الفصل التاسع
محاكمة الملكة كارولين، بأيِّ سبيل تُوقف التحقيق الأول، رأي الليدي هيستر في أميرة «و…»، أوستين الصغير، اللورد «و…»، أمير «و…»، اشمئزازه من العادات القَذِرة للأميرة، السيدة فيتزهربرت، السيدة روبنسون، السيد كانينج، شخصيته؛ ازدواجيته وخداعه، عدم قُدرته على التصرُّف دون توجيه، ميله إلى الثرثرة، رواية الليدي هيستر عن ثُعبان ضخم، السيد توماس مور، لورد كاملفورد، كرمه، بعض النَّوادر عن ذلك النَّبيل المِقدام، وصول مدام «إل»، إصابتها بحُمى دماغية، وموتها وهي تَهذي، مُصابة بالخبل، زيارة الجنرال كاس.
لما وردت إشارة في وسط الكلام إلى المَلِكة كارولين، سألتني الليدي هيستر عما يقولونه في إنجلترا حول موضوع محاكمتها. قالت: «فلتَحكِ لي عن هذا الأمر، هل رأيتها؟ أظنُّ أنها كانت مثل محاكمة وارين هاستينجز.» وتابعت قائلة: «لقد منعتُ اندلاع الأمر في المرة الأولى، وسأُخبرك كيف فعلت ذلك. في أحد الأيام زارني دوق كمبرلاند، وبطريقتِه المعهودة بادر قائلًا: «حسنًا يا ليدي هيستر، كل شيء سيُعلن في الغد، لقد طبعنا كل شيء، وسيُنشَر برمته غدًا.» كنت أعلم ما يَعنيه، فقلت له: «هل حصلت على إذن وزير العدل؟ فأنا مِن جانبي، لست راضية عن المسألة على الإطلاق.» سألني الدوق: «لماذا لستِ راضية؟» أجبتُه: «لأنني أحمل عظيم الاحترام للعائلة المالكة ولا أريد رؤيتها وقد أصبحت مادة لأهازيج الشوارع.» لكنَّني لم لأقل قولي هذا في قصة أمير «و…»، من أجل أميرة «و…»؛ وإنما لأنَّني خشيت أن يؤدي الأمر لانكشاف فضائح أخرى. استدار اللورد مُبتعدًا، كأن كان يفكر، ورأيت أن الفكرة نفسها خطَرَت له؛ لأنه بعد بُرهة، رجع إلى مكانه وأجاب: «أنتِ محقَّة تمامًا يا ليدي هيستر، بالله أنت محقَّة تمامًا، لكن ماذا أفعل الآن؟ لقد قطَعنا شوطًا كبيرًا جدًّا، ماذا أفعل؟» رددت عليه: «أعتقد أن أفضل شيء تفعلُه هو أن تذهب وتسأل وزير العدل.» وبالفعل انصرف على عجل، وأظن أنه ناقَشَ الأمر مع السيد بيرسيفال ووزير العدل، وقرَّرُوا إلغاء الموضوع.
عجبًا يا دكتور، كانت الأوراق قد طُبعت كلها، وأنفق السيد بيرسيفال ١٠ آلاف جنيه إسترليني من أموال الاستِخبارات كي يستعيد نسخة واحدة منها فقط، كانت قد سُرقت من فوق مكتبه. فقد كان قد غادَرَ مكتبه مُسرعًا، ناسيًا أن يوصد بابه، وقد ترك الدفتر مفتوحًا في حُجرته. ولم يكن بالشيء الذي يُمكن عدم الانتباه إليه. فسرَقَه شخص ما، وأعلم على وجه اليقين أنه تكبَّد ١٠ آلاف إسترليني لاستعادته ثانية.
أما أميرةُ «و…»، فلم يكن أمرها ما يَعنيني. فقد كانت امرأةً مُقرِفة مُبتذَلة وقحة، لا تستحق أن يكذب المرء من أجلها. ولم أتعاطَف معها قط. ولو كانت ذات سجايا مُختلفة، فربما كان المرء حمَل نفسه على أن يُقسم إنه هو من كان يَسير بملابس النوم من غرفة نوم إلى أخرى، وليست هي صاحبة السمو الملكي. وقد كان من عادتي دائمًا أن أطلُب من الوصيفات، إذا رأينَها مُنفرِدة بي في أيِّ وقتٍ من الأوقات، أن يختلقنَ عُذرًا أو آخر كي يأتين ويُوقِفن تلك المُحادَثة. فقد كنتُ حريصة على ألا تجعَلني من صديقاتها المقرَّبات أبدًا. في بعض الأحيان كانت تُبادرني بالحديث قائلة: «أتعلمين يا ليدي هيستر أن السير ريتشارد …» وعندها كنتُ دائمًا ما أبدأ بالسعال أو أقاطع حديثها قائلة: «مهلًا! سأخرُج لأتمشى»، أو آتي بأيِّ عُذر آخر يرد على ذهني كي أضع حدًّا لما ستبُوح به من أسرارها.
لقد حذرت دوق «ﺑ…» أنه إذا حقَّقَت معي لجنة البرلمان، فسأجعل وجه عمه العجوز يحمرُّ خجلًا تمامًا. وإذا سألوني سؤالًا مُتطاولًا، فسوف أجيب دائمًا بأنَّني لم أفهم، وسأستمر على ذلك، قائلة: «لم أفهَم، لم أفهم»، إلى أن أُجبرهم بهذه الطريقة على صوغ أسئلتهم بعبارات واضحة متخلِّين تمامًا عن حيائهم المُتصنَّع في النهاية؛ وعندئذٍ سأنشُر التحقيق في الصحف. وذلك أخافهم خوفًا شديدًا، حتى إنهم لم يدرُوا ماذا يفعلون. لكنَّني كنتُ أنا المرعوبة للغاية يا دكتور، وتظاهَرتُ بالجرأة الشديدة حيال الأمر؛ فقط لأصرفَهم عن هدفهم، وقد نجحتُ في ذلك.
