الفصل السادس
إيمان الليدي هيستر بقُدوم المسيح المُنتظَر، فرساها المفضَّلتان، تأثَّر قدر الليدي هيستر بالعرَّاف براذرز، وشخص يُدعى متى، وهو منجم سوري، دوق رايخشتاد، مدام دي فيريات، حكاية عبدةٍ شركسية، دُروب وعرة في جبل لبنان، حكاية اللورد بوت وحرمِه، حكاية السيد «أ…» الذي أصبح فيما بعد اللُّورد «ﺳ…»، صعود والده في العالم، لورد ليفربول ووسام الاستحقاق، الترهيب الذي مارسته الليدي هيستر ضد أهل بيت المؤلف، الصُّعوبات المُتعدِّدة الناشئة عن ذلك، رأي الليدي هيستر في مهمَّة السيد «إكس»، مدام فراي، تحدي الليدي هيستر للسلطة القُنصلية، وثقتها في مصادِرِها الخاصة، التوصية بلوناردي كخادم، المؤلف يُودع الليدي هيستر، سلوك الفرنجة في صيدا، المؤلف يُبحر إلى قبرص، الاستقبال بحَفاوة من السيد حنا فركوح، السوري، ومن السيد بالداساري ماتي، فيلا على البحر في لارنكا، السيد جورج روبنسون، القبطان سكوت، القبطان دانداس، السيد بيرنز، المؤلف يُبحر إلى أوروبا.
نظرًا لتداوُل الكثير من الرحَّالة ما أعلنَته الليدي هيستر ستانهوب عن قُدوم المسيح المنتظر، وقولها إنَّ فرسَيها العربيتَين، من سلالة خاصة، ولا يجوز لأحد امتطاؤهما أبدًا إلى أن يحين القُدوم الثاني للمسيح، وما بنَوه على ذلك من استنتاجات غير لائقة حول الصحة العقلية لليدي، فربما يكون من المُستحسَن أن نُوضِّح، ما قالته بالفعل، بكلماتها الخاصة، عن هذا الموضوع.
أنت تحكي لي عن الجمعيات السرية التي ظهرت في أوروبا منذ الحرب الطويلة الأمد. أولست أعرف كل ذلك؟ لقد نشأت وسط الثَّورات منذ بدأت أعيش مع السيد بيت. وكم مِن مُؤامراتٍ سحقَها هو، خلال يوم أو يومَين من تنفيذها، ولم يسمع أحدٌ خبرًا عنها قطُّ! كبار الماسونيِّين، يا دكتور، موجودون في كل أنحاء العالم، ويَعرِفون أنني الشخص الذي يُريدونه. وقد جاء الكثير منهم للتجسُّس على أعمالي؛ لكنَّني سأظلُّ صامدة دون أن أحتاج إليهم، وهم الذين سيَحتاجون إليَّ. وحين تتطوَّر الأحداث لتصلَّ إلى مرحلة حاسمة، عندها سوف أحصل على عون كافٍ. كل مَن يأتُون هنا في أثري، مُرسَلون ليقولوا رسالة ما؛ فإنَّ اللورد «ﺑ…» الذي قابلني في طبريا كان ماسونيًّا، واحدًا ممَّن أتحدث عنهم.»
الخيول في سوريا تُربط في العراء لمدة سبعة أشهر تقريبًا في السنة، حيث تُعلَف وتبيت. وكانت هاتان الفرسان الجميلتان تَقِفان تحت سقيفة مُغطاة بالقش، مُغلَقة من الجانبَين بتعريشة خشبية، وخلفهما ثلاث رياض من الزهور والشُّجيرات. وفي صباح كل يوم في الصيف كان السُّياس يغسلون ذيولهما وسيقانهما وأعرافهما بالماء والصابون، ويَروُون الأرض تحت أقدامهما بالماء لترطيبهما؛ لكن خلال شهور الشتاء، كانتا تُوضعان داخل إسطبلاتهما وتُغطَّى أطرافهما الرقيقة باللباد الدافئ. والعِجل أبيس في عزِّ أيام مجده، وهو مُحاط بكهنته، لم يكن ليلقى عنايةً أفضل من هذه.
وأكَّدت لي الليدي هيستر ذات يوم أنها — مع اشتداد ضائقتها المالية — كانت ستتخلَّى عن منزلها وكل ما عداه لدائنيها، وتتنازَل عن مَعاشها لتُسدِّد لهم، ثم تُغادر البلاد، لولا هاتان المخلوقتان؛ فقد قرَّرت من أجلهما الانتظار حتى اكتمال الأحداث. وأضافَت: «آه، يا دكتور، أذكُر عندما كنتُ في روما أنَّني رأيت على جدارية جميلة نقشًا لهذه الفرَس نفسها، بظهرها الغائر مثل السرج. كان هناك رجلان إنجليزيان واقفان بجوار الجِدارية، يَنتقِدان فيها نفس الشيء الذي جذَب انتباهي. قال أحدهما: «كم هي جميلة هذه الجدارية! لكنَّ القُدماء، لم يكن بإمكانهم الشروع في شيء جيد دون أن يُفسدوه بشكل أو آخر. وهنا في هذه اللوحة ذلك الحصان ذو الظهر الغائر؛ فهل رأيت شيئًا كهذا من قبل؟» وسمعت حديثهما كله، لكنني كوَّنت قناعتي الخاصة؛ والآن كما ترى لديَّ فرَس مِن نفس السلالة.»
