وجهٌ مزدوج
طفولتي من بعيدٍ تبدو سعيدة، يأكل الزمن الألم ولا يترك في الذاكرة إلا الفرح، ودموع الحزن تتحول في العينين إلى نافذة للرؤية. وجه أختي لا زلت أراه. عيناها في عيني تلمعان في ظلمة الليل. ذراعاها حولي. صدرها ناعم كصدر الأم. وأخي يُلازمني كرائحة جسدي، أشمُّه في العرق وأشمه في الزهر؛ فهو جسمي ورائحته هي رائحتي.
في مدرسة الممرضات رأيت نفسي أرتدي ثوبًا أبيض، وشعري ملفوفٌ داخل غطاء أبيض، كالملاك أنتقل من سرير إلى سرير، خفيفة الحركة لا تكاد تُلامس قدماي الأرض، كالروح بغير جسم طويلة نحيلة كالخيال. صوتي همس، وأنفاسي عميقة كالأطفال. ثدياي تحت الثوب الأبيض صغيران نافران. لي سريرٌ أبيض في عنبرٍ كبير، ودرج من الخشب عليه حروف اسمي بنت الله، وإلى جواره اسم اختي نعمة الله، وجهها نحيلٌ أبيض، وعيناها حين تراني تمتلئان بالضوء.
مدرسة الممرضات كانت بناءً ضخمًا قديمًا اسودَّ لونه من القِدم، أول مدرسة للبنات لا تدخلها إلا اليتيمات بغير أب أو أم، إلى جوارها المستشفى الحربي يُطل على النهر بنوافذه المدهونة وشرفاته الزجاجية، ومن خلف النهر بناءٌ ضخم قديم قِدم العبودية، اسودَّ لونه وعفَّره التراب فأصبح بلون الأرض، نوافذه عالية تسدُّها قضبان حديدية كالسجن، عيون أطفال تُطل من خلف النوافذ لامعة كالنجوم في كونٍ أسود، أطفال الله أو الأطفال غير الشرعيين باللغة الرسمية، ومن خلف بيت الأطفال مساحة من الأرض صفراء مُستوية كالصحراء، ثم ترتفع الأرض على شكل هضبة منخفضة تعلوها أشجارٌ شوكية، يُسمونها النباتات الشيطانية، يتصورون أنها تنمو وحدها بإرادتها ضد إرادة الله. في بطن الهضبة ينتصب مبنًى ضخم أسود اللون قديم قِدم الشيطان. ترتفع جدرانه السوداء عاليةً تخرق السحاب كأنما تتحدى السماء. نوافذه عالية تسدُّها القضبان كبيت الأطفال. ومن وراء النوافذ تُطل رءوس النساء مربوطة بالمناديل أو محلولة الشعر، والشعر غزيرٌ طويل مجعَّد أو ملبَّد من النوم، يسري فيه القمل بأقدامٍ دقيقة. يلمع الشعر تحت الشمس بأضواء كألوان الطيف. «بيت السعادة» باللغة الدارجة، و«بيت المومسات» في ملف رئيس الأمن.
من نافذتها في مدرسة الممرضات لم تكن ترى النهر ولا الهضبة وراء النهر، كان المستشفى الحربي ضخمًا كبيرًا يحجب عنها الكون، إلا قطعة من السماء تُطل من فوق الجدار، وشعاع رفيع من الشمس يصل إليها قبل الغروب.