يا لَلهول! أي امرأة وقحة كانت أميرة «و…» تلك! لقد كانت «…» بكل معنى الكلمة. كان لدَيها لعبة صينية في إحدى حجراتها في بلدة بلاكهيث، وكانت اللعبة تُملأ مثل الساعة، وكانت تؤدِّي حركات بالغة الغرابة. وكم كان قباطنة البحار تحمرُّ وجوهُهم خجلًا حين كانت الأميرة ترقُص، مُتعرية مثل مُمثِّلات الأوبرا، ثم يَنكشِف رباط جوربها أسفل الركبة؛ كانت امرأة منحطَّة وسُوقية للغاية! وقد تشاجرتُ معها في مدينة بليموث؛ إذ كنتُ الشخص الوحيد الذي صدقها القول يومًا؛ وقد أكَّدت لي ليدي كارنارفون بعد ذلك أنهم لم يسبق لهم قطُّ أن رأوها في حالة شديدة من الاضطراب كما كانت بعد مُحادثتي معها. لقد قلت لها صراحة إنَّ وضعها خطير، وإن عليها توخِّي الحذر فيما تفعله. وأوعزت إليها بأنَّ الأمير قد يُؤذيها بالغ الأذى عندما يُصبح ملكًا. وكان ردُّها: «أوه، بل لن يُصبح ملكًا أبدًا!» لأن عرَّافة ألمانية كانت قد أخبرَتها أنها لن تُصبح ملكة أبدًا، ولأنها صدقت العرَّافة، ظنَّت أنها في مأمن.
كان هناك خادم وسيم، كان مِن المُمكن أن يُزجَّ به في هذه الأزمة، لو لم تكن المُحاكَمة مُتعلِّقة بالساعي الإيطالي.» ثم سألَتْني الليدي هيستر عن مصير أوستين الصغير. وأضافت قائلة: «لم أُصدِّق إلا أن هذا الطفل كان ابن تلك الأم التي حامَت حولها الشبهات في جرينتش وليس لأحد سواها؛ أما تبنِّي أميرة «و…» له، وعمل كل هذه الضجة حوله؛ فقد كان مجرَّد نكاية من أجل إثارة غضب الأمير. لقد كان طفلًا سيئ الطبع. يا إلهي! كم كان السيد بيت يعبس، عندما يُدخلُونه بعد العشاء، ويَرفعه أحد الخدم فوق المائدة ليأخُذ ما يُعجبه من الحلوى؛ وحين كانت الأميرة تقول للسيد بيت: «ألا ترى أنه ولد لطيف؟» كان يُجيبها: «ليس لديَّ أي دراية بالأطفال يا سمو الأميرة؛ يُفضَّل أن تسألي مُربيته؛ فهي أدرى بهذه الأمور مني.» لقد كان بالفعل غلامًا مُزعجًا وشقيًّا. ولقد رأيته في منزل اللورد ماونت إيدجكومب وهو يُقلب أوراق كتاب قيم مليء بالصور بأصابعه القَذِرة، التي كان قد لطَّخها لتوِّه بالحبر. وقلت للأميرة إنه ممَّا يَعيب أن تترك الطفل ليُلطِّخ ويُمزق كتابًا ثمينًا كهذا، فأعطَته كتابًا آخر عاديًّا، لكنه بكى وناح وقال إنه يُريد الكتاب الأول. فزجرتُه أنا قائلة له إنه لن يأخُذه، وإذا تجرَّأ ولمسَه، فسوف يرى ما سأفعله. وأخافه أسلوبي الحازم. وذات مرةٍ راحَ يَبكي يُريد عنكبوتًا رآه على السقف، ورغم أنهم قدموا له كل أنواع اللعب لصرفِ انتباهِه عنه، فقد أصرَّ على العنكبوت ولا شيء سواه. حينها استدعوا الخدمَ، ومعهم عصيٌّ طويلة، وارتبكوا بشدة ليُنفِّذوا له ما أراد! لقد كان طفلًا شقيًّا مزعجًا.
وكان أمرًا لا يُغتفَر للأميرة أن تُغدق حبها على مثل هذا الصبي الشقي، الذي كان فعلًا أشبه بُمتسوِّل صغير. أن تراه حين يَجلبونه كل يوم إلى القاعة بعد العشاء، وهو يَبكي بصوت عالٍ ويرفس زجاجات النبيذ فتسقط على الأرض، ويَرفعونه من سرواله فوق الطاولة كي يضحك الناس عليه، كم كان منظره قبيحًا! ثم إنها تبنَّت خمسة أطفال آخَرين أو ستة، ليس فيهم واحد جميل، عدا طالبَ بحرية صغيرًا، نجل امرأة جميلة من جزيرة وايت. وكان الظنُّ السائد أنها تَحتفِظ بهؤلاء المتشرِّدين الصغار ليَحمِلوا رسائل الحب الخاصة بها؛ وكانت بالفعل تستخدمهم لهذا الغرض، وفي بعض الأحيان كنوع من التمويه. وعرفت أنها اعتادَت عند دعوة قبطان بحري إلى العشاء، بدلًا من أن تُرسل له أحد خدمها بزيِّه الرسمي الأحمر في قارب ليدعُوه، كما يجدر بها أن تفعل، كانت تأمُر أحد هؤلاء الأولاد بالذهاب إلى سفينته وإعطاء رسالتِها الغرامية إلى ذلك القبطان على وجه الخصوص، وألا يدَعها تسقُط في يد أحدٍ غيره مهما يكُن، جاعلةً الناس يظنُّون أن هناك سرًّا ما، بينما ليس في الأمر أيُّ سر.
بالطبع حين يُفكِّر المرء في الليدي «…» واللورد «…» ومثل تلك الشخصيات، فسيَجد أن الأميرة لا تَستحِق أن نلومها كثيرًا على ما تفعله. والأمثلة السيئة ليسَت قليلة. فإنك لن تجد في جميع أنحاء لندن شخصيةً أكثر فسوقًا من اللورد «…». فقد استنفدَ كل أنواع الرذائل المعروفة في القصر الملَكي، وكان سيئ السمعة في هذا السبيل لدرجة أن بعض النبلاء كانوا يرفضون لقاءَه على العشاء ما لم يكونُوا متأكِّدين من وجود رجالٍ رصان وذوي شأن يستطيعون السيطرة عليه. مع ذلك فهو رجل ذكي وألمَعي؛ فلم يُنفذ أحدٌ دسائس في صميم الطبقات العليا أكثر منه؛ أما أنه انتهى به الأمر بالزواج من امرأة لا تَعرف يقينًا أباها ولا أمها، فهو أمر غريب تمامًا. وقد هجرَتْه المرأة من أجل رجل فرنسي وعاشت في باريس، لكنه ما يزال على علاقة طيبة جدًّا معها. ويقول إن لها الحق، إذ أحبَّت فرنسيًّا أكثر مما أحبَّته. وكانت تأتي إلى إنجلترا أحيانًا، بجواز سفر خلال الحرب، لتقابله، وتُرتب معه شئون أطفالهما.