هناك سبب للاعتقاد، ممَّا باحَت به الليدي في أوقاتٍ مُختلفة، أن العرَّاف براذرز في إنجلترا، وشخص يُدعى مَتَّى، وهو طبيب قروي، في جبل لبنان، كان لهما تأثير كبير على أفعالها، وربما على مصيرها. وحينَما قُبض على براذرز، وزُجَّ به في السجن (في زمن السيد بيت)، طلب ممَّن ألقوا القبض عليه أن يُنفذوا إرادة السماء، لكنه التمسَ منهم أولًا أن يدَعُوه يُقابل الليدي هيستر ستانهوب. وبلغ سيادتها هذا الطلب، ودفعها الفُضول إلى الاستجابة لطلب الرجل. وقد أخبرها براذرز: «إنها ستَذهب يومًا ما إلى القُدس، وستقود الشعب المُختار؛ وإنها حين تصل إلى الأرض المقدَّسة، ستَحدُث في العالم تحوُّلات هائلة، وإنها ستَقضي سبع سنوات في الصحراء.» ويمكن للملابسات العادية أن تعزز اعتقادًا أبله يسكن عقلًا ميَّالًا إلى دعمه. كان السيد فريدريك نورث، الذي أصبح بعد ذلك لورد جيلفورد، في سياق رحلاته قد جاء إلى بورصة، التي كانَت الليدي هيستر قد ذهبَت إليها من أجل يَنابيع الماء الساخنة. فكان هو، والسيد فزاكرلي، والسيد جالي نايت، كثيرًا ما يُمازحون الليدي بشأن عظمتِها المُستقبلية بين اليهود. فكانت عبارات: «حسنًا يا سيدتي، لا بدَّ أن تَذهبي إلى القدس. هيستر مَلِكة اليهود! هيستر مَلِكة اليهود!» تتردَّد فيما بينهم؛ وأخيرًا، قد تكون المُصادَفة في اسمها، والنبوءة والبلد الذي وجدت نفسها ذاهبة إليه، هي ما بعثت، لدَيها حتى، على الاعتقاد بأنَّ ثمَّة شيئًا استثنائيًّا. ومن ساعتها ظلَّ متَّى يُتابع مسألة قدرها، فصوَّر لها الدور الذي ستَلعبُه في الشرق. ظلَّ هذا الرجل، متَّى، لسنواتٍ تلَت عام ١٨١٥، يعمل في خدمتها رئيسًا لخدمها نوعًا ما. كان مُتقدمًا في العمر، ويؤمن، كبقية السوريِّين، بالتنجيم والأرواح والتنبُّؤ. ولا شكَّ أنه قد لاحظ في الليدي هيستر ستانهوب مسحة مِن نفس النزعة؛ فكان أن قال لها في إحدى المرات، أثناء حديثِه معها: إنه على علمٍ بكتاب به نبوءات، ويَعتقد أن به مقاطعَ بشأن الليدي. وأقنعها بأنَّ هذا الكتاب لا يُمكن الحُصول عليه إلا بتضافُر ظروف تشمله هو شخصيًّا، وقال إنها لو أعارته حصانًا قويًّا يأخُذُه لمكان الكتاب، فسوف يُحقِّق لها رؤيته، لكن شريطة ألا تسأله أبدًا من أين سيأتي به.
من المؤكَّد أن الليدي هيستر ستانهوب ظلَّت لفترة طويلة على قناعة بأن دوق رايخشتاد سوف يزورُها في يوم من الأيام، وتخيَّلت أنه هو الفتى المُشار إليه في النبوءة. وبعد وفاة هذا الفتى، ركَّزت على شخص آخر، وألمحَت إليه في إحدى رسائلها إليَّ.
مات متَّى، تاركًا ثلاثة أبناء؛ وعلى فراش الموت، وفي وجود زوجتِه وأولادِه، قال لهم: «قولوا للست إنَّني أعهد بكم يا أطفالي إليها. فليس لي صديق في الدنيا سواها؛ أنتم فُقراء وهي سوف تعُولكم.» ولا شك أن القارئ سوف يستحضر في ذهنه أسطورة الفيلسوف الإغريقي الفقير المُحتضَر، الذي عهد بابنته المُعدمة إلى صديقه، وتمنَّى عليه أن يتزوَّجها. وهذا الرجاء مفهوم جدًّا في الشرق. وقد قام متَّى بحساباته بكلِّ مكر؛ إذ لم تتخلَّ الليدي هيستر ستانهوب عن الأيتام قطُّ؛ وبرغم أن أحدهم صار سكيرًا، فقد تحمَّلَت بطالته وتهتُّكه، وتكفَّلت بشئونهم هم الثلاثة.
عندما روَت لي الليدي هيستر ستانهوب هذه القصة، لم يكن عندي أدنى شكٍّ في اقتناعِها أن كل هذه الأشياء ستتحقَّق. وقالت لي: «إنَّ طبيعتَك بالغة الجُمود حتى إنه لا يُمكن لأحد أن يقول لك أيَّ شيء ليُؤثِّر فيك. ولقد ظننتُ من رسائلك أنك تحبُّ هذه البلاد، وأنك، بعد إدراك الأحداث المرعبة التي ستقع قريبًا في أوروبا، قد رغبتُ في تأمين ملاذٍ آمِن لك معي، وأنك أحسست ببداهة المعتقَدات التي سبق وتحدَّثت معك عنها كثيرًا. لقد تركت الناس هنا يعتقدون (نظرًا لأنَّ هذه الفِكرة سكنَت عقولهم) أن عائلتي أرسلتك لترتيب شئوني. وإنني لم أنظر إلى مصلحتي الشخصية حين فعلتُ ذلك. فعندما يحين الوقت، سيكون الآلاف من أمثالك على استعدادٍ لخِدمتي؛ وبالتأكيد لن يكون لديَّ وقت فراغ حينها لأتحدَّث إليك، لأنني سأكون مُنشغلة، كما هو مُتوقَّع، في تلبية أوامر سيدي. كل ما خطر لي هو أن أُوفِّر لك ملاذًا آمنًا ما دام بإمكاني ذلك، فعندها سأكون قد أدَّيتُ واجبي نحوك.»
بعيدًا عن هذا الموضوع، سرَدَت لي الليدي هيستر ستانهوب بعض النوادِر عن دوقات الأسرة المالكة، تخصُّ الليدي أوجستا موراي، والسيدة جوردان، والسيدة نيوجينت، وغيرهن. وقادَها ذلك إلى الحديث عن تأثير النساء على تصرُّفات الرجال، وعن السُّلطة التي يُمارسنها سرًّا في شئونٍ يكون فاعلُوها في الظاهر رجالَ دولة ذوي شأن. وقالت لي إن النساء التركيات، المُحجَّبات والمحصورات في الحرملك، لا يقلُّ تأثيرهن على الأحداث في بلاد المسلمين عن نظيراتهنَّ الأوروبيات، اللاتي يتبختَرن في الصالونات. ولا هنَّ أقل منهن تشبُّثًا وصلابة في الرأي، نزولًا حتى إلى الإماء المُشتراة، اللواتي يُفترَض عمومًا أنهنَّ محض كائنات آلية، خاضعات تمامًا لإرادة سيدهنَّ. وروَت لي الليدي قصَّة للتدليل على زعمِها، وما يلي هو فحواها:
كان هناك امرأة شركسية في حريم السُّلطان، لكنها بيعت لسببٍ ما، وسقطَت بين يدَي داي (حاكم) الجزائر. وحين ذهَب الداي إلى رُؤيتها، في جناح حريمه، وتقدَّم نحوها ليُباشِرها كيفما اعتقَدَ أنه حقٌّ له، صفعَته المرأة على وجهه، فلم تُخفِّف البتَّة من نفورها الصريح منه. وفي النهاية اضطرَّ إلى بيعها مرةً أخرى. وكان المُشتري الراغب فيها سيدًا مُحترمًا (هو من روى هذه الوقائع على الليدي هيستر ستانهوب)، والذي عند اقترابه منها وهي جالسة على أريكة، صُعقَ من جمالها لدرجة أنه فقَد القُدرة على النُّطق بكلمة لبضع لحظات. فسرَّتها عواطفه، وأحبَّته. اشتراها الرجل، وعاشا معًا لفترة طويلة في سعادة. وبعد ذلك، أعادَتها الصدفة مرةً ثانية إلى القسطنطينية، ودخلَت الحريم للمرة الثانية، بعد أن باعها الرجل الذي أحبَّته، والذي تزوَّج من امرأة أخرى، واضطرَّ إلى التخلِّي عنها على سبيل الاحتراز. وقد ارتقَت تلك المرأة حتى صار لها ثروة وسُلطة عظيمتان، لكنها لم تنسَه قطُّ؛ وجعلت اهتمامها دائمًا بخدمته وخدمة مَن يُوصي بهم.
