الفصل الثامن
قصة الريس حسن، نفوذه لدى الليدي هيستر ستانهوب، عدد الأشخاص القائمين على خدمتها، عدد الحيوانات في إسطبلاتها، عادتها في التخلُّص ممَّن بلغوا سن التقاعد، إيمانها بالسحر وعلم الشياطين، أمثلة على ذلك، حكايات السيد بروميل، السيد «ﻫ…»، دوق دي «ر…»، لورد سانت آساف، صرامة الليدي هيستر مع العبيد، تبرير ذلك بسوء سلوكهم ورذائلهم، زينب العبدة السوداء، المُضايقات التي تعرَّضت لها الليدي هيستر، رفض الأوروبيِّين العمل في خدمتها، أسباب استخدامها الأثاث البسيط، مقتُها للعواطف المُفرطة، تدخلها العام في كل صغيرة وكبيرة بالمنزل، تجاوزات الخدم، تعريف العفَّة في تركيا، تدابير الليدي هيستر لفرض العفة، رأيها في رحَّالة فرنسي، والسيد لاسكاريس.
سندع جانبًا هذه التفاصيل الشخصية التي ذكرناها سابقًا فقط لكونها روابط تَربط السرد الرئيسي، والآن نعود إلى استئناف المذكرات.
السابع من يوليو: عدتُ إلى دار جون.
الثامن من يوليو: اليوم التالي لوصولي وقبل الإفطار، حيث كانت الليدي هيستر لا تزال في فراشها، جاءني خادمٌ يستدعيني. قالت الليدي حين دخلتُ غرفتها: «أرجو ألا أكون قد أزعجتُك، لكنني أريدك لدقيقة فقط لأقول لك كلمة عن لُقمَجي، الذي أنوي إرساله إلى بيته في إجازة لمدة أسبوع أو اثنين. يا له من رجل مسكين! إنه مُخلص تمامًا في خدمتي، لكن لا يصحُّ أن نركب الحصان المطيع حتى يخرَّ صريعًا. إنه مُتفتِّح العقل وخيِّر، ليس خيِّرًا مثل اللورد النبيل الذي يتصدَّق على شخص ما بخمسة جنيهات ولا يحسُّ بخسارة ماله قط، بل إن لُقمجي إذا رأى قبطانًا عجوزًا كان يعرفه في أيام شبابه، أو أحد زملائه البحارة، واقعًا في أزمة، فسيَنزع فورًا عباءته وسُترته أيضًا ويعطيهما إياه. إن اللقمجي إذا سمع أي شخص يمتدحني، تَنفتِح محفظتُه على الفور ليعطيه منها.»
يجب هنا أن أقدم ذلك الشخص لقرائي، والذي لعب دورًا بارزًا جدًّا في منشأة الليدي هيستر ستانهوب، من عام ١٨٣٢ وحتى زيارتي الثانية لها عامي ١٨٣٧ و١٨٣٨ وبعدها. كنت قد حكيت من قبل أنه عند عودتي إلى أوروبا في عام ١٨٣٢، سافرت من صيدا إلى قبرص في قارب محلِّي يُدعى شختور، والمعروف أكثر في بلاد أسفل البحر المتوسط باسم تارتان. كان ربان هذا القارب رجلًا مرحًا حسن المظهر يُدعى حسن اللقمجي، أو حسن الغواص، واشتهر بهذا الاسم لعمله في بداية حياته غوَّاصًا لجمع الإسفنج. وفي الفترة التي استأجرته فيها، كان عمله يَكمن في التجارة الساحلية من صيدا إلى بيروت وطرابلس وصور والموانئ المجاورة. وفي سياق حياته المتنوعة كان يعمل حمَّالًا وصيَّادًا وغوَّاصًا وبحَّارًا عاديًّا، وأجيرًا وتاجرًا في السِّلَع الصغيرة، وزارَ تقريبًا كل ميناء في البحر المتوسط والأرخبيل، يشتري من مكان ما سيبيعه في مكان آخر، وهكذا أصبح على دراية بالعديد من المدن البحرية التركية. وبعد وقتٍ قصير من نقله لنا إلى قبرص، جعله عبد الله باشا قبطانًا لسفينة مسلحة في قواته، وحينها كان قد أصبح مؤهَّلًا تمامًا للقب الريس حسن، أو القبطان حسن، الذي حمله بعد ذلك على الدوام.
اعتادت الليدي هيستر ستانهوب الحصول على معلومات من كل أصناف الأشخاص، تبعًا لهدفها؛ ونظرًا لأنها كانت مَعنيةً براحتنا بعد أن تركناها، فقد استدعت حسن، أثناء عودته إلى صيدا، لتعرف منه تفاصيل رحلتنا. ويبدو أن مظهره وحواره أعجبها؛ لأنها بمجرد ترحيل عبد الله باشا سجينًا إلى مصر، أخذت حسن وضمَّته إلى طاقم العاملين لديها.
كانت شخصيته وأخلاقه كتلك التي يتمتَّع بها رئيس بحَّارة بارع. كان صاخبًا وفظًّا، ولم يَنل أي قسط من التعليم، فلم يكن يستطيع القراءة ولا الكتابة، لكنه كان حاد الذكاء، ومن خلال اتصاله المُتنوِّع مع البشر، صار خبيرًا فطنًا في الطباع الشخصية، أو على الأقل في الجانب المُظلم من الطبيعة الإنسانية. كان مرحًا لأقصى درجة، حسن المظهر بشكلٍ ملحوظ؛ وحسب معرفتي به لمدة يوم واحد، فإنه حين تَنحسِر ساعة الجد، لا يُمكن لأي أحد يريد المرح أن يجد رفيقًا مُسليًا أكثر منه. وسندباد البحار لا يُمكنه سرد قصة أروع من قصصه.
كان الأمر الذي أدهش الأوروبيِّين في بيروت، وسكان البلاد عامة، هو كيف استطاع مثل هذا الرجل وسُمح له بمُحادثة مع هيستر لساعات، والتمتُّع بثقتها الخاصة؛ وأصبح ذلك الأمر أعجوبة عظيمة لأهل صيدا جميعًا، الموطن الأصلي لحسن اللقمجي، حيث كان أسلافه معروفين جيدًا؛ إذ كيف استطاع أن يضع قدمه راسخة في المكان الذي انزلق فيه الكثيرون من قبله. وسبب ذلك سوف يظهر في سياق هذه الصفحات، مُؤكدًا أي تأكيد ما قالته الليدي هيستر كثيرًا جدًّا إنه من العبث أن يُحاول الناس معرفة دوافع ما فعلته أو التكهُّن بها، وإنه إذا وُضع شخصان في غرفتها، طوال اليوم، هذا في ركن والثاني في ركن آخر، فإنها ستستطيع الانصراف لشئونها في وجودهما دون أن يَعلما ما تفعله، وكأنهما على بُعد ميل منها. وكانت تقول: «إنَّ نواياها صافية، وليس لأحد الحكم عليها سوى الله، وإنها لا تعبأ مثقال ذرة بما يظنُّه الناس فيها.»
وهكذا كان الأمر؛ وعند وصولي إلى سوريا، وجدت اللقمجي يَعمل متعهدًا للمؤن، ورئيسًا للخدم، ومرسالًا، ومستخدمًا يؤدي مختلف المهام. فكانت كل المعاملات مع أهل البلد تتم على يدَيه، وكان أهم جزء في وظائفه هو إطلاع الليدي هيستر بصفة دائمة على ما يجري من أحداث بمُختلف أنواعها في صيدا والريف المحيط بها. حكايات عن الشئون المحلية، والحكومة، والأخبار من كل وصف، كلها كانت تُشكِّل حصيلته كلما جاء إلى دار جون؛ ومن أجل هذا الغرض، كان يقضي نصف وقته تقريبًا في المدينة، كي يستطيع تجميعها. كان له زوجتان، وكان يَبني بيتًا على نفقة الليدي بصفة أساسية.