ولم يكن مسموحًا أن تطل من النافذة، شرفات المستشفى الحربي تُواجه نوافذ الممرضات. يُطل أطباء الجيش على البنات، يبتسمون، يهزُّون رءوسهم أو يُصفرون، يرتدون البدل العسكرية. فوق صدورهم وأكتافهم النجوم والنياشين، وفوق رءوسهم قبعاتٌ حربية. وفي الليل بعد جرس النوم تُطل أختي برأسها من السرير وتحكي لي قصة حب. تحت النور الخافت تخرج الصورة من صدرها، صورة رجل، فوق رأسه قبعةٌ عسكرية، فوق صدره وسامٌ مُستدير كالقرص. حافة القبعة تُلقي على نصف وجهه الأعلى ظلًّا رماديًّا، يُخفي معالم العينَين والأنف. تحت الأنف شاربٌ أسود، مقصوصٌ بعناية، مربَّع الشكل يُشبه شنب هتلر. تُقبِّل الصورة وتخبِّئها في صدرها فوق القلب، وتحكي لي القصة من جديد. كان مُصابًا برصاصة في صدره، ورقد في السرير وهي واقفة. كان يُسميها ملاكي الحنون، وأصابعها فوق الجرح ناعمة. تسهر إلى جواره طول الليل، فإذا فتح عينَيه رآها واقفة أو جالسة، وإن نامت ودق الجرس جاءت في غمضة عين، وإذا لم يدق الجرس تدخل على أطراف أصابعها، تغطِّيه إذا تعرَّى، وتسقيه إذا عطش، وتقرأ له قبل أن ينام، ولم يكن يقرأ إلا كتاب الله وأخبار الحرب، ولم يحدِّثها عن شيء إلا القتال والموت. قتل ثلاثة رجال وهرب الرابع بعد أن أصابه برصاصة في صدره. منحه الإمام الوسام في عيد النصر. تدرَّب على القتل منذ الطفولة. كان يقتل العصافير وهي واقفة فوق الشجر. يُثبت البندقية فوق كتفه، وفي منتصف رأس العصفورة يُصوب، ثم يدوس بإصبعه على الزناد، وتسقط العصفورة بطلقةٍ واحدة.
وأحوطها بذراعي كالأم. جسمها نحيل كعصفورة. في أعماقي حنين لصدر الأم. أدفن رأسي بين نهدَيها وأنشج: لا أريد أن يقتلك الرصاص. وتتوهج عيناها بالضوء: سيقتلني الحب وليس الرصاص.
لم أكن أعرف شيئًا عن الحب. قلبي يخفق بالحنين لذراعَين يضمَّان جسمي دون ألم، وعيناي تنظران إليها وتلمعان بالنور. في درجي رسائل بخط يدي أكتبها ولا أُرسلها لأحد. في أعماقي خوفٌ عميق من الحب، وخوفٌ أشد من الله. في بيت الأطفال كنت أصلِّي، ويتجسد الله في أحلامي على شكل رجل، يمرُّ بيده الحانية على صدري ويرتفع بطني بالمسيح. في الصباح وأنا أصلِّي أسمع صوت الله غاضبًا، يلعنني ويُهددني بالعقاب. أستغفره وأسجد حتى يُلامس الأرض رأسي. أكرِّر الركوع والسجود والتوبة لكن صوته يظل غاضبًا. خمس مرات في اليوم أصلِّي، وفي كل صلاة أركع وأسجد وهو غاضبٌ ساخط لا يهدأ. وفي الليل أتكوَّر حول نفسي تحت الغطاء وأراه يأتي، بصوتٍ آخر هادئ بلا غضب، ووجهٍ ناعم كضوء القمر، وذراعه كذراع الأم حانية، يُهدهدني ويملأ روحي بالحب الطاهر، ويرتفع بطني بالحمل المقدس، ثم أراه يستدير، أظن أنه ذاهب بلا عودة. أنادي عليه بصوتٍ خافت ويستدير عائدًا إليَّ بوجهٍ آخر، قاتم اللون، داكن الغضب، في عينَيه الشرر. أفتح فمي لأصرخ، لكن جسمي مربوط في الأرض، وأصحو من النوم مبلَّلةً بالعرق، وعلى ورقةٍ بيضاء أكتب أول حروفي فوق أول رسالة إلى لا أحد: رأيت الله في المنام، له وجهان؛ وجه ناعم حنون كالأم، والوجه الآخر كالشيطان.