوا ذات مرة في قبضتِها، بالرغم من أنها ظلَّت تُطاردهم دون كلل ولا ملل.
لا أحد في دارها كان جائزًا له إبداء رأي بشأن أتفهِ الأمور، حتى لو كان دقَّ مسمارٍ في قطعة خشب؛ فلم يكن مسموحًا لأحد أن يُمارس أي نوع من حرية التصرف، ولكن كانوا يُنفِّذون الأوامر الصادرة إليهم بحذافيرها فقط لا غير. لم يكن مسموحًا لأيِّ خادم أن يُصرِّح بأي شيء دون أوامر صريحة منها. وكان مُترجمها أو سكرتيرها ملزمًا بوضع تقرير على طاولتها كل يوم عن عمل كل شخص خلال الأربع والعشرين ساعة المُنصرِمة، وأسماء وأعمال كل الغادين والرائحين. ويكشف مزاجها الاستبدادي عن نفسه في بعض العبارات مثل التالية. دخلت عليها الخادمة ذات يوم محمَّلة برسالة، فقالت: «البستاني يا سيدتي جاء يقول إنَّ قطعة الأرض التي في الأسفل قد أزيلت عنها الحشائش وحُرِثت، ويقول إنها تَصلُح فقط لزراعة الخسِّ أو الفاصولياء أو السَّلق، أو ما شابه من هذه الخَضراوات.» فأجابَتْها الليدي بعنف: «قولي للبستاني، إنه حين آمُرُه بالحرث فيجب عليه أن يحرث، وليس له أن يُعبِّر عن رأيه عما تَصلُح له الأرض. ربما كنتُ آمُرُه بالحفر من أجل قبره، وربما من أجل قبري. لا يجب عليه أن يُدرك شيئًا إلى أن أُرسل له أوامري، لذا مُريه أن يُنفِّذ عمله فقط.»
كانت عاقبة كل هذا أنها تظلُّ مُتضايقة من الصباح حتى الليل، ودائمة الشكوى من أنه لم يكن لديها وقتٌ حتى لتنهض من سريرها، وأنها لديها دائمًا أعباء تُؤدِّيها بنفسها. وهنا مثال آخر على ذلك. خادمة تُدعى سعدة، أمرَتها الليدي بالذهاب إلى عامل المخزن لتطلب منه ١٤ إسفنجة. وذهبَت الخادمة، وأضافت من عندها وهي تبلغ الرسالة: «١٤ إسفنجة لمَسح أبسطة الصالون بها»؛ حيث من المعتاد في بلاد الشام (وهي عادة ممتازة) تنظيف الأبسطة بإسفنجة مُبلَّلة. وخلال اليوم وصل الاختلاف البسيط الذي حدث في الرسالة إلى أذنَي الليدي هيستر، وعلى الفور أرسلت في طلب الجانية، وقالت لها إنها ستُعلِّمها درسًا للمستقبل كي لا تتجرأ على تغيير كلمة واحدة في أيِّ رسالة تُوصِّلها، وأمرَت بحكِّ أنف الفتاة في الأبسطة، وهي تُشدِّد عليها بهذا التحذير، أنه أيًّا كانت كلمات الرسالة فلا يجب أن تَحيد عنها أبدًا، أو أن تُضيف إليها، أو تنقص منها، وإنما تبلغها بدقة كما تلقَّتها. في الواقع، كانت الليدي تؤكد أن عمل الخادم ليس التفكير، ولكن أن يُطيع فحسب.
كان الجنرال العجوز، لوستانو، محقًّا في قوله أحيانًا إنه، مع كل عظمة الليدي ومواهبها، فلا يوجد على وجه الأرض من هو أشد منها بؤسًا. وكثيرًا ما يسألني الناس كيف قضَت حياتها في مثل هذه العزلة، والقليل الذي رَويتُه حتى الآن سيُظهر أن الوقت نادرًا ما كان يمرُّ ببطء، سواء عليها أو على مَن حولها.