ربما كان سر نفوذ اللقمجي لدى الليدي هيستر هو ثقتها في حماسته الواضحة في خدمتها. فهي اعتقدت أنه مُخلِص تمامًا لها، وهو اعتقاد عرف الرجلُ جيدًا كيف يرعاه ويُحافظ عليه. فقد كان مُتملقًا أحذقَ مِن أن يمدحها في وجهها، لذا كان دائمًا يتزلَّف إليها بوسائل غير مباشرة. كانت الليدي قد أرسلته إلى مرسيليا والقسطنطينية وأماكن أخرى بعيدة؛ وحسب رواية الليدي هيستر حول ما أخبرَها به عند عودته من هناك، فإنه لم يتواصَل مع أيِّ شخص هناك، إلا وحكى له عن إعجاب السلطان بها، وتوجَّس الصدر الأعظم من نفوذها السياسي، وذيع صيتها، حتى في الأسواق نفسها، ومائة حكاية شبيهة، كلها بهدف مداهنة غرورها وحبِّها للشهرة. وكان يحكي لها أنه في بيروت، أو طرابلس، أو الإسكندرية، قد قابل أحد التتار، أو قبطانًا بحريًّا ما في مقهًى ما، وقال له إنه قد التقى بباشا، أو تاجر عظيم، أو شيخ، أو شخص ما، وإن ذلك الشخص ذكر أنه لن يموت راضيًا، إن لم تَكتحِل عيناه ولو لمرة واحدة برؤية امرأة تتمتَّع بمَواهبها الاستثنائية، أو التي كانت في غاية السخاء مع أحد الأغوات المُعوزين، أو التي أنقذت بيدها الكريمة أحد الدراويش العالمين مِن ضائقته؛ وبعد أن يَمتدح قلبها المحبَّ للخير والإحسان، كان دائمًا ما يُنهي حديثه بقصَّة عن مأساة عائلة أوشكت على التسول بعد تدهور حالها، أو تاجر شريف بحاجة إلى إعانة؛ وهكذا بعد أن ضرب على الأوتار الحسَّاسة التي دائمًا ما يهتزُّ لها قلب الليدي هيستر السخي، تعهد إليه بمبالغ كبيرة لتوزيعها على هؤلاء. فهو نادرًا ما نزل إلى صيدا دون أن يحمل معه ألفًا أو اثنين أو ثلاثة بل خمسة آلاف قرش في المرة الواحدة، لشراء المؤن، وليهَبَ التبرعات.
في ذلك الوقت كان لدى الليدي هيستر ٣٥ شخصًا يَعملون في خدمتها. كان هناك سكرتير عربي، ووكيل أعلى للأملاك، وتحتَه ثلاثة أشخاص، وطاهيان، وبوَّابان، واحد لكل بوابة، وثلاثة سيَّاس، وحوذيان للبغال، وحوذيان للحمير، وظيفتُهما الوحيدة هي جلب الماء من النبع، وأحيانًا يُضاف إليها واحد آخر؛ وأربع خادمات، وفتاة لخِدمتها الشخصية؛ وثلاثة غلمان، وثمانية خدم. وكان لديها فرسان لم يَركبهما أحدٌ قط، وحصان لركوبي أنا، وخمسة حمير، لا تُستخدم مُطلقًا هي الأخرى؛ نظرًا لأنها أكملت فترة مُقرَّرة من الخدمة، وأصبحت بذلك في قائمة المُحالين إلى التقاعُد. كان هناك أيضًا بغل، غير مسموح بتشغيله قط، إلا عن طريق خدم مُحددين، وحتى في هذه الحالة يكون الأمر بتفويضٍ خاصٍّ من الليدي هيستر فقط، لسبب مُتعلِّق بالتنجيم، وقد أُعطيَ هذا البغل بعد ذلك للمسيو جاي. أما باقي المواشي فكانت ثلاث بقرات وقطيعًا من الغنم. كان هناك فيما سبق قطيع من الماعز (عدده مائة عنزة)، لكن صدر أمرٌ بنَحرها جميعًا في يومٍ واحد، لسبب لم أستطع فهمه قط، لكن بقصد القضاء على مخطَّط راعي القطيع الذي ضُبط وهو يستولي على لحومها وألبانها لحسابه الخاص؛ وجاء نحر القطيع، حسبَما أخبرتني الليدي، مُحاكاةً لما فعله ابن عمها، لورد كاملفورد، والذي كانت الليدي مُعجبة جدًّا بشخصيته المُفعمة بالحيوية، وبغضه الشديد للاحتيال. وممَّا لا شك فيه أنها كانت تُحاكي مثال سيادة اللورد كذلك حين كانت تأمر بإطلاق النار في الحال على أيٍّ من حيواناتها لحظة اكتشاف استخدامها في غير ما أمرت به، وكانت في الوقت نفسه تُصدر التعليمات باستبعاد الجانين من دون سابق إنذار.
كان لديها أيضًا ثلاثة براذين في إسطبلاتها. وهذه الخيول الشائعة جدًّا في سوريا تُدرَّب عن طريق ربط أوزان من الرصاص بأرجلها حتى تُصبح هرولتُها عَدوًا. وبعد وصولي بفترة وجيزة، أعربت لي الليدي هيستر عن نيتِها إطلاق النار عليها؛ لأنَّ مساعدي وكيل أملاكها لا يفعلون شيئًا سوى ركوب هذه الدوابِّ حين يَجدُر بهم السير، علاوة على أنهم يُعاملونها بقسوة. وبِناءً على ذلك فقد كُلف بتنفيذ المهمَّة عثمان الشاويش، أحد مُساعدي وكيل أملاكها، والذي يَحمل دائمًا في يده عصا ذات رأس فضِّي، هي شعار وظيفة الشاويشية، والذين يعمل الكثير منهم كنوع مِن رجال شرطة لدى الباشوات. وتلقَّى عثمان أوامره من الليدي هيستر نفسها بهذا الشأن. فقد قالت له: «عثمان، سوف تضع فمَك بقُرب أذن كل جواد قبل أن تُطلق النار عليه وتقول له: «لقد عملتَ بما يَكفي على هذه الأرض؛ ولخوف سيدتِك عليك أن تقَع، في سنِّك الكبيرة هذه، في أيدي أُناس قُساة، فإنها تُعفيك من خدمتها».» وهذا الأمر رغم ما قد يبدو عليه من غَرابة، فقد نُفِّذ حرفيًّا بالفعل، وبجدية وثبات. هذا وقد كان لليدي هيستر أساليب غامضة منحَتها سيطرة غير عادية على عقول من حولها؛ والسوريون، المُستعدُّون لتصديق أي شيء، مثل كل الأمم الشرقية، مالوا عمومًا إلى الاعتقاد بأنَّ سيادتها تَمتلِك بالفعل قوى مُبهَمة تخصُّ علم الشياطين والسحر. وهي نفسها طالَما اعترفت بإيمانها بتناسُخ الأرواح، ولا شكَّ كذلك في أنها كانت مؤمنةً بالأرواح الأثيرية.