لطالَما كان الأمير مُعتادًا على نساءٍ على قدر عالٍ من النظافة والرائحة الطيبة، لذا لا عجب أنه كان يشمئزُّ من الأميرة، التي كانت قَذِرة، ولا تعرف كيف تَرتدي ملابسها. هذا الصنف من الناس يجب أن يُعنى أحد بهندامهم كما نُلبس الدمية ملابسها. وأحيانًا كانت الأميرة تتركهم يفعلون ذلك؛ لكنَّها حينها كانت تُفسد كل ما فعلوه ثانيةً، سواء بأن تَرتدي جواربها معكوسة فتَظهر الدرز الخلفية في الأمام، أو بأن تلبس إحدى الفردتَين مقلوبةً إلى الخارج؛ أما طريقتها في تثبيت الجوارب، فكانت فظيعة!
كانت السيدة المسكينة ماري روبنسون امرأة من نوع مُختلف، طيبة وبريئة بفِطرتها؛ وربما كانت تكنُّ للأمير حبًّا شخصيًّا مُتأصِّلًا بداخلها، لكنَّها من ناحية أخرى لم تكن تتمتَّع بأيِّ ذكاء. ولا أقصد من الناحية السياسية، لكن أقصد الأمور العامة؛ إذ لم يكن لها أيُّ تأثير بحيث تُرشدُه إلى الصواب، حتى إنه كان يخطُّ لها الخطابات دون تروٍّ ويكتب لها أمورًا، كانت ستَصِمه بالعار لو انكشف أمرها. وقبل أن تُوافيها المنية، كانت قد أوصَت ابنتها ألا تُفرط في صندوق معيَّن؛ لكنهم أخذوه منها من أجل ١٠ آلاف إسترليني. وأعتقد أن اللورد «ﻣ…» هو الذي استحوذ عليه. لكن أحد النبلاء أخبرني أن تلك الرسائل كان بها أشياء شديدة البذاءة؛ إذ لم يقتصر مُحتواها على الفسوق المألوف، وإنما تجلَّى فيها التهتُّك صنفًا. وأنا من جانبي، أظنُّ أنه كان مُتزوجًا بالفعل من السيدة روبنسون، ومع ذلك فقد تركها تتضوَّر جوعًا؛ وكانت بالفعل ستموت من الجوع، لولا السير هنري هالفورد.»
السادس من أغسطس: وافق هذا يوم الأحد، وقد قضيتُه مع عائلتي كالمعتاد.
السابع من أغسطس: تحدثَت الليدي هيستر ستانهوب عن السيد كانينج. وقالت: «حين تعرَّف عليه السيد بيت للمرة الأولى، جاء يسبقه خُطبٌ مطوَّلة عن مواهبِه، وبعد مغادرته، سألني السيد بيت عن رأيي فيه. فقلتُ إنه لم يَرُق لي؛ ذلك يا دكتور لأن جبهته كانت قبيحة، وحاجبَيه رديئا المنظَر، ووركَيه معيبان؛ لكن أسنانه كانت مُنتظمة متساوية، بيد أنه نادرًا ما كشف عنها. ولم يُعجِبني حديثه. وقد سمع السيد كانينج عن رأيي فيه، وقال لي بعد ذلك بفترة، حين صارت علاقتنا أقل تكلُّفًا: «إنني لا أروقُ لكِ إذن يا ليدي هيستر.» فقلت له: «لا؛ فقد أخبرُوني أنك وسيم، لكنَّني لا أظنك كذلك».»
عند هذه النقطة تجرَّأتُ وقلتُ مُعلقًا: إنَّ الناس عمومًا يتحدثون بقَدرٍ كبير من الإعجاب عن ملامح السيد كانينج، وبصفة خاصة عن جبهته. (ربما يكون القارئ على دراية بالصورة التي رسمها له السير توماس لورانس) هتفَت الليدي: «يا إلهي! يا لحماقة الناس! إنَّ الرجل في لندن لا يعرف شيئًا عن جاره الأقرب له؛ إنما يراه في دخوله وخروجه، ثم يقول إن له وجهًا جميلًا طلقًا وجبهة جميلة. بعض الناس يظنون أن السيد كانينج له جبهة جميلة لأنه أصلَع. فلم يكن لدى السيد كانينج من قسمة في وجهِه أو عضو في جسده إلا وكان غليظًا، ما عدا أسنانه، وحتى هذه لست على يقين إذا ما كانت مُزيَّفة أم لا؛ وما جعلني أعتقد أنها مزيفة أنه في إحدى المرات، بينما كان في مجلس العموم، بصَقَ دمًا في منديله، وقال إنه يُعاني ألمًا شديدًا في الأسنان. والناس لا يبصقُون الدم بسبب ألم الأسنان.
أذكر ذات مرة حين كنَّا نجلس على الإفطار، وبدأ السيد كانينج بقراءة بعض الإعلانات في الصحيفة عن زيت الماكاسر وأشياء أخرى من هذا القبيل، وتظاهَر بأنه لا يعرف هذه الأشياء؛ وفيما بعدُ أخبرتني خادمتي أنها دخلَت غُرفة ملابسِه حين كان في حيِّ باتني؛ حيث أطلعها خادمُه على واحد من أفخر صناديق الزينة التي رأتها في حياتها، مملوء بكل أنواع العطور، التي أخرجها خادمه أمامها واحدًا تلوَ الآخر.»
