البودي جارد
لم يكن البودي جارد (الحارس الجسدي باللغة العربية) يعرف شيئًا عن أمور الحكم أو الخلافة، كانت مهمته محدَّدة، وهي الوقوف بجوار الإمام مُرتديًا وجه الإمام المطاط وجسده الممشوق، ولم يكن في قدرة أحد إلا الله ورئيس الأمن أن يكتشف الإمام الحقيقي من الإمام المصنوع، وأذن «البودي جارد» كانت تشرئبُّ مرهفةً؛ فإذا ما سمع طلقةً نارية قفز بخطوةٍ واحدة أمام الإمام، يستقبل الرصاصة في صدره نيابةً عنه، وفي سعادةٍ طاغية يموت فداء الوطن، وفي عنقه مفتاح الجنة معلقًا داخل السلسلة. يفتح باب الجنة ويدخل مع الأنبياء والشهداء، وتحصل زوجته على لقب أرملة الشهيد، ويُصرَف لها معاشٌ مضاعف ووسام من الدرجة الثالثة.
في كشوف خدم الإمام كان له لقبٌ رسمي: «البودي جارد.» ولا يمكن لأي رجل أن ينال هذا المنصب؛ فهو منصبٌ رفيع خطير أخطر منصب في الدولة، يقتضي الإخلاص للإمام والإيمان به مائة في المائة دون تفكير يؤدي إلى التردد، والتردد ولو للحظةٍ خاطفة قد يُودي بحياة الإمام. إذا انطلقت الرصاصة وتردَّد «البودي جارد» في الموت نيابةً عن الإمام، فهذه كارثة أكبر الكوارث. «عدم التفكير على الإطلاق» كان هو المؤهل الأول للحصول على هذا المنصب. ويختار الإمام بنفسه البودي جارد، يتقدم المرشَّحون للوظيفة على شكل طابور. يمرُّون أمامه وهو جالس على الأرجيحة في حديقة القصر. يتم الاختيار بعد اختيارٍ دقيق لخلايا العقل. تُسجَّل النتائج فوق ورقة بيضاء ناصعة البياض. أي نقطة سوداء فوق البياض تعني أن هناك شبهة وإحدى خلايا المخ تفكر.
– هل أنت مستعدٌّ للموت من أجل الإمام؟
– نعم بكل سرور.
كلهم يقولون نعم ولا أحد يقول لا، لكن الإمام لا يثق في كلام أحد، ولا يمنح ثقته إلا للجهاز الإلكتروني، يقدر وحده على اكتشاف الصدق من الكذب. امتحانٌ صعب لم يكن ينجح فيه إلا رجلٌ واحد في المليون. وبعد اختبار العقل يأتي اختبار الجسم، وهو امتحانٌ لا يقل صعوبة. قدرة الأذن على أن تشرئب وتسمع الطلقة قبل أن تنطلق. قدرة الجسم على القفز واستقبال الموت في خطوةٍ واحدة. القدرة على تقمُّص جسد الإمام والوقوف أمام الناس كأنه الإمام لا فرق. القدرة على السقوط والموت دون أن يلحظ أحد، ودون أن يسمع أحدٌ صوت الطلقة؛ فهي طلقةٌ خافتة تنطلق عادةً من آلة قتل حديثة كاتمة للصوت. والهتاف يكون عاليًا يُغطي على الصوت إذا كان هناك صوت. الله معك. ويرفع الإمام رأسه نحو السماء غافلًا عن الأرض، وفي هذه اللحظة الخاطفة تنطلق الرصاصة. يتلقَّاها البودي جارد بصدرٍ رحب، ويسقط بين قدمَي الإمام دون أن يلحظ أحد. يختفي جسده على الفور، ويحل مكانَه جسدٌ آخر، له الملامح ذاتها والوجه ذاته من المطاط، يرتديه فوق وجهه فيصبح هو الإمام، ولا يمكن لأحدٍ أن يُفرق بينهما حتى زوجته.
في كل مرة يخرج البودي جارد من باب بيته يعلم أنه لن يعود، ومع ذلك يخرج بكل إرادته ووعيه مستبشرًا بالموت وفي عنقه مفتاح الجنة، يتدلى من سلسلةٍ فضية، وله ذنبٌ رفيع أسنانه مشرشرة. كيف يفتح الجنة بهذا المفتاح؟ وهل للجنة باب مثل البيوت؟ ورضوان حارس الجنة هل يتركه يفتح الباب؟ أسئلةٌ كثيرة تخطر له وهو واقفٌ يسمع الهتاف. تطردها خلايا عقله السؤال وراء السؤال. لا أحد يلحظه وهو يفكر. الجهاز الإلكتروني معطَّل، والتيَّار الكهربائي مقطوع، ورئيس الأمن عينه على الصفوف الخلفية، والإمام شاخصٌ إلى أعلى نحو السماء، وهو أيضًا يرفع رأسه بالحركة نفسها. وحين يهزُّ الإمام يده تحيةً للجماهير يهزُّ يده بالحركة ذاتها، لا يمكن لعينٍ أن تلحظ الفرق. وحين يمشي الإمام فوق الأرض يُقلد مِشيته، مشية مميَّزة فيها عرجٌ خفيف، يدوس بقدمه اليمنى على الأرض بقوةٍ أكثر من اليسرى. عظام ساقه اليسرى فيها اعوجاج منذ الطفولة، نقص الكالسيوم في لبن الأم. لم تعرف أمه شيئًا عن مرض الكساح، تصوَّرت أنه عين الحسود، وحُوطت عنقه بدوبارةٍ تتدلى منه خرزةٌ زرقاء، وألبسته ملابس البنات.