في إشارة إلى الطاعة العمياء التي كانت تتطلَّبها من الخدم، قالت لي الليدي هيستر ستانهوب ذات يوم: «هل أخبرتُك من قبل عن المحاضرة التي أعطاها لي اللورد «ﺳ…»؟ كان هو وزوجته الليدي «ﺳ…» قد أقلَّاني من الأوبرا إلى منزلهما. وكانت ليلة ثلجية باردة؛ وبعد أن بقيتُ وتناولتُ العشاء معهما، حين جاء وقت مُغادرتي، لم تأتِ عربتي لتُقلَّني نظرًا لحدوث خطأ ما في الترتيب؛ لذا قال اللورد «ﺳ…» إن عربتَه ستُوصِّلني إلى منزلي. وعندما دق الجرس لاستدعاء الخادم ليأمره بذلك، حدث أن بدرَت مني ملاحظة: «يا للحُوذي المسكين، أظنه قد استدفأ لتوِّه في سريره، والخيول ما زالت تُلقَّم علَفها، يؤسفني استدعاؤه للخروج في ليلة كهذه.» وبعد أن غادر الخادم الغرفة، التفَتَ اللورد «ﺳ…» نحوي وقال: «عزيزتي الليدي هيستر، ما كنتُ أتوقَّع قطُّ أن أسمع مثل هذه الملاحظة من امرأة تتمتَّع بحُسن إدراكك. ليس صحيحًا أبدًا أن تذكُري سببًا لأيِّ أمر أعطيتِه لخادم. واعتبريها قاعدة في حياتكِ ألَّا تسمحي أبدًا للخدم بتوقُّع هذا التصرُّف منك؛ إنهم يتقاضون أجورهم من أجل الخدمة، وليس من أجل الأسباب والحيثيات».»
وحين تنهض الليدي هيستر ستانهوب من فراشها، كان لا بدَّ من آلاف الاستعدادات الضرورية لراحتها؛ حيث إنَّ الاهتمام المُتزايد برغباتها الشخصية خلال سنوات طويلة من الصحة المعتلة قد جعل منها شخصية شديدة الحساسية؛ وهذا ما جعَل خدمتها ثقيلة على المُحيطين بها. لكن إذا كان هذا الطبع مما يجوز الصفح عنه لدى أيِّ شخص، فمن المؤكد أنه يجوز التجاوز عنه فيها؛ لأنَّ طبيعتها بدَت وكأنها تُطالب بالطاعة من جميع المخلوقات الأدنى منها، وتقتضيها بقوى سِحرية، مثلَما يسخِّر الساحر الجني لخدمته في الحكايات الشرقية.
السمة المُميزة لعقل الليدي هيستر ستانهوب كانت هي رغبتها المُلحة في التحدُّث بلا توقف. كانت هذه سمة في حياتها بالكاد يُمكن وصفها بإنصاف. فقد بدا الحديث عندها تلقائيًّا وحتميًّا مثل التنفس. فما دامت مُتيقظة، كان عقلها يعمل بلا توقف، ولسانها لا يعرف لحظة راحة مطلقًا. وقد يُفترض أن الكلمات حين تتدفَّق وتنهمر دون توقف لا بدَّ أن تُؤدي إلى البوح بلا وعي بكلِّ الأفكار والمشاعر؛ لكن ذلك لم يكن الحال مع الليدي هيستر ستانهوب. فقد كانت سيطرتها على تعبيراتها عجيبة، على طلاقة لسانها المُندفِع. لم يكن لسانها يعبر تعبيرًا صريحًا عن أفكارها؛ تلك الأفكار التي كان يبدُو أنه مِن الأفضل لها أن تُخفيها، حسب مبدأ تاليران؛ لكنه كان لسان حورية البحر، الذي يعمل دائمًا على تَضليل السامع، والوصول به إلى خاتمة غير مُتوقَّعة عبر طُرقٍ مُلتوية، أو من خلال متاهة من الكلمات، توقعه فيها فلا يستطيع منها فكاكًا، إلى أن يجد نفسَه في النهاية في دهشة من أمره أنه قد بلغ غاية لم يُفكِّر فيها من قبل قط، أو مَوضعًا ظلَّ يُحاول تجنبه طوال الوقت.