ويحي! ما زلت أتذكَّر خداع كانينج، وكيف اعتاد المجيء إليَّ صارخًا: «آه يا ليدي هيستر، ما الذي لم أفعَله حتى أحوز رضاكِ؟ حتى لقد شربت كأس نبيذ مع ذلك الأحمق «ﻫ…»؛ كأس نبيذ! ويا لها مِن كأس نبيذ! كانت كالدَّواء المُرِّ في حلقي.» لقد رأيته جالسًا إلى مائدة السيد بيت، يتظاهَر بعدم السماع حين كان اللورد «ﻫ…» يُخاطبه. حتى إنَّ السيد بيت كان يقول: «ما الذي يَقصده بكل أفعاله تلك؟ إذا كان لا يرُوق له اللورد، فلماذا يأتي إلى مائدتي وهو يعرف أنه سيكون موجودًا؟ لكنَّني أعلم كيف أُوفِّق بينهما؛ حسبي أن أمنح كانينج مقعدًا في مجلس الوزراء، وعندئذٍ سيُهادن اللورد على الفور؛ لكنه لن يحصل على هذا المقعد. لا، لن يحصل كانينج أبدًا على مقعد في مجلس الوزراء ما دام القرار لي.»
كانت ازدواجية السيد كانينج شاملة. فقد اعتاد أن يقول لي: «عزيزتي ليدي هيستر، كيف لي أن أشربَ كأس نبيذ مع رجل لطالَما سخرتُ منه، ونظمتُ فيه الأشعار؟» ثم بعد ذلك رأيته يتظاهَر بصداقتِه القوية للرجل نفسه، الذي بالغ في سُخريته منه وازدرائه له. وما زال بحَوزتي واحدة من رسائله — إحدى الرسالتَين الوحيدتَين اللتَين احتفظتُ بهما دون الكل — كان قد كتَبَها لي، في أربع ورقات، قبل وفاة السيد بيت، (والتي ظللتُ مُحتفظة بها؛ لأنني خشيتُ ما قد يجدُّ من أمور) وفي هذا الخطاب يَسترسل، طوال عشر صفحات على ما أظن، بعبارات مثل: «عزيزتي ليدي هيستر، ما معنى كل هذا؟ ليس لي علم بما يجري أكثر مما يعرفه جَنينٌ لم يُولد بعد. أرجوكِ أن تكتُبي لي؛ أرجوكِ أن تحكي لي؛ لقد جعَلُوا اللورد مالجريف وزيرًا» … إلخ إلخ؛ وطوال ذلك الوقت كان …
لقد أرسل لي ذات مرة نسخة رائعة من أبيات شعرية — كانت مكتوبة بإبداع شديد — وفيها يُشبه السيد بيت بالعُقاب المُقيَّد. رباه! كم حاول اللورد تمبل سرقة تلك الأبيات! وقد انتزعها مني ذات مساء، حين كنتُ أنا وهو وجيمس معًا، وقفز على كرسيٍّ، رافعًا إياها بعيدًا عن مُتناولي. وكنتُ في غاية الغضب لدرجة أنني جذبت ساعة ثمينة من جيب سترته، وألقيت بها على الأرض. وعندئذٍ جرى إلى الشارع بدون قبَّعته، وفي أعقابه جيمس، فظنَّ الشرطي أنه لص، وانضمَّ إلى المطاردة؛ لكنَّني استرجعتُ الأبيات منه.» توقفت الليدي عن الحديث لبرهة ثم أضافت: «أعلم أن كانينج وكل أتباعه سوف يُبيدونَني إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
العاشر من أغسطس: ذهبت إلى مار إلياس ومكثت هناك يومَين. وفي صبيحة يوم العاشر نفسه، قالت لي الليدي هيستر ستانهوب، في سياق مُحادثتنا: «يجب أن أُرسلك إلى زعيم الثعابين. لا شك أن تجهل ما أعنيه، لذلك سأُخبرك أنا. يوجد كهف في جزء بعيد من هذا البلد، مسكون بثعبان ضخم، لديه مئات الثعابين التي تَأتِمر بأمرِه. وهو برأس إنسان وجسد ثعبان ولدَيه أجنحة؛ وقد رآه كثير من الناس، فهذا كله صحيح تمامًا، لكن لعلَّك لا تصدق هذه الأشياء؟» كان هذا سؤالًا محرجًا، لكنَّني حاولت تفادي الحرج، بالقول بأنه لا شيء مُستحيل على الله تعالى. فردَّت الليدي: «حسنًا، فلتذهب وترسُم لوحة للكهف.»
الأحد، الثالث عشر من أغسطس: بقيتُ مع الليدي هيستر، أقرأ لها وأتحدث معها، حتى منتصف الليل. وكانت مسرورة جدًّا بمجلة «بيني» المصورة، التي كان معي منها مجلد أو اثنان؛ ودار بيننا حديث حول الشعر الإنجليزي، حيث اخترتُ مقاطع شعرية للُّورد بايرون من قصيدة المصارع المُحتضر، وأبيات من قصيدة وولف عن موت الجنرال مور، وأشعار السيد توماس مور عن عيد ميلاده، وقصيدة برينجلز: «أعشق التجوال وحدي في الصحراء». وقالت الليدي عن قصائد بايرون: «ليسَت مما يروق لي»، وامتدحت وولف بشدة، وقالت إنها تَعتقِد أن شِعره أجمل من شِعر اللورد بايرون. وقالت عن السيد توماس مور ثانيةً: «لطالَما أُعجبت بهذا الرجل الضئيل»؛ وضحِكت في الموضع الذي يُعرب فيه عن رغبتِه في أن يعيش حياته من جديد، وصاحت تقول، وفي نيتِها معنى آخر: «آه، أظنُّه يريد ذلك بالفعل.» وقالت في تعليقها على برينجل: «أعتقِد أنه رجل طيب؛ ولديه في شعره بعض الأفكار الجيدة.» ثم قرأت لها عن وفاة ماري، مَلِكة اسكتلندا، وعن الليدي جين جراي، وعن آثار المشدَّات الضيقة، وعن سوء إدارة المدارس الداخلية. وعلَّقت الليدي قائلة: «يا إلهي! لو كان لديَّ متَّسع من الوقت، لكنت ألَّفتُ كتابًا عن المُربيات السويسريات، فإنهنَّ أكثر الكائنات مكرًا وسوء طبع! لدرجة لا تتخيَّلها.»