يَشيع الإيمان بالسحر والتعاويذ في جميع أنحاء سوريا، وفي الإمبراطورية العثمانية بأكملِها على ما أعتقد. ولا يُوجد شخصٌ واحد لا يلجأ لوسيلة ما لإبطال عين الحسد، على غرار التعاويذ المكتوبة على الورق، والرُّقى، وما شابه ذلك. العجز الجنسي، وفتور المودَّة، وطاعون الماشية، وآفات أشجار الفاكهة، وأي شيء ليس له سبب واضح على الفور، يُفسَّر بشكل عام على أنه من أعمال السحر. والحق أنَّ الليدي هيستر ستانهوب تشرَّبت كل هذه الهواجس؛ وعند اعتبار خلاصة العديد من المحادثات التي أجرتها حول هذا الموضوع، لا نجد سببًا منطقيًّا للشك في الحقيقة العجيبة، وهي أنَّ الليدي هيستر آمنَت تمامًا بكل ذلك.
كانت تقول: «علم التنجيم يَقتصِر على أثر النجوم وولادة الناس وأفعالهم؛ لكنَّ السحر له علاقة بالشيطان. في بعض الأحيان يكون السحر عن طريق الاتِّفاق؛ إذ قد يكون مُقابل سعر مُعيَّن، مثل أن أقول، على سبيل المثال، لرُوح شريرة: «إذا أخبرتني بما كتَبَه الباب العالي إلى عبد الله باشا، فسوف أفعَل كذا وكذا»؛ أو باستخدام وسائل أعرف أنها مِن القوة بحيث تُخضِع الشياطين لأمري، فأقول لها: «يجب أن تفعلوا هذا وذاك»، وعندئذٍ تكون مُلزمة بطاعتي أو أقضي عليها.»
وتكمل كلامها قائلة: «هناك أشخاص بإمكانهم كتابة تعاويذ يستطيعون من خلالها إنفاذ أعظم الغايات شرًّا، لكن أحيانًا ما تُبطل تعاويذَهم قوى أعلى منها. فأنا على سبيل المثال، نجمي أقوى من التعاويذ التي يَعتمدُون عليها، ويرد سِحرهم عديم الجدوى. إلى هذا الحد تكون العلاقة بين علم التنجيم والسحر. لكن انتبه يا دكتور، فيُوجد رجال يُمكنهم دسُّ ورقة في جيبك دون أن تَدري، فيَجعلونك أحمق، أو أعمى، أو يفعلون بك مائة شيء آخر. وابتعد دومًا عن جرجس جمال، فهذا الرجل وكيل الشيطان.
أتعرف أنه حدَث ذات مرة وأصابتني امرأة بعينها الحاسدة؟ شعرتُ حينها بوخزٍ غريب فوق ركبتي بالضبط، وبعد فترة وجيزة ظهَرَت أولًا حلقة سوداء بيضاوية، ثم ظهَر بداخلها لون مُزرق، وبعدها بُقعة سوداء في الوسط، لدرجة أن مَن يراها سيقول: «هناك عين على ركبتِك»، وبعد أيام قليلة اختَفَت. وكان هناك رجل بالقُرب من بلدة قارة، بين دمشق وحلب، لديه قُدرة جبارة على الأذى بالعين لدرجة أنه كان يستطيع قتل شخص، إذا أراد استعمال قُدراته بأقصى حدودها.»
سيقول القارئ الآن إن كل هذا يبدو في مُنتهى السذاجة. لكن بعيدًا عن القول بأن أعظم الرجال بين القُدماء، كما عرفنا من كتاباتهم، كانوا يَعتنقُون عقيدةً مشابهة لتلك، وأن العديد من الفلاسفة وفقهاء القانون البارِزين، مثل اللورد بيكون والسير ماثيو هيل، كانت تصرفاتهم مبنيةً على قناعات مُماثلة، يمكن أن نُخمِّن أن الليدي هيستر ستانهوب عرفت جيدًا قوة سلاح الخرافة، إذا وُضِعَ في أيدي مَن يعرفون كيف يستغلُّونه. وسواء كانت تقصد ذلك أم لا، فقد فضَحَت الليدي أكثر من مرة أولئك المُحتالين الماكرين والمتآمِرين فضائح مُهينة بأن نسبَت إليهم أعمالًا من هذا القبيل، وهكذا عُوقب أو ارتعب أولئك الذين ربما كان مِن المُستحيل كشفُ مُؤامراتهم الشريرة، على اليقين منها، لأنها لم تكن ملموسة ليد العدالة.
شيَّدت الليدي هيستر ستانهوب ذاتَ مرة غُرفةً جديدة، وقبل أن تسكنها مباشرة تخيَّلت لسبب ما، أو تظاهَرَت بأنها تخيَّلت أن الغرفة قد أصابها السحر. وربما يُمكننا أن نُقدِّر دهشة البنَّاء حين استدعته الليدي، وقالت له: «غدًا عليك أن تجمع عُمالك، وتهدم هذه الحُجرة الجديدة.» وظنًّا من الرجل أنها اكتشفَت خللًا ما في عمله، ترجَّاها بتواضُعٍ أن تُخبره بما أثار استياءها، فربما يستطيع أن يجد له علاجًا دون تدمير الغرفة كلها. فأجابت الليدي بنبرة الصوت المُفزعة التي كانت تأتيها حين تريد: «شأنك أيها السيد أن تَهدمها حين أريد ذلك، مثلما بنَيتها حين أردت؛ لذا أرجو أن تُطيعني في هدمِها دون نقاش.» وقالت لي الليدي هيستر التي روَت هذه القصة: «عندما كانوا يُزيلون قوس الباب يا دكتور، رأيت ورقة تسقط. فأخذتها وأرسلتها إلى رجل مُلم بالتعاويذ. وأخبرني أنها تعويذة، كتبها أحد أعدائي اللدودِين، وأنه لو كنتُ سكنتُ في هذه الغرفة لكنت مُت. تخيَّل كم كنت محظوظة لأنَّني فعلت ما فعلت!
وفي مرة أخرى، حين كنتُ مريضة في الفراش لبضعة أسابيع، تصادف أن كنتُ نظرتُ من تحت جفني، فلديَّ طريقة كما تعلم لرؤية كل شيء بينَما يظنُّ الناس أنني لا أرى شيئًا، ولاحظتُ أن جرجس جمال كان يتحسَّس ورقةً بين أصابعه، ويَغمِسها في كأس عصير ليمون كان العبد سيُناولني إياه. ولم أنبس ببنت شَفة، لكنَّني فقط طلبتُ من العبد أن يضَعَ الكأس جانبًا. ولو كنتُ شربتُ ذلك العصير، لكان جنى عليَّ بلا شك. يا له من شخص رهيب! وأحذرك أن تذهب إلى القرية يومًا أو تأخُذ أسرتك إلى هناك؛ لأنَّني أخشى أن يتسبب في أذية أحد منكم. ولا أعرف كيف قد يفعل ذلك، فربما يدسُّ ورقة في حذائك، أو يرشُّ بضع قطرات من الماء على ملابسك، ويتلفَّظ بتعويذة ما؛ فلدَيهم مائة طريقة لإلحاق الأذى بالناس.»
ربما من المُناسب أن أضيف هنا، برغم أن ذلك لم يحدث وقتَها، أنها أثناء قراءتي لها مقالًا في إحدى الصحف عن مصَّاصي الدماء، قالت: «أنا أؤمن بمصاصي الدماء ولكن الناس في إنجلترا لا يَعرفون كيف يُميِّزونهم. فمثل هذه الكائنات ليسَت محض ابتكار من خيالات الناس.»