كانت حواراتها تطُول لستِّ ساعات أو ثمانٍ في المرة الواحدة، دون أن تتحرَّك من مقعدها؛ حتى إنه كان من المستحيل ألا يشعر المستمعون بالضجر من طول الجلوس، على ما يجدُونه من تسلية شديدة، أو نصح، أو انبهار. وكل من زار الليدي هيستر ستانهوب في عزلتها سيشهد على قدراتها المنقطعة النظير على إقامة الحوار؛ ومعرفتها المتعمِّقة بالشخصيات؛ ومخزونها الذي لا يَنضُب من الطرائف؛ ومواهبِها في التقليد؛ وأساليب الحَكي، التي تتنوَّع بتنوع الموضوعات التي تتكلم عنها؛ وسمو لغتها ونبل دوافعها، حين يتطلب الموضوع ذلك؛ وتأثرها وانفعالها، متى رغبت في إثارة عواطف مُستمعيها. ولم يكن هناك سرٌّ من أسرار القلب البشري لم تستطع اكتشافه، مهما اجتهد صاحبه في إخفائه، ولا فكرة طرأت على ذهن المستمِع إليها ولم يُمكنها أن تَكتنهَها؛ ولا مكيدة، بدايةً من الحِيَل المُبتذَلة بمكرها المنحط وصولًا إلى المؤامرات السياسية الواسعة، إلا واكتشفَتها؛ ولا عُقدة إلا واستطاعت حلها، مهما تشابكت خيوطها.
كانت تلك المَلَكَةُ الفاحصة والمتعمِّقة، وتلك البصيرة الفطرية هي ما جعلها ذات مهابة شديدة؛ فمن عاداتها حين كانت تُريد أن تُبين لأحد أن شخصيته ومسار حياته قد انكشفا لها، أن تتناوله بالوصف الدقيق، وفي وجوده، وهي تحكي قصةً بطلُها شخص آخر وبأسماء وهمية، لدرجة أنك ترى الشخص يتلوَّى على مقعده، غير قادر على مُداراة تأثير كلماتها على ضميره. وكل من استمع إليها لساعة أو ساعتَين آبَ وقد ردَّه حضورها مُتواضعًا؛ لأن لغتها كانت دائمًا موجهة إلى إعادة البشر إلى حُدودهم، ولهدم الكبر والغرور، ولتمزيق ثوب التكلُّف، ولفضح الرذيلة والفُجور، والمروق من الدين، والنِّفاق.
في السنوات الأخيرة من عمرها، كانت الأحاديث الودية والعفوية أمرًا غير وارد — فكان من الصعب أن تتصرَّف بعَفوية أمامها — وكان قضاء بضع ساعات معها بمَثابة الذهاب إلى المدرسة. فقد باتَ همُّها فضحَ نقاط الضعف المشتركة بين البشر. والرحمة بمعنى الرفق تجاه ضعف الناس كانت أمرًا ليس لها منه نصيب؛ لكن احترامًا لها نقول إنه بالرغم من أنها كانت دائمًا تضع خطًّا بين النبيل والوضيع، إلا أنها كانت تحترم الصفات الحميدة بالغ الاحترام إذا وجَدَتها في أدنى الناس مقامًا كما لو وجَدَتها في الأمراء.