ربما يتذكَّر بعض القراء أن الليدي هيستر ستانهوب استعانت في مُراسلاتها مع لورد بامستون بهذا التعبير: «كلُّ مَن حمل رسالة بغيضة موجَّهة إليَّ، وجَدَني نظيرة للورد كاملفورد.» كانت مُعجَبة بشخصية اللورد كاملفورد، وكانت تُقلِّده في بعض الأمور. وحدث أن جاء ذكر اسمه، فتحدَّثَت الليدي عنه بالكلمات التالية: «لم يكن لورد كاملفورد رجلًا بالصورة التي قد تتصوَّرها. كان طويلًا وناتئ العظام — شاحبًا إلى حدٍّ ما — ورأسه مائل قليلًا أغلب الوقت. كم كان يَفزع منه الناس حيثُما حلَّ عليهم! وأذكر أنه أخذني ذات ليلة إلى حفلة، وكان مشهدًا فريدًا أن ترى كيف ابتعَدَ الرجال عنه، وحدَّقت النساء نحوه. وفي النهاية جاءت كونتيسة، كان نجمها قد أفلَ بعض الشيء وقتَها، ذاع صيتُها عشر سنوات بعلاقتها التي كانت حديث المُجتمع، وقد جاءت وجلست بجواره على الأريكة، وبدأت في التحدُّث إليه. كانت امرأةً ذات خبرة كبيرة بالحياة، وكانت تعلم، شأن الكل، السمات الحقيقية للرجال ذوي الأصل الراقي والذَّوق الرفيع. وقد غادَرَ اللورد المكان قبل العشاء، فاندفعت هي تتحدَّث عنه وأي حديث! فهي لم تستطع أن تتكلَّم في أيِّ شيء آخر سوى اللورد كاملفورد. تقول يا لأخلاقه الجذابة، ويا لحديثه الرائع! وإنه كان ساحرًا للغاية، وذا جاذبية طاغية؛ يا لأصله الرفيع ويا لأخلاقه الراقية! وهكذا استرسَلَت في حديثها، بنشوة إعجاب خالص.
كان الناس مُخطئين كثيرًا فيما ذهبوا إليه بشأنه. فقد كان كرمه، وما يفعلُه من خير في السر، يفوق كل تصور. قد اعتاد أن يُعطي محاميه ٥ آلاف إسترليني سنويًّا لتفريقها على المنكوبين. وكان يقول: «إنَّ شَرطي الوحيد ألا يعرفوا من هو مصدر تلك الأموال.» وكان أحيانًا يلبس سترة وسروالًا، مثل البحارة، ويذهب إلى حانة أو مشرب، وإذا صادَفَ شخصًا فقيرَ المظهر، تبدو عليه سيماء المُعاناة أو الفقر المُدقع، كان يَجتهد في فتح حوار معه، ليَعرف كل شيء عنه. فكان يقول له: «هيا، أخبرني حكايتك، وسأَحكي لك حكايتي.» وقد حباه الله قُدرة كبيرة على النفاذ في سرائر الناس، فإذا رأى أن قصة الرجل صادقة، وضع في يده ٥٠ أو ١٠٠ جنيه إسترليني، مُحذرًا إياه بشدة قائلًا: «فلتتذكَّر أنه غير مسموح لك أن تتحدَّث عن ذلك، وإذا تحدثت، فسوف تُحاسب بشكل لن يُعجبك.»
كان السيد بيت يُحبه كثيرًا على المستوى الشخصي، بقَدر ما أحببتُه أنا؛ لكن لاعتبارات منصبه الكبير وما يفرضه من أصول في التعامل، كان يضطر لوضع مسافة بينهما. وكم ارتعبَت الليدي تشاتام خشيةَ أنه قد يتزوَّجني! وقد أراد اللورد تشاتام أن يحصل على إقطاعية بوكورت (أو اسم قريب من هذا)، لكنه انخدع؛ فقد دفع اللورد كاملفورد ٥٠ ألف إسترليني لوقف الميراث، وترك تلك الإقطاعية لشقيقتِه. ولم يكن السيد بيت يُعنى بأمره إلا قليلًا؛ ذلك لخوفه الشديد من الورطات التي ما فَتئ يقع فيها. وقد تعجَّب من أمره كثيرًا حين أطلق النار على ذلك الملازم، لكن اللورد كاملفورد فعل ذلك بإدراكٍ سريع للصواب الواجب فعله، وهو ما كان فطريًّا نوعًا ما لديه. فقد رأى أن طاقم السفينة على وشك التمرُّد، فأجهض تمرُّدهم على الفور بسلوكه الحازم. والجميع في الوطن كانوا مَشدُوهين مما فعله، حتى جاءت الأخبار عن القبطان بيجوت، ربان سفينة هيرميون، وما كان من إلقائه مِن فوق سطح السفينة، وعندها بدأ كل اللوردات والسيدات النبيلات يرتجِفنَ خَوفًا على أبنائهم وأبناء أخواتهم العاملين في البحر. وحينئذٍ صار الكل يَمتدح محاسن اللورد كاملفورد، وبيَّن التمرُّد التالي الذي حدث في سفننا كيف أن اللورد أحسن التنبؤ بما ستئول إليه الأمور.
أذكر ذات مرة كان يُقلني بعربته، وعند بوابة الرسوم رأيته يدفع للرجل بنفسه ويأخذ منه الباقي نصف بنس. ظل اللورد يُقلب العملة مرتين أو ثلاثًا في يده العارية دون قفاز. وقلت في نفسي، حسنًا، إنها لذائقة غريبة أن تُحب إمساك النحاس القَذِر بيديك. وقال لي: «أمسكي أعنةَ الخيل لحظة»، وأعطاها لي، ثم قفَز من العربة، وقبل أن تخطر لي أي فكرة عما هو مُقدم عليه، اندفع نحو عامل بوابة الرسوم، وأمسك عنقَه. بالطبع تجمَّع حشد من الناس في لحظة، وصارت الخيول الجامحة في هياج شديد، حتى إنني توقعت أنها ستنطلق بي عَدْوًا لا محالة. وفي وسط كل ذلك جاءت عربة ذات أربعة خيول للبوابة. وأخرج سيد محترم، يتكلف الابتسام، رأسه من نافذة العربة، وقال للحوذي الواقف على مؤخِّرة العربة: «اسأل ما الأمر.» ورد عليه الحوذي: «إنه سيدي اللورد كاملفورد.» فهتَف السيد على الحوذي فورًا: «تابع السير»، وكان مفزوعًا فزعًا أخرجه عن صوابه لمجرَّد الظنِّ أن سيادة اللورد سوف ينقلب عليه.