إذا أخذنا بهذه الوقائع، ومُلاحظات أخرى شتَّى سوف تجدُونها هنا وهناك في هذه المذكرات، فسنجد أن آراء الليدي هيستر ستانهوب المُعلنة حول موضوع الأسحار والقوى الخارقة للطبيعة بشكلٍ عام واضحة وضوح الشمس. بل إنَّنا حين نرى كيف مازجَت بين هذه الآراء والشئون الفِعلية للحياة، وسمحت بأن يكون لها تأثيرٌ عملي مباشر على سلوكها في العديد من المواقف، لن نجد أيَّ سبب يدعونا لافتراض أنها لم تكن مؤمنة بها كليةً في العموم، وبمُنتهى الإخلاص مثل السوريِّين أنفسهم. لكنَّني سأدع النظر في هذه المشكلة الغريبة إلى حصافة القارئ، مُقتصرًا في مُهمتي على مجرَّد سرد حياة سيادتها الفعلية ومحادثاتها.
بعد هذا الاستطراد نعود إلى موضوعنا. ربما كان من المُفترض أن تشرع الليدي في فتح الموضوع العاجل الذي استدعتني مِن أجله، فور وصولي. لكن لم يَحدُث شيء من هذا القبيل. فبعد أن هنَّأتني على فراري من أوروبا، التي أكَّدت الليدي أنها سترتج في القريب بالثَّورات من أدناها إلى أقصاها، دخلت على الفور في موضوعها المفضَّل، وهو قُدوم «المرداح». لكن نظرًا لأنَّ آراءها وبراهينها كانت إلى حدٍّ كبير مُماثلة لتلك التي اعتنقَتها قبل ست سنوات مضَت، والتي سردتها من قبل، فليس هناك حاجة لذكرها مجددًا.
التاسع من يوليو: بعد الظهر، ذهبتُ إلى مار إلياس لرؤية عائلتي، وعدتُ في اليوم التالي في موعد العشاء.
العاشر من يوليو: في هذا اليوم سألتني الليدي هيستر عما إذا كنت قد التقَيت بو بروميل من قبل. وأكملت قائلةً دون انتظار لإجابتي على تساؤلها: «أتمنَّى رؤية هذا الرجل ثانية يا دكتور. إنه لم يكن بالأحمق. أتذكر أنه قال لي ذات مرة في شارع بوند، وهو يمتطي حصانه حاملًا اللجام بين سبَّابته وإبهامه كأنه يُمسك تنشيقة سعوط: «مهلًا يا عزيزتي! من هذا الرجل الذي كنتِ تتحدَّثين معه للتو؟» أجبته: «إنه الكولونيل «…».» فقال بأسلوبه المميز: «أي كولونيل؟ ونحن لم نسمَع قط عن والده؟» أجبته: «وهل كنا سمعنا قطُّ عن والدك؟» رد عليَّ شبه مازح: «ويحي! أينعم يا ليدي هيستر، من سمع قطُّ عن والدي، ومن كان سيسمع عنِّي أنا نفسي، إذا كنتُ شيئًا غير الذي أنا عليه الآن؟ لكن الحق يا عزيزتي الليدي هيستر، أنَّ حماقتي هي التي صنَعَتني. ولو لم أكن أُحدِّق بوقاحة في الدوقات حتى يخرجن عن هُدوئهن، وأعامل الأمراء بلا اكتراث لوجهاتهم، فسوف يَنسونَني في غضون أسبوع؛ وإذا كان العالم مُغفَّلًا لدرجة أن تُعجبه سخافاتي، فربما أنا وأنت أدرى بدلالة ذلك»؟»
وأكملت الليدي هيستر حديثها قائلة: «ثلاثة مِن أظرف الناس في زماني هُم، السيد هيل، والقبطان آش، والسيد بروميل، ولكلٍّ منهم أسلوبه المُميز، أحدهم بحسِّه الفكاهي غير المُتكلف، والآخَر بنكاته الرصينة، والأخير بحماقته. السيد هيل على سبيل المثال، كان حين يُدعى على العشاء في منزل شخصٍ ما، يسحب ناحيتَه صحنًا من البطاطا المهروسة عليها علامة القالب الذي نُقلت منه إلى الصحن، وكأنه سيَغرف منها؛ ثم بعد أن يُعاينها بجدية شديدة، ويَنظر إليها بعدسته الفاحصة بمُنتهى الغَرابة، يَلتفِت إلى الخادم ويقول له: «أرجو منك أيها الرجل الطيب أن تبلغ مُدبرة المنزل ألا تجلس فوق الأطباق»، مُتظاهرًا أنه رأى علامة تبدو وكأنها جلَسَت على الصحن.
بروميل كان يقوم بأفعال غريبة مُماثلة في منازل محدثي النعمة، أو الأشخاص الذين لا يَنتمُون للطبقة الرفيعة، فكان أحيانًا وهو جالس إلى العشاء لدَيهم، يقوم فجأةً بتجهُّمات غريبة مزعجة، كما لو أنه قد وجد شعرة في حسائه، أو يطلب فجأةً صلصةً ما غريبةً يدَّعي أنها تدمرية، أو ذات اسم عجيب لم يسمَع أحد عنه قطُّ، ثم يتظاهَر بأنه لا يستطيع أكل سمكَتِه دون تلك الصلصة.»
ومن الأمثلة على وقاحة بروميل وجسارته، قالت الليدي هيستر إنه كان ذات مرةً في حفلة كبيرة، حين سأل دوقة روتلاند: «بحقِّ السماء يا عزيزتي الدوقة، كم هو غريب ظهر ثوبك هذا؟ بصراحة، لا بدَّ أن ترتديَ دعامة ظهر، بل يجب أن تخرجي من الحجرة بظهرك، حتى لا أراه.»
وفي مرةٍ أخرى سار نحو الليدي هيستر، التي كانت تَلفت الأنظار بجمال استدارة خدها، وانتصاب رأسها فوق عنقها، فسحَب أقراطها بهدوء، قائلًا لها إنها يجب ألا تَرتدي مثل هذه الأشياء، يقصد أنها تُخفي أجمل جزء في وجهِها.
وذات مرة راح يتجوَّل في صالة الرقص، سائلًا الجميع أين يُمكنه أن يجد شريكة للرقص لا تجعله يتعرَّق، وفي النهاية صاح: «آه! ها هي ذي! نعم، كاثرين ستَفي بالغرض؛ أظن باستطاعتي المغامَرة بالرقص معها.» وكانت كاثرين هي أخت دوقة روتلاند.
أحيانًا كان يجعل عشرة من الدوقات والماركيزات ينتظرونه، بينما هو يُنظِّف أسنانه أو يهندم نفسه، ثم يستدير إليهم قائلًا بكل برود: «حسنًا، ماذا تُريدون؟ ألا ترون أنني أُنظف أسناني؟» (وطوال حديثه ذلك يظلُّ يُحرك فرشاته ببطء في فمه، ويتنخَّم، ويَبصق) ثم يَصيح: «أوه! توجد بقعة على ملابسي … مهلًا! ليست سوى القليل من القهوة. حسنًا، إنه بنٌّ ممتاز، لكنَّني لن أدع أيًّا منكم يَحصُل على وصفته.»
وفي إحدى المناسبات تحدثت الليدي عن السيد بروميل بتقديرٍ واهتمام، وقالت إنها يجب أن تُراسله، باعتباره رفيقًا لها في المعاناة إذ تردَّى به الحال بعد عزٍّ. وقالت: «سوف أقول له إنني أدرك أهمية ملابس النوم في الوجود (مشيرة إلى ذوقه في ملابس النوم حين كان صديقًا لأمير ويلز). وحين يتلقَّى رسالتي سيقول: «ها هي تُعاود كرَّتها، هذه المخلوقة العزيزة! كما هي دائمًا».» فقد قلت إنني رأيته مرةً أو مرتين في كاليه، مُرتديًا زيًّا اتَّسم بالتحفُّظ الشديد، شأن أي سيد نبيل، دون أيِّ إسراف في التأنق، إلا حين أطل من نافذة مسكنِه مُرتديًا مبذلًا من القطن المزركش الفاخر. فهتَفَت الليدي هيستر: «ويحي! هذه هي موديلات الملابس التي كان الأمير أحيانًا يدفع مائة جنيه إسترليني، للحُصول عليها مثل السيد بروميل.»