كانت محادثاتها بشكل عام مألوفة وباللُّغة الدارجة، وأحيانًا تكون ساخرة، وأحيانًا ترتفع إلى بلاغة شديدة النُّبل والوقار، حتى إنها تصير مثل نهر فياض يغمر كل شيء أمامه. وكانت تستعين في الأمثلة التي تضربها بشتى الأشياء، محسوسةً كانت أو مجردة، وكانت على الدوام موفقة فيها لأقصى درجة. وكانت حُجتها بالغةَ الوضوح، حتى إنها لَيَفهمُها ويستوعبها أكثر الأشخاص أميةً، وهي في نفس الوقت منطقية تمامًا، ومُفعَمة دائمًا بالقوة والحماس. فقد قَرَأَت في كل الموضوعات دون كُتبٍ، وتعلَّمت دون تلقين؛ وباختصار، فهي لو كانت مجنونة، كما ظنَّ كثير من الناس، فقد كانت مثل مزهرية بورتلاند المشروخة؛ أعظمَ قيمةً من مُعظم الأواني السليمة، على ما فيها من تلف.
قراءة هذه الحوارات على الورق قد لا تكون بنفس حُسن الوقع، كما كانت حين سمعَتْها الأذن وهي تنطق بها. فإن مرونة ملامحها، وتنوُّع نبراتها، وشخصيتها، وأسلوبها الوقور، وتقليدها الساخر، كلها ساهمت في صنع ذلك الأثر في النفس. وأحيانًا، بعد أن أكون قد تأثَّرتُ بشدة بحديثها، كنتُ أغادر مجلسَها، وأُدوِّن على الفور كل ما حدث، كلمةً كلمة؛ ومع ذلك لم تبدُ لي الكتابة بنفس الأثر قط.
في غالب الأحيان كان من الضروري تحمُّل أسلوبها الشديدِ التكبُّر والغطرسة، ويُمكن القول بأنها كانت الشخص الأكثر تعمدًا للإهانة على وجه الأرض؛ فقد كانت تقول أي شيء لأي أحد. ومع ذلك فقلة من الناس كانوا يعتقدون أنه من المناسب أن يغضبوا؛ لأن كلماتها كانت صائبة في أغلب الأحيان. وعرفتُ أنها دعَت أميرًا بالنذل في وجهه. ولا أحد يمكنه الاستخفاف بقوتها في الجدل، ولا بتفوُّقها في النباهة. كانت سرعتها في التمييز بين الصواب والخطأ مفروغًا منها؛ لكنها متى أرادت، كانت مهارتها السفسطائية بنفس النفاذ والقوة.
في اليوميات التالية، حافظتُ على أكبر قدر مُمكن مما صدر منها في موضوعات مختلفة. وإن كتابة كلِّ ما صدر منها كان سيتطلَّب عددًا من الكتبة يماثل العدد المطلوب من المراسلين لصحيفة يومية. وقد اعتادَت الليدي أن تقول: «إنَّ الأفكار تتوارَد في رأسي كما تهبُّ الريح من النافذة.» موضوع وراء موضوع، وأمر إثر الآخَر، ويحتاج المرء إلى ذاكرة فولاذية لتذكُّر هذا الكم الهائل من المواد، وكثيرٍ من وقتِ الفراغ لتدوينه على الورق.
ربما تكون الآراء الدينية لشخص مثل الليدي هيستر ستانهوب موضع فضول لأولئك الذين يعتبرون أن إيمان الإنسان هو المعيار الحقيقي لتقييمه. مع ذلك، فإنه من غير المؤكَّد ما إذا كانت الليدي قد اتبعَت أيًّا من المذاهب المُعترف بها. وقد اعتادَت أن تقول: «لا أحد يعرف ما الدِّين الذي أدين به. ولقد اختبرني اليهود والمسيحيون اختبارات عسيرة، وسألُوني مُلحِفين في أسئلتهم، لكنَّهم فرغوا كما بدءوا، دون أن يعلموا شيئًا.»