سرعان ما انفضَّ الشجار، وعاد اللورد إلى مقعده. وقال بهدوء شديد: «أظن أنكِ اعتقدتِ أنني سأنساق إلى نوبة غضب. لكن الحقيقة أنَّ هؤلاء الأوغاد لدَيهم براميل مليئة بالنصف بنسات الزائفة، وهم يُوزِّعُونها بإعطائها باقٍ للناس الذين يمرُّون بالبوابات. وبعض سائقي العربات المساكين لا يَملكُون سوى نصف البنس هذا ثمنًا لعشائهم؛ وحين تنتهي رحلة عمل الواحد منهم، يَكتشف أنه لا يستطيع شراء الخبز والجبن بهذه العملة الزائفة. صحيح أن القانون يعاقب هؤلاء المزوِّرين، ولكن كيف يُمكن لبائس فقير أن يصل إلى القانون؟ من أين له بالوقت للجوء إلى القانون؟ قد يكون لا يُمثِّل نصف البنس شيئًا ذا قيمة لي ولك، لكنه بالنِّسبة إلى الفقير يمثل الكثير؛ وقد أردتُ بكل بساطة أن أُلقِّن هؤلاء الأوغاد درسًا، بأن أُريهم أنهم لا يمكنهم على الدوام لعب مثل هذه الحِيَل دون أن يُصيبَهم العقاب.»
ليتك يا دكتور رأيت حين رجعنا أنا واللورد ثانيةً من نفس الطريق، كيف كان تذلل وخنوع حارس بوابة الرسوم. لقد كان اللورد كاملفورد مثل السيد بيت تمامًا، ومثلي أنا، كان دمه يغلي حين يرى خداعًا أو فعلًا خبيثًا.»
خلال اليوم وصل رسول من المسيو جاي، القُنصل الفرنسي في بيروت، ليُعلن عن وصول سيدة إيطالية كنَّا نتوقَّع وصولها من ليجورن، والتي كنتُ اتَّفقتُ معها على أن تنضمَّ إلينا في سوريا. وفي الحال أرسلنا إليها مصطفى، الخادم التركي، كي يُلبي احتياجاتها؛ وأبحر السكرتير، الذي يتحدَّث الإيطالية، على متن شختور من صيدا كي يأتي بها بحرًا؛ لأن الحرارة كانت ستجعل الرحلة عبر البر شاقَّة جدًّا.
الثاني عشر من أغسطس: رحلتُ إلى مار إلياس لرؤية أسرتي، وإعداد العُدة لاستقبال الوافدة الجديدة؛ ولما كان لدى الليدي هيستر ستانهوب بعض الأعمال في بيروت المتعلِّقة بدائن مزعج، وتطلَّب الأمر وجودي، فقد تقرر أن أذهب إلى هناك، بذريعة التقدم بالشكر للمسيو جاي وزوجته على حُسن ضيافتهما للسيدة الإيطالية.
الاثنين، الرابع عشر من أغسطس ١٨٣٧: غادرتُ قبل الشروق بساعة، ووصلتُ بيروت في المساء، والتقيتُ على الطريق بالسكرتير الذي لفحَته الحرارة، والذي بسبب هدوء الرياح لم يَصِل إلى وجهته إلا بعد مُغادرة السيدة «ﻟ…» بحرًا باثنتَي عشرة ساعة؛ فقد كانت الريح الضعيفة هناك مُناسِبة لها ومُعاكِسة للسكرتير.
اتفقنا مع السيدة «ﻟ…»، التي كنَّا نعلم أنها ظلَّت في شدة بضع سنوات، وكانت غايتنا من الاتِّفاق أن تعمل لدى الليدي هيستر ستانهوب مُدبِّرة منزل، وهو عمل كانت مؤهَّلة له تمامًا.
الثامن عشر من أغسطس: بقيتُ في بيروت يومَي السادس والسابع عشر، ورجعت إلى دار جون في الثامن عشر. ولم أكَد أترجَّل عن جوادي حتى وضعَت الليدي هيستر في يدي خطابًا، فيه استدعاء لي للذهاب إلى مار إلياس بأقصى سرعة مُمكنة، للعناية بالسيدة «ﻟ…» التي حالَما وصلَت ذلك المكان سقطَت مُصابة بحمى دماغية، ناجمة عن الإرهاق الذي عانته في الرحلة، والتعرُّض لحرارة الشمس الحارقة، والظروف المرتبطة بالسفر إلى الشرق، والتي كانت غريبة ودخيلة للغاية على العادات الأوروبية.
بمجرَّد أن تلقَّت الليدي هيستر أول إشعار عن توعُّك السيدة «ﻟ…»، أرسلت رسولًا إلى شخص يُدعى مصطفى، وهو حلَّاق في صيدا، ليذهب إلى مار إلياس، ويقوم بفصد دم السيدة، وعندما وصلت بعد ذلك ببضعِ ساعات، أوصَتني الليدي هيستر بشدة أن أترك حالة السيدة بين يدَي مصطفى؛ نظرًا لأنه يعمل جرَّاحًا بجوار عمله كحلاق، ويحظى بتقدير كبير في صيدا نظرًا لمهارته. وكذلك أشارت الليدي إلى أنَّ الأطباء الأوروبيين، الذين طبَّقوا في الشرق طريقة العلاج نفسها التي تعوَّدوا على وصفها في الشمال، كان ضرُّهم للمرضى أكثر من نفعهم حتمًا. وقد أذعنتُ لملاحظاتها تلك بأقصى ما استطعت مِن كياسة.