ثمَّة سيد جاء لزيارة الليدي هيستر ستانهوب في جبل لبنان، يُدعى السيد «ﻫ…»، والذي قالت الليدي عنه إنه يَستحِق أن يكون خليفة السيد بروميل. وكانت تدعُوه بالمتأنِّق المهذب، وكان ينظر إليها مِن أعلى رأسها لأخمص قدمَيها بلا مُبالاة لا توصف، وقد اعتاد أن يَصيح هاتفًا، حين تُخبره الليدي بقصة مُضحكة: «بالله عليكِ لا تجعليني أضحَكُ بهذا الشكل؛ سأمُوت من الضحك، أقسم لكِ؛ سأهلك من الضحك؛ فلتتوقَّفي أرجوكِ يا ليدي هيستر!»
شيء ما جعلها تتحوَّل بالحديث إلى دوق دي «ر…»، الذي زارها ذات مرة. وقالت الليدي: «قلت له إنه لا يشبه الدوق في شيء. فسألني قائلًا بالفرنسية: «كيف! هل أنا ضئيل جدًّا؟» فأجبته «لا، ليس ذلك؛ أنت لا تُشبه الدوق ولا تتصرَّف كالدوق».» وأكملت قائلة: «يا إلهي! لقد وبَّخته. وقد كتب لي بعد رحيله، وقال إنه صلَّى من أجلى في القدس. وقد رددتُ عليه بخطابٍ سليط جدًّا يا دكتور، وسخرت منه مُتحدِّثةً عن مركيزة حسناء، خمنت بفِطنتي أنها عشيقته. وسألته أن يُصلي من أجلها وليس مِن أجلي، وأرسلت له — بما يُسمُّون الأبيات الأربعة المقفَّاة من الشعر؟ — آه! رباعية، وسأُحاول تذكُّرها الآن.» وتفكرت الليدي قليلًا، ثم ردَّدت أربعة أبيات قريبة من المعنى التالي:
وأضافت الليدي هيستر: «كان أقرب أن يكون ضابطَ ميليشيا من أن يكون دوقًا فرنسيًّا، وكان بخيلًا جدًّا.»
سألتني الليدي: «هل نشَر لورد سانت آساف شيئًا؟» وأخبرتها أن لا على حد علمي. فأضافت: «لقد كان نشيطًا للغاية، وقد ذهب للبحث عن الآثار في كل مكان؛ وكلَّما سمع عن أيِّ اكتشاف، انطلق وزاره. وحين رأى حديقتي أعرب عن إعجابه الشديد بها، وأكَّد لي أنها منسَّقة ببراعة، ليس بالنِّسبة إلى هذا البلد فقط، وإنما على نحو أفضل من كثير من حدائق النبلاء في إنجلترا.»
السبت، الخامس عشر من يوليو: قضيت هذا اليوم والذي يَليه في مار إلياس مع أسرتي، وعدتُ إلى دار جون يوم الاثنين، السابع عشر من يوليو.
قد أشرتُ سابقًا إلى أنه كان هناك ٣٤ شخصًا في منشأة الليدي هيستر ستانهوب في ذلك الوقت الذي أتحدَّث عنه الآن، وبرغم ذلك فقد كانت تَشتكي من عدم تلقِّيها أدنى عناية. لكن إنَّما كان ذلك لطبع فيها. فقد كانت خادماتها الخمس في حركة دءوبة، ليلًا ونهارًا؛ لكن الليدي كانت قد أصبحت دائمة الشكوى لدرجة يَصعُب تخيُّلها، وكانت نِيقة بشكلٍ لا يضاهى في مَطالبها بخصوص الخدمات من كل المُحيطين بها. لكن إذا كان من الجائز أن نغفر لأيِّ شخص هذا التسلُّط المفرط، فإن هذا الشخص هو الليدي هيستر ستانهوب؛ لأن مواهبها الجمَّة كانت تبدو وكأنَّها تكفُل لها خضوع كل من هم دونها مِن الكائنات، بل تفرض هذا الخضوع باعتباره من العدل. وكان مِن عادتها دائمًا (كما هو حال الناس الذين يرهقون خدمهم بالعمل عمومًا) أن تأمُر إحدى الخادمات بالمهمة أولًا ثم تأمُر بها واحدة أخرى، بصرف النظر عما إذا كانت ستُتقنها أكثر أم لا. وكانت تقول: «ما الذي تفعله خادماتي؟ إنهن يظنن أنهن يَعملن أكثر بكثير من طاقتهن، وأنا لا أُطالبهن بأكثر مما تجبر زوجات أصحاب الدكاكين خادماتهن عليه؛ إنهنَّ مجموعة من الدواب الكسالى، اللاتي يَنمن ويَلتهِمن الطعام حتى التخمة طوال اليوم، ثم يتظاهرن بأنهنَّ يكدحن فوق طاقتهن. يقول اللقمجي يا دكتور، إنه لا شيء سوى الكرباج قادرٌ على تأديبهنَّ؛ وهو مُحق، وهكذا يجري الأمر. فلو لم أقل لهنَّ إنني أعاقبهن، فلن يُجبن على الجرس.» صحيح أن الليدي كانت كريمة معهم بمنحهم الملابس، وأجورًا مُرتفعة، ونفحات من المال، وهدايا في العام الجديد، وغيرها، لكنَّها بينما كانت تُنعم عليهم بيدٍ، كانت تستبدُّ بهم بالأخرى. وقد أنتج هذا التضارُب بين الرفق البالغ والقسوة الشديدة تأثيرًا عجيبًا على خدَمِها. فلم أعرف قطُّ أحدًا منهم لم يتمنَّ ترك خدمتها، أو ترك خدمتها ولم يتمنَّ العودة إليها ثانيةً. كانت رغبتهم في أن يتركوها مبعثُها نشاطَها الذي لا يهدأ، والذي لا يدَعُ أحدًا هادئًا في ليلٍ أو نهار، وعداءَها المستحكم للتراخي، والأكاذيب، وجميع الرذائل الأخرى الشائعة بين الخدم في سوريا؛ وعلى الرغم من أن اللهفة للعودة إلى خدمتها مرةً أخرى قد تُعزى بنِسبة كبيرة إلى المكاسب غير الشريفة التي كان الخدم يُحقِّقونها بسهولة أثناء العمل لدَيها، والتي اغتنى بها الكثير منهم، فهي ناجمة كذلك عن مسألة التعويذة التي كانت تُلقيها على كل من يدخل في دائرة جاذبيتها دون استثناء.
لكن الخادمة التي ارتكبت أكبر السرقات كانت زينب، العبدة السوداء، التي أصبحت فيما بعد عاهرةً لأحد الجنود. هذه المرأة التي اتَّسمَت حياتها كلها بالتهتُّك من كل نوع، سلبت من الليدي هيستر مبلغًا يصل إلى عدة آلاف من القروش.