وقالت لي ذات يوم: «يا دكتور، أنتَ ليس لك دين، وما أعنيه بالدِّين هو عبادة القدير. فالدين، كما يعتنقه الناس، ليس سوى ثوب. أحد الناس يَلبس ثوبًا، والآخر يلبس ثوبًا آخر؛ أما ما لديَّ من شعور بالدِّين فهو شيء مختلف تمامًا، وأنا أشكُر الله أنه بَصَّرَني بذلك. وإنك لن تتعلَّم مني شيئًا أبدًا؛ لأنك لا قِبَل لك باستيعاب أفكاري؛ ومن ثَم فإنه لا طائلَ من تعليمك. لا تفتح كتابًا لأحد الحمقى؛ فقد يَزدريه ويبصُق عليه؛ لأنك لا تملك أبدًا إجباره على القراءة. آه! أكاد أبصر طريقي أمام عيني، وقد أنعم الله عليَّ وهداني ربما أكثر مما هدى ناسًا آخرين.
أنا أعرف عيوبي ومزاياي، وآمُل أن يرضى عني الرب، وأنا أتنزَّه في الفكر والفعل. فطالَما كنت في كل ما مر بي من مسرات كما أنا الآن. وقد رأيتُ أنَّ هناك نظامًا للميثولوجيا، ونظامًا للطب، وللسياسة، ولشتى الأشياء؛ ولكنها جميعًا لم تُشبع فضولي، وكنت دائمًا أقول لنفسي لا بد أن أكتشف كُنهَ كل ذلك. وما أعرفُه الآن أكثر بكثير ممَّا كنت أعلمُه آنَذاك؛ وإذا كنت سأجلس لأُمليَ على أحد كل ما أعرفه، فسيستغرق ذلك مني عامَين لإنجازه. لكنَّني مع ذلك حين أتطلَّع حولي وأرى مدى المعرفة اللامحدود، أشعُر بضآلة شأني. لكن ماذا عن نصف البشر في هذا العالم؟ إنني أزدريهم أقصى درجات الازدراء. كان السير جيمس ماكنتوش يُلقي خطابًا، ويتحدث على مأدبة عشاء، ثم يقول إنه غير مُؤمن بالسحر، وبوسعِه أن يقول ما يهواه، لكن هناك أرواحًا شريرة في البشر. فلتَزُر مستشفى المجانين! — وليس كل أنواع الجنون سواءً — وحيث ترتاب في وجود روح شريرة … لكنك عندئذٍ، ستَمضي تتحدَّث عن هذه الأشياء مع عامة البشر فيسخرون ممَّا تقول، مثلَما فعل الدكتور مادين والدكتور كلارك …»
أكملت الليدي حديثَها قائلة: «لا يُمكن أن أتخيَّل أبدًا أن مشاهير الإغريق والرومان كلهم كانوا مجرد زمرة من النِّسوة العَجائز؛ ليكون ما جاءوا به بِناءً على ذلك مثله مثل ما جاءَت به الشعوب والحضارات الأخرى. لكن كثيرين ممَّن يرون هذه الأمور كما أراها أنا، ما زالوا جاهلين. الأمر أشبه بالمرآة؛ الكل يعلم أنها تعكس صورته، لكنَّ كثيرين يجهلون كيف وبأيِّ طريقة يَحدُث ذلك. إنني مُلمَّة بكل الأساطير الوثنية، لا بالقراءة عنها، أو سماع حديث الناس حولها، لكن عبر سبر أغوارِها وعُمق تأمُّلاتي فيها. وأتمنَّى لو أستطيع الحصول على بعض الكتب التي من شأنها إطلاعي على آراء جميع الفلاسفة القدامى ومذاهبهم، فكنتُ حينها سأُدوِّن آرائي الخاصة وأدعمها باقتباسات من تلك الكتب؛ كأن أقول: هذا الشيء كذا وكذا، وإنَّ أفلاطون، أو سقراط، أو شيشرون، أو غيرهم له فقرة تُؤكِّد ما أوردته.