عند عودتي إلى كوخي في القرية (ويكون ذلك عامةً بعد مُنتصَف الليل)، كان يصحبُني خادم يحمل مصباحًا. في هذه الأحيان كنتُ أمتطي حمارًا، لكونه أكثر المخلوقات ثباتًا في خطواته في الدروب الجبلية في الظلام. ولا تجد لدَينا في إنجلترا مثل هذا النوع من الطرُق للوصول إلى منزل شخصٍ ما؛ بيدَ أنه ليس مختلفًا على الإطلاق عن الطريق المؤدِّي إلى قصر الأمير بشير، أو المؤدِّي إلى منزل أيِّ مسئول أو أمير آخَر على جبل لبنان. وهذه الدروب بالكاد تتَّسع لمرور بغلٍ أو حصان؛ وحيث تكون جوانب الجبل مُنحدِرة انحدارًا غير عادي، تتَّخذ هذه الدروب خطوطًا مُتعرِّجة دائمًا، وأحيانًا ما تتدرَّج درجات. وأيُّ زلة في هذه الأماكن ربما يُؤدي إلى عواقب وخيمة جدًّا، خاصةً أنه لا يُوجد أيُّ جدار حاجِز أو أيُّ وسيلة حماية أخرى كاحتياطات للأمان. لذا مِن الطبيعي أن يتخوَّف أي شخص غريب عن هذه البلاد من الانطلاق وحدَه في هذه المدقَّات الجبَلية الصعبة، حتى لو في وضح النهار؛ وهناك مثالان لفرنسيِّين، كانوا في طريقهم فعلًا من صيدا إلى مقرِّ إقامة الليدي هيستر، حين عادوا أدراجهم مذعُورين ممَّا بدا واضحًا مِن وُعورة الطريق. لكن العادة سرعان ما تُولِّد اللامبالاة أمام مثل هذه العقَبات، وحيوانات هذا البلد حَذِرة وثابتة الخُطى للغاية حتى إنه يجوز لأيِّ إنسان أن يجتاز كل هذه الطرُق الخَطِرة بأمانٍ تامٍّ، ما دام يَعتمِد على مهارتها لا على مهارته هو.
كنتُ على وشك القول إنه عند عودتي إلى المنزل ليلًا، كان من المعتاد أن يخرج معي من البوابة ثلاثة أو أربعة من كلاب الدرواس، الرابضة في فناء المنزل. وكانت هذه الكلاب تَستمتِع حين تجوب المسافة بين منزل الليدي والقرية بحثًا عن بنات آوى والذئاب ونوعٍ من النُّمور، التي تتواجَد أثناء الشتاء في الأجزاء الواطئة من الجبل، ولكنَّها أكثر شيوعًا في الغابات الموجودة في السلسلة العُليا من جبل لبنان. وفي هذه المشاوير الليلية كثيرًا ما كنتُ أسمع أصوات بنات آوى، لكنَّني حتى ذلك الوقت لم أكن التقَيت بذئب إلا مرةً واحدة؛ مع ذلك فقد حدث ذات مرة أثناء عودتي إلى المنزل في الساعة الثانية بعد مُنتصف الليل تقريبًا، أن أطلقَت الكلاب نباحًا حادًّا، ومن مَصطبة صخرية مُنحدِرة أعلى رأسي، قفَز ذئب قفزةً مُتهوِّرة عابرًا الدرب وهابطًا المُنحدَر، وفي أعقابه الكلاب، وكظلالٍ داكنة وبسُرعة البرق اختفوا جميعًا. وسمعتُ صخبَهم لعشر أو خمس عشرة ثانية، وبعد عدة دقائق أخرى، عادَت الكلاب وهي تلهَث؛ لكنَّني لم أستطع، بسبب ظلام الليل، أن أتبيَّن من فُكوكهم إن كانوا قد تغلَّبوا على الذئب أم لا. وترتاد هذه الجبال الخنازير البرية، وكذلك الثعالب، والظِّباء، وحيوانات الغابة.
في اليوم التالي، خرجت مع عائلتي للتمشية في وادٍ عميقٍ، بين جبلَين شاهقَين، نمَت فيه أشجار بهشية قصيرة وزهرة العُنقود والسنديان والقطلب وغيرها. وكان هناك راعي ماعز يقود قطيعًا منها؛ وحالَما وصلنا عنده، رأينا كلب درواس كبير يَهبط جانب الوادي مُطاردًا حيوانًا ما. وقال لي الراعي إنه كان نمرًا، وإنه كان قد أثاره حين ألقى حجرًا على إحدى عنزاته. وعاد الكلب، بعد مُطاردة امتدَّت مئات من الياردات. وأضاف الرجل قائلًا إنَّ هذه النمور لا تكون خَطِرة في النهار، لكنَّها ربما تُشكِّل خطرًا بعد حلول الظلام، إذا كانت في حاجة ماسَّة إلى الطعام. مع ذلك بدا الراعي وزميله غير مُبالين بالنمر، وكأنهما مُعتادان على رؤيتها بكثرة. يظل هؤلاء الرعاة طوال فصل الشتاء في نطاق سلسلة محدَّدة من الجبال الأقل ارتفاعًا، ويُئْون قطعانهم ليلًا في كُهوف في الصخور؛ حيث يوجد الكثير من الكهوف الطبيعية. وتُشكل الكلاب وسياج من شجيرات العُلَّيق الشائكة سبل الحماية لتلك القُطعان. وفي الصيف، يعود الرعاة إلى قراهم في المناطق العليا. وهذان اللذان قابَلناهما جاءا مِن قرية تُدعى مزرعة الشوف، على بُعد حوالي ثلاثة فراسخ أو أربعة، وقُرب القِمَّة الثلجية.
التاسع من مارس: ذهبنا إلى دير المُخلِّص، لزيارة قبر الآنسة ويليامز مرةً أخرى. وفي نفس اليوم ناشدتني امرأة من الفلاحين أن أذهب إلى زوجها الذي كان يَرقُد مُصابًا بحُمى خبيثة. كان الرجل وقتها في سكرات الموت، وقضى نحبَه في نفس الليلة؛ لكن أتيحت لي الفرصة لألاحظ أن لدَيه ست أصابع في كل يد. وفي ذلك اليوم أيضًا أخبروني عن الطريقة التي يُمارسونها في القرية لعلاج التهاب الحلق. فإنهم يَربطون منديلًا ويشدُّونه بإحكام حول الرقبة، إلى أن يُوشك المريض على الموت من الاختناق، ويُحدث ذلك اضطرابًا شديدًا في الدورة الدموية، لدرجة أن الالتهاب يهدأ في غُضون ساعات قليلة. وقد عرفت هذه المعلومات من فم رجل مُحترم، كان قد خضع مُؤخرًا لتلك العمَلية.