وحكت الليدي هيستر في مناسبة لاحقة عن ختام قصة زينب، بالكلمات التالية، التي كتبتُها أنا في التاسع من أبريل ١٨٣٨. «حين سرَقَت زينب الميدالية الذهبية المحفُور عليها اسم الجنرال مور واسم أخي، حصلت على كل الأوراق المتعلِّقة بالسرقة من قبرص، حيث كان أحد شركائها قد فرَّ إليها، ثم استدعَيت زينب وفارس إلى الصالون. واستدعَيت اللقمجي وخليل منصور كشاهِدَين، ثم أخبرتُ الجناة بما علمتُه عن جريمتهم قائلة لهم إنني أستطيع شنقَهم لو أردتُ ذلك. واستمعت العبدة الوقحة، زينب، كلامي بلا أيِّ مبالاة، وعند خروجها من المكان، توقَّفَت عند الباب، وبنبرة ساخرة شكَرَت اللقمجي (حيث كانت تعتقد أنه هو الذي أخبرني بالأمر كله). وفوجئ اللقمجي بوقاحتها، وذهب ليَدفعها خارجًا؛ وفي تلك اللحظة، كان واقفًا خارج باب الصالون أبو عليٍّ، العبد الأسود الضخم الحجم، الذي يبدو أنه كان قد وجد طريقه للمحكمة للدفاع عن الفتاة السوداء، وإذا به يمسك بتلابيب اللقمجي، ويُحاول خنقه بعضلات قبضته القوية. وسمعتُ ضوضاء غريبة، فخرجتُ لأجد اللقمجي عيناه جاحظتان من رأسه، وقد ثبَّته الزنجي على الأرض. أمسكت يد الرجل رغم أن أحد مسدَّسَيه كان موجهًا نحوي، وبذراعي الأخرى وجهت ضربة بظهر يدي لوجه زينب (التي كانت تُساعد الزنجي) فأسقطتُها على الأرض. ثم نهضت، وتسلقت الجدار، وفرت إلى صيدا؛ ولم أرَها ثانيةً قط. ونادَيت الألبانيِّين، فأخرجوا أبا عليٍّ من البيت في الحال.» أما زينب، فهي بعد فرارها ألقَت بنفسها في أحضان الجنود، حيث تركتها الليدي هيستر لتتعفَّن بينهم، على حد قولها الحازم.
قد يُفيد هنا ذكر تفاصيل مُوجزة عن المضايقات التي تعرَّضَت لها الليدي هيستر ستانهوب لتبيان أن غضبها من تلك النسوة لم يكن دون سبب. فإنَّ الزلات التافهة التي لا تنتهي من قبيل الجهل والخرق والإهمال والنِّسيان والزور والوقاحة، التي اعتادَت الليدي هيستر أن تحكيها لي، حتى إن كان بعضها فرديًّا وصغيرًا جدًّا، كانت كافية على العموم لتبرير التحكم الشديد الذي وجدت الليدي أنه ضروري عند التعامل معهنَّ. لكن سيثور تساؤل: لماذا أبقت سيدة في مكانتها مثل هؤلاء الخدم لديها، وهي التي اعتادَت على الحياة الأوروبية بكلِّ رقيها؟ ولماذا لم تُرسل لإحضار خدم أوروبيِّين؟ كان هذا السؤال الذي طرحه الجميع، ولم يَستطع أحد أن يجيب عليه. وربما كانت الحقيقة الواقعية هي أنَّ الليدي كانت تفضل هذه المخلوقات المسكينة، بكلِّ فسادها وعاداتها القَذِرة، على الخدم الفرنسيِّين أو الإنجليز؛ لأنهم، شأن تقاليد الشرق، كانوا مُعتادين على الاستبداد وفورات الغضب، التي لم يكن الإنجليز ولا الفرنسيُّون ليتحمَّلوها بصبر شديد مثلهم.
إلى جانب أنه لم يكن بمقدور أي خدم أوروبيِّين ترويض أنفسهم على العزلة الكئيبة لمنشأة الليدي هيستر ستانهوب، ولا على النشاط الدائم، ولا على ما هو أسوأ من ذلك من السهر واليقظة الطويلة المطلوبة منهم. فهنا لا توجد لحظة راحة من العمل أو من انتظار العمل. أما في إنجلترا فالخادمة تتطلَّع على الأقل إلى بعض فترات الاستجمام، وتتوقَّع في كل الأحوال أن يُسمح لها بست ساعات أو ثمانٍ للراحة في الأربع والعشرين ساعة. لكن لا هذا ولا ذاك كان مسموحًا به في دار جون؛ لأنَّه حتى عندما تكون الليدي مُنشغلة في محادثاتها المسائية في الصالون، حيث لا يكون مطلوبًا وجود خدم في الانتظار، يكون خدمها مُكلِّفين بمهام لا تنتهي — مثل ملأ الغلايين كل ربع ساعة — بحيث يظلُّون في عمل بلا انقطاع. ونظرًا لأن كل الخدم الأتراك تقريبًا يَنامون بملابسهم كاملة، مُكتفِين بالتلفُّع بلحاف عندما يرقدون للنوم، فهذا يُمكنهم من اختلاس إغفاءات قصيرة وقتَما يتسنَّى لهم ذلك، ويكونون مُستعدِّين للنهوض في الحال. وهذه ميزة كبيرة، خاصةً بالنسبة إلى المرضى؛ وفي حالة الليدي هيستر كانت ميزة تكاد تُعوض كلَّ إخفاقاتهم تقريبًا. ففي غمضة عين، عند حدوث أي ظرف طارئ، كان بإمكان كل مَن بالمنزل، وقبل أن يَغُطُّوا في نوم عميق، أن يهبُّوا إلى العمل؛ وبمجرد أن يَنتهي عملهم يغطُّون ثانيةً في سبات عميق في الحال.
في أحد الأيام، ذهبت إلى باب غرفة نوم الليدي هيستر، دون انتظار للتأكُّد من الخدم إذا ما كانت جاهزة لاستقبالي. وقد ظلَّت القاعدة لديها طوال سنوات ألَّا تُقابل أيَّ شخص، حتى في صالونها، سواء كان قادمًا من مسافة بعيدة أو مُقيمًا في منزلها، إلا بعد أن تُرسل هي في طلبه، بصرف النظر عمَّن يكون، أميرًا كان أو فلاحًا؛ وقد حرصت على قاعدة الملوك هذه إلى حدِّ أنه في إحدى المرات، من بين ٢٠ حالة يُمكن ذكرها، جاء من بيروت رجل إنجليزي وزوجته، وكلاهما كانت الليدي تُقدرِّهما بالغ التقدير، وحين صارا على بُعد فرسخ من منزل الليدي يبغيان زيارتها، أرسلا بكل لياقة خادمًا برسالة ليُعلِن عن اقترابهما، فردت الليدي بإجابة مُقتضَبة تقول إنها لن تستقبلهما. كما أنها كانت مُعتادة على تحديد، لا اليوم فقط، بل الساعة المحددة، التي يجب أن يأتي فيها الأشخاص القادمون لزيارتها. وكانت تفعل ذلك مع الدوق ماكسيميليان ومع ماتيو لوناردي. وفي ذلك الصباح الذي أشرتُ إليه، كانت الليدي هيستر في الفراش. وقد قالت بنبرة غاضبة إلى حدٍّ ما: «ماذا تريد؟» فأجبتها أنني جلبت لها كأسًا بلورية وحاملًا من أجل العصير والليمونادة، حيث كانت الكأس التي تستخدمها من النوع الرديء جدًّا، لدرجة أنني تألَّمت لرؤيتها تستعملها. فقالت: «لا يا دكتور، أنا ممنونة لك جدًّا، لكن يجب أن تعود بتلك الأشياء. فحتى لو كان عندي الكثير من الأشياء الفاخِرة، فإن أولئك الخادمات البهائم سوف يَكسِرنها أو يَسرِقنها. لقد كان عندي بعض الكئوس البلورية الجميلة، لكنها اختفَت كلها واحدة تلو الأخرى. هل تصدق ذلك؟ لقد كسرنَ في البداية واحدةً منها، ثم أخرجت الآنسة ويليامز واحدة أخرى للاستعمال. وهكذا احتفظت الخادمات بقِطَع الكأس المكسورة، وكل أسبوعين أو ثلاثة يأتين إلى الآنسة ويليامز أولًا بقِطعة ثم بأخرى، ويقصصنَ عليها قصةً ما وجيهة حول وقوع حادث وانكسار الكأس، وفي كل مرة يأخُذنَ منها كأسًا أخرى، إلى أن ضاعت كلها. واكتشفتُ سرَّهنَّ في النهاية. الساقطات دمَّرن كل شيء، لكن ليس ذلك ما يؤلمني، وإنما أن أرى أنني ليس لديَّ شخصٌ واحد ليحرص على أن أُخدَم كما ينبغي لي.»