طالَما كان من أهدافي أن أبحث عن سبب مَجيئي إلى العالم؛ وما يجدر بي فعله، وإلى أين سأمضي. لقد وهَبني الله مَوهبة استثنائية في استِشراف المُستقبَل؛ كي يُصبح الحكم البصير أمرًا واقعًا. دائمًا ما اهتتمتُ بمَعرفة نفسي. وأشكُر الله على مُعاناتي؛ لأنَّها مكَّنتني من الغوص في الذات بعُمق أكثر، حسب ظنِّي، من أيِّ إنسان على قيد الحياة. ويا لها مِن شيء مُفزع نظرية الروح تلك يا دكتور!
إنَّ ديانتي هي أن أُحاول فعل أقصى ما أستطيع من خير في نظر الله. هذه هي حسنتي الوحيدة؛ إنَّني أُحاول قصارى جهدي. بعض الخدم يتحدَّثون أحيانًا عن ديانتي ويدعونها «دين الست»، وأنا أتركُهم يتحدَّثون؛ إذ يَشرحونها للناس بقولهم إن ديانتي هي فعل الصواب، واجتناب كل الدنس.
إنَّ آرائي عن الخالق مُختلفة تمامًا. فأنا أعتقد أن الأشياء كلها مُقدرة، والمكتوب مكتوب؛ لكنَّني لا أظنَّ أن الشيطان مُستقِل عن إرادة الله؛ فهو يتلقَّى أوامره. وليس معنى ذلك أن الله يذهب إليه ليُعطيَها له، فالسيد الكبير لا يذهب كي يُعطي أوامره لمُلمِّع أحذيته. إن هناك كائنًا ثانويًّا ما ينقل الأمر؛ هو وكيل من نوع ما.
هناك ملائكة من درجات مُتفاوتة، من الأعلى مرتبة نزولًا إلى الشيطان. ولا بدَّ أن رؤية ملاك من الملائكة مشهدًا مهيبًا! فإن بها شيئًا شديد السمو والجمال، حتى إن رؤياها لا بد أن تجعل المرء شبه غائب عن الوعي. لأنه حين تكون مُطرقًا برأسك، ثم يصدف أن ترفع ناظريك، لتجد ملاكًا واقفًا أمامك، فلا يُمكن أن تجزم هل خرج من الأرض أم نزل من السماء أو كيف جاء، لكنه موجود أمامك، وقد يذهب كما جاء. بيدَ أن الملائكة لا تظهر لأيِّ إنسان. فلا يمكن يا دكتور أن نَفترض أن يُضيِّع رئيس الوزراء وقتَه ويأتي لزيارتك لو كنتَ عطارًا قذرًا، تدير حانوتًا في شارع ضيق؛ ولا أن يزور مَلاك رجلًا يجلس طوال الليل يَسكر، أو يلعب القمار، أو يتَّسكع طوال النهار. لكن حين يكون هناك بشَري على درجة عالية من الاستقامة والنزاهة، عندها يجوز الافتراض أن يهبط الملاك ليبحث عنه.
إن الله هو وليِّيَ، وهذا يَكفيني؛ وإذا لم أُصادف سعادةً في هذا العالم، فإنَّني على ثقة أن نصيبي منها سيكون أعظم في الآخرة، ما دمت أواظب على تنفيذ ما ألهمني إياه من مبادئ.»
هذه هي الآراء الدينية التي كانت الليدي هيستر ستانهوب تُعرِب عنها من وقتٍ لآخر. وقد يُلاحظ أنه ثمة نزعة في حياة الأشخاص ذوي المواهب السياسية الاستثنائية للاعتقاد في احتمال وجود نوع من القوى، التي يَعتبرها الأشخاص أصحاب القدرات العادية ضروبًا من الخيال عمومًا. وقد ينشأ هذا التصور من المقارنة التي يُقيمونها بين قُدراتهم الفكرية وبين عقول عوام البشر. لأنهم حين يتأمَّلون كم هم مُتفوِّقون على عموم الجنس البشَري، ولأيِّ درجة يمكنهم النفاذ ببصيرتهم في خطط البشر، وكم العوامل اللامعدودة التي يجهلُها العوام ولا يتوقَّعُونها، ويستخدمونها هم في إنفاذ خططهم وأهدافهم الخاصة، فإنهم عندئذٍ لا يضعُون حدودًا لكائن قادر على كل شيء، ويتخيَّلون أن مثل هذه القوة لا بدَّ لها من أرواح تخدمُها لكنَّهم لا يرَونها، مثلما يكون جواسيسُهم وصنائعهم غير مرئية بالنسبة إلى مَن يُؤثرون عليهم.
كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الليدي هيستر ستانهوب. فقد كانت تَقضي أيًّا من شئونها بغموض مُستغلق؛ ويدها التي كانت ثقيلة على الجاني ومُعينة للمَظلوم، كانت حين تمدُّها يشعر الناس بأثرها دون أن يَفهموه. من ثَم فربما يكون هذا هو السبب لمَيل عَقلِها بالغ الذكاء ميلًا شديدًا تجاه العلم بأمور الشياطين واستحضار الأرواح والسحر. وبدا وكأنَّ لديها اعتقادًا راسخًا بأنَّ الأجواء مليئة بالأرواح التي تُراقب البشر وتوجه خطواتهم وأفعالهم. وكانت تَعتقِد أن الهواء الذي نتحرك فيه، والأرض التي نسير عليها مليئين بالكائنات الرقيقة والأثيرية، التي تُكافئ الكريم والحكيم من الناس وتَحميهم على كياستهم وحرصهم في حركاتهم وأفعالهم اليومية، ولكنَّها من ناحية أخرى تَنتقِم لأنفسِها من الخبيث، بل حتى من الأخرق، بالتسبُّب فيما يتعرض له مثل أولئك الأشخاص من عدد لا يُحصى من الحوادث. وكانت الليدي هيستر تقول في بعض الأحيان: «أنا لا أُحرِّك ساكنًا أبدًا، دون أن أسأل هذه الأرواح الحارسة أن تحرسني؛ ولا أرى أبدًا شخصًا يزلُّ ويرتطم رأسه بإطار باب، إلا ويخطر لي أنه كسر بعضًا من تلك الأرواح الرقيقة. فكما نضع قِطَع الخزف الصيني الثمينة دائمًا في مكانٍ لا يسهُل فيه إسقاطها على الأرض، كذلك تَقبع هذه الأرواح عمومًا حيث لا يُتوقَّع أن تَرتطِم بهم خطواتنا؛ ومثلَما يفعل الذي يَبصُق على الأرض في غرفة فيُصوِّب بصاقه إلى حيث لا يُفسِد الأثاث، كذلك يجب أن نراعي ألا تُؤذي حركاتنا وإيماءاتنا هذه الكائنات اللامرئية؛ لذلك علينا، فيما نقوم به مِن أعمال عنيفة، أن نُوجِّه لها تحذيرًا ما لتَبتعِد عن الطريق.»
وفي مناسبة أخرى، هتفت قائلة: «يا لروعة هذه النبوءات الموجودة في الكتاب المقدس! تخيل أنها تنبَّأت بالأحداث، بل حتى بأسماء الناس، قبل حُدوث أي شيء بمئات السنين!»
وعندما كان السيد واي، المُبشِّر، موجودًا في بلدة جون، تحدَّث هو والليدي هيستر حول الدِّين لعدة ساعات. وقالت الليدي: «السيد واي كان حصيفًا ومُطلعًا؛ لكنَّه، مثل الباقين، تخيَّل أن بإمكانه هداية الناس بجُهوده الخاصَّة فقط؛ لكنَّهم جميعًا على خطأ. ونهجي أنا مُختلِف عنهم تمامًا. فما أنا إلا أداة بين يدَي الله، وحين يشاء أن يحدُث التحوُّل الكبير، فسيُسبِّب له الأسباب. وواجبي هو أن أُهيِّئ عقول الناس؛ وإذا كنتُ سأموت غدًا، فسأكون راضية لاعتقادي أنَّني قد جعلت بعض الأشخاص على الأقل يتدبَّرُون.»