كان الإمام قادرًا على التواجد في مكانَين مختلفين في وقتٍ واحد، ولا أحد يعرف السر إلا البودي جارد. يهمس الإمام في أذنه: اذهب نيابةً عني إلى هذا الاجتماع أو هذا الحفل أو إلى مجلس الشورى أو صلاة الجمعة أو إلى هذه المهمة خارج البلاد.
يسير أمام الكبراء والوزراء ولا أحد يشكُّ أنه ليس الإمام، حتى هو لا يشكُّ في نفسه. وإن ساوَره الشك لحظةً فإن هتاف الجماهير يُعيد إليه الثقة، ويمشي مُرتديًا وجه الإمام المطَّاط رافعًا رأسه. يلتقي بالسفراء والخبراء الأجانب. يقص الشريط مُفتتحًا الملاجئ، وفي اجتماع مجلس الشورى يظل صامتًا كالإمام، يُنصت إلى تقارير الوزراء ويهز رأسه علامة الفهم، أو يشرد بعينَيه ناحية السماء كأنه يُفكر، ولا يلحظ أحدٌ أنه لا يفكر، وأن عقله يترك جسده في مقعد الإمام ويهرب إلى الدور الأرضي، يخلع الوجه المطَّاط ويدلُّك بطرف الإصبع أنفه المضغوط تحت الأنف الآخر. ومن الباب الخلفي للقصر يخرج مع الخدم مُتنكرًا بوجهه الحقيقي، يقفز في الأوتوبيس قبل أن يقف، ويهبط قبل أن يدفع التذكرة. يسير بين الأزقَّة، يضرب ببوز حذائه قطعة زلط حتى يصل البيت. تحوطه أمه بذراعَيها، ويشم رائحة الخبيز والروث. أتنسى أمك عشرين سنة؟ هل مرَّت عشرون سنةً يا أمي؟ كنت هنا بالأمس، وتقول أمه: من تغطَّى بالأيام عريان، ومن ابتعد عن السلطان سلطان. يجلس على ركبتها تهزُّه كالمرجيحة وتحكي له الأخبار. هذا الشتاء ماتت الكتاكيت بالشوطة، عمتك الله يرحمها ماتت بالكوليرا، خالك سافر إلى الحج ولم يعد، بنت خالتك عضها كلبٌ مسروع، وأبوك زارني في المنام وقال إنه ينتظرني في الجنة، أنسيت يا ابني الوعد، وأين هي تذكرة السفر إلى قبر النبي؟
يدفن رأسه في صدرها، أبدًا يا أمي لم أنسَ ولكنها المشاكل، مشاكل يا أمي مشاكل بغير حل. الله سبحانه هو الوحيد القادر على حلها. ديون خارجية يا أمي، وصراع القوى العظمى، وحرب الكواكب وأعضاء حزب الشيطان وأولاد الحرام وبنات الحرام، والألم هنا يا أمي تحت يدك في صدري. تتحسَّسه كف الأم المشققة حتى تعثر على الجرح النافذ من الصدر إلى القلب، تسدُّه بتراب الفرن أو مسحوق البن وينام بين ذراعَيها، حتى يلتئم الجرح وصوتها في أذنه يغني كالنشيج.
صوتها عميق يأتيه من بعيد وهو واقف مُرتديًا وجه الإمام قبل السقوط، كصوتٍ في حلمٍ أو حلم داخل الحلم. وكثيرًا ما نام وحلم أنه يحلم، ويصحو وهو لا زال في الحلم، ثم ينام ويحلم مرةً أخرى أنه يحلم، وفي الحلم يعرف أنه يحلم، ويرتدي الوجه المطاط وهو لا زال يحلم، ويهبط سلالم القصر كمن يمشي وهو نائم، ويركب سيارة الإمام ويُلوح للناس بيده، وفي المجلس يراه الوزراء مُنصتًا باهتمام وهو لا يسمع، ويهزُّ رأسه علامة الفهم وهو لا يفهم، ويهرش شعر رأسه كأنه يفكر وهو لا يفكر، فلم يكن التفكير شرط المنصب، وحين دوَّت المدافع وعم الظلام تجمَّد الدم في عروقه؛ فهو يخاف الظلمة منذ الطفولة، ويخاف صوت الهتاف ودقات طبول النصر، في مثل هذه اللحظات تنطلق الرصاصة دون أن يلحظ أحد، ولا يسقط أحد إلا هو. يموت وحده ولا يموت معه أحد. يسقط جسده بين قدمَيه ويختفي في السر، وتنتقل السلطة بسرعة بانتقال الوجه المطاط من وجه إلى وجه، ولا يشعر الناس أن شيئًا حدث أو تغير، والإمام يظل واقفًا فوق المنصة رافعًا رأسه نحو السماء، وصواريخ العيد تُفرقع والهتاف يدوي «الله معك».