وحدث أن قلتُ مُعلقًا أنه ربما ينبغي التسامح بعض الشيء مع جهلهنَّ بهذا الشأن، حيث إنهن في النهاية لسنَ سوى فلاحات وإماء، ولا يعرفن شيئًا عن أصول الخدمة، ولسنَ على دراية بالعادات الأوروبية، فهتَفَت الليدي قائلة: «لكن كبدي انفطر من نوبات الغضب التي تنتابني، وأظنُّ أنك بدلًا من أن تُساعدني ستزيد الأمور سوءًا. فإنهنَّ سيَستهزِئنَ بك وبإحساسك. إن بإمكاني مُشاهَدة شخص كسول أو وغد وهو يُضرَب وأكون بنفس الهدوء الذي أدخِّن به غليوني؛ لكنك لا تجد أحدًا أرقَّ مني إذا رأيتُ حيوانًا يُعاني من الظلم. ولا أنسى أبدًا كيف شحب لون اثنين أو ثلاثة من الخدم كشُحوب الموتى عندما سمعوني وقد ندَّت عني صرخة مفاجئة، لرؤية شرِّير كسولٍ وهو يَدفع أتانًا حُبلى، وقد وضع عليها حمولة ثقيلة، أثناء نزولها ضفة شديدة الانحدار. فعندئذٍ كدتُ أدخل في نوبة تشنُّج.
لكن، ويحي! كم أكره قومك الإنجليز العاطفيِّين، الذين يتظاهرون بأنهم مُفعمون بالمشاعر، والذين يبكون لموت دودة، بينما يُقابلون الكارثة الحقيقية بالتجاهُل. سيدات مجتمعك الراقيات اللواتي كنتُ أراهنَّ في قاعات العشاء، حين كانت الواحدة منهنَّ ترى حشرة في ثمرة خوخ، وقد أوشكت تموت من شقِّ الخوخة، تجدها عندئذٍ تصيح: «يا إلهي! يا لَلحشرة المسكينة! لقد كسرتُ ظهرها — أرجوك خلِّصها من عذابها — فأنا لا أحتمل أن أرى حتى حشرة تُعاني وتتألم. أوه! إنك تُؤذيها هكذا يا سيدي؛ توقف، ودعني أفتح النافذة وأضعها بالخارج.» ثم يتشدَّق زوجها قائلًا: «إن زوجتي استثنائية جدًّا في رقَّة شعورها؛ ولقد تزوَّجتها لأجل ذلك بالضبط.» وحينَها تهتف زوجته: «ويحي! مهلًا يا سيدي، إنما تقول ذلك لكرم أخلاقك، ولو كنتُ أمتلك ذرة مشاعر فلا بدَّ أنني تعلمتها منك.» ويمضيان على هذا المنوال، يمتدح أحدهما الآخر؛ وربما في الصباح التالي، وهي تَركب عربتها، تتقدم منها امرأة فقيرة، تحمل على صدرها طفلًا، وتتضوَّر جوعًا لدرجة أن صدرها ليس به قطرة لبن للطفل، وتطلُب صدقة من السيدة؛ فترفع السيدة زجاج العربة وتطلُب من الخادم ألا يسمح لأولئك القوم المُقزِّزين أن يقفوا على بابها.»
وفي مناسبة لاحقة، دارت المحادثة حول الخدم البغيضين، وبعد أن أقررتُ بصحة ما قالته، أبدَيت أسفي على أن مشاعرها المُرهَفة جعلتها تُعذِّب نفسها لأجل أشياء ليسَت سوى تفاهات، فصاحت: «تفاهات! إن ما تُسميه أنت بالتفاهات هو ما يَقتُلني. كلهم يأتون إليَّ من أجل التفاهات. حتى الخادمات، ليتَك تراهنَّ حين يَعمدنَ إلى ثوب لرَتقِه، فيُفسِدنه حتى يَمتلئ بالثقوب، بل إنهنَّ حتى يسألنَني كيف يجبُ قصُّ عباءاتهنَّ.»
كانت هذه هي الحقيقة، لكنهنَّ كنَّ يأتين إليها لأنها تُفضل ذلك. لقد رأيتها في صباحات عديدة وهي تقصُّ العباءات والسراويل لهن، وتخيط أجزائها معًا بيدَيها. كانت مواهبها مُتنوعة للغاية حتى إنها كانت تبدو وكأنها قضَت عمرها تُمارس هذا العمل تحديدًا، أيًّا كان الذي تصادَف ورأيتها وهي تقوم به. وفي حوزتي باترونات ورقية لعباءات على الطراز التركي قصَّتها الليدي بيدها؛ وإذا كان أي من الرحالة الذين زاروا الليدي قد أبدى إعجابه بأردية خدمها من الرجال أو النساء، فله أن يثق أن موديلات ملابسهم، بما عليها من تطريز حتى، كانت من تصميم سيدتهم البارعة وتنفيذها.
كان لدى الليدي هيستر سبب آخر قوي للاستياء من خدَمِها. كانت قاعتها الداخلية، أو جناح حريمها، منفصلة عن القاعة الخارجية بباب، وكان هذا الباب دائمًا أو يفترض أن يكون دائمًا مُغلقًا. ومفتاح الباب كان معهودًا به إلى أحد الخادِمَين الرجال اللذين كانا يَعيشان في القاعة الداخلية، لكنَّ غُرفهما كانت مُنفصلة عن الجناح الذي تُقيم فيه الخادمات بحاجز من الخشب غير مسمُوح لأحد من الفريقَين بتخطِّيه. وكانت هذه هي القاعدة، لكن التطبيق كان على خلاف ذلك تمامًا، وكان الرجال يتردَّدُون على غرف الخادمات والمطبخ بكل اطمئنان؛ لأنَّ الباب المغلق الذي كان يجب على كل شخص أن يطرقه ليحصل على الإذن بالدخول، كان يُوفر لهم الوقت الكافي لترتيب أمورهم حتى لا يضبطهم أحد. والليدي هيستر نفسها كانت تبقى في سريرها أغلب الوقت، غير قادرة بالمرة على التحقُّق من مخالفتهم للقاعدة المعروفة. لذا لم يكن من المستغرب، بين الحين والحين، أن تبادر العواقب المحزنة بادية للعيان. ذلك لأنه في تركيا، لا يُسمَح للرجال بالاختلاط بالنساء قط، ولا يمكن أن يَنكشِف وجه امرأة ولو من طبقة دنيا أمام الجنس الآخر، دون أن يُصيب حياءَها وأحيانًا سُمعتَها وصمةُ عار، لذلك فإن فكرة وضع الجنسَين في تجاور دون كُلفة هي فكرة غريبة للغاية على كل مفاهيمهم، لدرجة أنَّ كِلا الطرفَين حين تتسنَّى لهما المناسبة ويجتمعان معًا، يتوهَّمان أن كل الحواجز قد زالت، وينتهزان الفرص تبعًا لذلك. قد تكون العفَّة بمفهومها المعروف لدينا، اجتماعيًّا وأخلاقيًّا، غير معروفة بين المسلمين. فالمرأة التي تجد مَن يصُونها، أو البكر التي تعيش بانضباط في كنف أمها، تظلُّ عفيفة؛ أما من تُترك لشأنها، فتظن أنه لم يعد هناك أي مبرر للانضباط، أو تَعتقِد عمومًا أنها لا ترتكب جرمًا عظيمًا إذا فكرت على هذا النحو.