تبنَّت الليدي هيستر ستانهوب في بعض الأمور جوانب من الشَّريعة اليهودية، أو ربما أجزاءً من شريعة طائفة الشيعة المُسلمين. وكان العديد من خادماتها قد جئنَ من القُرى المُجاورة، حيث يوجد الكثير جدًّا من أتباع الطائفة المنشقَّة عن المسلمين، والمُسماة بالمتاولة؛ وربما كان لليدي بعض الملاحظات على شَعائرهم، التي وضَّحها لها بشكل وافٍ الشيوخ المُطلعون الذين كانوا يزُورونها بين الحين والآخَر؛ ويبدُو أنها قد اتبعت هذه التعاليم بوصفِها قواعد مُفيدة في الحياة، ولكن ليس كفرائض دينية. فلدى المتاولة مُصطلحات كالنجس والحلال، وهي مُرادِفة للقَذارة والشرعي، وهي دائمًا في أفواههم، كما أنهم يَمتثلُون لمعظم السُّنن المتعلِّقة بالنجاسة في شريعة اللاويين. وقد تشرَّبت الليدي هيستر ستانهوب الكثير من هذه التحفُّظات، كما سيتبيَّن ذلك من مثال أو مثالين.
رجل مُهذَّب لا غبار عليه من حيث درجة النظافة والأخلاق الرفيعة، كان قد وصَل على غير توقُّع إلى دار جون، فما كان مِن الخدم في استعجالهم لتقديم العشاء له، إلا أن استخدموا بعضًا من الأدوات الخاصة بسيادتها. وبعد العشاء، زارها الضيف، ثم انصرف لينال بعض الراحة. كانت الساعة الواحدة صباحًا تقريبًا. ومن كلمة هفا بها أحد العبيد، اكتشفَت الليدي أن بعضًا من مَناديل المائدة الخاصة بها قد وُضعَت لزائرها. فثارت ثائرتها، حتى إن قليلًا من الناس من يتصوَّر أن تنشب مثل تلك الضجة بسبب أمر شديد التَّفاهة كهذا، وبالكاد هدأت مع انبلاج النهار.
صرخت الليدي قائلة: «ماذا! ألا أستطيع الاحتفاظ بأي شيء لنفسي؟ أشدِّد على ضرورة ألا يختلط أي شيء يخص الآخرين بأي شيء يخصُّني أبدًا. ولا يُغلى ماءٌ في مطبخي، ولا يُطهى فيه لغيري، ولا يخرج منه طبق فنجان أو صحن أو كوب مرة، ثم يعود إليه ثانيةً.» واستمر هذا الاضطراب لبضع ساعات بعد مُنتصَف الليل؛ فقد جعلتهم يُحضرون كل قدورها وقلاياتها وأكوابها وصُحونها ومناشفها وسكاكينها وشوكاتها، وكل قطعة من قطع المائدة والمطبخ، وفرشوها أمامها، كي تُعلِّمهم، حسب قولها، بما تكبدوه من مشقة، ألا يخالفوا أوامرها مرة ثانية. لكن كان هناك سبب لافتراض عدم مُراعاة كل تلك التعليمات الدقيقة والاستثنائية. فقد كانت مخدوعة بأكاذيب خدمها؛ وقالت لي ذات مرة، كأنها كانت يائسة لعدم قدرتها على فرضِ طاعتِها عليهم: «يا دكتور، إنهم يَمسحُون أنوفهم، ثم يمسحون اﻟ… وبعدها يمسحون كئوس الشراب بنفس المنشفَة؛ ويَكذبون، ويكذبون، بثقة من لا يأبه لاكتشاف أمره.»