أمضيتُ يَومي العاشر والحادي عشر من مارس مع الليدي هيستر، التي باتَت تارةً في حالة سخط شديد ضدَّ عبيدِها السود، وتارة أخرى مُنشغلة كمُدبِّرة للمنزل في الإشراف على تعبئة ثلاثة صناديق بالفواكه المجفَّفة، والعسل، والشراب، والصنوبر، والمشمش المحفوظ، وغيرها من الأطعمة الشهية، المزمع إرسالها إلى الدكتور دوساب في مصر.
الحادي عشر من مارس: وبينَما هي تُعبِّئ الصناديق، روَت لي الليدي الطُّرفة التالية، التي حدثت في مالطا، وأذكر اليوم الذي وقعَت فيه جيدًا جدًّا. كانت سيادتها قد قالت لي وقتها: «سوف أذهب في يوم كذا لتناول الغَداء في منزل اللورد بيوت؛ وهو لم يدعُكَ، وستكون هذه فرصة جيدة جدًّا لك كي ترى الأطباء والمعارف الآخَرين الذين يُمكنك التعرف عليهم هنا، لذا ادعُ من شئت على العشاء، وسوف أعطي أوامري لفرانسوا بهذا الشأن. لن تخسر شيئًا بعدم الذهاب إلى منزل اللورد بيوت؛ فهو رجل مُتعجرِف، ويرى أنه لا يجوز للأطباء والمعلمين أن يتحدثوا قطُّ إلا حين يُوجَّه إليهم الكلام. والسيد «ﻛ…» نادرًا ما يفتح فمه في حضور اللورد، إلا إذا وجه له سؤالًا، أو أشار إليه عند الحديث حول مقطع في قصيدة لفيرجيل، أو في كتاب آخر؛ لكنك حينها تراه نموذجًا لرجل الدِّين الذي عاشر عظماء الناس، فيا لسمو الأخلاق الذي يتحلَّى به! دائمًا رابط الجأش، ودائمًا مُتواضِع، وواثق أنه محلُّ ترحيب أينما حل.»
قالت الليدي: «ذهبتُ لتناوُل الطعام في منزل اللورد بيوت في تلك الليلة، وسألني اللورد أثناء العشاء عن رأيي في «د…»، ابن المصرفي. فهتفت: «أوه! أعتقد أنه مثل كل أبناء المصرفيِّين الذين أراهم يتسكَّعون في أنحاء البلاد، في حين أنه من الأفضل كثيرًا لهم أن يكونوا خلف طاولة المصرف؛ لأنهم إذا كانوا يَنوون الاستمرار في مِهنة آبائهم، فإن هذا التجول هنا وهناك سيجعلُهم غير مُلائمين مطلقًا لها، ولن يُمكن أبدًا بعد ذلك حملهم على الجلوس في غرفة مُعتمة في شارع ضيق بالمدينة؛ وإذا كان المُزمع هو جعلهم سادةً نُبلاء، فمن المؤكد أنهم سيفسدون أنفسهم، وإذا لم يفعلُوا، فإن شركاتهم ستَكتسِب سُمعة سيئة؛ أولستُ على حق في ذلك، يا سيدي اللورد؟» أجاب اللورد بيوت: «مهلًا، إنني دائمًا ما أتَّفق معكِ يا ليدي هيستر، كما تعلمين، لكنَّني لا أعتقد أننا مُتفقان في هذه النقطة. إنكِ لا تُحبين المصرفيِّين إذن يا ليدي هيستر؟» قلت له: «ليس بالضبط يا سيدي اللورد»، لكن عندما رفعت رأسي، رأيتُ اللورد إبرينجتون يَلوي فمه، والليدي بيوت وقد ارتسمَ على وجهها تعبير غريب جدًّا، بينَما بدا على اللورد بيوت سيماء المكر الشديد؛ وطوال ذلك الوقت كان كبير الخدم يَقِف على ساقٍ ثم على الأخرى، في حالة غريبة جدًّا من الارتباك. ثم قفز في ذهني فجأةً «ﺳ…» العجوز، ورأيت أي هفوة ارتكبت.
وعند خروجها من الحُجرة، قالت لي الليدي بيوت: «أنتِ دائمًا مُتهوِّرة كما كنتِ طوال عمرك يا ليدي هيستر، لكنَّني أعلم أنكِ لا تقصدين أيَّ أذًى أبدًا بما تقولين. وهكذا انتهت المسألة، حسبما اعتقدت حينها. إلا أنَّ الليدي بيوت لم تنسَها، كما ستَسمع تاليًا. لقد واظبت على التراسُل طوال ١٥ أو ٢٠ سنة، وكانت رسائلها حافلة بعبارات عن استعدادها لخدمتي. وفي عام ١٨٢٧ وجدت نفسي في وقتٍ من الأوقات، كما أخبرتك من قبل، أعاني من عجز شديد في المال، وكتبت إلى الليدي بيوت أسألها أن تُقرضني ٣٠٠ جنيه، وكان ردُّها هو أنها لا تملك الكثير من المال لتستطيع التصرُّف فيه دون أن تُضيِّق على نفسها. وبعد هذه المرة لم أكتب لها ثانيةً قط؛ لكن واتَتني رغبة شديدة لأن أرسل إليها خطابًا أقول فيه إنني لا أظنُّ أن اللورد بيوت المُتعجرِف كان ليترك أرملته فقيرة لدرجة أن تشكل الثلاثمائة جنيه مُعضلة لها، في حين أذكر أنني رأيتُ مَبالغ مُماثلة توهب لكبير خدم عجوز أو مدبرة منزل فقيرة».»
الثاني عشر من مارس: روت لي الليدي هيستر قصة أخرى. قالت: «هل تُصدِّق يا دكتور أن السيد «أ…» أراد أن يُصبح لورد منطقة رالي؟ وقرَّرت أنا ألا يتحقَّق له ذلك، إن استطعت. وذات صباح، جاء السيد بيت إلى الصالون للحديث معي، وعندها قلت له: «يا له مِن كاريكاتير ذلك الذي رسموه للسيد «أ…»؛ ووصفتُ له كاريكاتيرًا، كما لو كنتُ رأيته، يُصوِّر الملكة إليزابيث والسيد «أ…» والملك؛ وبقَدر ما استطعتُ من روح الفكاهة وصفت له الصورة مُضحكةً لدرجة أن السيد بيت تلهَّى بها للغاية. وبمُجرد أن أنهيت وصفي للكاريكاتير، دخل شخص ما وقطع المحادثة؛ وخرج السيد بيت من المنزل لتناول العشاء، ولم أرَه بعدها. وظنًّا من السيد بيت أن ما أخبرته به حقيقيًّا، ذهب فأخبر السيد «أ…» وآخرين بالقصة. وأُرسل ستة أشخاص على الفور إلى كل مراسم الكاريكاتير لشراء كل المطبوع من هذه الصورة بأيِّ ثمن؛ لكن لأنَّ الموضوع كله كان من اختراعي، فإنهم لم يجدوا شيئًا؛ إذ كنت أنوي أن أقول للسيد بيت (قبل مُقاطعة حديثي معه وخروجه): تخيَّل كم ستكون سخافة الوضع لو نُشر مثل هذا الكاريكاتير، وهو أمر مُحتمل جدًّا.» لذا عندما رأيت السيد بيت في اليوم التالي، أخبرته بذلك؛ لكن الرعب الذي زرعَته القصة فيهم كان هائلًا جدًّا حتى إنهم اختاروا لقبًا آخر للسيد «أ…». وكان عاقبة الأمر أنَّ السيد بيت لم يتحدَّث إلى اللورد «ﺳ…» ثانيةً قط.
