تقديم

وأنا طفلةٌ كنت أرى وجه الله في أحلامي كوجه أمي شديد العدل، وكوجه أبي شديد الرحمة، لكن زميلتي فاطمة أحمد في المدرسة كانت ترى وجه الله في أحلامها كوجه أبيها شديد القسوة، وكوجه عمها شديد الظلم.

واكتشفت وأنا طفلة أن وجه الله يتراءى لزميلاتي الأطفال كوجه الأب أساسًا، وكوجه الأم أحيانًا؛ فالمشكلة أن الله لا يُرى بعين الأطفال ولا الكبار، وما من وسيلةٍ لرؤيته إلا في النوم، وبالوجوه التي نراها لأقرب الناس لنا.

وقد حاولت أن أكتب هذه الرواية وأنا تلميذة بالمدرسة، لكني لم أعرف كيف أكتبها. الفكرة في رأسي والأحاسيس والشخصيات، لكن اللغة لا تُساعدني. وعاشت معي هذه الرواية تُطاردني، وزاد إلحاحها عليَّ في السنين العشر الأخيرة، ترمقني عيون أشخاصها في اليقظة وفي النوم، وحين أسافر خارج الوطن أو داخله، وحين التقيت بشهربانو شيراز الإيرانية، وحكت لي عن اغتصاب ابنتها الطفلة في السجن، وحين التقيت بفاطمة تاج السر السودانية، ورأيت ابنها الغلام وزملاءه في جمعية مقطوعي الأيدي بعد تطبيق الشريعة، وبعد أن عِشت ثلاثة شهور في السجن في مصر مع اعتدال محمود وغيرها من البنات، كانت هذه الرواية تُطاردني، وكلما رأيت وجه أحد الحكام يُطل من الصورة، أو رأسه يُطل من تحت العمامة المقدَّسة أو القبعة العسكرية، أو عيونه ترمقني في الحلم وأنا نائمة، وكلما سافرت إلى لبنان ودوَّت في أذني قنابل حزب الله، تردُّ عليها من الناحية الأخرى قنابل حزب الشيطان، وحين سافرت إلى مكة وقرأت الإعلانات فوق الجدران أهلًا بضيوف الرحمن، ومن وراء الجدار أرى الرجل والبنت كالغلام وثالثهما الشيطان، وفي قريتي كفر طحلة حين كنت أرى وجوه بنات عماتي الفلَّاحات، وفي القناطر حين رأيت وجوه القاتلات المؤبدات، وفي مشرحة كلية الطب ومستشفيات وزارة الصحة، وفي الأردن والسلط وشريط القنال حيث جبهة القتال، وفي وجوه الأطفال يشربون اللبن ويموتون بالخوف من الإشعاع النووي، أو يخافون الضوء كأنه الإشعاع، وفي وجوه الأطفال البنات المختفية وراء حجاب أسود، أو في احتفالات الأعياد ومهرجانات الانتخابات والاستفتاءات، أو في جلسات استحضار الأرواح وطرد الجان وظهور العذراء، ورش أثواب النساء المحجبات بصورة الصليب، وألسنة النيران تُطل من قباب الكنائس ومنارات الجوامع، وظلَّت الرواية معي وأشخاصها تُطاردني. وكلما جلست لأُمسكها وأكتبها تفلت من بين أصابعي، وتنزلق كالزئبق، وخاصةً شخصية الإمام؛ فهي شخصيةٌ زئبقية، اتبعت معي أسلوب الكر والفر والإقبال والإدبار. إذا اقتربت منها تبتعد، وإذا ابتعدت عنها تقترب. وشخصية المُعارض الشرعي أيضًا راوغت كثيرًا، إلى حدِّ أنني فكَّرت في حذفها والاستغناء عنها، لكن يد الإمام كانت تمتدُّ وتجذبها إلى جواره يُمسكها لا يريد حذفها، وإلا افتقدت الرواية الديمقراطية.

كانت شخصيات البنات والنساء أكثر ثباتًا واستقرارًا، لكن اسم بنت الله أثار فيَّ القلق لياليَ طويلة، وحاولت أن أغيِّر اسمها؛ فهو اسمٌ ينتهك المحرَّمات في حد ذاته، فكيف تجرؤ فتاةٌ أن تحمل اسمًا محرَّمًا (إلى جانب حملها جنينًا غير شرعي)؟ وقد يُباح في المسيحية أن نسمع اسم ابن الله وهو المسيح، لكن أن نسمع اسم بنت الله فهذا غير وارد تمامًا، لكن بنت الله سألتني في الرواية: ماذا لو كنت مريم العذراء، وولدت بنتًا وليس ذكرًا، ألا تكون ابنتي هي بنت الله ويُسمونها المسيحية، وتصبح واحدةً من الأنبياء؟

ووجدت صعوبةً في تغيير اسم بنت الله؛ لأن الناس كانت تُناديها بهذا الاسم منذ ولادتها حتى موتها رجمًا بالحجارة. وانتهى بي الأمر إلى ترك الرواية ونبذها تمامًا من حياتي، فكيف تفرض عليَّ الشخصيات نفسها وأسماءها؟ وأغرب شيء أنني حين نبذتها وتركتها بدأت تأتي إليَّ وتُسلم لي قيادها، تُعطيني نفسها طواعيةً، وحين جلست إلى الورق وجدتها وكأنما هي تكتب نفسها بنفسها، ولم أحاول التدخل في حياة الشخصيات الخاصة أو العامة، إلا لأمنع بعض المحرَّمات اللغوية، أو انتهاك بعض القيم الإنسانية، وخاصةً من جانب شخصية الإمام ذاته، ولم يكن في مقدوري أن أترك له السلطة المطلقة في الرواية كما في الدنيا، وقلتُ لنفسي: في روايتي على الأقل يكون لي بعض الحرية وبعض السلطة.

القاهرة، فبراير ١٩٨٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