وكانت الليدي هيستر أدرى الجميع بهذا بلا شك؛ لكن لم يكن ثمَّة علاج للمشكلة. فلم تكن لديها ثقة في حسن سُلوك ولو خادمة واحدة. وحين كانت الآنسة ويليامز على قيد الحياة، كانت الرهبة التي تشعر بها كل الخادمات منها تجعلهن يلزمن الاستقامة، لكن بعد موتها تسلَّلت كل تلك الفوضى. وأحد الخدم الأوروبيِّين، والذي جعلته الليدي هيستر مشرفًا على الخدم من أهل البلاد، جعَلَ من نفسه مثالًا مُتهتِّكًا أمامهم، ثم بحث عن ذريعة لترك خدمتها. وفي مثال آخر، اكتُشف أن عبدةً سوداء أقامت علاقة غير مشروعة مع رجل أسود. وأجبرت الليدي هيستر ستانهوب الرجلَ على الزواج من المرأة، ومنحت الاثنين حريتهما. فلم تكن سيادتها تواجه هذه الأفعال غير اللائقة بالقسوة. ونظرًا لأن الإجهاض من الممارسات الشائعة في تركيا، ولأنَّ السلطات العامة لا تتَّخذ أي إجراء في هذه الأمور؛ إذ كثيرًا ما تُقدم عليه دون مواربة في أجنحة حريمها، فإنَّ كل ما كانت الليدي هيستر تفعله في هذه الحالات هو استدعاء الجناة أمامها وإخبارهم أنها سوف تشنُقُهم إذا لجئوا إلى أي وسيلة سرية من هذا النوع، وقد كانت من الأشخاص الذين يفون بكلمتهم. وكانت وجهة نظرها في هذه الأمور مُتساهِلة ورحيمة فيما يتعلَّق بالظروف التي تُوضع فيها هذه المخلوقات التعيسة في كثير من الأحيان؛ لكنَّها لم تكن تكره شيئًا كراهيتها المُطلَقة للرذائل الحيوانية الصرفة.
كان من الطبيعي أن تُجنِّدني الليدي هيستر في صفها في خطتها للحفاظ على منزلها مُنظمًا وفقًا لأشد قواعد الاحتشام صرامة، وبالطبع كنتُ أنا في غاية السعادة بتقديم المساعدة في هذا الشأن. وقبل وصولي، هذه المرة أو في زيارتي السابقة عام ١٨٣١، كنتُ بمثابة مصدر قلقٍ لكل الخدم، وكانت العبارة الدارجة على فم الليدي هي: «آه! عندما يَجيء الدكتور، فسيُعيدكم سريعًا إلى جادة الصواب.» لكنَّني لم أكن ممَّن يطمحون إلى لعب دورٍ من هذا النوع على الإطلاق، سواء بطبيعتي أو بعد التفكير، وعلى الرغم من أن الليدي كانت تنقلب ضدي في أوقات مُختلفة موجهة إليَّ سهام التهكُّم، ووابل إساءات لا ينتهي قط، فإنني امتنعت، بشكل سلبي لكنه حازم، عن أي مشاركة في إجراءاتها القاسية ضد خدمها.
الأحد الثالث والعشرون من يوليو: ذهبت إلى مار إلياس، ثم عدتُ ثانيةً إلى دار جون ليلة الاثنين.
الرابع والعشرون من يوليو: بذلت الليدي هيستر ستانهوب قُصارى جهدها لتُطلعني على كل ما كان يَجري في المنزل والجوار، ومع ذلك فإنها لم تتطرَّق مُطلقًا لموضوع التركة المتروكة لها، أو التي قيل إنها تُركت لها؛ ولم يُفتَح هذا الموضوع بشكلٍ وافٍ حتى الثالث من أغسطس. ولكن بما أنَّ ما حكَته لي سيأتي ذكره بشكل أكثر تفصيلًا حين نتحدَّث عن المراسلات التي جرت بهذا الشأن، فإننا سنَنتقِل إلى الحديث عن مسائل أخرى.
الرابع من أغسطس: قالت الليدي هيستر: «إنَّ شعوب أوروبا كلها، أو على الأقل الجزء الأكبر منها، حمقاء، بابتساماتها البلهاء، وأساليبها المتصنَّعة، وعاداتها العديمة المعنى. وفي جميع الحفلات التي حضرتها خلال الفترة التي عشتُها مع السيد بيت — وكانت كثيرة جدًّا — بالكاد رأيت، من بين آلاف الأشخاص، ولو عشرة فقط ممَّن كان الحديث معهم يثير اهتمامي. كنت أبتسم حين يتحدَّث الناس إليَّ، ثم أمضي في طريقي، دون أن يتركوا أي انطباعات حسنة في ذهني.
انظر إلى المسيو «…» وهو يترجَّل عن حصانه ست مرات ليُقبل كلبه، ويخرجه من قفصه ليطعمه بيده على الطريق من بيروت إلى هنا، حتى إنَّ سائقي البغالِ والخدم أنفسهم ظنُّوه أحمق. كذلك الطريقة التي يدبُّ بها يدَيه في جيوب سراويله، ويمد رجليه إلى أقصى ما يستطيع، فأي منظر هذا؟
أرى في تقديري أن المسيو «…» ليس شاعرًا، وبالرغم من أنه قد يكون ناظمًا بارعًا للشعر، فإن أفكاره ليست بالرفيعة. وقارن بين أفكاره وبين أفكار شكسبير، الذي كان شاعرًا حقيقيًّا بالفعل. أوه يا دكتور، يا لإلهام هذا الرجل! فحتى كائناته الخيالية — من أرواح، وجنيات، ومسوخ — نراها في الحال كما لو كانت موجودة في الواقع. أنت لا تؤمن بمثل هذه الأشياء، لكنَّني أؤمن بها، وكذلك آمَن بها شكسبير، وإنَّني على يقين أنه كان لديه عظيم معرفة بالأدب الشرقي، بطريقة أو بأخرى.
المسيو «…» بجسده المستقيم وأصابعه المستقيمة، وضع قدمَيه في وجهي، ثم استدار نحو كلبه وقبَّله، وتحدث إليه مطولًا. ويقولون إن لدَيه دخل ١٧ ألف جنيه إسترليني سنويًّا، ويملك قلاعًا وقرًى. وظنَّ أنه سيكون له أثر كبير حين كان هنا، لكنه كان مخطئًا بشكل فادح. وقد حمَّلته رسالة إلى أبي غوش، الذي استقبله بحفاوة كبيرة؛ لكن حين تحدث المسيو عن نفسه، وجعل يدَّعي أنه رجل عظيم الشأن، قال له أبو غوش إن ما أظهره له من حفاوة بالغة وتكريم كان من أجلي أنا وليس من أجله.»