لقد ارتقى والد السيد «أ…» في المجتمع على النحو التالي. حين سقط الحُوذي الأول الخاص باللورد تشاتام مريضًا، أُرسل أحد الحوذية إلى المدينة لإحضار طبيب العائلة؛ لكنه لم يجدْه ولم يَعرف ماذا يفعل، ثم عاد ومعه السيد والد السيد «أ…»، وكان حينها مُمارسًا محليًّا للطب، واعتذَرَ الحوذي لجدِّي، قائلًا إنه يأمُل ألا يستاء سيادته مما فعله؛ فقد أخبره الجميع في المدينة أنه طبيب جيد. وتحدَّث اللورد تشاتام معه، وطلب منه أن يذهب لرؤية الحوذي المريض، وفعل الطبيب ذلك، وعاد ثانيةً ليبلغه بنتيجة الكشف. وسعد اللورد تشاتام جدًّا به، لدرجة أنه عيَّنه صيدلانيًّا معالجًا للخدم، ثم بعدها له شخصيًّا؛ وعندما وجده يتحدث عن دراية في الطب، وفي السياسة، جعله في النهاية طبيبه الخاص.
كان السيد بيت ينوي استحداث وسام استحقاق، وطلب مِن كلِّ وزير من الوزراء أن يُدلي برأيه في الشريط الملوَّن المقرر استخدامه في تزيين الوسام. فكان من بينهم لورد ليفربول الذي قال إنه قد أعدَّ شريطًا، وسوف يأتي في المساء ليُريه للسيد بيت ولي. وجاء حسب موعده. وقال بكثير من الرضا عن الذات: «كما ترون، حاولت الجمع بين الألوان التي ستُداعب الشعور الوطني. ها هنا اللون الأحمر تعبيرًا عن العلم الإنجليزي، والأزرق تعبيرًا عن الحرية، والأبيض للدلالة على نزاهة الدافع.» كان هناك العديد من الأشخاص حاضِرين، وقد فاض بعض المُتزلِّفين إعجابًا بالشريط. وصاح أحدهم: «إنه رائع»؛ وصاح آخر: «سوف يسر الملك أيما سرور»؛ وقال ثالث: «يجدر بك أن تأخُذَه إلى قصر ويندسور»؛ وهلمَّ جرًّا من تلك التعليقات. وقلت أنا: «نعم، إنَّ الملك سيسرُّ بهذا الشريط. وأنا نفسي أعتقد أن الألوان ساحرة؛ لأنَّني أعلم تمامًا كيف ستبدو، فقد رأيتها كثيرًا.» فتساءل لورد ليفربول: «رأَيتِها! أين؟» فأجبته: «حسنًا، رأيتها في شرائط قبعات الجنود الفرنسيِّين.»
مسكين لورد ليفربول لقد صُدم، وكان رجلًا طيبًا، لكنه زج بنفسه في شأن لا يناسبه، فغفل بحماقة عن العلَم الفرنسي الثلاثي الألوان. وإذا به يصرخ قائلًا: «ماذا سأصنَع الآن يا ليدي هيستر؟ لقد أعددتُ بالفعل ٥٠٠ ياردة من هذا الشريط؛ فماذا أفعل بها؟» أجبته قائلة: «حسنًا، فلتَستخدمها يا سيدي اللورد لربط سراويلك؛ ذلك لأنك دائمًا ما تحمل الكثير من الأوراق في جيوب بنطلوناتك، حتى إنَّني أخشى أن أراها ذات يوم وقد سقطت منك.» وهذا ما كان يحدث بالفعل يا دكتور، كان مُعتادًا على التفتيش في جيوبه، أولًا في ناحية ثم في الناحية الأخرى، بحثًا عن ورقة ما أو غيرها، تمامًا كما لو كان يُحاول التقاط ثعبان ماء في قاع بحيرة.»
الثالث عشر من مارس: المثال الذي ضربَته خادمة الليدي هيستر ستانهوب، يوم جاءت وأهانتنا علانية، كان له أثر سيئ على خادمتنا السوداء، عائشة؛ وفي النهاية وبعد أن تحمَّلنا الكثير من وقاحتها أعَدناها ثانية إلى سيادتها، مع رسالة تقول إننا لم نَعُد نستطيع التعامل معها. واغتنمت الليدي هيستر هذه الفرصة لتجعلنا نَشعُر إلى أيِّ مدًى تتوقفُ راحتنا على رضاها؛ فقد علمنا عند البحث في القرية عن خادمة لتحلَّ محلَّ الخادمة السوداء، أن أحد أتباع الليدي هيستر قد نشر خبرًا في القرية مفادُه أن العمل لدينا خطر على أيِّ شخص، لأن من سيفعل ذلك سيجرُّ على نفسه الطرد مِن القرية؛ وأضاف أن عِلية القوم أمثالها، أحيانًا ما يصنعون من الحبة قُبة حين يُضايقهم شيء. لذا أرسلنا للبحث في قرية تَبعُد ٤ أميال، وحصلنا على فتاة ريفية؛ لكنَّها لم تُكمل معنا ٢٤ ساعة، إذ ارتعبت ممَّا سمعته، وذهبت إلى السكرتير لتسأله عما إذا كان هناك أيُّ ضرر قد ينالها إذا ظلَّت في خدمتنا. ومر أسبوع، وفي كل يومٍ منه كانت تَنتشِر أخبار جديدة، عن نية لإصابتنا ببعض الأذى.
وسيتذكَّر القارئ أن الليدي هيستر ستانهوب، في إحدى رسائلها لي (في الفصل الثاني)، قد تحدَّثَت عن مُضايقات الأمير بشير المتكرِّرة لها، حين منع أهل القرية من تلبية احتياجاتها، والخطوات التي اضطرَّت هي لاتخاذها، لدرجة الكتابة إلى السفير الإنجليزي في القسطنطينية، كي يتصدَّى لأفعال الأمير. واتَّضح أن الليدي هيستر تعلَّمت من المثال الذي ضربه الأمير، فلم تتورَّع عن اتخاذ نفس الإجراءات ضدنا. ولمدة أسبوع كامل لم تُرسل الحصان لإحضاري، ولم تقم بأيِّ تواصُل معي، وهكذا مُنعت من الإعراب لها عن احتجاجي، كما كنت سأفعل لولا ذلك. وفي الوقت نفسه، حزمنا أغراضنا، وقرَّرنا الرحيل في أقرب وقتٍ مُمكن.