السبت التاسع عشر من أغسطس: حين وصلتُ إلى مار إلياس، علمت أن السيدة «ﻟ…» عند وصولها صباح الرابع عشر من الشهر بدَت عليها غرابةٌ ملحوظةٌ في أفعالها، ولم يحظَ الأمر بكثير اهتمام في البداية؛ غير أنها في الليلة التالية راحَت تسير في المكان بشكل غير لائق، دون ملابس تقريبًا، في البداية في غرفتها ثم بعد ذلك في ساحة الدير، ممَّا أدَّى إلى فضيحة وذهول بالغَين بين نُزَلاء المكان. وفي صبيحة اليوم التالي قصَّت شعرها من جذوره بيدها؛ وفي النهاية أثار سلوكها الكثير من القلق، حتى بات من الضروري استدعائي على الفور. وفي اليوم التالي، وكان السادس عشر من أغسطس، لم يَعُد هناك مجال للشك أن مخَّها قد أصابه الاضطراب؛ حيث كانت تُغني وترقُص وتضحَك دون انقطاع، وتقول وتفعل أكثر الأشياء تهوُّرًا. حين رأيتها كان قد فُصدَ دمُها، ونُقل سريرها إلى الكنيسة، وهي الجزء الأفضل تهويةً في الدار. ورغم أن فصد الدم استمرَّ إلى أن أغميَ عليها، فهو لم يأتِ بنتيجة، وحين غشاها الليل مزَّقت الأربطة، وفقَدَت كمية أكبر من الدم. ووُضع مُستحضر للتنفُّط على رأسها، وأُعطيت دواءً؛ لكن ثمة أمورًا بعينِها لاحظتُها في العشرين والحادي والعشرين، مثل وضع ثلج، ليس فقط على رأسها، بل على بطنِها كذلك، وإعطائها مسحوقَ الفلفل، ونقْع ورقة عليها كتابة في الماء، كتعويذة، وجَعلِها تشربُه، بالإضافة إلى العديد من العلاجات الخرافية والتجريبية، ممَّا دفعني إلى أن أهرع إلى الليدي هيستر، وإخبارها أنَّني لن أستطيع فعل أيِّ شيء لعلاجها ما لم تأمُر مصطفى بالانصراف على الفور. لكن الليدي هيستر ستانهوب كانت قد عاشَت لفترة طويلة في الشرق حتى صار السحر والعلاجات الشعبية والشعوَذة أكثر انسجامًا مع مَفاهيمها من القواعد المنطقية والأكاديمية لعلم تصنيف الأمراض. لذا كان ردُّها أن السيدة «ﻟ…» قد جاءت للعمل في خدمتها، ويُفترَض من الليدي أن تختار ما يجب عمله لها، وقد اختارت أن تعهد بأمرِها كله إلى رعاية الحاج مصطفى. وقلتُ لها إنني قد أخلَيتُ مسئوليتي من كل العواقب. ثم أرسلت الليدي هيستر رجلَين من خدمها لإحضار كل ما يحتاجه مصطفى من بلدة جون أو من صيدا، وقد استْبقتُه في الوقت نفسه كي يُواصل العناية بالمريضة المسكينة، مع تعليمات صارمة بعدم ادِّخار أي جهد أو مال قد تتطلَّبه الحالة.
الثالث والعشرون من أغسطس: عدتُ إلى مار إلياس لإعلامِهم بهذه الترتيبات، ولأطلب من مُدبِّرة الدار، الآنسة لونجشامب والخادمات ألا يدعْنَ السيدة «ﻟ…» تحتاج إلى أي شيء. وكانت الآنسة لونجشامب إلى جوار سريرها ليلًا ونهارًا، والخادمات يساعدنها بالتناوب. وبذلنا كل ما جال ببالنا لتوفير الراحة لها، لكن حالتها كانت قد تبدَّلت إلى هذَيان جنوني. كانت تهذي دون توقُّف، ولا تتعرَّف على أحد، وتُطْبقُ أسنانها رافضة إدخال الطعام في فمها. ولو تحرَّرت ذراعاها للحظة، كانت تُمزق ضماداتها، وملابسها، وأغطية السرير؛ وأحيانًا تضحك وأحيانًا أخرى تغني (بكثير من الإبداع والإتقان) أغنية إيطالية تقول: «لم أَعُد أشعر بقلبي»، أو لحنًا تقليديًّا آخر معروفًا في شمال أوروبا. وحين تجد في نفسها بعض القوة، كانت تنهض من فراشها، وترقُص على الأرضية، ويبدو عليها السرور لوقُوفها على البلاطات الحجَرية الباردة. وأحيانًا كانت تبدو وكأنها تُهدهد طفلًا بين ذراعَيها. كانت ذراعاها تتحرَّكان بشكلٍ دائم. وبين الحين والحين تشير أفعالها إلى إحساس بالشبق. وأشار سُلوكها بشكل عام إلى أن الضوء كان يضايقها، لكن لم يكن هناك شيء يُمكن أن يجعلها تَنتبِه لما يُقال لها. وكانت تلفظ البلغم غزيرًا ومُزبدًا؛ لكن المخيف كان صريرَ أسنانها وجُحوظ عينيها حتى كادَتا تخرُجان من محجرَيهما، وفي تلك اللحظات من الهياج، كانت تستمرُّ في سبِّ بعض الرهبان بالاسم. وكان من الضروري تجريد الغرفة من كل شيء تمامًا؛ لأنها كانت عنيفة للغاية، حتى إنها ذات ليلة، حين تُركت لنفسها لحظة واحدة، حرَّرَت ذراعيها، وهبت من سريرها، ومزَّقت قبعة مصنوعة في ليجورن، ومظلَّة، وحواشي بعض الثياب، وصندوق قبَّعات، حتى صارت كلها فتاتًا.
الرابع والعشرون من أغسطس: تبيَّن أنه من الضروري عمل سترة تقييد لها. وأخبرَتني مُدبِّرة الدار، التي رأت كل شيء عولجت به المريضة، أن الحاج مصطفى قد تلقَّى تعليمات سرِّية من الليدي هيستر ستانهوب، مُرفَقة بعبوات متنوعة.
التاسع والعشرون من أغسطس: مضيتُ إلى دار جون، واحتججتُ للمرة الثانية على هذه الإجراءات العلاجية؛ لكن عندما وجدتُ أن وجهات نظري لا تتَّفق مع هوى الليدي هيستر، وأنها لا يُمكنها استقبالي في اليوم التالي، الذي يُوافِق الأربعاء، رجعت إلى مار إلياس.
الأول من سبتمبر: استدعَينا كاهنًا، فجاء ليَمسح السيدة «ﻟ…» بالزيت، وقد كانت عندئذٍ في تردٍّ واضح. ولأول مرة، ولمجرَّد لحظة، ثابَت إلى رُشدها حتى إنها طلبَت أن تشرب، وصاحت بالإيطالية: «ماء، ماء!» وقالت: «وا حسرتاه، وا حسرتاه! إنَّني أُحتضَر»، لكن بعدها مُباشرة اضطرَب عقلها ثانيةً. وأبلغَتني المدبِّرة أنها قُربَ الظهر بدَت في النزع الأخير، وعندما رأى الحاج مصطفى ذلك سحَب الوسادة من تحت رأسها، وألقاها بعيدًا، وسحب ساقَيها ليفردهما كلَّما ضمتهما نحوها. وهذا فيما أعلم من طقوس إعداد الموتى لدى المسلمين.