الحادي والعشرون من مارس: أصبح وضعنا الآن مُزعجًا أكثر فأكثر. كنا نتمشَّى طويلًا كل يوم، نتحدث عن مُشكلاتنا ونُفكِّر كيف نُحرر أنفسنا ممَّا نُعانيه من استعباد؛ لأننا كنا فعليًّا محبوسين كما لو كنا محاطين بالقضبان والمزاليج. قد لا يستوعب الأوروبيون ذلك، لكن في الشرق حيث تسيطر إرادة زعيم القبيلة صاحب النفوذ مثل التعويذة على كل الخاضعين لسلطته، يكون من العبث المجادلة حول حقوق الناس. علاوةً على أنَّني من منطلق مراعاة اسم الليدي هيستر ستانهوب، لم أرغب في الوصول إلى خلاف صريح معها؛ ولا أستطيع أن أقول يقينًا إنها سعت لإلحاق الضرر بنا، لأنَّها كانت في كل مرة أقضي اليوم معها تتذرَّع بأوجَهِ الأسباب لتبرير سلوكها، ودائمًا تُعاملني على حِدَة بكرم واضح. لكنها كانت معادية للنساء؛ وتُطلق على دوافعهن كلها محض نزوات، ولذا انخرطَت في حرب دون كيشوتية لهزيمتهنَّ. وقالت الليدي: «كنت سأفعل نفس الأمر لو كان السير «…» والليدي «…» مكانك أنت وزوجتك، لو كانت هنا، واختارت أن تسوقه كما فعلت حين اتخذ منزلًا لها في منطقة تنبريدج ويلز، لكنها رفضت العيش فيه، أو حين ركبت حمارًا وسارت به على مرجة القصر أثناء حفل عشاء، وكان زوجها لتوه قد اعتذر عن غيابها عن الحفل بسبب توعكها. فأيُّ عبث يفوق ما فعلته زوجتُك؛ إذ تبعَتْك كل هذه المسافة حين أتيتَ لمعالجة شئوني، لتمنعك بعد ذلك من التصرُّف بالطريقة التي ستُفيدني وتفيدك أنت نفسك؟»
ثقةً مني في الصداقة الطويلة بيني وبين الليدي هيستر، سافرت من أوروبا لا أحمل معي سوى ما يكفي من المال لسداد نفقات سفرنا، بالإضافة إلى بضعة جنيهات قليلة؛ لذلك ظللت مُقيدًا بمكاني إلى أن تلقَّيت تحويلًا من إنجلترا، والذي أرسلت في طلبه بعد الإمعان في التفكير. وفي الثالث والعشرين من مارس، جاء خطاب مِن قبرص يُبلغني باستلام مبلغ ٢٠٠٠ فرنك من مرسيليا، مُرسَلة على عنواني. كان هذا المبلغ بالكاد كافيًا لتغطية نفقات عودتنا إلى الديار؛ بالإضافة إلى أنه كان ما زال علينا مواجهة عداء الليدي هيستر ستانهوب الشخصي لنا. فلن يجرؤ أحد في القرية على تأجير جِماله أو بغاله لنا، وكنتُ أعلم أن كل الوكلاء القنصليين في صيدا سيُحجمون عن التورط في أي شيء ضد إرادة الليدي هيستر، خوفًا من المُضايَقات التي سيتعرَّضون لها لا محالة في أعقاب ذلك؛ حيث كان من المعروف للجميع أنها حين تتحدَّث عمن يُحاولون مُعاندتها، كان التعبير الذي تستخدمه دائمًا هو: «إذا أرادوا رؤية الشيطان، فليتحدَّوني، وسوف يروه بحق!»
الرابع والعشرون من مارس: أبلغني السيد جاسبر تشاسود، سكرتير سيادتها، أنها أمرته أن يُبلغ من يسأل عن الأمر بأنها لم تمنع أي شخص من العمل لدينا؛ بيد أنها أمرت ألا يعمل عندها ثانيةً أبدًا من سيعمل لدينا بأي صفة. وكان ذلك الأمر منها مُعادلًا للحرمان الكنسي.
الأول من أبريل: كان قد مرَّ الآن ١٠ أو ١١ يومًا منذ آخر لقاء مع الليدي هيستر ستانهوب، ثم تلقَّيت رسالة منها تقول بأنها ترغب في ذهابي إليها؛ لكنَّها ولأول مرة لم تأبه بإرسال حِصان من أجلي. لكنَّني قررتُ ألا أهتم بهذا التغافل، ومشَيت حتى دارها. واستقبلَتني بأُسلوبٍ مُهذَّب. وبدأنا نقاشًا طويلًا، كان أسلوبها خلاله مُتغطرسًا وصوتها مرتفعًا. ولا حاجة بنا إلى تكرار كل ما حدث؛ فلا بد أن القارئ قد سأم بالفعل من سرد هذه النزاعات الصغيرة، والتي لا تَحمِل أهمية إلا لكونها تُساعد على توضيح الشخصية المميزة لسيدة قد تحرَّرت من قيود القانون والرأي على أفعالها، هذه القيود التي حدَّت من غضبها الفِطري في إنجلترا، لكنَّها هنا تمكنت من إطلاق العِنان لفِطرتها متمتعة بحصانة تامة. بعد فترة من الوقت هدأت الليدي. وعندما قلت لها إنني قد استعددت للرحيل، وأرغب في الانطلاق قبل موسم الطاعون؛ ذلك لأن هذا المرض الخبيث قد انتشر انتشارًا محدودًا في العام السابق؛ ومن ثَم فإنه من المُحتمل أن يشهد انتشارًا شاملًا في العام التالي، كما هو معروف في الشام.
الثاني من أبريل: أعددت قائمة بالأدوية التي تستخدمها الليدي هيستر ستانهوب، ورددت على الخطابات التي وردتها من أوروبا، وبقيت معها حتى منتصف الليل. وحكت لي مطولًا مجمل ما رأت أنها القصة الغامضة وراء قُدوم «إكس» إلى هذا البلد. وكانت وجهة نظرها أن الدوق «ﺑ…» مع الدوق «ﺳ…» وقادة ماسونيِّين آخَرين، بعد أن تحدثوا في اجتماع عما بدَر من تجاهل من أصدقاء السيد بيت وغيرهم تجاهها، وخسارة مواهبها السياسية في مكان لا تستطيع فيه استغلالها لصالح إنجلترا، قد قرَّروا إرسال مبعوث لتلبية حاجاتها، ولدفع ديونها. واختارُوا «إكس» لهذه المهمَّة. وقالت الليدي هيستر: «أما بالنسبة إلى الرجل نفسه، فقد اعتقدت، من طريقة إمساكه بالسوط، أنه كان حتمًا يعمل مرسالًا فيما مضى. وحين كان هنا، أخذ قياسات حُجرات منزلي من أجل ورق الحائط والسجاد وما إلى ذلك؛ ودوَّن احتياجاتي، وقال إنها سوف تُلبَّى كلها. وتبعًا لذلك أعطيته خطابًا إلى الدوق «ﺳ…»، مرفقًا به رسالة لك، والتي كان من المفترض أن تُسلم لك فقط في حالة خُصِّص راتبٌ مناسب لي. وإذا كان «إكس» استغل أسماء كل أولئك الأشخاص العظام، فمن الغريب أنهم هم أنفسهم لم يَلحظوا ذلك قط؛ فربما كان الأمر في النهاية مجرد خديعة من «إكس» نفسه؛ إذ قد يكون بعد سماعه عن نجاح طلب السيد «ﻓ…»، ظن أن بإمكانه التسلل إلى منصب جيد هو أيضًا، عن طريق الرسائل التي سيحملها مني، ومثل هذا الاهتمام.»
بعد ذلك تحدَّثت الليدي عن لورد سانت آساف، وعن السيد كومبتون من يوركشاير، وعن القبطان بلير، وعن آخَرين؛ وكذلك تحدثت عن خادمتها العجوز، السيدة فراي، التي خدَمَتها لفترة طويلة جدًّا وبإخلاص شديد، مُبدية أسفها أنها لم تستطع منحها أي معاش، لاضطراب أحوال الليدي.
وقالت الليدي مُشيرة إلى رحيلي المزمع: «ها أنا سوف أُترَك هنا وحدي أنا وحيلتي؛ لكنني مثل الفلينة في الماء، قد أغوص تحت وطأة المشاكل لبعض الوقت، لكنَّني سرعان ما أعود إلى السطح ثانية. وبالنسبة إلى موضوع احتفاظي بعبيد، فإنما أفعل ما يفعله كلُّ النبلاء هنا؛ وأما قسوتي معهم، وهو الأمر الذي تتحدَّث عنه كثيرًا، فما المفروض أن أفعله معهم؟ إذا كانوا لا يُعيرونني اهتمامًا حين أطلب منهم القيام بأمر ما، فلا بد أن أُقابل تجاهلهم بشيء أكثر من مجرد الكلام، هذا وإلا قُتلت. وإذا تخلَّصت من العبيد، فسيتحتَّم عليَّ حينها أن أُوظِّف أهل البلد، وهم جميعًا لصوص، لا يسرقون أشياء كبيرة، وإنما ما خفَّ حمله، حتى إنه لا شيء في المنزل نجا من سرقتهم؛ فإنهم يدسُّون في جيوبهم حتى شمعة الإنارة ومبسم الغليون، وأي شيء صغير، ويبيعونها في صباح اليوم التالي.»
الخامس من أبريل: حُجزت رحلتنا من صيدا إلى قبرص على متن شختور (قارب)، بقيادة القبطان حسن لقمجي المتجهة، نظير ٣٠٠ قرش. وذهبت إلى الليدي هيستر في الساعة الحادية عشرة صباحًا، ومكثت عندَها حتى الثانية عشرة ونصف ليلًا. وناشَدتني أن نَنسى كل ما فات.
السادس من أبريل: كان هذا آخر يوم أقضيه مع الليدي هيستر ستانهوب؛ حيث ظلَّت في الفراش؛ لأنها لم تكن بصحة جيدة، وشربت معها الشاي. وكانت هذه المرة الوحيدة التي تناولت فيها الشاي من بين الأمسيات العديدة التي جلست فيها معها، حتى إنني ظننت أنها أقلعت عن الشاي تمامًا، غير أنها لم تنسَ بالكلية ذلك الجزء من الحياة الإنجليزية. وبرغم أنها كانت في الفراش، فقد أكرمت ضيافتي، مثلَما تفعل السيدات النبيلات في إنجلترا، فجلست مُنتصبة وصبَّت ليَ الشاي، وناولتني الفنجان، وقدَّمت لي الكيك وخلافه؛ وهي كلها أمور فاجأت العبيد السود الموجُودين، في بلدٍ لم يعتادوا فيه على رؤية الأشخاص رفيعي المقام يفعلون أيَّ شيء بأيديهم، وحدث الأمر نفسه حين تناولت العشاء معها. وكان هناك ثلاثة أنواع من الكعك الغني الممتاز، مصنوعة من عجين اللوز بطرق مختلفة. وربما يتذكر الرحَّالة الذين ذهبوا إلى الشرق المعمولَ والغُرَيِّبَة والبقلاوة. وقد سألَتني الليدي عن رأيي فيها، وعندما أجبتُها بأنها شهية، قالت لي إنني سوف أجد صندوقًا من كل نوع جاهزًا كي تتناوله أسرتي أثناء السفر؛ وبالفعل كما قالت، أُرسلت الصناديق إلى زوجتي بعد أن غادرتُ منزل الليدي.
بعد ذلك قدَّمت لي قائمة ديونها، وبينما كنتُ أتلوها عليها، راحت تُبدي ملاحظاتها حول الظروف التي قادتها إلى الاستدانة بها. وحيث إنني كنتُ في عشية رحيلي، لم أجد وقتًا لتدوين ما قالته الليدي إلى أن أصبحتُ على متن السفينة؛ لكن على قدر ما أتذكر، كان أول دين مؤرخًا في ١٨٢٧. على أيِّ حال، كانت دوافع الخير والإحسان هي التي جرَّتها إلى كل هذه الديون. وكان عبد الله باشا نفسه من أبرز الأشخاص المنكوبين الذين ساعدتهم الليدي، حين فرضَ عليه الباب العالي غرامة، فطلب من الليدي مبلغًا كبيرًا من المال، وقد أقرَضَته إياه. وتليه زوجة الشيخ بشير وأسرته، الذين طُردوا من قصرهم الفخم بعد سجن الشيخ، واضطرُّوا إلى أن يَهيموا على وجوههم ويختبئوا في أماكن بعيدة في سوريا. وقد أرسلت الليدي لهم المال والملابس. ثم مِن بعدهم تجيء أرملة جرجس باز السكرتير الأول للأمير بشير، والتي تدنَّت حالتها من الثراء إلى الفقر، بسبب إعدام زوجها ومُصادرة أملاكه. وشمل كرم الليدي أشخاصًا آخَرين أقل أهمية. وكل ديونها كانت مُثقلة بفائدة تراوَحَت نسبتها بين ١٥ و٢٥ بالمائة. ومنذ وقعت في شباك المُرابين، لم تَستطِع الفكاك منها ثانيةً قط، وظلَّت الديون الذميمة تتراكَم حتى الوقت الحاضر، حيث أصبحت مدينة، وفقًا لحسابات تقريبية، بحوالي ١٤ ألف جنيه إسترليني.