الثاني من سبتمبر: في الساعة التاسعة صباحًا، تُوفيت السيدة «ﻟ…»، وفي الخامسة بعد الظهر من اليوم نفسه دُفنت في المدفن الكاثوليكي في صيدا، وتبعنا جنازتها أنا وسكرتير الليدي هيستر ستانهوب بصفتِنا المُعزيَين الرئيسيين، وجاء نائب القنصل الفرنسي وبعض التجار الفرنسيين من صيدا، لتقديم واجب العزاء. وقبل نقلِ الجثمان إلى المقبرة، حضر راهب من رهبان تيرا سانتا وثمانية كهَنة مارونيين، جُمعوا من القُرى والبلدات المُجاورة، لأداء صلاة الجنازة على جثمانها في الكنيسة حيث كان يرقد. وهكذا انتهت هذه المأساة المؤسفة، محاطة بكل مَظاهر الاحترام المُعبرة عن الحزن من جانبنا على فقدانها، والتعاطف من جانب الأوروبيِّين المُقيمين في صيدا.
ويُمكن فهم طبيعة عقل الليدي هيستر، وخُصوصية أفعالها وعاداتها مِن رسالة أو اثنتين بعثت بهما مِن دار جون إليَّ في مار إلياس أثناء مرض هذه السيدة المسكينة.
من الليدي هيستر ستانهوب إلى الدكتور «…»
دار جون، العشرون من أغسطس.
أرسلت لك زوجًا من الملاءات، وغطاء سرير، ووسادتَين محشوتين بالقطن من أجل السيدة «ﻟ…»، وسريرًا؛ وكذلك بعضًا من مسحوق نبات الأروروت، وبعض الليمون، وبعض الجرائد القديمة، في حال احتجتُم إليها، وطُشوت وغيرها؛ وزجاجة من شراب البنفسج، وواحدة من ماء الورد، التي يَعتبرها بعض الناس ذات فائدة علاجية.
آمُل ألا تجد السيدة «ﻟ…» بتلك الدرجة من المرض التي صوَّرها الناس لي. احرصوا على ألا تُثار حولها أدنى ضوضاء؛ فلا شيء أسوأ من الضوضاء لمن هم في مثل حالتها. أتعشم أن أراك غدًا صباحًا، ويُمكنك بعد ذلك العودة ثانيةً يوم الاثنين؛ أقصد أنني أتعشَّم رؤيتك إذا تحسَّنت حالة المدام «ﻟ…». تحيَّاتي لزوجتك والآنسة لونجشامب؛ فلهما مني كل التعاطف.
ما أخشاه أن جو الكنيسة رطب، وذلك السقف الحجَري ليس جيدًا لحالة دماغ السيدة «ﻟ…»؛ لكن حالتها متوقِّفة على نجمها. وكثير من الناس يُمكنهم تحمل النوم تحت سقف حجري؛ أما أنا عن نفسي فأفضل النوم في العراء تحت المطر عن النوم تحت ذلك السقف. وعلى كل حال، دع الحاج مصطفى يتَّخذ القرار، فهو أدرى بهذه الأمور.
نسيت أن أُخبرك أنني أرسلت طربوشًا وعَرَقِية للاستخدام في حال حلقِ رأس مدام «ﻟ…»؛ وكذلك بعض المناشف الشائعة في البلد.
من الليدي هيستر إلى الدكتور «…»
دار جون، الثاني من سبتمبر، الساعة الثانية
صباحًا.
أعتقد أنه يجب عليك التشاوُر مع السيد كونتي بخصوص الجنازة؛ نظرًا لأن السيدة «ﻟ…» من الرعايا الفرنسيِّين. ليس لديَّ نصيحة أخرى أُقدمها، غير أنني يجب أن أُضيف أن حبي للفرنسيِّين يجعلني لا أضع اعتبارًا للنفَقات، حتى يتمَّ كل شيء بشكل مُحترم ولائق.
يُمكن للحاج مصطفى المغادرة متى شاء.
وُضعت أختام القنصلية على متعلِّقات السيدة «ﻟ…»، وأُجري جردٌ لها بحضور الجنرال لوستانو والآنسة لونجشامب. ثم نُقلت إلى صيدا، ومنها إلى بيروت، انتظارًا لتوجيهات أقاربها بشأن التصرُّف فيها. جرت الإجراءات الرسمية الأخرى، وفي السابع من سبتمبر قصدت دار جون مجددًا. وفي تلك الفترة، لكنَّني نسيت متى تحديدًا، زار الجنرال كاس، مصطحبًا معه أسرته، الليدي هيستر؛ إذ كان في جولة في البحر المتوسط. وكما نتذكَّر، فإنَّ الجنرال كاس كان وما يزال حتى الآن (١٨٣٩) هو سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى البلاط الفرنسي. وأعتقد أن زيارته لليدي لم تكن بإخطار سابق. في جميع الأحوال، لم أكن أعلم شيئًا عن هذه الزيارة، فقد كنتُ غائبًا في بلدة عبرا عندما حدثَت؛ لذا لم أحظَ بشرف رؤيته ولا رؤية بناته الرقيقات.
وفي صفحة ٤٢٨، يبدو أن اللورد مامزبري يرفض الاستنتاج الذي وصل إليه السيد كانينج؛ إذ يقول: «الملابسات المحيطة بالفقرات التي ظهرت مؤخرًا في صحفنا لم تؤثر فيَّ إلا قليلًا؛ رغم أنه لن يكون من الإنصاف بالمرة أن أقول إنني استطعتُ التثبُّت من الشكوك المحيطة بأمانة أيٍّ من مبعوثي الملك»، إلى ما غير ذلك، وبذلك يبدو أن السيد مامزبري لم يشك في السيد بيت، ولكنه شك في المبعوثين. من كتاب: «يوميات الإيرل مامزبري ومراسلاته»، المجلد الثالث، صفحة ٤١٦.