بمجرَّد أن انتهت من الحديث عن ديونها، طلبت مني الذهاب لوضع القائمة على مكتب الآنسة ويليامز، الذي كنَّا قد أخذناها منه، والذي كان في غرفة مُجاورة. وفعلت ذلك؛ لكن عند عودتي إلى باب غُرفتها، كي أدخل وأستأذن منها للانصراف وجدتُ الباب مُغلقًا، وإحدى الخادمات تقف خارجه، لتُخبرني أن الليدي هيستر لن تُقابلني ثانيةً، حتى توفِّر على كلينا ألم الوداع. وقد تأثرت لوهلة إلى حدٍّ ما، ولكن أنبأني تفكيري أنها فعلت الشيء الصحيح. وجاء اثنان من عبيدها السود، كانا على علمٍ بما يجري، وقبَّلا يدي؛ وكان باقي الخدم جميعًا نيامًا، ما عدا البواب الذي أخرجني من البوابة، فركبتُ حماري، وغادرت المنزل، وظننتُ حينها أنه رحيل إلى الأبد.
حين وصلت المنزل كان الليل قد انتصَف. ووجدت أنه أثناء غيابي كانت الليدي هيستر ستانهوب قد أمَرَت بإرسال — إلى جانب الكعك والبقلاوة (وهي في تقدير كثير من الناس، وتقديري أيضًا، أشهى حلويات العالم جميعًا) — غليونًا فاخرًا جدًّا برأس كهرماني، وكمية كبيرة من أفضل أنواع التبغ الجبَلي من مخزونها الخاص، وأيضًا أعطَت ما لا يُحصى من التعليمات لتوفير الراحة لنا على متن السفينة؛ وهي تصرُّفات كريمة، قدَّرتُها لها أنا وعائلتي، التقدير الذي تستحقُّه.
السابع من أبريل: في الصباح امتطَينا ظهور الحمير، بعد أن أرسلنا أمتعتَنا على ظهور الجمال، وانطلقنا إلى صيدا حيث بلغناها الظهر تقريبًا، ونزلنا في غرفة شاغِرة في الخان الفرنسي. الوكيل الفرنسي، الذي عرفتُه طيلة سنوات أثناء إقامتي السابقة في سوريا، كان على علم بالخلاف بيني وبين الليدي هيستر ستانهوب، فقرَّر الاحتراز والتزلف لليدي بعدم بذل جهد كبير في مجاملتنا. وحذَت كلُّ العائلات الإفرنجية حذوه، وبدلًا من أن نستقبل ١٠ أو ١٥ زيارة — وهو ما كان مُتوقعًا من جانبنا — لم يأتِ شخص واحد لزيارتنا. وهكذا هي الصداقات في الشام.
الثامن من أبريل: عند الغروب، وهو الوقت الذي يختاره البحَّارة الأتراك دائمًا للإبحار، اعتلينا متن الشختور الذي كان مُزودًا بالكثير من المؤن، التي توافرت هي الأخرى بأوامر من الليدي هيستر ستانهوب. ولم نَصِل قبرص إلا صباح يوم الثاني عشر، لما كان عليه الطقس من صفاء شديد؛ فقد أبحرنا ليلًا بمُحاذاة الشاطئ حتى بيروت، حتى نستفيد من نسيم البر، وبمجرد أن أقلع مركبنا، لم نُضطر للتدخل بأي شيء طوال الرحلة لضبط مساره. وقد تعامل ريس المركب معنا باهتمام شديد، لكنَّني لم أتخيَّل لوهلة، في ذلك الوقت، أنني قد ألتقي ذلك الريس ثانيةً في قابل الأيام، كما سنرى في جزء لاحق مِن المذكِّرات.
عندما هبطنا على البر، وجدت أن النُّزل الذي كنا أقمنا فيه سابقًا منذ أربعة أشهر قد تحطَّم؛ لذا اضطررنا إلى البقاء على الساحل بجوار حقائبنا وأمتعتنا، لا نَدري إلى أين نذهب. وكتبتُ رسالة بالقلم الرصاص إلى نائب القنصل الإنجليزي الذي أقمتُ في بيته ذات مرة لمدة شهرين، لكنه ردَّ عليَّ برسالة تُفيد بأنه لا يُمكنه استقبالنا أو حتى توفير مسكن لنا. فبادرتُ مُترجمَه الذي حمل إلينا رده، وعرضت عليه أن أدفع له بسخاء مُقابل أي مكان يمكن أن نسكن فيه؛ لأنني كنت أعلم من زيارة سابقة لهذه الجزيرة أن هذا المترجم لديه مسكن واسع المساحة؛ لكنه أعلن أنه لا يعلم بمكان لننزل فيه، ولا يُمكنه حتى العثور على شخص لاستقبالنا عنده. هذه الخيبات المتراكمة جعلتني أدرك في النهاية أن العقوبة القاسية التي أصدرتها الليدي هيستر بحقِّنا قد وصلت إلى قبرص نفسها، والتي أغلقت أبوابها في وجوهنا غير مُرحِّبة بنا. وكنا في حالة يأس شبه مُطبق حين جاء السيد حنا فركوح السوري، والذي كان راكبًا معنا على نفس السفينة قادمًا من مرسيليا، وسمعَ بالصُّدفة عن وضعنا، وأخذنا إلى منزله الخاص حيث استقبلنا بحفاوة بالغة لمدة تسعة أيام. لكن نظرًا لضيق المساحة لدَيه إلى حدٍّ ما، عرض علينا السيد بالداساري ماتي، وهو تاجر ثري كان له قصر منيف قد بناه مؤخرًا بقرب البحر، عرض علينا النزول فيه. وكان ذلك القصر آنذاك، وربما حتى الآن، أفضل ما بُني من مساكن في قبرص؛ لكن نظرًا لأنه لم يكن قد سكَنه أحد قبلنا قط، فقد شعرنا في البداية ببعض الحرج من استغلال عرضه الطيب، خاصةً أنه يُعتبر من الفظاظة في الشرق أن تترك بيت مُضيف كي تَنتقِل إلى بيت مضيف آخر، لكن في النهاية قُوبلت كل تحفُّظاتنا بالرفض.
كانت فيلا المسيو ماتي الساحلية تتكوَّن من ١٣ غرفة ومطبخًا ومكاتبَ ولها بهو بطول ٦٠ قدمًا، حيث يُمكننا الهروب من حرِّ النهار اللافح، إلى جانب شُرفة واسعة نستطيع منها تنشُّق نسيم البحر في المساء. كان القصر على بُعد عشر ياردات من البحر، الذي كان يصدُّه حاجز أمواج صخري. وكان الصالون من الرخام الأسود والأبيض. وكانت نوافذه بارزة مثل أكشاك تكاد تكون قائمة فوق الأمواج، ومن هذه النوافذ استمتعنا بإطلالة موسعة على الخليج وعمليات الشحن وحركة السفن؛ في حين حظينا بإطلالة خلَّابة على المدينة والريف من علية شامخة فوق القصر. ومن الصعب أن تجد قصرًا مُلائمًا للمناخ الحار في أي بلد أكثر منه.
لم تَعرض علينا أي سفينة تجارية إقلالنا إلى أوروبا حتى حلول أغسطس، وفي الرابع والعشرين من الشهر رحلنا مُتجهين إلى خليج سبيتسيا، حيث أقمنا في الحجر الصحي، بعد رحلة استمرَّت ٣٥ يومًا، وهكذا انتهت، إلى الأبد على ما يبدو، علاقتي مع الليدي هيستر ستانهوب.